معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقـة تعريـف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع  خزانات الموقـع  صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

سعيد بنگــراد

النص والمعرفة النقدية

 

لن أناقش في هذه المقالة المختصرة القضايا المتعلقة بضرورة أو عدم ضرورة تطبيق منهج معين في قراءة النصوص. فلا أهمية لسؤال من هذا النوع، ولا قيمة معرفية له وذلك لسببين :

- فمن جهة لا وجود لقراءة "عفوية" تستند إلى حدوس لامعرفية لكي تنتج معرفة، فهذا أمر في غاية الغرابة والنشاز، فأبسط الأحكام إنما تستند إلى فرضية سابقة انطلاقا منها يمكن قول شيء ما عن الواقعة.

- ومن جهة ثانية فإن السائد حاليا في الدراسات الأدبية أن المنهج الوحيد والأوحد خرافة لا يمكن أن تنتج عنها سوى الأوهام. فالقراءة تستند إلى فرضية يبررها وجود نص يبني معانيه استنادا إلى قوانين لا يمكن الكشف عنها إلا ارتكازا على تصورات تخص شروط إنتاج المعنى وشروط تداوله، وهي فرضيات لا تشكل " منهجا " بل هي ترتيبات تحليلية قد تفيد من تصورات نظرية متعددة.

استنادا إلى هاتين الملاحظتين، يمكن التأكيد أن الأمر لا يتعلق بـ" اختيار"، بل هو قضية مرتبطة، في واقع الأمر، بالأسئلة الخاصة التي يطرحها الباحث على النص من أجل إعادة بناء المعنى من خلال الكشف عن سيرورة تشكله وأشكال تجليه. وشتان بين الأمرين.

وهذا أمر يؤكده واقع الحال في الدراسات الأدبية. فالمعرفة النقدية المعاصرة بكل توجهاتها تؤكد أن الاختلافات القائمة بين رواد المدارس السردية المعاصرة مثلا لم ترتبط أبدا بالطاقات الانفعالية التي تختزنها ذوات الباحثين، كما لم تستند إلى مكونات تخص النص ووجوده، بل استندت، في الأصل، إلى التصور النظري الذي يملكه الباحث عن المعنى وعن طرق الكشف عنه وطريقة التعامل معه، وعن موقع الذات القارئة منه.

فهذه النظريات ولدت في أحضان تصورات معرفية ذات أبعاد فلسفية لها علاقة بمجمل الأسئلة التي طرحها الإنسان على نفسه وعلى الكون من أجل تبين موقعه داخله. ولعل هذا الأساس الفلسفي هو الذي أضفى على هذا النشاط الفكري طابعا خاصا وهو الذي مكنه من أن يُصنف ضمن الحقول المعرفية التي تسهم في التعريف الفعلي بالإنسان وقضاياه، وهو أيضا ما منحه الاستقلالية في النمو والتطور والاشتغال، وأبعده عن الفوضى والتسيب في المصطلحات وفي التحليل.

تلك بعض المبادئ الأساس التي يجب الاقتناع بها من أجل الحديث عن نقد ينتج معرفة حقيقية تخص الإنسان وتكشف عن خصوصياته في الزمان وفي المكان، وهي نفسها التي تمكننا من تصنيف النقد ضمن حركة فكرية شاملة تحتضن القضايا السياسية والاجتماعية والفلسفية والنفسية... الخ. وخارج هذه الحدود، فإن ما يكتب عن النصوص يمكن أن يتخذ تسميات أخرى، فهو قد يدخل ضمن الخواطر العابرة أو الانطباعات السريعة الزوال، أو يدخل ضمن التعليق الصحفي الذي يقوم بالتعريف بالنصوص ويدعو إلى قراءتها. وهذا أمر محمود على كل حال، ولكنه لا يرقى إلى مرتبة النقد.

وهذا بالضبط ما يشكل موضوع مقالنا هذا.

فضرورة وجود تصور مسبق عن المعنى وعن كيفية انبثاقه عن عمليات التنصيص المتعددة والمتنوعة أمر بالغ الأهمية، ولا يمكن لأي ناقد أن ينجز أي شيء دون التسليم بهذا المبدأ.

فكيفما كانت العبارات التي سنختفي وراءها وكيفما كانت المبادئ التي سندعو إليها، من قبيل " ضرورة الاهتمام بالجمال" و" تحديد البنيات الجمالية" أو القول بـ" أهمية تأمل النصوص" أو " إقامة حوار مع النصوص" والإنصات إليها، فإن الاهتمام وتحديد البنيات والإنصات للنصوص ومحاورتها نشاط لن يغنينا عن الاستعانة بمعرفة سابقة في الوجود على النصوص ذاتها. بل لا يقوم هذا النشاط إلا بتأكيد هذه المعرفة والدعوة إلى امتلاكها. ف"الجمال" ليس معطى حدسيا يقع خارج أي تحديد نظري، والتأمل ليس حالة صوفية تقتضي الصمت، بل يستدعي وصفا هو ذاته يحتاج إلى فعل نقدي.

فما يحدد، داخل العملية التحليلية، عمق التأويل وغناه وأبعاده وامتداداته، أو على العكس من ذلك يكشف عن سطحيته وضحالته، هو صيغة السؤال التي تتبناها الذات القارئة لتكشف عن السيرورات التأويلية التي يسمح بها بناء النص أو يوحي بها. والأمر لا يتعلق، بطبيعة الحال، بتحديد معنى وتعيينه، بل هو إعادة لبناء قصدية النص بعيدا عن إرغامات الإحالات المرجعية المباشرة. > فإذا كان المعنى النصي مستقلا عن القصدية الذاتية للمؤلف، فإن القضية الأساسية ليست هي إعادة بناء هذه القصدية المفقودة، بل علينا أن نبسط أمام هذا النص ذلك العالم الذي يفتتح ويكتشف من خلاله<. (1) وتلك قضية بالغة الأهمية، فالنص يستعير من الواقع أسننا في أفق بناء أسننه الخاصة، وهذه الأخيرة هي وحدها ما يشكل موضع التساؤلات التي يطرحها الناقد على النص. فسياقات النص لا يمكن أن تكون معطى جاهزا يهبه النص إلينا، بل هي بناء يقوم به التحليل.

إن التعرف القبلي على هذا المبدأ معناه امتلاك رؤية مسبقة تخضع الأدوات التحليلية لغاياتها بعيدا عن انتمائها لهذا الصنف من النصوص أو ذاك، وهو الأمر الذي يمكننا من الفصل بين العناصر التي نحددها باعتبارها محايثة للنص، فهي عصبه وما يكونه، وبين ما يعود إلى الفعل الذي يقرأ ويكشف ويؤول. ويتعلق الأمر بطريقة أخرى للقول إن التحليل ليس كتابة موازية للنص المدروس، ولا يمكن أن يكون حاشية عليه. إنه كشف عن منطق البناء النصي، وهو منطق ليس معطى من خلال ما تقوله العلامة من خلال مظهرها الخارجي، بل هو بناء يوحي به النص وتقوم بإقامته الذات القارئة. وهو ما يعني، بطريقة أخرى، وجوب فصل الخطاب الواصف عن الخطاب الموصوف.

إن المكونات التي تستند إليها النصوص في بنائها وفي انتمائها إلى هذا النوع الأدبي أو ذاك مداخل أساسية لولوج عالم الدلالة التي يبنيه نص ما، ولذلك فإن معرفة هذه المكونات أمر بالغ الأهمية، بل لا يمكن فهم النص دون الإلمام بهذه المكونات. إلا أن عدم إدراج هذه المكونات ضمن صيغة معرفية خاصة بالمعنى، لن يقود التحليل إلا إلى تقديم وصف لن يصل، كيفما كانت دقته وشموليته، إلى إنتاج معرفة تخصنا وتخص المجتمع الذي نعيش في أحضانه. ولهذا يجب نبذ الفكرة الساذجة القائلة إن المحلل المسلح بـ"النظرية الصحيحة" سيتمكن، في كل قراءة، من تقديم "التأويل الصحيح" للنص.

استنادا إلى الملاحظات السابقة، نرى في الفعل النقدي ممارسة فكرية تستدعي معرفة متنوعة تمتد في ثلاثة اتجاهات على الأقل :

1- إنها معرفة تعود في المقام الأول إلى النص ذاته. فالنص كيان له عمق وامتداد وأطراف. إنه مكونات، ولا يمكن فهمه بدون التعرف على هذه المكونات وتعيينها ووصفها وتحديد العلاقات الممكنة بينها : للنص الشعري هويته الشكلية، وللنص السردي علامات بها يعرف، وكذلك الأمر مع باقي الأنواع الأدبية.

2- وهي في المقام الثاني معرفة نظرية تعود إلى التصورات التي يملكها الناقد عن الوقائع الخاصة بالدلالة وطرق إنتاجها والمواد الحاملية لها. فلا يمكن أن نتصور قراءة "عفوية" تتم عن طريق الحدس خارج أي سياج نظري، وتكون في الوقت نفسه قادرة على تحديد مواطن المعنى، وقادرة على مطاردته في مظانه، ومن خلال تمنعاته وإغراءاته. فـ" الحدس فكر لا يسنده فكر سابق "، كما كان يقول بورس، فلذلك فهو لا يمكن أن ينتج قراءة منسجمة. فلهذا تحتاج القراءة النقدية إلى معرفة نظرية تشكل صيغة من الصيغ التي تتيحها لنا المعرفة الإنسانية من أجل وصف المعنى. وهي ذاتها ما يشكل السبيل نحو تحديد التجليات الممكنة للقيم الإنسانية كما يصوغها النص ويشكف عن حدودها.

وعلى الرغم من ذلك، لا يجب التعامل مع هذه المعرفة النظرية باعتبارها فرضيات مسبقة تسقط قسرا على النص. إن التصورالنظري هو سؤال لا يستدعي جوابا جاهزا ولكنه يعد حافزا على خلق أكبر عدد من السيرورات التأويلية الممكنة. فإنتاج نص ما يقتضي اقتطاع جزئية ثقافية لتحويلها إلى كون دلالي يتم تشخيصه من خلال خلق وضعيات إنسانية تأخذ على عاتقها إدراج القيم ضمن مقتضيات السلوك المحسوس، ولن تكون مهمة المحلل هي تفصيل ما يعطيه النص مكثفا، أو تكثيف ما يعطيه النص مفصلا، إن القراءة بناء لسياقات، وخلق لقصديات لم تكن متوقعة من خلال التجلي.

3- وهي معرفة تخص في مرحلة ثالثة ما ينتجه الإنسان عبر سلوكه من قيم ومعارف بأبعادها الرمزية والأسطورية والاجتماعية. وهو ما نطلق عليه عادة " ثقافة الناقد". فالإنسان لا يحيا بالنظريات، ولا يتحدد سلوكه ومواقفه من خلال الإحالة على عقائد فلسفية أو دينية خالصة. فالوجدان الإنساني تبنيه الأشياء التي يتداولها وتبنيه الأساطير والحكايات والشعائر الدينية. ولهذا لا يمكن فهم النص دون معرفة الثقافة التي أنتج ضمنها. ولذلك فإن أبسط الوقائع اليومية تحتاج، لكي تسلم مضامينها، إلى تعبئة رصيد ثقافي متعدد الإحالات. فكل ما في الواقعة يحيل على سلسلة من المدلولات الصغيرة هي ما يشكل المضامين الممكنة لهذه الواقعة. وهذه المدلولات الصغيرة هي سلسلة القيم الثقافية التي تعد هذه الواقعة أوتلك إحدى صورها الممكنة.

والأمر لا يختلف في النص. فالنص نسيج من الإحالات المرجعية التي لا تنتهي عند حد بعينه، وبإمكان السيرورة التأويلية أن تمضي بكل إحالة إلى أقصى الحدود الممكنة دون أن تستنفد، مع ذلك، ممكناتها التدليلية. لذلك، فإن إمكانية التعرف على علاقات جديدة ليست معطاة من خلال التجلي المباشر للنص - والتأويل هو في نهاية المطاف خلق لعلاقات جديدة- أمر لا يمكن أن يتم دون الاستناد إلى معرفة خاصة بالمجتمع والإنسان والأشياء.

ولقد قادت المعرفة الأولى، استنادا إلى النصوص ذاتها، إلى بلورة مجموعة من النماذج التي حاولت تارة أن تصف النص من خلال مكوناته المباشرة، فالبحث في النص وفي دلالاته يتم من خلال وسيط أساسي هو ما تحيل عليه مجمل المكونات التي تأتينا عن طريق التلفظ. وقدمت في هذا المجال نمذجات خاصة بأشكال حضورالسرد والسارد والزمن والفضاء والشخصيات... ولقد كانت هذه النمذجات على قدر كبير من الغنى والعمق وأسهمت في إثراء معرفتنا بالنصوص وتحديد سبل الولوج إليها.

وحاولت فعل ذلك، تارة أخرى، من خلال البحث في الملفوظ، فكان الحديث عن خطاطة سردية عامة تعبر عن وجود أشكال كونية تثوي داخلها كل النسخ السردية الممكنة. فالنصوص المخصوصة لا ينظر إليها، في تصور القائلين بهذا الرأي، إلا باعتبارها صيغة من الصيغ التي يسمح النموذج بإنتاجها. فالأشكال الكونية لا تكشف عن وحدة النوع البشري من حيث الكينونة والوجود والانفعالات فحسب، بل هي التي تجعل من النموذج المجرد بنية عامة يتغذى منها كل تحقق نصي، وكل تحقق نصي هو عودة إلى ما يحيل على التلوين الثقافي الخاص.

ولن نتحدث هنا عن هذه النماذج فهي معروفة ومتداولة. سنكتفي بالإشارة فقط إلى أن هذه النماذج ذاتها استندت في صياغتها إلى مظاهر الوجود الإنساني ذاته. فالسلوك الإنساني في أشكاله الأصلية يخضع لبرمجة مسبقة تحيل عليها مجمل الأدوار الاجتماعية وطرق توزيعها. فالفعل الإنساني يندرج ضمن خطاطة سلوكية يمكن النظر إليها باعتبارها موجها سرديا يقوم بضبط تركيبي لهذا الفعل. أما التصنيفات فتحيل على حالات انتظار هي ما يحدد الأبعاد الدلالية للمنتوج المتولد عن هذا السلوك.

وبناء عليه يمكن القول إن كل سلوك هو آلية محكومة بخطاطة سردية مسكوكة تشتمل على عدد هائل من الممكنات التأليفية. إنها خطاطة ممتدة في ذاكرة الزمان، فقد رافقت الإنسان منذ وعى وجوده المستقل عن الطبيعة، فمن خلالها وداخلها لم يتوقف الإنسان عن اكتشاف مناطق جديدة تخصه وتخص علاقته بالكون، وهي مناطق تتطلب تغطية رمزية منها ما يعود إلى اللغة ومنها ما يعود إلى فن القص ومنها ما هو مرتبط بردود الأفعال السلوكية ذاتها. ولذلك وجب التعامل معها باعتبارها أهلية تقنية يضعها الإرث الإنساني بين يدي الروائي والقارئ على حد سواء. فهي عند الروائي معرفة اجتماعية وتقنية ولغوية مسبقة يعتمد عليها في بناء أكوانه التخييلية، وهي عند القارئ خانة تمكنه من فك البرمجة المسبقة للأفعال وتعينه على توقع ما يمكن أن يحدث. من هنا كانت العوالم الممكنة وثيقة الصلة بهذه النماذج من حيث إن كل شيء يبنى انطلاقا من تصورات مسبقة. فالروائي لا يمكنه التصرف كما يشاء في هذه المعرفة، والقارئ من جهته لا يستطيع توقع ما لا تسمح به هذه العوالم.

ولهذا فإن هذه النماذج في ذاتها ليست سوى استعادة لأشكال مجردة نقوم، من خلالها، بخرق المتصل الزمني لكي نجعل منه تسلسلا مرئيا من خلال الفعل السردي ذاته، ما دام الزمن لا يدرك إلا من خلال صبه داخل الوعاء القصصي كما يقول بول ريكور. لذا فإن التشخيص هو الحالة الوحيدة الممكنة للتزمين، والتزمين ذاته هو أداتنا الوحيدة التي تمكننا من إدراك القيم داخل وضعيات محسوسة.

ومع ذلك، فإن هذه النماذج ذاتها، رغم أهميتها التاريخية ورغم كل الإنجازات التي تمت انطلاقا منها، لم تُجب عن أشياء كثيرة ظلت خارج سلطة النموذج وخارج قدرته على أن يعود بنا، ضمن رحلة عكسية، من المجرد إلى المحسوس. فلقد كان من الضروري أن يقود الفعل المعمم إلى العودة من جديد إلى ما يخصص. من هنا جاءت ضرورة استحضار الصورة المقابلة لتكون هي " المنقذ من ضلال النماذج العامة"، تماما كما كان النموذج العام منقذنا من كثرة النصوص وتعددها وتنافرها. فعوض أن نكتفي بتحديد ما يجمع بيننا، علينا أن نبحث عما يميز بعضنا عن بعض. فالامتثالية والتطابق غاية مثلى، لكن الاختلاف أجمل من كل حالات التوحد. فمنه يولد النشاط المفرد والمتميز. وتلك طبيعة المعنى وسر وجوده، فهو لا يوجد في الأشكال الكونية، بل ينبثق عن النسخ المتحققة، إنه في النصوص ذات الطابع الخاص والمتميز، لا في النماذج العامة.

وتكفي الإشارة إلى مثال واحد لندرك أهمية المكونات التي صنفت داخل هذه النماذج باعتبارها عناصر عرضية وزائلة ومتحولة. وذاك ما قامت به النمذجة البروبية. فلقد أدرك بروب بشكل مبكر جدا أهمية الوصول إلى بناء نموذج عام للحكايات العجيبة ينبذ التصنيف القائم على الموضوعات والقيم، الذي كان في نظره ( وفي نظرالتاريخ أيضا) تصنيفا فاسدا لأنه ليس ملائما لأسباب لا مجال لذكرها هنا. وهكذا كانت الوظيفة بعددها وشكل وجودها ومنطق تتابعها هي المنطلق الأساس من أجل وصف الحكايات. فكان أن أهمل، في ذات الوقت، الشخصيات التي تقوم بهذه الوظائف. فالشخصيات، سواء كانت كائنات بشرية أو حيوانات أو جنا أو أشجارا، عناصر لا أهمية لها لأنها عرضية تتميز بالتحول والحركية. فبناء النموذج العام يجب أن يستند إلى العناصرالثابتة وهو ما تتميز به الوظائف.

إلا أن الدراسات اللاحقة ستثبت عدم صحة هذا التصور، فهو لا يمكن أن يشكل قاعدة صلبة يمكن الاستناد إليها من أجل إنتاج معرفة حقيقية إذا كنا لا نرى في النص إلا ما يحيل على الثابت والعام والدائم. وهذا هو بيت القصيد، واستنادا إليه سيبني ك . ل شتراوس انتقاداته الموجهة لبروب. فإذا أسندنا، حسب بروب، وظيفة إلى شجرة ما، فإن ما يهم في العملية كلها، هو الوظيفة أما الشجرة فلا قيمة لها، فالأساسي في الشجرة ليس شكلها أو امتدادها بل الوظيفة المسندة إليها. إلا أن الأمر ليس كذلك، فسيكون من الخطإ التركيز على الشجرة في ذاتها دون اهتمام بالفصيلة التي تنتمي إليها ( أنواع الأشجار)، ودون تحديد موقع هذه الفصيلة داخل ثقافة هذه المجموعة البشرية أو تلك.

وفي هذا المجال، يذكرنا شتراوس ببعض المعتقدات الشائعة عند الهنود في أمريكا. ف"الحكايات الأمريكية تشير في غالب الأحيان إلى بعض الأشجار كشجرة البرقوق وشجرة التفاح. وسيكون من الخطإ القول إن ما يهم في هذه الإشارة هو مفهـوم "شجرة" فحسب، أما تحققاتها المتنوعة فتلك مسألة اعتباطية، تماما كالقول إن هناك وظيفة تشكل الشجرة سندها باستمرار(...) فما يهم الأهلي في شجرة البرقوق هو خصوبتها، وما يشده إلى شجرة التفاح هو قوتها وعمق جذورهـا". (2) وفي هذه الحالة لا يمكن القول إن ما يهم هو "الشجرة" أما أنواعها ورمزيتها فتلك عناصر لا قيمة لها. فما يشكل التلوين الثقافي الخاص للحكاية هو بالضبط هذا العنصر العرضي.

إن وحدة النموذج لا يمكن أن تؤدي إلى وحدة للتصور أولا ولا يمكن أن تؤدي إلى وحدة في دلالات النصوص ثانيا، ولا يمكنها أن تكون بديلا للنصوص المخصوصة ثالثا.

من هنا جاءت المقترحات الجديدة في ميدان التحليل الدلالي التي ستعيد النظر في بناء النماذج وتثير الانتباه نحو ما يؤسس خصوصية النص وتميزه من حيث البناء ومن حيث الإحالات الدلالية. فالخطاب لا يشكل حالة عامة ولا يمكن أن يكون رديفا سلبيا داخل النص الذي تشكل خطاطته أهم ما فيه. فالقبول بفكرة وجود معنى متولد عن العلاقات التي تشكل القاعدة الأساسية للنص، والقول أيضا بالوجود الضمني لدلالة خطابية هي المبرر للبناء النصي كله، معناه القبول بفكرة وجود "عالم" يوجد خارج النص، ولكنه وثيق الصلة ببؤرة التجلي الخطابي. فعمليات التشخيص المتنوعة ( أي بناء نص مخصوص ) تقوم بصياغة جديدة للحدود القيمية ( الخير والشر والصدق والكذب والأمانة والخيانة وكل ما يشير إلى العلاقات المحدد للترابط الإنساني). وهذه الصياغة هي ما يشكل الدلالة أو الدلالات الممكنة للنص.

استناد إلى كل هذا، يمكن القول إن التعرف على المعنى جزء من سيرورة تشكله، فالمعرفة هي إمساك بالسبب، ومحاولة الإمساك بمدلول نهائي كمعطى خارج أية سيرورة أمر مناف للمعنى ولا تقبل به طبيعة النص. فالمعنى لا يوجد إلا ضمن سيرورة تأويلية ما، واستنادا إلى هذا المبدأ، يجب تحديد روابط دلالية تقصي كل المدلولات التي لا يمكنها أن تستقيم داخل هذه السيرورة، ولكنها قد تكون، مع ذلك، عصب سيرورة أخرى.

وهذا ما أطلقنا عليه المعرفة النظرية الخاصة بمقاربة المعنى وتصوراته. فالاكتفاء بتحديد مواطن النص ومكوناته، وتحديد أشكال هذه المكونات لا يقود إلى إنتاج معرفة تخص الإنسان، فالمفروض في النص أنه يعبر عن وجدان شعب وليس مجرد تنضيد رتيب لكلمات خالية من أية انفعالات جديدة، أو إعادة لبناء كون حدوده معروفة ولا تضيف أي شيء.

فليس من اللائق أن نتعامل مع النصوص الإبداعية المخصوصة باعتبارها >تقنيات< في القول وفي تنظيم الحدث. فهذه التقنيات هي الوسيط نحو الإمساك بسيرورات التدليل، وخارج هذه السيرورات، ستظل هذه التقنيات جوفاء ولن يتجاوز التعرف عليها حدود تعيين مكونات معطاة مع التجلي الخارجي للنص. ومن هنا كانت أهمية المعرفة النظرية التي ستقودنا إلى طرح أسئلة تتحول من خلالها التقنيات والمكونات إلى عناصر داخل طاحونة منتجة لدلالات المتنوعة للكون الروائي. واستنادا إليها يصبح التأمل والبحث عن البنيات الجمالية، وكل الطاقات الفنية أمرا ممكنا.

فالمبدأ الأساس الذي انطلقت منه مجموعة من المدارس المعاصرة يقول بأن الوقائع مبنية، وليست تراكمات عفوية لعناصر لا رابط بينها. والبناء في عرف التحليل العلمي، يحيل على غاية. إنه موجه نحو هدف، وهذا ما يفسر الطابع المنته للنص، فالغاية من كل بناء هي الإحالة على كون أو أكوان أو على كل الأكوان الدلالية الممكنة إذا كنا نلغي من حسابنا إمكانية الوقوف عند مدلول بعينه.

وعلى هذا الأساس، فإن كل الرهانات التركيبية التي تقود، في مستوى التجلي النصي، إلى خلق سلسلة من العلاقات بين مكونات النص، يجب أن ترتبط، برباط وثيق، برهانات أخرى من طبيعة دلالية : إن النص يحيل على سلسلة من العوالم الدلالية. وهذه الرهانات، شأنها في ذلك شأن الرهانات الأولى، خاضعة لنفس المبدأ، أي مبنية انطلاقا من نسق من العلاقات الشكلية ذاتها، فالدلالة لا توجد خارج مكونات النص الشكلية، فالمعنى شكل، والشكل هو ما نعرفه عن المعنى. لذلك فإن ما تروم الآلة التحليلية الوصول إليه ليس جواهر مضمونية ثابتة، بل أشكال للتحقق : إن الخير ليس جوهرا بل سلوكات ممكنة. فالحديث عن خصوصية شعب ما وتفرد وجدانه لا يتم من خلال البحث عن قيم لا توجد عند غيره من الشعوب، بل هو في الأصل بحث عن مفصلة خاصة للقيم المشتركة بين كل الشعوب، فما يميز ليس امتلاك قيم والاستفراد بها، إنه، على العكس من ذلك، خلق لأشكال جديدة خاصة بتحققها.

إن النص، على هذا الأساس لا يكتفي بالتعبير عن معنى موجود بشكل قبلي، ولكنه يعدل، من خلال أشكال تحققه، من العلاقات القبلية للمعنى، ليكشف لنا، من خلال مكوناته مرة أخرى، عن علاقات جديدة تعد إغناء للمضامين القيمية.

ولهذا فإن تعميق معرفتنا بالسردية في مظاهرها المتعددة، هو في الواقع تعميق لمعرفتنا بالأشكال الخاصة بالتمفصل الدلالي.

استناد إلى هذا، فإن ما نبحث عنه في النص أشياء لا نعرفها في حقيقة الأمر، قد يكون بإمكاننا تلمس دروبها أو معرفة المسارات المؤدية إليها، ولكننا لن ندرك أبدا سر ما نبحث عنه بشكل سابق عن التحليل، وتلك هي قيمة النقد الحقيقية : الوصول إلى حقائق لم تكن متوقعة منذ البداية. فالكشف عن ترسيمات موجودة بشكل سابق في النص، أو تعيين أشياء لا دخل للذات القارئة فيها لا يمكن أن ينتج عنه شيء ذو قيمة حقيقية. فالنص في هذه الحالة يفقد هويته لأنه لن يكون مصدرا لأية متعة.

فماذا يعني التأويل إن لم يكن بحثا في ذاكرة الشعوب الثقافية والرمزية والأسطورة والدينية والخرافية وكل ما يشكل الوجدان الأصيل لأمة ما. إن أهمية التأويل هي القدرة على خلق علاقات جديدة لم يكن يتوقعها أحد أو إعادة بناء قصدية النص من خلال الإحالة على سياقات لم تكن متوقعة من خلال التجلي النصي. وهذا بالتأكيد ما يميز بين القراءات ويجعل من بعضها عميقا وممتعا ويجعل من البعض الآخر وصفا لا يضيف أي شيء.

وليس غريبا ألا تسلم النصوص نفسها بسهولة. وليس غريبا أيضا أن تستعصي العلاقات الخفية على التجلي. فالتمنع والإغراء والدلال ليست صفات أحدثها أسلوب إنشائي بسيط ليتخلص من التحليل، بل هي حقائق فعلية، بل هي سلوك نصي لا يشكك فيه أحد، وهناك في الممارسة النقدية ما يؤكد ذلك. فالواقعة النصية لا تدل من خلال كليتها إنها تخبئ أسرارها في جزئياتها وتفاصيلها وعلاقاتها غير المرئية. ولهذا كان التأويل دائما خلقا لمسارات تدليلية، وليس بحثا عن دلالة جاهزة. فهو تنظيم جديد وبحث عن علاقات لا ترى بالعين المجردة، وليس تعيين لمعنى والاحتفاء به.

إلا أن الكشف عن العلاقات الجديدة وتحديد بؤر التدليل ليس معطى عفويا. فالتأويلات الممكنة لا تستند إلى ما هو معطى بشكل مباشر في النص، إنها تحتاج إلى استحضار معرفة تكون لها القدرة على إدراج النص ضمن مسارات ليست بادية من خلال التجلي المباشر. وهذا ما حددناه في الفقرات السابقة بثقافة الناقد. فهذه المعرفة لا تخص مكونات النص، ولا علاقة لها بالمعرفة النظرية، إنها معرفة تخص الذات وتخص المجتمع، تخص العلاقات الإنسانية وتخص الأشياء والكائنات والوجدان والتاريخ والتركيبة النفسية.

إن القارئ ليس طاقة مبدعة للمعاني وليس خزانا حافلا بدلالات لا يحصيها العد. إنه محفل للتنظيم، > فالتأويل ليس وليد الذهن البشري، ولكنه نتاج الواقع الذي تقيم دعائمه السميوز< (3). فنحن لا نؤول ما في أنفسنا ولكننا نبدع إحالات جديدة انطلاقا من الإحالات التي يحددها النص ويرسم حدودها. فتدخل القارئ وإسهامه الفعلي في إنتاج الدلالات الممكنة للنص، يشير إلى قدرته على الربط بين ما هو متحقق بصفته بنية نصية محدودة ومكتفية بذاتها، وبين مجموع المعارف والأشياء التي تشكل النص الثقافي العام الذي أنشئ ضمنه النص المتحقق. ولا يعني تدخل القارئ أن النص لا شأن له بالدلالات التي قد يأتي بها هذا القارئ. إن الأمر على خلاف ذلك، فاللذة، كل اللذة، هي في عمليات الخرق المتتالية لنظام النص وقوانينه، ولا يمكن لهذا الخرق أن يحدث إلا إذا تجاوز الموجهات التي يريد النص أن يسربها في غفلة من القارئ.

والنموذج المثالي لذلك ما تقدمه التفكيكية من مقترحات في مجال التأويل. فهي في أشكالها الأكثر تطرفا لا تلغي وجود السياقات الخاصة، ولا تنفي، تبعا لذلك، وجود أسس موضوعية تستند إليها المدلولات، إنها فقط تشير إلى عدم إمكانية تحديد عدد هذه السياقات ونوعيتها. ومن هذا المنطلق فإن كل الإحالات عندها جائزة حتى وإن كانت عديمة الصلة بما يقترحه النص بشكل صريح أو ضمني. ولهذا فالمعنى الحقيقي الذي يروم المؤول الوصول إليه هو لذة الإحالات نفسها لا تحديد مدلول ما. فحركية الإحالات، هي حركية دلالية. فما يميز هذا المنطق في التأويل هو هذه القدرة في ابتداع علاقات جديدة بين عناصر النص، وهو ما يعني بالنسبة لنا، من زاوية نظر مخالفة، التسلح ليس برصيد معرفي يخص النص فحسب، ولا برصيد نظري يخص المعنى فحسب، بل يجب التسلح أيضا بمعرفة هي ما يشكل النص الكبير للثقافة وهو ما يمكننا من إضافة معرفة جديدة إلى ما هو موجود. لذلك يمكن القول " لا وجود لقراءة "طبيعية" "وحشية"، فالقراءة لا تتجاوز البنية، بل هي خاضعة لها، فهي في حاجة إليها، لذلك فهي تحترمها، إلا أنها تشوش عليها" (4). وهذا بالتحديد ما يميز القراءات المبدعة عن القراءات الوصفية التي تقف عند حدود ما يقترحه النص.

هوامش

1- Paul Ricoeur : Reflexions faite. Autobiographie intellectuelle, Paris, éd Esprit , 1995 , pp. 56 - 57 والإحالة وردت في كتاب : Denis Berrand : Précis de sémiotique littéraire , Nathan université , p. 14

2- Levi - Strauss ( Claude ) :Anthropologie structurale deux, éd Plon, 1973, pp. 162 - 163

3- Umberto Eco : Les limtes de l'interprétations, éd Grasset, Paris 1990, p . 371

4- R . Barthes :

 

 
 
 
معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقـة تعريـف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع  خزانات الموقـع  صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

موقع سعيد بنگراد - تاريخ الإنشاء: نونبر 2003