معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقـة تعريـف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع  خزانات الموقـع  صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

سعيد بنگــراد

" الأنا " بين الممنوع وسلطة الزمن

قراءة في رواية " سمر كلمات " لطالب الرفاعي

 

 

إن النشاط السردي، بما هو صياغة للفعل الإنساني ضمن اللغة ووفق إكراهات الضمائر النحوية ومرجعياتها الدلالية، لا يشكل طريقة بريئة في عرض سلسلة من الأحداث المترابطة فيما بينها. إنه أكثر من ذلك، إنه الأساس في تشكل المعنى، بل هو شكل من أشكال وجوده وشكل في تجليه وفي تلقيه أيضا. فلا يمكن لكل أحداث الدنيا أن تشكل قصة مكتفية بذاتها خارج الفعل الذي ينظم ويرتب ويقدم ويؤخر ويفصل ويختصر ويحذف، وهي عمليات سردية هامة تكفلت السرديات المعاصرة بشرح قوانينها الدلالية والتركيبية على حد سواء. فالمعنى ليس هبة من المؤلف، إنه سيرورة تتشكل وتنمو وتنتشر في الحدث ومن خلاله استنادا إلى عين ترى وتسمع وتلتقط الضمني والمألوف والخارق، وفق ما يشتهي ذلك الوعي المركزي الذي تصدر عنه الرواية، أو ضدا على إرادته في كثير من الأحيان. وهي طريقة أخرى للقول إن الحدث ذاته ليس فعلا معزولا، وإنما هو تجميع لوحدات تقود بالمنطق والضرورة إلى خرق متصل ما، أو الانزياح عن مسار زمني مألوف. " إن الحدث شيء وقع ولم يكن من الضروري أن يقع " على حد تعبير لوتمان.

لذلك، فإن " الأنا" و"النحن" و"الهو" و" الأنت" وكل الضمائر الأخرى هي في أصلها أدوات نحوية منظمة للخطاب ومحددة لمصادره، أو هي بدائل تركيبية لا يمكن لأي خطاب أن يستقيم دون وجودها، إلا أنها ليست غريبة عن الصياغات الخاصة ب" الحقائق " الاجتماعية والنفسية الموضوعة للتداول من خلال صوت السارد أو من خلال ملفوظات صادرة عن الشخصيات، أو من خلال الإحالة " المحايدة " على أفعال وسلوكات يقوم بها الفاعلون في النص، أو يسقطونها كإمكان قابل للتصور وفق ما تبيحه العوالم الممكنة التي يبنى ضمنها النص السردي.

وعلى هذا الأساس، فإن أي اختيار لضمير ما إنما هو، بهذا الشكل أو ذاك، اختيار لموقف من الحقيقة وطريقة في صياغتها. فجهات النظر التي تتحدث عنها السرديات مصدرها هذا التباين في الموقف من الحقائق الموضوعية منها والمخيالية، وليست مجرد كشف عن الصوت الذي يحكي أو العين التي ترى وتفصل وتبئر. ف" تشكل الدلالات ليس مفصولا عن التجربة المتحققة لفعل اللسان الذي نتسلل من خلاله إلى الواقع" (1)، ومن خلاله ننتج المعرفة ونستثير الأهواء وكل الانفعالات المشكلة لهوية ومصائر الذوات الفاعلة في النسيج الحكائي. إن إنتاج ملفوظ ما هو في الوقت ذاته إعلان عن ميلاد الذات الفاعلة ورسم لحدود الخطاب الذي ستتحرك داخله هذه الذات.

إن لعبة الضمائر هذه هي التي حاولت رواية " سمر كلمات " (2) للروائي طالب الرفاعي الاستناد إليها من أجل رسم حدود مجالها السردي. فقد استثمرت إلى أقصى الحدود، في أفق صياغة عوالمها الدلالية، ممكنات الأنا السردية وخصوصياتها في صياغة الحدث ونشر المعرفة واستحضار عوالم الذات والغير على حد سواء. وهي بذلك تقدم لنا شكلا روائيا يبنى ضمن تعددية صوتية لا تنوع في اللغة وفي مستويات الوعي ودرجات الانتماء الاجتماعي والتلفظي للخطاب، ولكنها تقوم بخلق عوالم منفصلة عن بعضها البعض من حيث الرؤية السردية، ومن حيث الحقائق التي تنبعث من الفعل والوصف والاستعمالات الرمزية للفضاء والزمان وأشياء المعيش اليومي. فالحقيقة الوحيدة التي يمكن للقارئ التعرف عليها هي الحقيقة التي تبنيها الرواية، والرواية لا تفعل ذلك من خلال وعي سردي مركزي يعرف كل شيء ويتحرك في كل الفضاءات، فلا وجود هنا لعين شاملة، بل تفعل ذلك من خلال نشر التفاصيل الحياتية العادية التي تصوغها " أنات " منكفئة على ذاتها فيما يشبه الارتداد اللحظي إلى الوراء.

تتألف الرواية من عشرة فصول، كل فصل مستقل بذاته ولكنه يروي نفس الأحداث من زاوية نظر شخصية من الشخصيات : هناك سمر، وطالب الرفاعي وجاسم وعبير ودلال وسليمان وريم. وهي الشخصيات الرئيسة التي تتناوب على سرد أحداث الرواية مع بعض الامتيازات التي تمنح لسمر وطالب( كل منهما يحكي حوادث فصلين )، الأولى باعتبارها قطب الرحى في كل ما يجري، والثاني باعتباره الخالق الفعلي لكل الشخصيات، أي مؤلف الرواية التي تُروى أحداثها بما فيها أحداث كتابة الرواية والبحث عن الشخصيات و" تصميم انفعالاتها وتوجهاتها ". وبذلك تتخذ عملية التخييل طابعا مركبا. فطالب الرفاعي شخصية تتحرك ضمن عوالم القصة التي تجري أحداثها أمام أنظار القارئ، ولكنه هو مؤلف الرواية وخالق شخصياتها كما يصرح بذلك في أكثر من موقع، وكما تشير إلى ذلك الأصوات الساردة. ولهذا الأمر أبعاد كثيرة لعل أبرزها التداخل الممكن، والحاصل، بين تفاصيل الحياة اليومية كما تتحقق فعليا وبين أشكال التفكير في هذه التفاصيل وصياغة أفكار حولها.

وهذا ما يبدو من خلال عنوان الرواية ذاته. فهذا العنوان ملتبس وغامض ويحيل على أكثر من سجل دلالي. فقد يكون إحالة على لعبة لغوية تجمع بين فعل السمر، وهو نشاط ليلي مرتبط منذ القدم بالحكايات والأنس، وبين الكلمات باعتبارها مادة السمر وأداته المثلى. وقد تكون كلمة " سمر" اسم امرأة صنعتها كلمات مؤلف تستهويه لعبة الخلق التخييلي لعوالم تستقل بذاتها، بمجرد ما يستقيم وجودها، وتصبح هي الأخرى جزءا من الحقائق التي بها نحيا وفيها نودع جزءا من أحلامنا. فالحياة، في نهاية الأمر، ليست سوى مواقع متنوعة تحيى داخل اللغة حيث الكلمات في سمر دائم مع بعضها البعض. إنها ما يستمر في الوجود عندما تختفي كل الأشياء.

سمر امرأة في السابعة والثلاثين موظفة في بنك، ومطلقة منذ أكثر من عشر سنوات من زوجها وليد، وهو بيسري، أي مواطن كويتي ينتمي إلى طبقة العمال والأجراء، ومرتبطة برجل ( سليمان) تعيش معه في شقته أغلب أوقاتها، إلا أنها تقرر فجأة الزواج بجاسم ( رجل أمن) طليق أختها عبير، أستاذة جامعية محافظة تؤمن بأهمية الفوارق الاجتماعية، بما فيها التمييز بين الأصيل وغير الأصيل. وسيكون هذا الحدث هو المفصل الذي سيغير حياتها تغييرا كليا. لقد طردها أبوها من المنزل العائلي بشكل نهائي، فسلوك من هذا النوع لا يمكن أن تقبل به أسرة محافظة. أما طالب الرفاعي فهو، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، مؤلف الرواية – لا كما هو مكتوب على صفحة الغلاف، بل باعتباره شخصية تدعي كتابة هذه الرواية – موظف في المجلس الوطني للفنون والآداب، سيقع في غرام ريم بطلة من بطلات روايته هذه، وهي شخصية تعرف عليها عبر سمر التي يحكي لريم عنها باعتبارها بطلة من ورق، وريم هي التي ستكون بطلة روايته التي يكتبها في الرواية الحالية. وتنتهي الرواية بعدول سمر عن الارتباط بجاسم، وتختار العيش مع سليمان نهائيا.

وعلى الرغم من أن الممكنات السردية المرتبطة بضمير المتكلم محدودة جدا، فهي لا تتجاوز التعبير المباشر عن تجربة فرد معزول يحاول جاهدا التخلص من ربقة النحن الذي يختفي وراءها " الهو "، السارد المحيط بكل شيء والموجود في كل مكان، فإنها مع ذلك تمكن من التخلص من ثقل " الحقيقة الموضوعية " التي تفرزها آليات الوصف الخارجي للوقائع والأحداث ونفسيات الشخصيات وردود أفعالها. إن آثارها شبيهة بآثار " الوضعة " الأمامية في النصوص البصرية ( الصورة الفوتوغرافية خاصة)، فهي لا تقول إلا ما يعود إلى محيطها المباشر، ولكنها تمتلك القدرة على استدراج العين إلى مواقعها الحميمية حيث الانفعالات " طازجة " لا تخضع لرقابة العين الأخرى، عين السارد الوسيط، وحيث الحقيقة جزئية لكنها مبهمة وغامضة غموض " الهو" الداخلي المظلم الذي يتحمل عبء الاجتماعي وإكراهاته. إنها ككل حقائق الذوات المفردة غير نهائية وهشة، ولكنها في ارتباطها بالأنات الأخرى تفك أسر الرائي وتمنحه فرصة المقارنة بين كل الحقائق : كل شخصية تروي أحداثا هي ذاتها ما ترويه الشخصيات الأخرى، إلا أن كل حدث يُبنى استنادا إلى حقائقه الخاصة.

وعلى هذا الأساس، فإن غياب مرجعية قيمية ( الصوت السردي الكي) يستند إليها القارئ من أجل تصنيف الشخصيات والحكم على سلوكها هو القيمة الأساسية في الرواية، بل لا يمكن فهم الآليات الداخلية لإنتاج كل الآثار المعنوية إلا من هذه الزاوية : فانتفاء المركز هو انتفاء للحقيقة المطلقة والثابتة، انتفاء للكلي والشامل والمعطى خارج العلاقات الإنسانية وخارج الحدث. فالحقائق لا قيمة لها في ذاتها، بل هي كذلك في علاقتها بالحقائق الأخرى. فما دام الحدث الواحد مصدرا لحقائق متنوعة، فإن الحقيقة الكلية ليست هي ما تقوله هذه الشخصية أو تلك، بل هي ما تقوله كل الشخصيات جزئيا أو كليا. فليس هناك من حقيقة نهائية وثابتة، وليس هناك من تصنيف يحمل في ذاته عناصر تكوينه ولا يقبل المراجعة. وهذا ما تؤكده الاختيارات المتنوعة للشخصيات إن على المستوى الفردي أو على المستوى الجماعي:

-أحبت سمر وليد، البيسري، فعارض الجميع هذا الاختيار بحكم التباين في الانتماء الاجتماعي، وأصرت على اختيارها، فتزوجته، لكنها اكتشفت أنه ضعيف الشخصية بلا خيار ولا عمق، فانفصلت عنه، وعادت إلى بيت أبيها.

- تزوجت أختها عبير من رجل ينتمي إلى عائلة غنية، و" أصيلة "، فاختلفا في كل شيء. فأدمن على الكحول والنساء وقرر في النهاية الانفصال عنها.

-ريم فتاة نصف كويتية ( أمها انجليزية ) ولدت في إنجلترا وعاشت جزءا من حياتها في لندن ، ولا تتقن العربية، ومع ذلك تزوجت بطريقة تقليدية حماية لمصالح العائلتين، واستمر الزواج.

-سليمان تزوج بفتاة اختارتها الصدفة، أصر على الزواج بها رغم نصائح أخته، ستموت منتحرة، وسيتحمل وزر هذا الانتحار، ولن يشفى منه إلا بعد ارتباطه مع سمر.

وتلك هي القوة الضاربة للتشخيص. إن الواجهات الانفعالية الموازية، تلك التي لا تستند إلى التصنيفات المسبقة، تشكك في كل شيء. فالارتباط بالحياة والممارسة اليومية يسهمان في إعادة النظر أو تنسيب كل الحقائق: في القرارات الفردية وفي الانتماء العائلي. لذلك لن يفيد الركون إلى التقسيمات الكبرى، كما لا يفيد الاطمئنان إلى النوايا والأحكام الجاهزة. إن الرواية تسقط من حسابها الفصل بين الأصيل وغير الأصيل، بين الفقير والغني والمثقف وغير المثقف. ولكنها تسقط من حسابها أيضا الانحياز الكلي واللامشروط إلى هذا الطرف بحكم " طبيعة الأشياء"، أو الوقوف ضد ذاك ب" الطبيعة " ذاتها أيضا. إن العودة من جديد إلى الخبرة الفردية كما تتحقق في وضعيات إنسانية ملموسة هي السبيل الوحيد لبلورة قيم جديدة أساسها الفرد واختياراته التي تتم خارج أي إكراه ( اجتماعي أو ديني أو أخلاقي أو سياسي) سوى إكراهات المسؤولية الفردية التي يمكن وحدها أن تراعي اختيارات الآخر وتحافظ عليها.

وتلك قيمة أساسية لا يبنيها موقف فكري مسبق، بل تبنى ضمن الاستراتيجية السردية ذاتها، وهي استراتيجية تضع " الأنا " ( كل الأنات) أمام نفسها في لحظة زمنية مضبوطة وفي فضاء مضبوط، وعليها أن تختار. نحن أمام لحظة من لحظات الانفصال الحاسمة، أو أمام زمن البين بين، ما يدعو إلى الحسم والتحول، أو ما يشير إلى التشظي خارج أي زمن، إما أن نقبل وإما أن نرفض، وليس هناك من خيار ثالث.

إن درامية اللحظة وقوتها مستمدة أيضا من الاستراتيجية التي تتحكم في اختيار الشخصيات. فكل الذوات الساردة والفاعلة في النص الروائي، عدا دلال وأختها الصغرى، تتراوح أعمارها بين الثلاثين والأربعين، وهي سن حرجة ومقلقة، فهي تشير إلى مرحلة بين الشباب والكهولة، مرحلة الإحساس الحاد بثقل الزمن، مرحلة يشد فيها كل شيء إلى الوراء، وكل شيء يقود دون رحمة إلى مصير معروف : خطوة في فضاء التيه والانطلاق خارج إكراهات الزمن، وخطوات يجرفها إيقاعه الرتيب وهو يزحف بطيئا هادئا على كل مظاهر الحياة في الإنسان، بدءا بالترهل والتجاعيد التي تتسلل خلسة إلى الجسد، وانتهاء بشيخوخة النفس وتراجع الأحلام.

وبموازاة مع سن الشخصيات وحدة الضبط الزمني، هناك حالة التوتر القصوى التي تمثلها الإشارات الضوئية على رأس كل شارع. فالرواية في كل فصولها، وفي كل محطة من محطات الاستذكار لا تتوقف عن التذكير بحالة الضوء: فالضوء إما أحمر وإما أخضر وإما أصفر. ولا تعنينا هنا الوظيفة التنظيمية لتبادل المواقع هذا، فما هو أساسي هو الإحالات الرمزية الضمنية الواعية أو غير الواعية لهذه الحركة الضوئية. إن الاسترسال على مستوى التذكر لا تقطعه سوى الإشارة الضوئية الدالة على التكسير للإتيان بالمزيد من التوتر: تكسير لإيقاع السرد: التوقف عن التذكر والانتباه إلى المحيط الفضائي وتفرع الشوارع والاختيارات التي يمنحها تعدد الاتجاهات فضائيا واجتماعيا. وتكسير لإيقاع الزمن أيضا، العودة إلى اللحظة والانتباه إلى ضغط الزمن. وضمن هذه التحديدات الأولية يمكن إدراج صورة بصرية للبناء القيمي الاجتماعي كله من حيث هو بناء قائم أساسا على الممنوع والمباح والمسموح به: الممنوع الاجتماعي والأخلاقي والديني. وذاك هو ما تطمح الرواية التمثيل له.

لذلك، فإن الانفصال المشار إليه لا يطال الحدث، فالحدث لا قيمة له خارج وعي الشخصيات ومواقعها (فصول الرواية كلها تروي الأحداث نفسها ولا أحد من الشخصيات يصل إلى محطته النهائية، فلا شيء يتجاوز القصد)، إنه في الرؤية وفي طبيعة الحقائق التي تبنى ضمنه ومن خلاله. فغياب " الهو" السارد المركزي الذي يقوم بتنظيم " معرفة موضوعية" موجودة في انفصال عن الذوات، يفتح المجال واسعا أمام بناء قصة – هي جماع الفصول العشرة – تتبلور من خلال " حقائق ذاتية " هي جزئيات حياتية يتحدد مضمونها من خلال تباين في النظر إلى الأشياء لا من خلال الأشياء ذاتها. فكل عين تبني"حقيقتها " الخاصة استنادا إلى فهم خاص للحدث المشترك وللعلاقات الإنسانية التي تنسج حوله، لا من خلال الإحالة على حقائق العيون الأخرى. فكل شخصية على حق ضمن السجل القيمي الذي تصدر عنه.

فأصل الرواية لحظة عابرة في الزمان، ولكنها حاسمة على مستوى المسار الحياتي لكل الشخصيات. إنها اللحظة التي تسبق العاصفة، أو لحظة النور الخاطف الذي يضيء ثم يختفي ثانية في ثنايا ظلام يخفي كل شيء. إن الليل سكون وعودة وتوقف للفعل. إنه لحظة من لحظات الاستعادة خارج إيقاع النهار السريع. النهار حقيقة عارية، أما الليل فستار يقي ويبيح كل حالات التأمل الوجداني. تبوح الشخصيات ليلا بانفعالاتها وهي في حالة اندفاع كلي نحو مستقبل مصيري: طالب والليلة الموعودة مع ريم، سمر وهي هاربة إلى سليمان من قهر عائلي، وسليمان وهو يستعيد تفاصيل حياته ويتجه نحو سمر. إنها نزهة قسرية في شوارع الكويت، إن الليل ناصح كما يقول الفرنسيون. تماما كما هي حاسمة اللحظة الزمنية الفاصلة بين اليوم والغد.

تبدأ الرواية ب" قطيعة اجتماعية" كلية: تخرج سمر إلى الشارع ليلا والدم ينزف من كاحلها مطرودة من بيت العائلة وتلقي بنفسها إلى الشارع، فضاء عار بلا غطاء ولا سلطة سوى حرية التسكع والنبش في تفاصيل الحياة الماضية:

" الحادية عشرة وخمس دقائق

شارع عبد العزيز يوسف المزيني يبدو هادئا. المسافة بين منطقة الفيحاء ومنطقة بنيد القار لن تزيد عن ثلث ساعة. شقة سليمان خلف فندق سفير إنترناشيونال.

ربما جف الدم على كاحلي. أحس الرجفة في أصابعي. وحدي ودموعي أقود سيارتي.. قليلة حركة السيارات في الشارع ... قبل زواجي من وليد ما كان أبي يسمح لي بالبقاء خارج البيت بعد الثامنة. لكنه طردني الليلة قال: اخرجي، لا أريد رؤيتك في بيتي " ( ص9).

إن الأمر يتعلق بتصريف سردي لكم زمني لا يتجاوز خمس وعشرين دقيقة، وهي المدة الزمنية التي يستغرقها سرد أحداث الرواية. وهي مدة موزعة بالتساوي على كل الشخصيات. ولقد سبق أن رأينا أن كل شخصية تستقل بفصل أو فصلين وتقوم بمهمة سرد أحداث هي ذاتها الأحداث التي ترويها الشخصيات الأخرى مع الإشارة الدائمة إلى لحظة زمنية بعينها: نحن ليلا، والساعة ما بين الحادية عشرة والحادية عشرة وخمس وعشرين دقيقة. وكما هو مصير الشخصيات معلق وموزع على غايات وأهداف لم يتم الحسم فيها ولن يتم، فالأساسي في الرواية، وتلك قوتها، ليس الوصول، بل الكشف عن جوهر الرحلة وتداعياتها، فإن الفضاء الذي يحتوي الفعل ويسنده فضاء مفتوح ومتحرك، إنه فضاء المرور والسرعة والتوقف، والانطلاق من جديد، إنه فضاء الشارع، فضاء العراء والفضيحة والكشف الكلي. فالشارع الذي هو مهد الفعل في الرواية ومهد التذكر والإسقاطات الآتية، لا يتم تمثيله إلا استنادا إلى وجهه الرمزي، الشارع رمز التدجين الإنساني وضبط لحدود السلوك وحجمه واتجاهه : تضيق جنبات الجدران العازلة ويتسع نفوذها حتى يتحول الشارع إلى حميمية اجتماعية، بعد أن كان المنزل قديما ( الخيمة) دالا على حميمية فردية. إن اتساع مجال الثانية تقليص من حجم الأولى ونيل من خصوصية الفرد.

إن الشارع هو أيضا رمز للفضاء المنتهي، رمز للفضاء " المعدل" و"الممهد"، إنه الوجه الثقافي للوجود الإنساني، أو هو آثار الإكراهات الاجتماعية التي تلاحق الفرد في كل مكان : تشير الرواية في أماكن متعددة إلى الرغبة في التنكر والتخفي عن أعين الناس :" لنجلس في مكان لا يرانا فيه أحد". لذا فهو العراء أيضا حيث لا يختفي المرء سوى في ملابسه، وهو الواجهة أيضا حيث يضطر الفرد إلى تقديم نفسه وفق ما يشتهيه الآخر. ويكفي أن نشير هنا إلى أن الرواية تبدأ بحركة في الشارع وتنتهي بأخرى في الشارع أيضا، وكأن الحياة الحقيقية هي تلك التي تمارس في الشوارع. وتبدأ ليلا وتنتهي ليلا، كأن فضيلة النهار ليست سوى غطاء لرذائل الليل التي لا تنتهي.

ولن يكون الزمن ذاته،كما سنرى ذلك، غريبا عن سيرورة تشكل العالم الروائي وممكناته الدلالية. فالضبط الزمني تأكيد لخصوصية اللحظة. إنها لحظة فريدة حقا، فهي الفاصل بين زمنين: اليوم والأمس وما سيأتي. إنها الحادية عشرة وعشرين دقيقة، بداية النهاية واقتراب من التحول، أي الانتقال، وربما المآل الجديد أيضا. لذلك فالأنا الساردة تبوح بما في مكنونها بما يشبه البوح السريري، والبوح هو استعادة لحقبة من تاريخ شخصي وجماعي استعدادا للقفز إل الأمام : ضرورة اتخاذ القرار، ليس هناك من الوقت سوى ما يكفي للفعل، إنه زمن الضرورة. وهي الضرورة التي يؤكدها التذكير الدائم بالزمن، وتحديد الفضاءات التي تتحرك داخلها الشخصيات :

-" الحادية عشرة وخمس دقائق

شارع عبد العزيز يوسف المزيني " ( الفصل الأول ص 9)

-الساعة جاوزت الحادية عشرة بقليل

... منطقة " الشعب البحري " ( الفصل الثاني ص39)

-" الحادية عشرة وعشر دقائق للتو تركت البيت " ( الفصل الثالث ص 63)

-" الحادية عشرة وثلاث عشرة دقيقة

...خلف فندق إنترناشيونال، مجمع الأبيض يطل على البحر " ( الفصل الرابع ص93)

وهكذا إلى آخر الرواية، كل شخصية تحرص على ضبط الزمن بالدقائق. إن الأمر يتعلق بإشارة إلى سباق لا هوادة فيه مع الزمن استنادا إلى لحظة زمنية تستوعب كل الذكريات، واستعادة لكل الكم الزمني الضروري لتجاوزها، إنها العودة إلى الوراء للقفز بشكل أفضل إلى الأمام : المستقبل الزاهي أو الضياع المطلق. ضغط الزمن ومحدودية المسافة وازدحام الذكريات. حصار من الجهات الأربع، والعمر يجري، ولا وقت للتردد.

لذلك لم ير المؤلف داعيا لإعطاء الكلمة لمجموعة من الشخصيات. هناك الأب والأم، وهما خارج اللعبة المستقبلية بحكم تقدمهما في السن. وهناك أربع شخصيات أخرى : هناك ألطاف وزوجها، الأولى محجبة والثاني من الدعاة، وقد صنفتهما الحكاية منذ البداية واختارت لهما سبيلا لا يشكل مادة للحكي، لأنه هو أصلا ذاكرة من ذاكرات الماضي. إن الزمن الخاص بهما زمن ولى، ولا تشير الحادية عشرة إمكانية للتحول، لأن التحول عندهما قد حصل، إنه تحول إلى الماضي، لقد استراحوا في ثوب قناعة وحسموا في أمر الحقيقة: حقيقة الأرض وحقيقة السماء، حقيقة الفرد وحقيقة المجتمع. كل شيء عاد، بعد رحلة قصيرة، إلى حالته الطبيعية، فلا قلق بعد اليوم. ولم يعط الكلمة للطفلة سهى لأنها هي أيضا صرفت مراهقتها في الصلاة والدعوة إلى عالم بلا قلق، إنها بذلك المعادل الصغير للزوج السابق. دلال وحدها أخذت الكلمة، وفتحت طريقا ثالثا، وهو بين الاندفاع، اندفاع الشباب والفتوة، وبين القلق، ما يمثله الإرث العائلي من ثقل يحد من هذا الاندفاع.

إن " الأنا" هنا وفي جميع الحالات أيضا ( الأنا السيرية والأنا التخييلية على حد سواء)، وعلى عكس ما يقوم به السارد الكلي الذي يختفي وراء حقيقة موضوعية، هي كشف جديد أو استبطان لما يمكن أن يأتي به التذكر، وما يمكن فعله استقبالا. إنه المتاح الواقعي والمخيالي على حد سواء. أما اللحظة الفاصلة بين الزمنين فهي لا شيء، إنها فترة الانتقال الحاسم بين ما كان، وبين ما يجب أن يكون حقا: إنها هروب كلي من ماضي ولى، وتوجس أو توق إلى مستقبل. إن الأمر يتعلق بخلاف حقيقي حول ما كان وما يجب أن يكون.

إنها لحظة تذكر بالقطيعة التي تشير إليها لحظة الموت، الزمن معدود ومنته، والحسم لا راد له، وتزدحم فجأة أمام ناظري " الأنا " كل تفاصيل الحياة القديمة. هنا في هذه اللحظة فقط إشارة إلى تحول وإلى فصل بين زمنين، زمن الأمس والغد: الحادية عشرة وعشرين دقيقة، لحظات وسنمر إلى اليوم الموالي، إلى حياة جديدة. وكأن القصة لم تبدأ ولكنها مستمرة، تماما كما هي الحياة كل البدايات فيها ممكنة.

---------

1- طالب الرفاعي : سمر كلمات، دار المدى للثقافة والنشر ، 2006

2- Denis Bertrand : Précis de sémiotique littéraire, éd Nathan, Paris 2000, p 64

 

 

 

 

 

 
 
 
معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقـة تعريـف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع  خزانات الموقـع  صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

موقع سعيد بنگراد - تاريخ الإنشاء: نونبر 2003