معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقـة تعريـف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع  خزانات الموقـع  صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

سعيد بنگــراد

قراءة في رواية "حكاية وهم"

 

لا ندعي أننا سنقدم، في هذه المحاولة التحليلية، قراءة كلية وشاملة لهذا النص، فهو متعدد وغني ومركب ويحتاج إلى أكثر من قراءة. إننا سنقتصر فقط على دراسة عنصر واحد ما يعود إلى البناء السردي للشخصية. ويتعلق الأمر بمحاولة ضبط العناصر المحددة للمضمون الدلالي لهذا النمط من البناء، وبالتحديد ما يمكن أن نطلق عليه الشكل الوجودي لشخصية البطل. الأمر الذي نعتناه بالبناء الأسطوري، رغم اعترافنا بعدم دقة هذا الوصف؛ وهو ما سنحاول توضيحه فيما سيأتي.

وما نقصده بالمضمون الدلالي يتلخص في الآثار المعنوية المترتبة عن النمط الخاص بصياغة كيان البطل المناضل : طريقته في الظهور وفي السلوك وفي الاختفاء. إنه بطل بالمفهوم الحربي للكلمة، وليس مجرد عنصر رئيسي داخل السرد. إنه كذلك لأنه يستعير من الحكايات الشعبية والأساطير والخرافات جملة من الخصائص التي تضعه ضمن كون قيمي مستقل يميزه عن باقي الشخصيات الأخرى.

وما سنقدمه فيما سيأتي لا يشكل سوى صيغة مختصرة لدراسة يمكنها أن تكون عامة وشاملة تتناول بالتحليل مجموعة من الروايات المغربية التي عالجت نفس الموضوع، أي موضوع البطل المناضل. ولن نتناول، في تحليلنا، هذه ÇáËíãÉ <page5.htm> في ذاتها ولذاتها، فهذا عمل لا يكتسي أية أهمية، وإنما سنحاول تتبع تجلياتها وآثارها على البناء الشكلي للنص. فالكشف عن القوانين المؤسسة للبنية السردية ( ما نطلق عليه الوجود الدلالي المشخص ) التي تتجلى فيها وعبرها هذه الثيمة هو وحده الكفيل بإلقاء الكثير من الأضواء على الطريقة التي يتصور من خلالها المجتمع نفسه، ويصوغ صوره لأبطاله.

وعلى هذا الأساس، فإن ما يهمنا من هذه القراءة هو إجلاء السنن وليس البحث عن إرسالية ما. فالإصرار على تعيين معنى للعالم الروائي هو سلب النص غناه وتنوعه وعمقه. ولذا، فإننا سنتناول في هذا المقال المقتضب عنصرين اثنين لا غير : سنحاول تحديد استراتيجية الأنا المتلفظة من خلال ما يصدر عنها قولا وفعلا وسردا، وهو ما أطلقنا عليه : تراوح "الأنا" بين التجريد والتشخيص. وبعبارة أخرى سنحاول تحديد علاقة هذه " الأنا" بعالم متموج ومتداخل لا يستقر على حال من جهة، وتحديد علاقتها بالحدث السردي بحصر المعنى من جهة ثانية. وسنتناول في النقطة الثانية العوالم التي تحيل عليها شخصية البطل كما تصوغها هذه "الأنا" في خطابها التجريدي أولا، وكما تصوغه الأحداث ثانيا. وسيدرك القارئ أن مصدر هذا التركيب الذي يميز البناء السردي للرواية هو الطبيعة المركبة لشخصية البطل المناضل كما يتحقق في النص، وكما يتم تداولها في الأدبيات السياسية والإديولوجية.

الأنا والعالم : من التجريد إلى التشخيص

تحتاج " حكاية وهم" (1) لأحمد المديني إلى قراءة خاصة لأنها بناء سردي خاص. فهي رواية كما يعلن الغلاف عن ذلك، إلا أنها تختفي في ثنايا مجموعة من الحكايات المستقلة عن بعضها البعض يؤطرها خطاب تجريدي هو أقرب إلى مناجاة "أنا" لنفسها منه إلى بناء حدثي يقود من أصل مولد ( انقطاع في المتصل الزمني) يمثل على شكل صنافة قيمية تصف الكون وتصنف مكوناته وتحكم على ظواهره، إلى حدث يشخص القيم ويمنحها أبعادا مرئية من خلال عناصر الزمنية الإنسانية ذاتها. إن الأمر يتعلق بانفجار الكون المجرد في عناصر مشخصة تستوعبها غاية سردية ضمنية أو صريحة. فالحدث هو الحد الفاصل بين المتصل وبين بناء قصة. إنه يشير، كما يتصور ذلك لوتمان على الأقل، إلى " تنقل الشخصية عبر حدود الحقل الدلالي"، وهو، لذلك، يشكل أفق القراءة بكل امتداداتها، فالذي يندرج ضمن المألوف والعادي لا يشكل قصة، وإنما يصنف ضمن الممارسة العادية للحياة.

وعن قصد يسير النص في الاتجاه المعاكس، ويعمل جاهدا على تأجيل الحدث، إنه يكتفي، في مرحلة أولى، بوصف عالم لا تستقيم داخله الأحداث. وكأن الأمر يتعلق بخطيئة أصلية لم تصحح، أولم يتدارك الإنسان آثارها، أو كأن العالم لم يستكمل بناءه بعد.

إن بداية الرواية مفجعة :

" كأني سأنحَت جبلا أو أكسر صخرا كأني سأمسك بالأرض مدورة كاملة أو مسطحة بين يدي وأشرع للمرة الأولى بقراءة طالع العالم ومنه إلى استكناه أسرار البشرية وسر ما يجعلني أكتب الكلمة الأولى تصطادني قاذفة بي في مطلق لا يمسك به إلا الجنون" ص 7.

وعلى هذا المنوال ستكتب الحلقات الأولى للرواية : فليس هناك نظام محدد للأحداث وليس هناك منطق يحكمها، ولا وجود لخطية سردية قادرة على جمع شتات الوقائع ضمن نفس حكائي واحد. إن الأمر على خلاف ذلك، فالذات لاتستوقفها الوقائع، ولا تثير اهتمامها؛ إنها مشدودة بهلع ومأساوية إلى ما يشكل عالما منحطا منكفئا على ذاته لا نقرأ فيه سوى الأنقاض : أنقاض المدن والمنازل والكائنات. فما أن تبدأ "الأنا" بشتم الجنرالات وحكام العالم قاطبة، حتى تقفز إلى الحديث عن > ثيران وتلال من أجساد الأنبياء والأجداد والنساء الشهيات <.

ضمن هذا العالم، أو نتيجة له، ستولد الحكاية، وستمنح هذا الموصوف على شكل أحكام ومعاينات وجها مشخصا في وقائع مرئية. ولن يتأتى بناء هذه الحكاية إلا من خلال إخلال بنظام ما. وهكذا، وعلى غرار الحكايات الشعبية ( والأساطير أيضا) حيث تبدأ الحكاية عندما تستشعر الذات وجود نقص ما، سيكون الاختفاء، باعتباره فعلا مخلا بحالة إنسانية ( فالحضور يشكل الوجود الفعلي للإنسان)، هو نقطة البداية ومبرر وجود النص. ومن هذه الزاوية يجب النظر إلى اختفاء "ميم". فهو يشكل الحلقة المركزية التي تنسج حولها كل مداخل القصج ومخارجها، فعلى أساسه سيبنى الحدث وستصاغ حدود الحكايات التي ستأتي.

وسيتبدى الأمر على خلاف ما تصورنا. فما كان يشكل بداية غير مرتكزة على أساس مشخص، يعد في واقع الأمر أصلا للحكاية وبداية ونهاية لها. من هنا وجب النظر إلى النص الروائي بشقيه - المجرد حيث يحيل هذيان الأنا على الوقائع المتحققة، والمشخص حيث تقود الوقائع إلى استحضار الوجه البشع لعالم فقد إنسانيته - باعتباره محاولة لصياغة صورة كلية لبطل لا يشبه الأبطال، ولا يبنى كما يبنى الأبطال، فهو موزع بين عالم محسوس ( ما تدركه العين مجسدا في أحداث )، وين عالم مجرد ( ما يحضر في الذهن على شكل مفاهيم كالقهر والحيف والقمع والاستبداد ...). وليس غريبا أن يكون " ميم" هنا مميزا عن باقي الأبطال : فللبطل قصة، و"ميم" له قصص شتى، وللبطل مهنة ولميم مهن متعددة، وللبطل تاريخ، و"ميم يحتضن "تاريخ" البشرية جمعاء.

ويحق لنا القول وفق هذه البداية المركبة إن النص الروائي، من خلال مجمل إيحاءاته، هو إحالة على صورة مثلى لبطل وليس تصويرا لكائن بشري، وله في ذلك وسائله وغاياته. لقد اختفى " ميم" وعلينا إذن إعادة بناء تاريخه.

إن "ميم" - الشخصية التي يُفترض فيها أنها تلعب الدور الرئيسي في الرواية - كائن مغرق في الغرابة. إنه متعدد المهن والاختصاصات والميول والانشغالات. لذا كان من الصعب على حكاية واحدة أن تستوعبه ضمن تسلسل حدثي واحد. فهو معلم وصاحب دكان ومراقب في إدارة من الإدارات، وسائح، إضافة إلى أبعاد سلوكية أخرى لا يعرف سرها سوى الصوت الذي تصدر عنه مجموع الحكايات. وتلك أولى المفارقات أو هي أول الألغاز وبدايتها. وقد يكون هذا البناء خرقا صريحا لإحدى قواعد التفكير المنطقي السليم : كيف يمكن للمرء أن يكون ولا يكون في ذات الوقت.

إلا أن النص الروائي له مبرراته في ذلك. "فميم" شخصية مبهمة فقط إذا نظرنا إليها من منظور النسخة، أما إذا تأملناها من منظور النموذج فستبدو في كامل قوتها وانسجامها. فالحضور عبر النموذج ليس هو الحضور عبر الفعل الخاص. إن النموذج قيم ومفاهيم عامة تحيل على نقاء مطلق كالخير والصدق والأمانة ومقاومة الظلم. أما النسخة، فسلوك إنساني مخصوص تمتزج فيه القيم بوجوهها المتعددة السلبية منها والإيجابية.

ولهذا السبب، وهذا ما سنراه لاحقا، يتحاشى النص الولوج إلى التفاصيل ( الأمارات) ليركز على ما يشكل الوظائف الأساسية. وليس غريبا أن يأتي البطل إلى القصة عبر اختفائه لا عبر حضوره. إن الباعث على القصة ليس رغبة في المضي إلى الأمام، بل هو حنين للعودة إلى أصل سابق. ولهذا فما يشكل العمق الحقيقي للقصة هو الاختفاء وليس الوجود، والرواية من بدايتها إلى نهايتها لا تكف عن التذكير بذلك :

- > لأن الاختفاء عموما يكاد يكون ظاهرة طبيعية في حياتنا ونادرا ما نجد من يعتبره شذوذا أو أمرا خارقا للعادة إلى حد أننا بتنا نعلن ببداهة مطلقة أن الأصل في الأشياء اختفاء< ص 14

->ولمن لا يظهر لهم أثر كما لو أنهم ما وجدوا على الاطلاق رغم ثبوت أسمائهم في سجلات الحالة المدنية ووجود العشرات وأحيانا المئات ممن عرفوهم< ص 18 ( ويمكن العودة إلى صفحات أخرى تشير إلى ذلك انظر مثلا ص 24 - 37 - 42 - 43 - 44 - 45 - 52 ).

ولهذا فإنه يُسرب للوجود القصصي عبر" أنا" مركزية تصوغ خطابا حول نفسها :

> كأني سأنحَت جبلا أو أكسر صخرا كأني سأمسك بالأرض مدورة كاملة أو مسطحة بين يدي وأشرع للمرة الأولى بقراءة طالع العالم ومنه إلى استكناه أسرار البشرية وسر ما يجعلني أكتب الكلمة الأولى تصطادني قاذفة بي في مطلق لا يمسك به إلا الجنون< ص 7

وتصوغ في نفس الآن خطابا آخر حول الاختفاء الغريب لـ "ميم". الخطاب الأول تجريدي تتداخل فيه الأشياء من منظور محفل سردي غامض ومبهم هو الآخر، "أنا " تطاول الكون بكل ظواهره : فهي تدك الجبال وتنفذ من بين الثقوب وتشق الجبال وتقاتل الجنرالات وتشهد لحظة الخلق الأولى وتتوعد بالانتقام من قوى غير محددة المعالم :

> حيث أبدأ في البحث عن تغلغل سكاني عن قبائل أو شعوب انقرضت وأخرى تلهث وراء انقراضها وقد اهترأ فيها اللحم تآكل العظم اختنق النَّفسُ اختفت الملامح التي اكتسبت وما بمقدور علم الآثار ولا الانتروبولوجيا من أي صنف كانت أن تتعرف ما إن كانت قد وجدت قبل عام أو مئات القرون > ( ص7) .

أما الخطاب الثاني فهو خطاب مشخص يعيد صياغة ما قدمته "الأنا" في خطابها الأول من خلال حدود زمنية، أي على شكل وقائع تروي المرعب والمفزع والخارق من خلال أفعال إنسانية تستدعي إخراجا سرديا يضع على الخشبة زمانا ومكانا وشخصيات وعلاقات. فكل الأحداث المسجلة في هذا الخطاب تدرج ضمن كون إنساني مدرك من خلال المنطق العادي للفعل الإنساني. فالاعتقال والتعذيب والسجن والنفي والتنكيل بالناس صيغ نستعيد من خلالها هلوسة الذات في بداية الرواية. إنها تصوغ كونا يصنف البلاد والعباد إلى قسمين : الأخيار، ومنهم "ميم" ( قد يكون المهدي أوالمهداوي أو المعطي أو منصور أو هو مناضل من عشرات المناضلين الذي اختفوا أو قتلوا ...)، إنهم مسالمون لا يطلبون من الحياة سوى العزة والكرامة. وفي المقابل هناك الأشرار، أي أولئك الذين يرعبون الناس في الفجر ويغتالون الأطفال ويزرعون الرعب في الشوارع.

وكما كان البطل كيانا يستعصي على الضبط ضمن صيغة سردية أو وصفية وحيدة البعد والاتجاه والامتداد، فإن هؤلاء هم أيضا ليسوا كائنات بشرية بالمعنى الحقيقي للكلمة. إنهم كائنات بلا وجوه ولا تاريخ ولا مصير، إنهم أدوات لاتتكلم ولاتضحك ولاتفكر، إنهم زوار لا يأتون إلا في الفجر ( ويرمز الفجر هنا إلى اللحظة الفاصلة بين الليل والنهار، بين النور والظلام، بين الموت والحياة ).

وفي المقابل، لا يقل زوار " ميم" غرابة عن هؤلاء. فهم أيضا لا يأتون إلا مع حلول المساء، ملثمين يتسللون إلى بيت " ميم"خفية:

> مجموعة زوار يطرقون بيته كل مساء ثم تبين للجيران الزوار دائما غرباء] الذين كانوا يسندون آذانهم إلى الجدران أنه يتعاطى السياسة لكثرة سماعهم كلمات مثل الحزب النقابة الحكومة الديموقراطية الحقوق البطالة الاستقلال (....) وحدث أن انضمت إليهم مجموعة ذات شكل غير معهود في الحي لارتدائها جلابيب سوداء قاتمة وبدل أن تدخل من الباب نزلت من السقف أو سطح الدار فاقتحمت المجلس وانبرى من بينها واحد يفتش الجيوب...< (ص20 - 21)

فما يحكم بناء العالم الأول يحكم بناء الثاني، فالأول لا يمكن أن يوجد إلا بوجود الثاني. فالأصل في الحياة متعة ولذة وانشراح وانطلاق. وما بين هذا وذاك خرق للنظام الإنساني.

ويحق لنا الآن أن نتجاوزالأسماء لنقف عند الصفات. ف"ميم" ليس شخصا ولا حتى مجموعة من الأشخاص. وإنما هو المناضل في صيغته المثلى، كما يمكن أن يتجسد في عشرات النسخ النضالية. وبالمثل فإن هؤلاء ليسوا كائنات بل هم القمع في صيغته التجريدية القصوى. إنهم ليسوا أشخاصا، بل رموزٌُُ لحالات سلطوية تأتي بها الرواية من أجل استعادة ما قدمته "الأنا" في الفصلين الأول والثاني على شكل قوى قابلة للإدراك والضبط والتحديد. وليس غريبا أن يتم الربط باستمرار بين قوى طبيعية لا يُعرف لجبروتها حد ( الفصلين الأول والثاني )، وبين قوى الشر البشري مجسدا في أبشع صورة ابتدعها الإنسان : الاختطاف والاغتيال.

فما يبدو وكأنه هلوسة لا طائل من ورائها يخفي في واقع الأمر البدايات الأولى للخيط السردي. فـ" الأنا" التي فقدت السيطرة على نفسها وبدأت تشك في كل شيء، كما يبدو ذلك من خلال الصيغة الاستهلالية " كأني ..."، تقوم برسم حدود كون موسوم بالتشظي والغرابة واللاعقلانية، إنه كون يحكمه جنرالات قساة لا يرحمون. وعندما تنتهي من ذلك، تمر إلى تحديد حالة مخصوصة في الزمان وفي المكان : "ميم" الذي اختفى. فكل ما سيحدث بعد إعلان "الأنا" عن نفسها من خلال هذه الصيغة سيتأرجح بين الشك واليقين، بين الحلم واليقظة، بين الوهم والحقيقة، بين الواقع والخيال. وكل ما في هذا العالم يدفع إلى ذلك فالموت نهاية، أما الاختفاء فبداية لكل الاحتمالات.

وهذا ما يفسر توزع الرواية إلى قسمين متمايزين من حيث الانتماء والبناء والصوت. فبينما لا نقرأ في القسم الأول الممتد من ص 7 إلى ص 18 سوى أحكام على أشياء ومواقف من حالات ووصف لأوضاع، تنتقل بنا الرواية إلى سرد أحداث مرتبطة بحياة شخص له منزل وجيران ووظيفة، وهو القسم الذي يشتمل على الحكايات الأربع.

فابتداء من الصفحة 18 ستنسل هذه "الأنا" شيئا فشيئا من هذا العالم الكفكاوي الذي لا ضابط لعناصره، لكي تقترب من التشخيص الحدثي، أي تقص علينا أحداثا. وستتحول القوى الموصوفة سابقا على شكل تداخلات فضائية وزمانية لا رابط بينها، إلى عناصر محسوسة ومدركة من خلال صيغ الفعل البشري المعقول. لحظتها يظهر ميم "منفردا" و"معزولا" و"متميزا "عن باقي شخصيات النص، فهو لا يكلم أحدا ولا ينظر إلى أحد تقول الرواية :

> وقد راعني حقا أن يقع بصري وأنا في حركتي المتموجة على عينين سبق لي أن عرفت صاحبهما وقتا لا بأس به فالرجل كان يجلس صدفة دائما إلى جوار طاولتي في المقهى الذي تعودت ارتياده للقاء بعض الأصحاب يدخل من الباب ملقيا نظرة مركزة على مقعده المعتاد وتراه منفرج الأسارير إذا بدا له خاليا من أي جليس فيرتمي عليه وقد صدر عنه بعض الهمس السلام عليكم لا يوجهها إلى شخص محدد وخلافا لرواد المقهى لا تراه يتهافت على قراءة الصحف المتداولة بالمجان.... < (ص ) 18.

فكل ما يمكن أن نقرأه في بداية السرد هو خطاب يروم التمييز والتخصيص وخلق حالة للتفرد، إنها الخاصة الأولى، وربما الوحيدة، التي يدخل من خلالها البطل إلى الأحداث، و هي التي ستلازمه حتى لحظة ( أو لحظات ) اختفائه.

ولأن البطل ليس كباقي الأبطال، فإن النص الروائي يسارع ويقدم لنا أربع حكايات : حياة المعلم الذي ظهر فجأة في الحي ثم اختفى، وحكاية التاجر الذي ظهر أيضا ثم اختفى، ثم حكاية المراقب الذي راح يدبج مقالات عن الفساد والمحسوبية ليلقى نفس المصير، وفي الأخير تقدم لنا حكاية المستحم في شاطئ سيدي بوزيد الذي تجرأ واقترب من "البناية الكبيرة" وكلم الأسماك لكي لا يظهر له بعد ذلك أثر.

البطل : الحدث الواقعي والبعد الأسطوري

استنادا إلى هذا، فإن "الأنا" التي تصوغ خطابا حول موقفها من الأرض والسماء والانفجارات والجنرالات وكل أبعاد التوتر الإنساني، ستكون هي وحدها القادرة على الكشف عن العمق التشخيصي لهذا التوتر في وقائع حدثية تلقي للتداول السردي كائنات تتحرك ضمن فضاء اجتماعي قابل للإدراك والمعاينة. فهذه الوقائع المشخصة هي السبيل الوحيد لفهم ما يقدمه القسم الأول وإدراك كامل مضامينه.

وهكذا، إذا كان النص الروائي يسمح لنا، من خلال تنظيمه التيبوغرافي ذاته، بعزل وحدات نصية قابلة للقراءة في استقلال عن بعضها البعض، بفعل وجود فواصل مرئية مؤسسة لدلالة جزئية ( كل حكاية قابلة للقراءة وفق قوانينها الداخلية وفي انفصال عن الحكايات الأخرى )، فإن الانتقال من هذه الوحدة النصية إلى تلك أو من هذه الحكاية إلى تلك، لا يسير وفق شروط خطية الحكي، فلا شيء يربط، على مستوى الحدث، بين الحكاية الأولى والثانية أو بين الثالثة والرابعة، فبالإمكان تغيير ترتيب الحكايات دون أن يلحق بالرواية أي خلل، إن هذا الانتقال ممكن فقط من خلال ما يمكن أن يشكل توترا على مستوى بناء الوحدات الدلالية ذاتها، أي ما يمكن أن ينتج عن محاولة البحث عن تناظر دلالي عام قد يكون قادرا على أن يوحد بين أنسجة سردية لا رابط بينها على مستوى الحكي الظاهري. ونقصد بالتناظر الدلالي العام تلك العناصر التي تسند المسير التأويلي المنتقى الذي يقود، من خلال البناءالسردي ذاته، إلى الكشف عن الوحدات المضمونية المتولدة عن بناء شخصية البطل من جهة، وعن المضامين المرتبطة بثيمة اختفائه من جهة ثانية.

فكما أن البناء الروائي مغرق في الغرابة، فإن الاختفاء لا يمكن أن يكون هو الآخر إلا غريبا. إذ كيف يمكن أن نصالح بين المعلم والتاجر والمراقب والمتنزه على شاطئ البحر، وكلهم ينتمون إلى عوالم لا يوحد بينها سوى إشارات سرية يسربها السارد من حين إلى آخر في غفلة عن القراء : التكتم عن الأصل، والزيارات السرية، واستقبال زوار غرباء، ثم الاجتماعات في جنح الليل بأشخاص ملثمين، والاختفاء ثم الظهور ثم الاختفاء.

ورغم ذلك بالإمكان المصالحة بينهم وإيجاد رابط دلالي خفي يوحد بين المصائر والحكايات، وهذا الرابط هو وحده الكفيل بأن يعيد للخيط السردي انسجامه ومنطقيته. إن السبيل الوحيد للوصول إلى ذلك يمر، بالتأكيد، عبر البحث في الصفات المسندة إلى الشخصيات الأربع. فهذه الشخصيات، بغض النظر عما يربطها بالكائن البشري في صورته العادية، تأتي كلها إلى الوجود القصصي من خلال صفات لا تسند إلا للأولياء والصالحين ومن شابههم، إنها صفات تجعل من المعلم والتاجر والمراقب "ميمات"، أو تجعل منهم "ميما" مفردا يحتوي على كل الميمات الممكنة.

إننا لا نستطيع أن ندرك كنه هذا النمط من البناء الحكائي إلا من خلال الكشف عن ثلاثة إجراءات سردية تقود، مجتمعة، إلى نحت الصورة الكلية والممكنة المرسومة للبطل المناضل. فمن خلال هذه الإجراءات تتوحد " الأنا " بالميمات المختلفة وتضع نفسها ضمن عالم اكتفت في البداية بوصف حدوده ومفاصله :

- الإجراء الأول هو ما أطلقنا عليه في الفقرة السابقة "الأسطرة". والأسطرة هنا ليست خلقا لعالم خيالي لا رابط بينه وبين ما يؤثث الكون الإنساني العادي، وإنما هو إجراء يقوم " بنقل الحدث الواقعي داخل حدود الخرافة" على حد تعبير توماس بافيل (2). إنها ما يُمكن الكائنات والأحداث من خلق مسافة بينها وبين القارئ. وهذه المسافة وحدها تجعل من حقيقة الحكاية أكبر من حقيقة الواقع وأكثر منها تأثيرا. فبقدر ما تصبح هذه " الأحداث وهذه الكائنات مستعصية على الإمساك "الواقعي"، بقدر ما تصبح قريبة ومرئية بشكل أكبر" (3). إنها صيغة للتخلص من الخاص في أفق الاحتفاء بالعام وتمجيده. وهذا ما تقوم الرواية، عبر صوتها السارد بصياغته بطريقتها الخاصة. إنها تضخم وتهول أحيانا وترسم كونا تنتفي فيه مقاييس الأرض أحيانا أخرى. وهي بين هذا وذاك تقدم عالما أشبة ما يكون بالأساطير ( أشخاص يظهرون ثم يختفون، زوار لا نعرف من أين يأتون، أسماك تتكلم ...).

- استنادا إلى هذا الإجراء يمكن فهم الصيغة السردية الثانية. فالرواية لا تتحدث، من خلال تقديم شخصياتها ومن خلال صياغة أحداثها، عن شخصية مخصوصة لها من العمق والسمك ما يجعل منها كيانا متفردا، إنها، على النقيض من ذلك، تنسج صورة إنسانية كلية تحتضن كل الصفات التي يمكن أن تسند للبطل المناضل. فالبطل هنا يحيل على نموذج وليس على نسخة، إنه الأصل التجريدي وليس الفرع المشخص.

- وهذا ما يقودنا إلى الإجراءالثالث، وهو إجراء خاص بالوصف الفيزيقي للشخصيات. فالنص يتحاشى الاقتراب من وصف الوجوه أو القامة أو اللون. إنه يكتفي بالإحالة على مواصفات معنوية لها علاقة باللطف وحسن المعاملة والكياسة. إنه، بذلك، يقدم لنا بنية شكلية نتعرف من خلالها على نوعية من الناس وليس على كائن مخصوص.

ولعل هذا ما يجعل من الحكايات الأربع، إضافة إلى خطاب "الأنا" حكاية واحدة، ويجعل من المعلم والتاجر والمراقب والمتجول في شاطئ سيدي بوزيد شخصية واحدة، أي " ميم"، ميم المناضل الذي نذر حياته خدمة للوطن وقضايه.

ولهذا السبب ينتقل السارد، وبدون سابق إنذار، من الصياغة التجريدية إلى الفعل الحدثي بحصر المعنى. والفعل الحدثي يبدأ حين ينقل لنا السارد ما تقوله حارسة العمارة عنه، أي ما تقوله عن " الأنا" التي تأتي بأخبار " ميم" :

> وأنا أحيانا أنظر إليه فأرى في عينيه بريقا غريبا لا أجده عند غيره ولا أفلح أن أتحاشاه إذا ما التقيت به صدفة فأجدني منجذبة وراءه وهو صامت قل أن يتكلم وفهمت لماذا شاهدت يوما تجمهرا عند مدخل العمارة حين رأيت رجالا ونساء متحلقين حوله وأبصارهم متطلعة إليه بخشوع ولهفة ما بعدها إلا العبادة وهو واقف وسطهم أصم وبعد دقائق أومأ لهم بحركة فأخذوا يقتربون ويتمسحون بثيابه وينصرفون واحدا واحدا فسألت زوجي وهو محب للصالحين هل يكون بيننا ولي صالح ولا نعرفه <. ( ص 53)

إننا نغادر عالم الأحكام والصفات المطلقة لنلج عالم تسريد الصفات والأفعال بامتياز.

فكما ينسل العالم المشخص ( حالات الفعل الإنساني المسرد ) من العالم المجرد، ينسل "ميم" من أحشاء "الأنا" ويصدر عنها، فهي " نسغه " والنسغ هو اللب والنقش والأصل. إنها الأصل والمنطلق والمنتهى. إنها كذلك لأنها هي المالكة للرؤيا وهي التائهة والطائرة والمبحرة، وفي المقابل، فإن "ميم" هو العارف بالرؤيا وبسر البشرى والمرتبط بقضايا الأرض. تقول "الأنا" مرة أخرى :

> واقتادوني نحو عمود كهربائي وقالوا سنعلقك من أنفاسك رغم أنك تطير وسنسد جميع المنافذ جهة البر والبحر ولن تستطيع أن تتسلل بعد إلى خيال أحد وتعشش فيه وتفتن الدنيا عن الدنيا. وأنا الآن معلق بين أرض وسماء أرى ولا أرى. وهم آتون إليك قلت ألا أكفيكم دعوه وشأنه، أجابوا كلا هو نسغك وهو العارف بتأويل الرؤيا وأنواعها فهل يعقل أن يمضي دون أن يشرح لنا معنى البشرى والتحذير والمنام إنكم واهمون فطريقي غير طريقكم وأنا وحدي أراه ولن أبقي لكم في الأرض سوى خيال شاحب من ظلي< ( ص 56).

وهكذا نكون أمام حالة تشبه حالات الحلول، الحلول هنا بالمفهوم الصوفي والسحري للكلمة معا. فالنص يأبى أن يفصل بين عوالم الكيانين، وغايته من ذلك، خلق حالة امتداد لا تنتهي : الامتداد في الفكرة والامتداد في كل الذوات الممكنة.

إن البناء الأسطوري ( والبناء الخرافي كذلك ) لا يختلف في شيء عن هذا. فالذات العارفة هي غير ذات التشخيص، فلا بد من وجود محفل أعلى غير مرئي يحرك سرا أو علنا ذوات منذورة للموت أو الاختفاء. ولهذا فإن الصوت السردي ينطلق من ممتد حكائي لا يمكن أن تُعرف له بداية لكي تبحث له بعد ذلك عن منبع يفسره.

وعلى هذا الأساس، فإن ما تعيشه "الأنا" كإمساك كلي بالكون : تنديد مطلق بكل ما يحد ومن يحد من انطلاقة الإنسان وتحرره، يجسده "ميم" في حكايات صغيرة تروي التفاصيل وهموم الحارات والأزقة والأحياء المنسية. وكما في الحكايات الشعبية، حيث يأتي البطل من مكان قصي ليخلص أهل القرية من جبروت الطاغية، يأتي البطل في الرواية من مكان بعيد ( من البادية أوالريف عموما ) ليعيد للأشياء رونقها، ويعيد للعلاقات صفاءها؛ إنه يأتي لكي يصلح بين الناس ويراضيهم ويبعث الأمل في القلوب.

- > وهو فقيه وسبحان الله النور شاعل من عينيه وابن بركة < ( ص 83)

- > وكان يوما أشبه بالعيد تبودل فيه العناق وساده المرح وسمعت النسوة وهن يدعون له بطول العمر ويلتمسن منه البركة < ( ص 87)

- > أبصارهم متطلعة إليه بخشوع ولهفة ما بعدها إلا العبادة < ( ص 53)

وبالتأكيد لسنا هنا أمام عالم الأساطير ولا الخرافات، فالبطل لا يحلق في السماء ولا تبلعه الأرض ولا يمشي فوق الماء كما تفعل ذلك كائنات الأساطير، ولكنه مع ذلك له شيء من الأساطير والخرافات، فهو محاط بهالة من الأسرار، فلا أحد يعرف اسمه ومهنته ولا أحد يعرف من أين جاء ولماذا، إنه يدخل فجأة إلى الحي ليملأه حبا، ثم يختفى بنفس الطريقة :

- " لم يكن اسمه الحقيقي معروفا " ( ص 80)

-" لم يكن أحد يعرف مهنته " (80)

- > ولذلك حين جاء هو انتبهنا إلى شكله واشتغلنا في البحث عن أصله وفصله< (ص 94)

فمن أجل تأكيد الحقيقة المَثَلية كان لابد للنص الروائي أن يتخلص من ظلال القصة " الحقيقية". وبتخلصها من هذه "القصة"، ستمتلك الذات الساردة حرية في التأليف : بإمكانها حينها أن تحذف وتضيف وتضخم دون حرج أو تحفظ. وبذلك تبدأ الحدود الواقعية المسيجة للقصة بالاضمحلال شيئا فشيئا، لتفتح المجال للعنصر الأسطوري لكي يفرض " حقيقته"، وحقيقته الوحيدة، في حالتنا، هي كلية الصورة التي يجب أن تعطى للبطل.

إن الطابع المثَلي للقصة يستمد جذوره من حقيقة غير خيالية ( يمكن بالفعل أن نجد في تاريخنا المعاصر نظيرا أو نظائر لهذه "الميم" )، وذلك من أجل تعميم الحقيقة المثلية ونشرها. ولهذا فإن كل الامتدادات التي ستأتي بعد ذلك لن يتحكم فيها أحد. فالقصة عندما تتخلص من إرغامات الإحالة الواقعية تصبح بؤرة لتوالد كل القصص الممكنة، وما رواية أحمد المديني سوى شاهد على ذلك، فهي نسخة ضمن عشرات النسخ المنتشرة في المغرب حول " ميم" وكل "الميمات" الذين ماتوا أو اختفوا من أجل هذا الوطن.

الهوامش

1- حكاية وهم : أحمد المديني، دار الآداب ، بيروت، الطبعة الأولى ، 1992

2- Thomas Pavel : Univers de la fiction, éd Seuil , Paris 1988, p. 100

3- Thomas Pavel : Univers de la fiction, éd Seuil , Paris 1988, p. 102

 

 
 
 
معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقـة تعريـف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع  خزانات الموقـع  صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

موقع سعيد بنگراد - تاريخ الإنشاء: نونبر 2003