معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقـة تعريـف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع  خزانات الموقـع  صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

سعيد بنگــراد

السميائيات

النشأة والموضوع

 

I- في بداية القرن الماضي بشر عالم اللسانيات السويسري فردناند دو سوسير بميلاد علم جديد أطلق عليه اسم "السيميولوجيا"، هذا العلم الذي ستكون مهمته، كما جاء في دروسه التي نشرت بعد وفاته، هي "دراسة حياة العلامات داخل الحياة الاجتماعية". ولقد كانت الغاية المعلنة والضمنية للسيميولوجيا هي تزويدنا بمعرفة جديدة ستساعدنا، لا محالة، على فهم أفضل لمناطق هامة من الإنساني والاجتماعي ظلت مهملة لوجودها خارج دائرة التصنيفات المعرفية التقليدية.

وفي نفس الفترة التاريخية تقريبا، كان الفيلسوف الأمريكي شارل سندرس بورس، في الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي، يدعو الناس إلى تبني رؤية جديدة في التعاطي مع الشأن الإنساني وفي صياغة تخومه وتحديد حجمه وقياس امتداداته فيما يحيط به. وقد أطلق على هذه الرؤية اسم السميوطيقا ( التي نتبنى هنا الاسم المعرب لها وهو السميائيات ).

ورغم اختلاف التسميتين واختلاف المنطلقات الإبستمولوجية، فإن السميائيات ستشيع، عند المؤسسين معا، حالة وعي معرفي جديد لا حد لامتداداته. فقد تبنت نتائجها النظرية والتطبيقية علوم كثيرة كالأنتروبولوجيا والسوسيولوجيا والتحليل النفسي والتاريخ، والخطاب الحقوقي وكل ما له صلة بالآداب والفنون البصرية وغيرها. بل لقد شكلت السميائيات، منذ الخمسينات من القرن الماضي، في المجال الأدبي، تيارا فكريا أثرى الممارسة النقدية المعاصرة وأمدها بأشكال جديدة لتصنيف الوقائع الأدبية وفهمها وتأويلها.

لقد فتحت السميائيات أمام الباحثين، في مجالات متعددة، آفاقا جديدة لتناول المنتوج الإنساني من زوايا نظر جديدة. بل يمكن القول، كما أشرنا إلى ذلك في الفقرة السابقة، إن السميائيات ساهمت بقدر كبير في تجديد الوعي النقدي من خلال إعادة النظر في طريقة التعاطي مع قضايا المعنى. ولقد قدمت في هذا المجال مقترحات هامة عملت على نقل القراءة النقدية من وضع الانطباع والانفعال العرضي الزائل والكلام الإنشائي الذي يقف عند الوصف المباشر للوقائع النصية، إلى التحليل المؤسس معرفيا وجماليا. فالنصوص، كل النصوص كيفما كانت مواد تعبيرها، يجب النظر إليها باعتبارها إجراءَ دلاليا لا تجميعا لعلامات متنافرة. والسميائيات صريحة في هذا المجال، فهي تسلم بوحدة الظاهرة الدلالية؛ كيفما كانت لغتها وكيفما كان شكل تجليها.

وعلى الرغم من المكانة التي تبوأتها السيمائيات، فإنها لا تنفرد بموضوع خاص بها، فهي تهتم بكل ما ينتمي إلى التجربة الإنسانية العادية شريطة أن تكون هذه الموضوعات جزءا من سيرورة دلالية. فالموضوعات المعزولة، الموجودة خارج مدار نسيج السيموز، لا يمكن أن تشكل منطلقا لفهم الذات الإنسانية أو قول شيء عنها. ذلك أننا لا يمكن أن نتحدث عن سلوك سميائي إلا إذا نظرنا إلى الفعل خارج تجليه المباشر، فما يصدر عن الإنسان لا ينظر إليه في حرفيته، بل يدرك باعتباره حالة إنسانية مندرجة ضمن تسنين ثقافي هو حصيلة لوجود مجتمع. و>وجود المجتمع ذاته رهين بوجود تجارة للعلامات. فبفضل العلامات استطاع الإنسان أن يتخلص من الإدراك الخام، وأن يتخلص من التجربة الصافية، وينفلت من ربقة الزمان والمكان <. (1)

إن كل مظاهرالوجود اليومي للإنسان تشكل موضوعا للسميائيات. فالضحك والبكاء والفرح واللباس وطريقة استقبال الضيوف وإشارات المرور والطقوس الاجتماعية والأشياء التي نتداولها فيما بيننا، وكذلك النصوص الأدبية، كلها علامات نستند إليها في التواصل مع محيطنا. فكل لغة من هذه اللغات تحتاج إلى تقعيد، أي تحتاج إلى الكشف عن القواعد التي تحكم طريقتها في إنتاج معانيها، مستندة في ذلك، وفي الكثير من الحالات، إلى ما تقترحه العلوم الأخرى من مفاهيم ورؤى.

ومن هنا كان التركيز في السميائيات على طبيعة التدليل لا على المادة التي تشكل سندا للدلالة. فكل شيء يمكن أن يعزل وينظر إليه باعتباره كيانا مستقلا بذاته ويملك سياقاته الخاصة، وقادرا، استنادا إلى عناصره الذاتية، على إنتاج معانيه.

وهذا أمر بالغ الوضوح، فالسميوز من حيث الطبيعة والجوهر واحدة، إلا أنها، في الاشتغال والتحقق، تختلف باختلاف الوقائع النصية. فمكونات كل واقعة تقود إلى تحديد نوعية السميوز ونوعية اشتغالها. فللسرد قواعده وللشعر قواعده، كما أن للمسرح والسينما والصورة قواعد إليها تستند من أجل إنتاج دلالاتها.

فهذه التصنيفات المتنوعة لا تعود إلى طبيعة المعاني التي تنتجها الأشكال التعبيرية المختلفة، إنها المنتوج الذي تفرزه الإكراهات التي يفرضها نمط بناء كل شكل تعبيري على حده. فالتميز والاستقلالية آتيان من السيرورة الإنتاجية لا من جوهر الدلالات. فالسميائيات في جميع هذه الحالات هي بحث في المعنى لا من حيث أصوله وجوهره، بل من حيث انبثاقه عن عمليات بناء نصوص شتى، أي بحث في أصول السميوز وأنماط وجودها.

وربما هذا ما يبرر التمييز بين سميائيات عامة من طبيعة فلسفية، تكتفي بطرح التصورات العامة التي تمكننا من المقارنة بين كل الأنساق المنتجة للدلالة، وبين سميائيات خاصة تهتم بالوقائع المخصوصة. فلكل لغة سميائيات تتكفل بصياغة قواعدها الخاصة. فهذه اللغات تحتكم إلى "نحو" يحدد لها نمط وجودها ونمط اشتغالها. والمقصود بالنحو في جميع هذه الحالات هو مجموعة من القواعد الخاصة باشتغال كل نسق على حده، وهي قواعد تتضمن في آن واحد ما يعود إلى التركيب وما يعود إلى الدلالة. فلا يمكن للصورة مثلا أن تنتج دلالاتها بنفس الطريقة التي ينتج بها السرد دلالاته. إن الحقل الذي تنتمي إليه الوقائع المدروسة، هو الذي يفرض سلطته وإرغاماته منتجا بذلك مفاهيمه وأدواته الإجرائية الخاصة. ( 2)

II- استنادا إلى هذا، فإن الموضوع الرئيس للسميائيات هو السيرورة المؤدية إلى إنتاج الدلالة، أي ما يطلق عليه في الاصطلاح السميائي السميوز ( sémiosis). والسميوز في التصور الدلالي الغربي هي الفعل المؤدي إلى إنتاج الدلالات وتداولها، أي سيرورة يشتغل من خلالها شيء ما باعتباره علامة. وهذا التصور الذي يحيل على السميوز ( أو الوظيفة السميائية في اصطلاح لويس هالمسليف) باعتبارها بداية وغاية لكل فعل سميائي يجد أصوله الأولى في تعاليم المؤسسين الأولين سوسير وبورس، فكلاهما نظر إلى الدلالة باعتبارها سيرورة في الوجود والاشتغال والتداول. فهي لا يمكن أن تكون معطى سابقا أو لاحقا للفعل الإنساني، إنها الفعل ذاته. فكل فعل ينتج، لحظة تحققه، سلسلة من القيم الدلالية تستند، في وجودها، إلى العرف الاجتماعي وتواضع الاستعمال. ذلك أن التسنين الثقافي هو وحده الذي يسمح بفهمها واستيعاب أبعادها المختلفة. وهذا الطابع يجد مبرره الأساس في طبيعة الفعل ذاته، فكل فعل هو سيرورة مركبة ولا يمكن أن يكون كلية مكتفية بذاتها. وعليه فأن تكون السميوز نسيجا من العلامات، فهذا معناه أن ما يحدد هويتها ليس مادة أصلية وليس عناصر معزولة بل مفهوم العلاقة ذاته. فالدال باعتباره أداة التعرف الأولى ينتج مدلولا وفق علاقة مبنية على ترابط اعتباطي، وهذه العلاقة هي ما يحدد فعل إنتاج المعاني وتداوله. فالوظيفة الأصلية للعلامة هي وظيفة اختلافية منبثقة عن علاقة وليست حصيلة لمادة دالة بذاتها.

وعلى هذا الأساس، فإن المعنى ليس محايثا للشيء ولا سابقا عليه، بل هو حصيلة ما تضيفه الممارسة الإنسانية إلى الوجود المادي الذي يميز الأشياء. فالعلامة كما يقول إيكو تولد كلما استعمل الإنسان شيئا محل شيء آخر. والدلالة، استنادا إلى ذلك، هي حصيلة العلاقات الممكنة بين الشيء الممثل وأداة التمثيل وما يبرر كل الإحالات الممكنة الرابطة بين العناصر المكونة للسلوك السيمائي. فالعلامة عند سوسير كما هي عند بورس حصيلة لعلاقة بين حدود تعود في أصلها إلى محاولة استيعاب المعطى التجريبي ونقله إلى عالم المفهمة التي يصوغ حدودها اللسان الطبيعي.

وهذا التصور ليس جديدا، فقد ميز كل الذين اشتغلوا باللغة- شرقا وغربا - بين الروابط التوسطية، بين ما تعطيه الطبيعة ( أو البيولوجيا ) وبين الأشكال الثقافية المحددة للحياة الإنسانية. فأرسطو يحدد عناصر كل حوار في ثلاثة حدود : كلام وأشياء وأفكار. فالأشياء هي ما تراه حواسنا وما تدركه عقولنا، أما الافكار فهي أداتنا لمعرفة الأشياء وأما الكلام فهو الاصوات المتمفصلة في وحدات، وهي ما يخبر عن الأفكار. ولا يمكن أن تشتغل هذه العناصر مجتمعة دون أن يكون هناك رابط يجعل منها كيانا قادرا على إنتاج دلالة تخص علاقتنا بالكون الذي يحيط بنا؛ إن هذا الرابط هو ما نطلق عليه سيرورة التدليل ( السميوز) التي تجعل من هذه العناصر علامة مكتفية بذاتها. > ذلك أن الألفاظ دالة على المعاني بتواطؤ لا بالطبع < ( 3) . وليس بعيدا عن هذا التصور ما نصادفه في البحث اللغوي العربي، فقد شاع عندهم أن الأشياء لها وجود في العيان ووجود في الأذهان ووجود في اللسان (4). فالأول دال على المرجع والثاني يشير إلى المدلول أما الثالث فهوما نطلق عليه الدال. من هنا، فإن السيرورة الدلالية تستند إلى علاقات تجمع بين عنصرين على الأقل، فهي > كون اللفظ بحيث متى أطلق فهم معناه للعلم بوضعه< (5) أو هي > كون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر، والشيء الأول هو الدال والثاني هو المدلول <. (6) وعلى هذا الأساس فإن > معنى اللفظ أن يكون إذا ارتسم في الخيال مسموع اسم، ارتسم في النفس معنى، فتعرف النفس أن هذا المسموع لهذا المفهوم، فكلما أورده الحس على النفس التفتت إلى معناه <. (7) والارتسام هو اشتقاق صورة من موضوع غير محدد، ويكون هذا الاشتقاق نتيجة سيرورة تقليصية تقصي العناصر الحشوية لتنتج قسما، والقسم ليس معطى خاما، بل هو بناء معقد يقوم به التسنين وتختزنه الذاكرة، > فالعلامة اللسانية لا تربط بين اسم وشيء بل تربط بين صورة سمعية وتصور ذهني <. ( سوسير) فالحصول على مفهوم "شجرة" يستدعي التخلص من كل العناصر الخاصة بهذه الشجرة أو تلك ، فالثمار ولون الأوراق والحجم لا تشكل عناصر ملائمة لاستخراج مدلول لأنها خاصة بشجرة بعينها، في حين أن القول بأن الشجرة نبات كبير له جذور ممتدة في الأرض وأغصان عالية في السماء، إشارة إلى عناصر قادرة على خلق القسم الذي يحتوي على كل الأشجارالممكنة.

وتوضح كل السياقات السابقة أن الألفاظ دالة على المعاني لا الأشياء، فالعالم الخارجي لا يتسرب إلى الذهن إلا باعتباره ما يستوجب النقل إلى اللسان، فغيابه عن التعريف الذي يعطى للعلامة لا يعني نفيا لوجوده، ولكنه يحوله إلى مفاهيم " تحل محله" بتعبير بورس.

III- إن الأمر، في جميع الحالات، يتعلق ببناء حقل إدراكي يقود إلى الفهم والتجريد ( إيكو). وفي تصور بورس فإن كل تعرف على ما يوجد خارج الذات المدركة لا يمكن أن يكون سوى سيرورة افتراضية ( abductif) (8). فهذه السيرورة تربط بين الموضوع المدرك ومجمل الترسيمات الثقافية السابقة. فنحن نتعرف على ما يوجد خارجنا ونمنحه اسما وصفة استنادا إلى دروس الثقافة، فهي التي منحت هذا الموضوع موقعا مجردا داخل الذاكرة اللسانية. فلا يمكن للنسخة في ذاتها أن تكون سندا لواقعة إبلاغية إن هي لم تكن أحد التحققات الممكنة للنموذج. انطلاقا من هذا المعطى، لا يَنظر الإدراك إلى النسخة إلا باعتبارها السبيل الذي سيقود من جديد إلى إعادة بناء النموذج، وإذا غاب النموذج غابت معه كل إمكانيات فهم العالم واستيعاب صوره المتعددة.

وهذا ما تؤكده التجربة الإدراكية العادية، فإذا صادف أن لاحظت ليلا > وأنا أسير في زقاق مظلم وجود شيء غامض وتساءلت : ما هذا ؟ ( وكان بإمكاني أيضا أن أقول "على ماذا يدل هذا الشيء" ؟ فالاستعمال اللساني هنا يشير إلى هواجس فلسفية ) سأركز حينها اهتمامي : أنسق بين المميزات، أحاول استحضار بعض الخطاطات التي توفرها لي التجارب السابقة ( أي أضع أمام النموذج الدلالي مجموعة من المميزات الغامضة )، وأشكل حقلا إدراكيا ممكنا. لقد فهمت الآن : إن الأمر يتعلق بقطة. فلو كان الأمر يتعلق بحيوان غريب لم يسبق لي أن رأيته ( وتجهله الثقافة التي كبرت في أحضانها ) فإنني لن أتعرف عليه. قد أكون عنه انطباعات غير دقيقة، قد تتطابق مع تسمية خاطئة<(9)

وفي هذه الحالة فإن إدراك الشيء وتبين معالمه يترادفان مع التسمية، والتسمية هي المدخل الرئيس إلى نقل العالم الخارجي من وضعه الأصلي داخل طبيعة غير محددة المعالم، إلى دائرة المفاهيم المجردة التي تمنحه موقعا (10 )د اخل اللسان وداخل الذاكرة الإنسانية، وهذه الذاكرة هي وحدها التي ستقود إلى إنتاج السلوك السميائي وتقعيده. فاللغة هي التي تمدنا بكل ما نعرفه عن العالم الخارجي. إن الذاكرة الإنسانية هي، في المقام الأول، ذاكرة لسانية.

من هنا يمكن النظر إلى السلوك السميائي باعتباره حالة ثقافية تعد نقيضا لكل معطى، طبيعيا كان أم بيولوجيا. فالعين مثلا تبصر وستظل تبصر إلى ما لا نهاية، لكنها لن تنتج سلوكا رمزيا أي سميائيا، أما عندما تنتج حركة ويدركها الناس على أنها "غمز" ( والغمز هو الإشارة بالعين والحاجب والجفن كما جاء في لسان العرب)، فإنها ستنزاح عن الفعل البيولوجي لكي تدخل دائرة الثقافي المسنن اجتماعيا وحضاريا. فلا علاقة للغمز بالفعل البيولوجي إلا من حيث السند المادي، والدلالة كما هو معروف لا تكترث للمادة الحاملة لها، لذا فإن ما يجعل من هذه الحركة سلوكا سيميائيا هو التسنين الثقافي الذي ينظر إليها باعتبارها فعلا رمزيا.

وعلى هذا الأساس، لا يمكن أبدا أن نتصور حدودا للحياة خارج المضامين التي تحيل عليها اللغات الاجتماعية وعلى رأسها اللسان الطبيعي. فالكلمات مثلا، كما يقول إيكو، لا تعين شيئا في العالم الخارجي ولكنها تعد سندا لمضامين ثقافية. وهذا ما يحيل على تصور خاص للمرجع، فما ينتمي إلى العالم الخارجي، لا يحضر في التجربة الإنسانية من خلال أبعاده الملموسة، بل هو موجود من خلال إحالاته الثقافية. وهذا ما دفع الكثيرين إلى إعادة النظر في مفاهيم سادت لفترة طويلة من قبيل " الواقعية" و" الصدق" و" الانعكاس" و" الحقيقة". فهذه المفاهيم لم تعد لها قيمة تذكر في فهم الوقائع والكشف عن مخزونها الدلالي.

IV- ألا يمكن القول إذن، استنادا إلى هذا التصور، إن السميائيات هي في المقام الأول سيرورة لتحويل العالم من الحالة السديمية والأحادية وانعدام الشكل إلى ما يحدد الأشكال المختلفة للإدراك ؟ وبعبارة أخرى، ألا يمكن أن تكون السميائيات، في نهاية التحليل، شكلنة للعالم ؟ إن كل التصورات باختلاف منطلقاتها تتفق على هذا التحديد. فالشكلنة، في البدء وفي النهاية، هي تحويل المتصل واللاعضوي واللامتمفصل والعديم الشكل إلى موضوعات ثقافية تستلزم النظر إليها باعتبارها عصارة الفعل الإنساني وآثاره فيما يحيط بنا. فالتعابير التي نصادفها مرارا في أدبيات السميائيات مثل " إعطاء معنى " أو " توليد معنى " أو " إنتاج الدلالات وتداولها" تشير إلى جوهر السيرورة السميائية وأشكال تجلياتها. فالمتصل ( continuum) مادة عمياء بكماء لا تدل، ولاتحيل على أي شيء سوى ذاتها. والمفصلة وحدها هي التي تقود إلى إنتاج الوحدات الدلالية، أي ما يخبر عن المادة ويجعلها قابلة للإبلاغ.

وبناء عليه، فإن السيرورة الدلالية التي تقود إلى الكشف عن المعاني وأنماط وجودها من خلال مواد تعبيرية متنوعة هي ما يشكل الموضوع الفعلي والحقيقي للسميائيات. فكلمة "شجرة " لا تدل لأن هناك طاقة معنوية حدسية مودعة بشكل قبلي في الكلمة أو في الشيء الذي تحيل عليه، إن هذه الكلمة قادرة على إنتاج معانيها من خلال سلسلة من العمليات التي لاتدركها العين المحسوسة، وهذه العمليات هي ما يشكل كل سيرورة دلالية : فـ / الشجرة/ هي مجموعة من الأصوات المنظمة وفق بناء عرفي، وهذه الأصوات تحيل بدورها على صورة ذهنية أو مفهوم خاص بالشجرة، ويعد هذا المفهوم ثالثا سيرورة تقليصية تهم العناصر المحددة لهوية الشيء في العالم الخارجي. ذلك أن الشجرة لا تدل على كيان مخصوص : هذه الشجرة في هذا المكان وهذا الزمان بالذات وليس غيرهما، بل تدل على نموذج عام يحتوي كل النسخ الممكنة، وهذا ما يجعل من إمكانية التواصل أمرا واردا. وهو ما أشرنا إليه حين تحدثنا عن العلاقة بين النسخة والنموذج.

وهذه السيرورة ليست خاصة بالكلمات فقط، فاشتغال الإيماءات والطقوس وموضوعات العالم الخارجي يخضع لنفس السيرورة ويتبع نفس القواعد. فهذه الكيانات لا تدل من تلقاء نفسها لأنها تختزن داخلها معاني مسبقة وموجودة بشكل سابق على ظهور السلوك الإنساني المتمفصل في وحدات دالة، إنها دالة في حدود وجود ثقافة تسند مجمل دلالاتها التقريرية والإيحائية على حد سواء. وبعبارة أخرى إنها دالة في حدود قدرتنا على استحضار الحقل الثقافي الذي نستند إليه من أجل الحكم على الظواهر أو تأويل الوقائع أو فهم القيم وإدراكها.

إن انزياح الأشياء والإيماءات عن وضعها الأصلي ( المادي ) ومعانقتها لعالم لا ينتهي من الدلالات مثال على هذه السيرورة وتحديد لاشتغالها. فما يصدر عن اليد والرأس والحاجب والمنكبين والأرجل، وما يقوله الجسد وهو يتهادى مزهوا بمفاتنه، لايعود إلى "نوعية اللحم" الذي يشكل مادته، بل الأمر مرتبط بالتسنينات الثقافية المسبقة التي تجعل من الجسد لغة لا تقل تعبيرية عن وحدات اللسان الطبيعي.

وفي هذه الحالة أيضا يحق لنا أن نتحدث عن السلوك السميائي المتمفصل في حركة سميوزية لها قواعدها ومنطقها. فكل ملفوظ إيمائي ( والملفوظ سلسلة من الإيماءات المنتظمة داخل نسق خاص ومنتج لدلالة خاصة ) ينتج معانيه الخاصة به، وأي تغيير يلحق بهذا النظام سيقود إلى تغيير في معاني الملفوظ. ولهذا السبب نظر الكثيرون إلى الدلالة باعتبارها وحدات ثقافية منتظمة وفق تقابلات لا يمكن أن تدرك إلا من خلال استحضار سياق بعينه. فـ> المعنى لا يمكن أن يصبح مرئيا إلا في علاقته بالنسق المولد له< (11)

فارتكاز التدليل ( السميوز) على شبكة مركبة من العلامات معناه أن ما يحدد هويته ليس مادة أصلية مكتفية بذاتها، وليس عناصر معزولة عن بعضها البعض، بل مفهوم العلاقة ذاته. فالدال يحيل على المدلول وفق علاقة عرفية ( اعتباطية )، وتقوم هذه العلاقة، من خلال اعتباطيتها، بإنتاج المعاني وتداولها وفق قواعد خاصة. فالوظيفة الأصلية للعلامة هي وظيفة اختلافية، فهي نتاج علاقة وليست حصيلة لمادة دالة بذاتها. ولهذا فإن التدليل هو شبكة غنية من العلاقات، وتشكل هذه الشبكة، في ذات الوقت، سلسلة من الإكراهات المفروضة على المعنى، فهي ما يحدد طرق انتشاره، وكل محاولة لتحديد نمط المعنى يجب أن تمر بالضرورة عبر إعادة بناء هذه الشبكة العلائقية (وكل قراءة هي في واقع الأمر محاولة لإعادة بناء النص من خلال إعادة بناء قصديته ).

من هنا فإن المعنى باعتباره شبكة علائقية يعد الأساس الذي ينبني عليه " نسق العلامات"، ولن تكون السميوز، تبعا لذلك، سوى معنى منتشر يُفترض في الإجراء التحليلي أن يقوم بإعادة بناء منطقه الداخلي ( لنتصور حالة نص يتطور في اتجاهات متعددة ويقدم مع ذلك إمكانية وصفه وتحديد تخومه ). فالسميوز ليست تعيينا لشيء ولا رصدا لمعنى واحد ووحيد، إنها على العكس من ذلك إنتاج، والإنتاج معناه الخروج من الدائرة الضيقة للتعيين إلى ما يحيل على التأويل باعتباره سلسلة من الإحالات المتتالية. إن السميوز مطاردة للمعنى لا ترحم، فبقدر ما يتمنع المعنى ويتدلل ويزداد غنجه، بقدر ما تتشعب مسارات السميوز وتتعقد شبكتها وتكبر لذتها ويكبر حجم التأويل ويزداد كثافة وتماسكا ويؤدي إلى " انزلاقات دلالية لا حصر لها ولا عد " بتعبير إيكو. إن الفائض في المعنى يحول السميوز إلى لعبة قواعدها معروفة منذ البداية، فهي واجهة مفتوحة لا سر فيها ولا عمق. وهذا ما يشكل قلب القضايا الخاصة بالدلالة وسبل الكشف عنها.

فمن جهة لا يمكن الحديث عن الدلالة إلا من خلال علاقة هي ذاتها بؤرة لسيرورة لا معطى مكتف بذاته، ولا يمكن للدلالة، من جهة ثانية أن تقف عند حدود التعيين المباشر للمراجع المادية ( ما يشير إلى البعد النفعي في التجربة الإنسانية). فالتوسط بين الإنسان وعالمه حالة مسلم بها، ولا يمكن للإنسان أن يعي ذاته ومحيطه خارج الأشكال الرمزية التي تصوغ مجمل حالات إدراكه ( وهي أدوات التوسط بامتياز كما يقول كاسيرير). إلا أن وقوف العلامة عند حدود ما يعين ويصف أمر مناف لطبيعة المعنى ومناف لطبيعة الحياة ذاتها. فالرغبة في خلق " محميات دلالية" نهرع إليها كلما حاصرتنا الحياة بإكراهاتها النفعية أمر طبيعي وضروري ضرورة الفن ذاته. لذلك كانت العلامة أيضا مهدا لدلالات نطلق عليها الإيحاء أوالمعاني الثانية.

وليس غريبا أن تتطور، انطلاقا من مقترحات بورس مثلا، مجموعة من التصورات التي جعلت من السميائيات في المقام الأول نظرية في التأويل ( انظر كتابات أومبيرتو إيكو الأخيرة ). بل إن هناك من نظر إلى هذه السميائيات باعتبارها اللبنة الأولى التي استندت إلىها التفكيكية في بناء تصورها للدلالة. فأن تكون السميوز حركة لا متناهية من الإحالات فهذا معناه أن العلامة بمجرد ما تتخلص من قصدية محفل التلفظ، فإنها تنشر خيوطها في كل الاتجاهات، حينها تكون كل السياقات محتملة، وتكون كل الدلالات ممكنة. ولقد أبدى دريدا إعجابا كبيرا بفكرة الإحالات التي لا تنتهي عند حد كما تصور ذلك بورس. فبورس في تصور دريدا > ذهب بعيدا في الاتجاه الذي يطلق عليه تفكيكية المدلول المتعالي. فهذا المدلول سيقوم، في لحظة ما، بوضع حد نهائي للإحالة من علامة إلى أخرى. إن الأمر يتعلق هنا بشيء مثل التمركز الذاتي وميتافيزيقا الحضور المجسدة في الرغبة القوية والنسقية التي لا يمكن كبح جماحها. والحال أن بورس كان يعتبر لامحدودية الإحالة معيارا يدلنا على وجود نسق من العلامات. فما يطلق العنان للدلالة هو نفسه ما يجعل توقفها أمرا مستحيلا. فالشيء ذاته علامة <(12)

هوامش

1- Umberto Eco : Le Signe, p 151

2- Umberto Eco : Sémiotique et philosophie du langage, éd P U F , 1988, p 10

3- انظ ابن رشد : تلخيص كتاب العبارة، لأرسطو ، حققه الدكتور محمود قاسم ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1981 ص 57

4-انظ على سبيل المثال : الغزالي : معيار المعلم في المنطق، شرحه أحمد شمس الدين دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1990، ص 47

5- خضر بن علي الرازي ، شرح الغرة، ص 29 ، ذكره محمد غاليم : المعنى والتوافق ، مبادئ في تأصيل البحث الدلالي العربي ، منشورات معهد الدراسات والأبحاث للتعريب بالرباط ، 1999، ص27

6- الجرجاني ( علي بن محمد بن علي ) : كتاب التعريفات، تحقيق ابراهيم الأبياري، دار الكتاب العربي، ، 1992، ص 139

7 - ابن سينا : الشفاء، العبارة، ص 4 ، انظر محمد غاليم، م س ، ص 29

8- Abduction ( الافتراض )، بورس يميز بين القياس والاستنباط والافتراض، و"الافتراض"- في الجهاز المفهومي الذي يقترحه بورس - لا ينتج معرفة مع كل مستلزماتها الدلالية، > إنه منهجية للخروج بتكهن عام دون وجود ضمانة موضوعية على أنه سيصدق على حالة خاصة أو حالة اعتيادية. إن ما يبرر هذا التكهن هو أنه يشكل الأمل الوحيد في تنظيم سلوكنا المستقبلي تنظيما عقلانيا < . إن مهمته هي أن يقوم فقط بقياس حالة غير معروفة على ما تعرفه الذات المؤولة بشكل سابق. فـ > السيرورة الافتراضية تقتضي التعامل مع التجربة التي أواجهها انطلاقا من معرفة سابقة، ويتعلق الأمر بالتطبيق الميكانيكي لحالة خاصة على مقولة سابقة < p188 Peirce : Ecrits sur le Signe, .

9- Umberto Eco : Le signe, p 176

10- A kibédi Varga : Discours , Récit , Image, éd Pierre Mardaga , 1989 , p 9

11- 6- Eliseo Veron : Sémiosis de l'idéologie et du pouvoir , in Communications 28 , 1978 , p 12

12- J Derrida : de la grammatologie , les éditions de Minuit , 1967 , p . 71

 

 

 
 
 
معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقـة تعريـف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع  خزانات الموقـع  صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

موقع سعيد بنگراد - تاريخ الإنشاء: نونبر 2003