معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقـة تعريـف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع  خزانات الموقـع  صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

سعيد بنگــراد

ذاكرة الماء ولا وعي السرد

الطوفان الرمزي في السرد الروائي

 

 

 

1- ليس في نيتنا قول أي شيء عن أساطير الماء العديدة، وعلى رأسها حكاية الطوفان الذي أغرق البشرية، إلا القليل منها، في لجة لا يعرف أحد قرارها، فذاك سر من أسرار الكون فُصِّل فيه القول قديما وحديثا، وأغلب تأويلاته متداولة ومعروفة. ما نحاول القيام به في هذه الدراسة يقتصر على استعارة " شكل مائي" يمتص مادة تشكله من هذا الطوفان بالذات، ولكنه ينزاح عنه من حيث " الكثافة الدلالية " التي تُبنى على تناقص في حجم الماء أو تقليص لمداه ( كمية الماء لا قيمة لها قياسا برمزيته). فالنصوص الروائية الثلاثة التي نعتمدها أساسا لصياغة فرضياتنا التحليلية لا تضع الماء مادة لسردها، إلا أنها تنتهي كلها إلى تسريد الماء استنادا إلى غاية ضمنية تقدم " رسما جديدا " لذكرى خاصة بطوفان أصلي لا يمكن أن يحضر في الذهن إلا من خلال آليات السرد ووفق قوانينه.

وذاك ما تكشف عنه الطاقة السردية الكامنة، كما يمكن تلمس وجهها الخفي والمجرد في العلاقات المفهومية غير الموجهة : ما يمكن أن يتولد عن العلاقات الرابطة بين الحدود المتقابلة ( أبيض- أسود، ليل- نهار). إن الرؤية السردية، استنادا إلى هذا التقابل، معطاة من خلال العلاقات قبل تحققها في الحدث والوصف. وسيكون التحول المضموني تبعا لذلك كليا : المابعد الزمني يلغي الماقبل بالضرورة. فهذه الروايات " أطروحية" في عمقها، إنها تنطلق من " ثنائية " قيمية تُبنى استنادا إليها عوالم التشخيص واستنادا إليه تتخذ شكلا.

وللماء في جميع السياقات الإنسانية دلالات شتى. وقد يكون بديهيا القول إنه ارتبط بالحياة على الأرض كما تصورتها أغلب الديانات، وكما فصلت القول في ذلك الأساطير قبلها. فهو سابق في الوجود على الخلق ذاته، إنه العماء المظلم أو المادة التي خرج منها كل شيء ( " وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة" الكتاب المقدس، " وجعلنا من الماء كل شيء حي" القرآن). إنه أصل وليس مضافا كما هي حالة النار مثلا. وبذلك، فهو موجود خارج الزمنية المعروفة، أو هو وليد كم زمني هلامي انبثقت عنه زمنية استوطنت الفعل الإنساني وتحكمت في مساراته. وكما كان اكتشاف النار مدخلا رئيسا نحو الاستقرار وميلاد التجمعات السكنية الأولى، فإن السيطرة على الماء و" تدجينه" كانت هي البوابة نحو اكتشاف الأنشطة التي من خلالها اتخذ الكائن البشري حجما إنسانيا وراكم معارف رمزية حول العالم وحول ذاته.

وفكرة التطهر مركزية في كل سياقات الماء، بما فيها أشدها سذاجة. فالتطهر مدخل لتحقيق كل أشكال الخلاص التي تبشر بعودة جديدة إلى أصل يوجد خارج كل أشكال الوسم الأخلاقي ( العودة إلى حالة إباحة مطلقة). وهو ما يعني، بصيغة أخرى، التلويح بإمكانية العودة إلى حالة خالية من " الأهواء "، وهي الميولات المسؤولة عن كل " الانحرافات الأخلاقية" كما تذكر ذلك النصوص القديمة، وربما الجديدة أيضا. وهي فرضية قامت عليها فكرة الطوفان الذي سيخلص الإنسانية من ذاكرتها الزمنية إيذانا بميلاد زمنية جديدة.

ومع ذلك، فإن ما هو أساسي في هذه الرمزية، ليس كثافتها الدلالية، فهذه دالة على الكونية، بل سرديتها المحتملة، لأنها دالة على خصوصية ثقافية وعلى زمن"معدود". فكل رمز في حاجة إلى قصة تفسره وتكشف عن بعده التاريخي والاجتماعي في الوقت ذاته، أي تحديد المضاف الذي يأتي من الاستعمال لا من" الهوية المجردة ". لذلك لا قيمة للرمز خارج وجهه القصصي.

استنادا إلى هذه الملاحظات العامة، سنبحث في الذاكرة الخفية للسرد الروائي من خلال روايات بنت جزءا من فضائها ( فعليا أو رمزيا) استنادا إلى ممكنات الماء وقوته الإيحائية. أي محاولة استنطاق ما سها السرد عنه أو ما سربه على شكل وحدات وصفية تخبئ في ثناياها طاقة سردية يمكن أن تفتح النص الروائي على احتمالات سردية تسير في اتجاهين : تصف ما مضى وما يجب أن يكون. فاستعمالات الماء تذكر في هذا السياق، من خلال محاكاة رمزية، بالطوفان لا باعتباره حدثا يتحقق من خلال كثافة الماء، بل من خلال إحالات ذاتية تسرب نمذجات مصغرة تلتقطها الذاكرة اللاواعية للسرد، ومن خلالها تتحقق المضامين المجردة التي يتم تشخيصها في وضعيات متجذرة في واقع مألوف.   

 

2- إن الروايات الثلاث التي أشرنا إليها تستعمل كلها الماء أداة للتطهر من أدران من طبائع مختلفة : اجتماعية سياسية أو دينية حضارية، أو على الأقل تسقط الرغبة في القيام بذلك. وتقدم لنا رواية " أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ نموذجا على ذلك. وقد قيل في هذه الرواية وفي صاحبها الشيء الكثير، لا نعتقد أن الخوض فيه يفيدنا في سياقنا هذا. ولكننا لا نمنع أنفسنا من تبني ما أصبح شائعا بين كل نقاد هذه الرواية، بل حتى بين القراء العاديين الذين رأوا فيها جميعهم كتابة جديدة لسيرة الأنبياء الأربعة : آدم وموسى وعيسى ومحمد (ص).  إلا أن الجديد فيها هو إدراج سيرة نبي جديد هو نبي العلم المعاصر الذي تقوده اكتشافاته إلى قتل الجبلاوي، الجد الأكبر للحارة، دلالة على استغناء البشرية عن الدين في تدبير شؤون حياتها كما يدل على ذلك اسمه " عرفة".

ومع ذلك لن نخوض في أمر هذا التأويل بالسلب أو الإيجاب، فغايتنا شيء آخر غير القيام بما يلزم من المقارنات لتأكيد التطابق بين الرواية وسير هؤلاء الرسل. إننا نروم الكشف عن بعض العناصر التي نعتقد أنها مركزية في تأسيس الكون الروائي، ومنها يستمد مردوديته السردية والدلالية على حد سواء. فليس للتاريخ هنا مقام سوى ذاك الذي يمكن أن تأتي به رمزية تعيد النظر في الزمنية ذاتها. إن التاريخ في الرواية خدعة، أما الحقيقة فهي ما يمكن اكتشافه من خلال النظر إلى القصة في كليتها باعتبارها استعارة كبيرة تحيل على معنى غير ما تقوله خطية الأحداث. 

وسنقتصر المحكي الثاني في الرواية، وهو القصة الثانية التي تحمل عنوان " جبل"، وهو اسم الشخصية الرئيسة في القصة وصانعة أحداثها. والجبل هنا اسم وصفة وحيز مقدس في الوقت ذاته. بالتأكيد، لا يمكن أن نتجاهل أن "جبل" هنا يوحي بالنبي موسى وسيرته وصراعه مع الفرعون،  فالرواية تتضمن الكثير من العناصر التي تداولتها الكتب الدينية وغيرها، ما يشكل في واقع الأمر المفاصل الرئيسة للقصة الأم ( احتماؤه بالجبل، الوصايا العشر، وتربيته عند الناظر بعيدا عن أبويه الحقيقيين، لقاؤه مع النبي شعيب وزواجه من ابنته). والرواية خاضعة، من هذه الزاوية، لإكراهات البناء القصصي الأصلي.

ومن هذه الزاوية لا تتمتع القصة برمزية كبيرة، بل يمكن القول إنها رمزية مكشوفة، لأنها تستعير من القصة الأصل الوظائف الكبرى ( المفاصل المركزية) وتملأ الفراغات بأحداث محلية توهم بزمن واقعي يدركه القارئ من خلال التفاصيل. إن مصدر الرمزية فيها هو الاستعمالات الجديدة للعناصر الأصلية في القصة، ومن ضمنها الماء وفضاء تحققه:" الدهليز الطويل" الذي سيشهد موت الأعداء وميلاد آل حمدان من جديد.

ولهذا السبب، فإن الاستعادة السردية لقصة النبي موسى لا تتم من باب التأريخ، ( الرواية في جميع الأحوال ليست تاريخا)، بل وفق إحالة رمزية يتحول من خلالها الحدث " التاريخي/الديني إلى استعارة كبرى تسرب عبرها رؤى ليست من التاريخ بل هي من الذات التي تصوغ الحدث الجديد من خلال أمارات دالة على استعمال جديد للأحداث ذاتها. ومن هذه الزاوية بالذات يمكن البحث عن الرمزية الجديدة للماء كما وُصِف في القصة الأم وكما تم توظيفه في القصة الجديدة، بما فيه " اليم" الأول الذي لا تشير إليه القصة الجديدة.

" وما كادوا يتوسطون الدهليز حتى مادت أرضه بهم بغتة وهوت بمن عليها إلى قاع حفرة عميقة وفي سرعة مذهلة فتحت نوافذ الدور على جانبي الدهليز وانصبت المياه من الأكواز والحلل والطشوت والقرب وتقدم رجال حمدان دون تردد ورموا الحفرة بمقاطف الطوب... " ص 196.

وعلى شاكلة كل أساطير الطوفان، فإن المعركة التي يخوضها " جبل " مع الفتوات لن تنتهي بنهاية عالم فحسب، بل ستعلن عن ميلاد عالم جديد. إن طشتا واحدا من الماء قد يكون كافيا لاستعادة صورة المياه الهادرة. إن الماء المسرد في الرواية ليس ماء عاديا، إنه يسقط من السماء على شكل شلال قد لا يؤدي إلا إلى بلل رأس شخص أو شخصين، ولكنه دال، من باب التناظر، على غرق كلي، فليست الكمية هي المقصودة، بل الخزان الأسطوري كما تسلل إلى الذاكرة والوجدان هو الذي يسند الفعل السردي ويبرر آثاره.

إنها الاستعادة السردية لحالات الغرق، وكأن الرواية لا تقوم ظاهريا سوى بالتمثيل لحادث غرق فرعون وأصحابه في مياه بحر متخيل غرق فيه الجنود الذين كانوا يطاردون موسى وأصحابه، وهو البحر الذي يقول عنه العلماء حاليا إنه لم يكن سوى بعض المستنقعات في منطقة قريبة من سيناء. ولذلك، فإن الإحالة هنا على أحداث القصة الأولى ليست رمزية بالمفهوم الحقيقي للكلمة. إن الأمر يتعلق بإحالة على حدث شبيه به استنادا إلى وجود سلسلة من التناظرات بين أحداث وشخصيات القصة الأولى والثانية ( قصة موس وقصة جبل).

استنادا إلى هذا، وجب النظر إلى القصة كلها باعتبارها رمزا لا تشكل عناصر التشخيص فيها سوى الامتدادات الفرعية للرمز الأصلي. فقوة الرمز لا تكمن في تفسيره، بل في تحويله إلى طاقة نستعيد من خلالها مجمل تحولات ذاكرة الإنسان ووجدانه. وهو ما يعني أن النص كله يشتغل باعتباره حاضنا للمجرد وكاشفا عن أصوله، أي وعاء يستوعب ضمن بنية أولية واحدة كل العناصر المشكلة للحدث السردي. فالليل والظلام والدهليز والماء والغرق عناصر تحيل كلها على الغرق الذي أهلك الكافرين كما تروي ذلك الحكايات الدينية، ولكنه ليس رمزيا، كما سبق أن أشرنا إلى ذلك، إلا من باب التناظر بين قصة أصلية وأخرى تحاكيها. لذلك، فإن هذه العناصر يمكن أن تصبح دالة ضمن سجل رمزي من طبيعة مختلفة كلية. ويبدو أن تلك هي الغاية اللاواعية من استعمال هذه الأشياء تعبيرا عن غرق أسطوري أو تاريخي، فلا قيمة لهذه الصفات في النص السردي.

وهذا أمر متداول في السرديات المعاصرة، فكلما قلت الأمارات أو اختفت وراء مفاصل كبرى أو انتفت كلية تاركة المجال للوظائف وحدها سبيلا إلى تحديد دلالات النص، كان هناك ميل إلى تفسير الوقائع تفسيرا آخر لا يحتفي بالتفاصيل، ولكنه يبحث في ذاكرتها عن صور أخرى هي التعبير الأسمى عن الرغبة في استعادة الأصل المفهومي ( التأويل الذي يعطى لمجموعة من الأساطير باعتبارها دالة على تحولات في الوجود الاجتماعي).

وهذا ما يدفعنا إلى القول، إن الوقائع هنا ليست وقائع مميزة ويمكن التعرف عليها بصفتها تلك، أي وقائع تشكل نسخا مفردة لا يمكن أن يستقيم وجودها إلا ضمن هذا النص الروائي أو ذاك، إنها بأشيائها وشخصياتها تنتمي لسجلات رمزية خاصة. إن خطاطة الدال ( خطية الأحداث وشكلها الظاهري) تكشف عن الوجه الحدثي للقصة كما يمكن التعرف عليه في تقريريته، أي ما يمثل أمام القارئ من خلال سمات وظيفية بشكل خالص( مادية الماء وشكل الدهليز، الفتوات أو الجنود)، ولكنه ينتهي إلى الدلالة على كم انفعالي مضاف يودع في المفاهيم لا في الوقائع. لذلك، فإن نظام الدال ليس سوى وجه مستعار من صورة لامرئية غايتها الكشف عن مدلول من طبيعة مغايرة.

والحاصل أن الماء هنا ليس دالا من خلال كميته، والدهليز ليس حيزا تتم فيه أفعال أو تودع فيه أشياء، إن كوز الماء أو الطشت يجب أن يؤول استعاريا من خلال هبوطه من أعلى إلى أسفل، وهي الإيماءة الدالة على الطوفان الجارف، أو السيل، وفي جميع الحالات فهو دال على ما يمكن أن يحيل عليه هذا السائل العجيب من عنف. وهو بذلك مفهوم وليس سمة مستمدة من شكله الظاهري، إنه إمكان وليس تحققا. وهو ما يصدق على الدهليز ذاته. فلا يبدو أن الدهليز الفعلي، دهليز الحارة، يملك من الاتساع ما يمكن أن يستوعب فيلقا من الجنود، ولكن يمكن النظر إليه استعاريا من حيث وجهه المجرد، أي باعتبار إحالاته على حالات متنوعة في الشكل وفي الاشتغال. إنه يمكننا، من خلال وضعه ذاك، من تجاوز خصائص خارجية لا قيمة لها في النص.

لذلك هناك تفاوت مهول بين صور الدال السردي وبين الإحالات الرمزية التي تكشف عنها مدلولاته. فالنص يخضع في انتظام وحداته لخطاطة كلاسيكية تتجنب التفاصيل (الابتعاد عن جزئيات وصفية قد تخون قصدا ما أو قد توحي بواقعية مفرطة)، لكي ترصد التحولات الكبرى من خلال سرد خطي يضع مردوديته في " أفعال" مركزية ( وظائف ) تستغني في الكثير من الأحيان عن تداعياتها الفرعية. فالقصة موجهة بلا وعي أسطوري موضوع في بعض حالات الماء، وفق تحققه ضمن أشكال بعينها.

والخلاصة أن الوقائع لا يتم تشخيصها ( كما يوحي بذلك النفس القصصي) ولا يتم التعرف عليها من خلال إحالاتها المباشرة  على عوالم سردية، ولكنها تحضر في النص باعتبارها سيرورة استعارية تتطابق مع مقتضيات صور دفينة لا يقوم السرد في واقع الأمر سوى بمنحها وجها مشخصا يدركه المتلقي في بداية الأمر من خلال ما يحيل عليه من وظائف نفعية، ولكنه يقوده، من خلال هذا الوجه بالذات، إلى استبطان صور أو انفعالات لامرئية مدفونة في لاشعور إنساني يعرف كيف يخزن ويخفي، ويعرف كيف يحول ما يخزن إلى وضعيات لا تثير حولها الريبة. إن الدلالات المكتسبة أقوى وأطول عمرا من قوانين التمثيل السردي.

إن الدهليز هو في الأصل صورة نمطية تعد تعبيرا عن سلسلة من الانفعالات التي ارتبطت رمزيا بفضاءات بعينها : فهو الرحم في المقام الأول وهو جوف البحر والقبر، وهو بالإضافة إلى ذلك كله الوجه المرئي لكل صور الرغبة في الاختفاء والهروب من مكروه ما. وهي صور بالغة الغنى والتنوع يستمد منها الوصف في الرواية طاقة ظلامية إضافية تأتي بالمزيد من الدرامية على غرق رمزي: هناك توافق بين الظلام والصواعق والغرق. وهي صور معممة، ويكفي أن يشير النص من باب المحاكاة إلى الماء والظلام والعاصفة لكي تنفتح أمام المتلقي كل العوالم التي صاغتها الثقافة حول حالات الغرق في التاريخ. إنها تتحقق في المشخص من خلال ما يشبه عملية قلب معنوي لكي تصبح حاضنة لرغبات هي شيء آخر غير وظيفيتها أو شكل حضورها في العين.

لذلك، إذا كانت القطرة لا تستوعب نموذجها، فإنها تذكر به من خلال مجمل حالات تجسده، فأن يكون الماء زلالا أو سيلا أو جدولا أو طوفانا، فإنه لا يحيل في نهاية الأمر سوى على رمزية متفاوتة القيمة والمردودية. ومع ذلك، فإن شكل وجوده يدفع إلى تحقيق ممكنات على حساب آخر. إنه في الأصل واحد ولكنه متعدد في الامتدادات. فالماء ذاته هو الذي سينقذ جبل، وهو الذي سيغرق الفتوات.

وعلى هذا الأساس، ليس الحدث هو العنصر المركزي في النص، فالحدث مدرك من خلال طوليته الزمنية المباشرة، بل ظلاله التي تختبئ في الماء ولا شيء غيره. فيكفي أن يسقط الماء من عل على رؤوس "فتوات" محاصرين في دهليز ضيق ويبللهم لكي يستحضر القارئ الصور الأخرى التي اختزنتها ذاكرته، صور الغرق في البحر الذي انشق ليبتلع الفرعون ومن معه. هو ذا الحدث في القصة الأولى بشكل صريح وفي الثانية بشكل ضمني، ولكن امتداداته في اللاشعور تكشف عما هو أبعد من الحدث المشخص.

إن الماء هنا له رمزية مزدوجة: فهو ماء الطوفان وماء السيل الجارف، وباختصار إنه الماء العنيف الذي يقتلع كل شيء في طريقه. وهو ما ترمز إليه الطشتات التي تُسكب على رؤوس الفتوات. وهو في الوقت ذاته ماء رطب ولزج، ماء الرحم. وهو كذلك من خلال صورة الدهليز المظلم والبارد دلالة على " رحم" الحيز الفضائي الأصل الذي منه تخرج كل حياة. إن الغرق للعدو والولادة الجديدة للتقاة. إن ظلام الدهليز للأعداء، فهو ظلام أبدي، وظلام الرحم للطيبين لأنه ظلام منه سيتولد نور الحقيقة الجديدة.

إن الدهليز هنا، وفي أغلب السياقات، يستوعب كل الاستيهامات التي ارتبطت بلاشعور كائن خرج من ظلام وسيعود حتما إلى ظلام. والرحم هو المهد الأول لكل حياة. إن ظلام الرحم ظلام مثمن باعتباره دالا على غياب أي استقطاب ثنائي في الأخلاق والقيم، إنها إباحة مطلقة لا تعرف الممنوعات ولا الجهد ولا الكد. ولكنها تشير أيضا إلى انبثاق زمنية جديدة. وليس غريبا أن يعتقد البعض أن مجهودات الإنسان كلها التي تلي الولادة لا يمكن استيعابها إلا من خلال استحضار ما يسمى صدمة الولادة في عرف أوتو رانك. لم ينس الإنسان أبدا الجنة التي خرج منها، لذلك يعمل جاهدا على العودة إليها بما فيها رغبته في أن يدفن في أرض وطنه أو مدينته أو حارته.

لذلك وجب التمييز بين ظلام خارجي تصوغه الصواعق والماء والغرق، وهو ظلام مقصي، وبين ظلام البدايات كما يصف ذلك الكتاب المقدس مثلا " وعلى وجه الغمر ظلمة". يسير الثاني نحو النهار الذي يشكل حالات طلق تقود إلى الولادة وصبح جديد. أما الأول فنهاية أبدية، ظلام القبر والقبو والدهليز. فجبل وأصحابه اختاروا الدهليز سبيلا للخلاص، أما الفتوات فانجروا إلى الدهليز ذاته لكي يعلنوا  نهايتهم وموتهم : سيخرج آل حمدان من الدهليز إلى النور، وسيبلع الدهليز نفسه الفتوات جميعهم. تبدأ الرواية بالفضاء الواسع وتتسع إلى أن يشمل السرد الصحاري والجبال المجاورة، ليأخذ في التقلص إلى أن يصبح دهليزا ضيقا. تماما كما هي الحياة في الرحم ضيقة ومحدودة، ولكنه يشتمل على ممكنات الحياة وامتداداتها المحتملة التي ستنتهي إلى التماهي في الأرض ذاتها.

وليس هناك من تقابل بين الأرض والرحم، فكلاهما يشير إلى خصوبة متحققة أو واعدة. فالحنين إلى الحارة والعودة إليها  والسكن إلى أهلها ليس سوى صورة مجازية دالة على رغبة للعودة إلى دفء أصلي. ولن يكون مسرح المعركة الفاصلة إلا داخل الحارة والانبعاث لا يتم خارج الدهليز بل داخله. تماما كما هي تفاصيل القصة الأصل التي تجعل البحر فاصلا قاطعا بين زمنين: زمن الزيف وزمن الحقيقة.

 

3- تقدم رواية " الشراع والعاصفة" لحنا مينه من جهتها نموذجا آخر لحالات استعمال الماء. إلا أن السياق الفني هنا مختلف عن سابقه، فمن جهة لا تحاكي الرواية نصا سابقا ولا توهم بالتاريخية، وليست محكومة، تبعا لذلك، بإكراهات غير إكراهاتها الذاتية. ومن جهة ثانية، فإن الماء الحاضر في هذه الرواية هو ماء فعلي من حيث الحجم ومن حيث الامتداد ( البحر)، كما أن الغرق فعلي أيضا ومرتبط بالعاصفة والظلام والموت، بل هو الثيمة المركزية كما يشير إلى ذلك العنوان. إنها قيمة دلالية في حاجة إلى تسريد.

ومع ذلك، فهي لا تختلف عن الرواية الأولى من حيث النفس الأطروحي ( المحددات العقدية بتعبير دقيق)، أي الغايات الدلالية المسبقة التي تتحكم في انتقاء الفضاء والزمان والنظام الذي تصنف ضمنه الشخصيات. وهذه خاصية أساسية في هذا النوع الروائي، فالمعنى لا يبنى مع الحدث، إنه سابق عليه ومتحكم في غاياته. إن مصادره الدلالية ليست في ذاته، بل مدرجة ضمن سياق نظري معلوم.

استنادا إلى ذلك، فإن الفعل السردي يندرج في هذه الرواية ضمن رؤية شاملة ويُبنى بشكل قبلي ضمن ممكنات المفاهيم ووفق توجيهاتها، وضمن ما تبيحه رؤية سردية خلفية تمكن السارد من بسط القول في كل شيء، فيما رأى وفيما لم ير أو لم يسمع، إنه يُستوعب ضمن رؤية تتجاوز الموصوف الحدثي لكي توحي بظلال المجرد كما يمكن أن يتحقق في المشخص. لذلك، وعلى عكس الحالة السابقة، فإن الرواية تُخلص هنا لتفاصيلها وجزئياتها لا لوظائف معزولة ترصد الحدث الكلي بعيدا عن امتداداته الوصفية. إن التفاصيل وحدها يمكن أن تمنح الانفعال شكلا وأن تؤنسن البحر وتجعله حاضنا للأمل المرجو، أو تحوله إلى حيوان مفترس تتهدد أنيابه ومخالبه كل الكائنات : البحارة والصيادون والعابرون (" الداخل إلى البحر مفقود والخارج منه مولود "، " البحر فروسية" " البحر غدار" ).

وذاك مصدر حالات الانشطار في الرواية: فهي تضع فضاء "البين بين" منطلقا للأحداث ونهايتها في الوقت ذاته. إن الشاطئ في الرواية هو الحد الفاصل بين البر والبحر، وبين الموت والحياة وبين الاضطهاد والبعث الجديد. فالطروسي الذي جرب الغرق ولم يمت، سيحاصره  البر من كل الجوانب سوى ما كان من فجوة صغيرة هي النافذة التي يطل من خلالها على العالم البحري وعلى ذاته وعلى تجربة الموت المتكرر. وليست تلك الفجوة سوى الشاطئ الذي لازمه كي لا يبتعد عن الماء. إن العودة إلى البحر ليست نهاية، بل بداية وعي جديد: إن الماء لا يطهر فقط إنه مصدر الانبعاث أيضا.

لذلك يصف السارد نوعين من الماء : ماء الشاطئ، وهو ماء المصطافين اللامبالين الذين يتلذذون بقطرات بقايا موج وديع يتكسر عند الأقدام، وهو ماء شبيه بماء السواقي والجداول التي تسير في هدوء، إنه ينعش النفس ويشير في الوقت ذاته إلى سيرورة هادئة لدفق زمني لا يتوقف. ويصف ماء الأعماق أيضا، وهو ماء الموج الهادر والهيجان، ماء العنف الذي يتحقق في الظلام والعاصفة واحتمالات الغرق والموت. إن الفصل بينهما هو الوجه الآخر للفصل بين عوالم البر بكل ما يمكن أن يحدث داخله وبين ما يمكن أن يتم داخل البحر. ولهذا الفصل ظلال تغطي الأفعال والصفات، وتسقط فضاء " البين بين" بسماته وخصائصه كما سنرى.

ويبدو أن رمزية الرواية تتأسس، في جزء كبير منها، على هذا الفصل ووفق ممكناته في السرد وبناء الشخصيات وبرمجة أفعالها. فعلى عكس الرواية الأولى التي تحكمها خطية صريحة هي التجسيد الفعلي لبرنامج سردي كلي موَّحد وموِّحد ينتهي بالضرورة إلى إلغاء عالم وإقامة آخر، فإن رواية "الشراع والعاصفة" تتميز بإسقاطها لسلسلة من البرامج السردية المتداخلة التي لا يتحقق منها سوى واحد هو عودة الطروسي إلى البحر على ظهر الشختورة. ولا يشكل هذا البرنامج ذاته هدفا نهائيا إلا ضمن ما تبيحه الغاية النهائية التي تمتح منها الرواية مصادرها الدلالية. فكلية العقيدة في الروايتين لا تخضع للتمثيل ذاته. ففي الأولى تتخذ شكلا باترياريكيا بظلال دينية تتوحد الجموع داخله حول أب ( الجبلاوي) يعد الانتماء إليه قيمة مرجعية مطلقة، فهي سند الأحكام التي تُصَدِّق على الفعل المنجز. أما في الثانية فهي طبقية وتهدف هي الأخرى إلى إصلاح خلل اجتماعي، لكنها تفترض استقطابا من طبيعة سياسية. وستكون عكس الرواية الثالثة ( موسوم الهجرة إلى الشمال) التي تستدعي، كما سنرى، مغامرة فردية لا تحتكم إلى أي برنامج سوى تدبير أفعال تستمد طاقتها الدلالية من محاولة فرد معزول إزالة أدران تاريخ لا يستطيع هو ذاته التخلص منه.

 وهذا ما يفسر الطريقة التي تتحقق من خلالها البرامج السردية في الروايتين. في الأولى تنجز على شكل تحول كلي يلغي ويقيم بديلا على أنقاض الأول. أما في الثانية فتتم وفق ترابطات بين حيزين تجمعهما نقطة فعل مركزي هي شاطئ وميناء وصخرة لصيد السمك. وهي فضاءات غير قارة، لكنها هي مصدر التوسط بين المنجز ( ما يتم في البحر) وبين الذي يجب إسقاطه كحالة ممكنة للإنجاز. إنها جميعها مفاصل وظيفية الغاية منها بلورة أنساق لشخصيات تكون هي الركيزة التي يتم من خلال وظائفها إسقاط عوالم مفترضة وإلغاء افتراضي لعوالم واقعية: الأستاذ كامل تكفل بالبر وأدار صراع الكلمات فيه، وتخصص الطروسي في البحر وصارع أمواجه.

وليس هناك أكثر من حالات البحر قدرة على تجسيد حالات الافتراض هاته. فالبحر خلاف البر ليس شكلا قارا، إنه متحول ولا شكل له، أو هو الشكل الحاضن لكل الأشكال الممكنة، إنه ليس ماء البحيرات الراكد، إنه وسط متحول" إنه ليس جسدا يُرى وليس جسدا للاحتضان، إنه وسط ديناميكي يستجيب لديناميكية ما يصدر عن الإنسان "(1)، وما يجسد انفعالاته ويكشف عنها. ففي البحر نرى " الصراع قبل أن نرى المصارع" (2)، ونرى الموت قبل الميت، ونرى النهايات في البدايات. إنه حاضر في تخبط الغريق وفي حركات السباح. ومع ذلك، فإن مجموع الأشكال الخاصة بالإيماءات التي يولدها اللقاء مع البحر لا قيمة لها قياسا إلى الصورة الأصل الدالة على " الصراع في ذاته" (3). إن الصراع في البحر مرئي من خلال الفعل المباشر، أما في البر فيختفي في العلاقات.

استنادا إلى هذا التمايز في أشكال التحقق يمكن أن نسقط حالات التطابق الممكنة بين " نوايا الكلمات" (ما يقع فوق اليابسة) وبين حركة البحر الفعلية (الغرق والعاصفة). إن التناظر لا يتم من خلال الوجه الحدثي للسرد، بل من خلال الرابط الممكن بين  أفعال حقيقية ( العاصفة الطبيعية التي تدمر في طريقها كل شيء)، وبين أفعال محتملة يتم إسقاطها كرغبة في التغيير. وذاك هو الكون الرابط أيضا بين المتحقق في الذاكرة الإنسانية وبين ما تختزنه الطبيعة : الكلمات واقع دلالي ممتد في التاريخ وليست أدوات بسيطة للتمييز اللحظي، إنها نواة لسيرورة هي الأساس الذي تقوم عليه كل ثقافة، لذلك فإنها تخاتل وتتحايل وتمكر، أما البحر فاحتمال طبيعي، وجه آخر للقوة المنتشرة في الطبيعة، لذلك يوحي بشكل صريح بالحياة كما يمكن أن يوحي بالموت. إنه يقتل في الواقع ويحيي في الرمز ومجمل الاستعمالات الاستعارية.

لذلك، فإن كل المشاهد التي تصف العاصفة في الرواية تتم ليلا وتنتهي في الصباح مع الخيوط الأولى للفجر، وكأن لا قيمة للعاصفة إلا إذا حدثت ليلا، إنها تختفي في تلابيب الظلام لكي تعبر عن الموت بشكل مكثف. وتلك هي الكوة التي يمكن النفاذ من خلالها من أجل تحديد سبل التناظر بين البحر وبين القوى الاجتماعية الظالمة. ومع ذلك، فإن حالات الغرق أو النجاة لا قيمة لها في هذا السياق قياسا بما يمكن أن تأتي به الأمواج ثانية : لم يكن غرق المنصورة سوى ذريعة لعودة الطروسي إلى البر، ولم يكن غرق الشختورة سوى ذريعة لعودته إلى البحر ثانية. وبين العودة الأولى والثانية هناك الماء : غرق فعلي في الأولى، وانبعاث من جديد في الثانية.

ومن هذه الزاوية بالذات، يتحول البحر من فضاء للفعل الحقيقي إلى مستودع لكل الحالات الرمزية الممكنة. ولا يتردد السارد في وصف كل حالات الغرق التي تعرض لها البحارة، ولكنه لا يستثمر رمزيا سوى ما يندرج ضمن الاستراتيجية السردية العامة التي تضع الطروسي مصدرا لكل تفريعاتها. فهو وحده الوجه الرمزي لما يتحقق من خلال تقريرية ما يجرى على ظهر اليابسة. إنها طريقة لتسريب الرمزي من خلال الوجه الحقيقي. أو هي الرغبة في تصوير ما لا يمكن التعبير عنه سوى من خلال الكلمات.

وذاك هو سر البداية في الرواية :كل شيء يبدأ من الشاطئ وينتهي عنده، وكل ما يتحقق في البر ليس سوى فضلات ما يمكن أن تأتي به أمواج البحر، فهو الوجه المرئي لصراع يستعصي على التصوير إلا من خلال ممكنات البحر، بشكليه الهادئ والعاصف. وعلى هذا الأساس، فإن فضاء البحر أوسع رمزيا من فضاء البر، إنه مبنين من خلال ذاكرتنا ومن خلال نظرتنا ومن خلال دلالاته المكتسبة ومن خلال أشكاله المتحولة.

إن الحدث فوق اليابسة مكشوف من خلال أفعال مألوفة لا تعد بالكثير من المفاجئات، إنها مرئية في الغايات النفعية، أو تستوعبها غايات الفعل ذاتها ( محمل الأنشطة الموصوفة: المقاهي والمخازن والنقل والباعة المتجولون وغيرهم ). أما البحر، فمعيار مخالف للقياس والتمييز والحكم. إنه يفرح ويغضب ويثور، وهو سلطان وغدار وعمق ورمال، إنه كل شيء في الوقت ذاته.

إنه بالإضافة إلى ذلك قادر على استيعاب ظلال العاصفة وهول الأنواء ورهبة الظلام. وهو الوجه الآخر للغضب وإمكانات التمرد كما يمكن أن تتم على المستوى اللفظي عند البحارة وفقراء الأحياء الشعبية. إنها عاصفة اجتماعية لا يمكن تجسيدها إلا من خلال نظير من طبيعة أخرى. فكما كان الدهليز في الرواية الأخرى مصدرا للدلالات التي يختزنها الحدث السردي، فإن البحر هنا هو الخشبة الذي تتم فوقها بروفات الصراع الاجتماعي.

 وقد لا تكون معركة الطروسي مع الأمواج سوى طقس من طقوس الاستئناس التي " تؤهل " البطل للقيام بفعل التغيير الكلي كما تعتقد ذلك السرديات البنيوية التي تشترط تجارب سابقة تشتمل على الرغبة والإرادة والمعرفة وكل التفريعات التي تعد، في تصور هذه السرديات، مداخل للتحول المضموني. وهي الفكرة ذاتها التي يشتمل عليها الطوفان : إن التحول الذي تتحدث عنه السميائيات السردية باعتباره غاية مدرجة ضمن الوجود الإنساني ذاته، ليس سوى النهاية التي يجيء بها الطوفان لا لكي يدمر الكون نهائيا، بل من أجل إعادة بناء إنسانية جديدة.

فلم يكن الطروسي يروض الماء في واقع الأمر بل كان يسعى إلى ما هو أبعد من ذلك، كان يطمح إلى استعادة موقع من خلال فك أسر القوى الاجتماعية التي تكبلها قوى إنتاج متخلفة. إن احتمالية المحكي في البحر أكثر إقناعا من واقعية الفعل في البر، الأول يستمد مجمل عناصره من رمزية مفتوحة، فهي تستند إلى الماء بكل حمولته. وبالإضافة إلى ذلك، فهي ليست محكومة بتاريخية بعينها، فالبحر يتسع لكل الاحتمالات، أما ما يقع على اليابسة، فإنه محاصر  بوهم الواقعية ( زمنية مندرجة ضمن سجل واقعي).

وهذا هو الحد الفاصل بين الشراع والعاصفة وأولاد حارتنا. الأولى مشبعة بالتاريخ أما الثانية فمنفلتة من الزمنية: الأولى تسير نحو أصل كلي يتحقق من خلال قيمة اجتماعية سياسية أيديولوجية من طبيعة طبقية، أما الغاية في الثانية فهي العودة إلى أصل لازمني يضمنه الانتساب إلى الجبلاوي. ومع ذلك فهما لا تختلفان في القصد الأصلي: إمكانية النهاية وانتصار المطلق في الدين وفي الصراع الاجتماعي. فكما تهدأ العاصفة بعد هيجان، بإمكان التاريخ استعادة نقائه. إن سفينة الطروسي لن ترسو على جبل، بل ستعود إلى الشاطئ لكي تخلصه من الظلم الاجتماعي. لذلك لا تتحرك إلى أعلى هربا إلى الآلهة، كما يتم ذلك في الأساطير، بل ترسو على شاطئ هو مبتدأ التغيير ومنتهاه.

 

4- وفي الاتجاه ذاته لا تَسْلم رواية " موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح من ظلال الماء الرمزية. فجزء كبير من أحداثها يستحضر الماء حقيقة أو تلميحا أو يشير إلى ذلك من باب الاستذكار، فللنيل حكاياته أيضا. بل إن نهاية البطل الرئيسي في الرواية لن تكون إلا بين أحضان نهر النيل العظيم الذي ثار على غير عادته في عز الصيف وابتلع مصطفى سعيد وضاعت جثته في مياهه الهادرة كما ضاعت حقيقته في التاريخ والمجتمع على حد سواء.  

وتندرج هذه الرواية أيضا ضمن بعض المصنفات السردية "الملتزمة" بمقتضيات ثيمة مسبقة ( العلاقة بين الأنا والآخر)، أو هكذا نظر إليها أغلب النقاد زمن صدورها وبعده. وفي جميع الحالات، فإننا لا نستطيع هنا أيضا، ونحن نقتفي أثر الماء ورمزيته في النص الروائي، أن نتجاهل هذه الأحكام، أو نغض الطرف عما حدث قبل هذا الماء وبعده. "فغزوات" البطل وجرائمه في لندن هي جزء من هذه الذاكرة المائية، بل لا يمكن فهم الغرق إلا استنادا إلى تفاصيل الموت والجنس العنيف في " بلاد تموت من البرد حيتانها" كما تقول الرواية. والحاصل أن النص الروائي، لا يمكن أن يكون مجرد وصف لحادث عارض يتعلق بموت فلاح سوداني مغمور في أعماق النيل، بل يشير إلى موت رمزي يتجاوز الفرد لكي يشمل حقائق لها موقع في التاريخ والحضارة وتدبير العلاقات التي يمكن أن تقوم بين ثقافات متفاوتة في النمو وفي تقدير الأشياء، وخاضعة، بالإضافة إلى ذلك، لموازين مختلة.

وعلى عكس الروايتين السابقتين اللتين تخضعان لإكراهات عقَدية مسبقة لا تحتمل التشكيك والتردد، وتقتضي تجنيد " جموع" هي الفاعل الكلي الذي يتحقق على أكتافه " التغيير الشامل"، فإن رحلة البحث هنا، وهي رحلة مفترضة من خلال الغرق ذاته، هي رحلة فردية لا يمكن أن تنتج عنها سوى حسرة الذات على نفسها. فهي تتم خارج أية غاية سوى ما يمكن أن تشير إليه رغبات فرد منفلت من عقاله يريد أن يمسك باللذة في مظانها حيث هي، لحظة تعيد للذات قدرتها على ممارسة " فعل حضاري" فوق أجساد العذارى. يدل على ذلك القاموس الذي يستعمله مصطفى سعيد في " الاقتناص" و" الاستدراج" و" الإجهاز" على " الطريدة" " بمدية" ما رأت بنات أوروبا مثيلا لها. وهو سلوك لا يمكن وضعه في حساب رجل مهووس بالدم والرغبة المريضة في الانتقام، فهذا مسار سردي تستهجنه رمزية العالم الذي تسقطه الرواية، بل يجب تقدير مداه من خلال موقعه داخل دائرة الفعل اللاحق ( مشهد الغرق )، وإلا لكان الجزاء القانوني في لندن كافيا لوضع حد للنص الروائي، لأنه يشكل وفق هذا المسار السردي إشباعا حقيقيا.

 استنادا إلى ذلك، فإن الرواية لا تصف فعلا قابلا للتعقل من خلال استراتيجية، بل تضع استراتيجية لا يمكن استيعابها إلا من خلال فعل معزول تمارسه ذات معزولة بالحقيقة والمجاز. وضمن هذه الاستراتيجية يجب تأويل المصير المأساوي لهذا الرجل، فخارجها لا معنى لموته في النص وخارجه. وضمنها أيضا يصبح النيل هو القوة الطبيعية الوحيدة القادرة على استيعاب الطاقة التدميرية التي تختزنها الذات. لقد لفظه صقيع الشمال، ولم تستطع شمس الجنوب ترويضه، ولم يكن هناك سوى الفيضان، في ليل مظلم، من له القدرة على اجتثاثه إلى الأبد.

وهذا ما يفسر انزياح هذه الرواية عن النمط السردي السائد في الروايتين السابقتين. فالسرد فيهما خطي يسير وفق إيقاع تصاعدي تعبيرا عن " تصريف عقلاني " لانفعال جماعي، حيث يتحدد موقع الفعل الفردي ضمن" غاية" هي تجميع لكل الأفعال الموصوفة في النص. لذلك، لن يكون استعمال الماء سوى استعمال جماعي من خلال كثافته ( الشراع والعاصفة) أو باعتباره عينة رمزية دالة على غرق أسطوري ( أولاد حارتنا). أما في رواية الطيب صالح، فإن الأمر خلاف ذلك، فالسرد متشعب، يبدأ من حيث انتهت الأحداث، وينتهي حيث كان يجب أن تبدأ. لذلك فهو لا يخضع في نموه إلى تراكمات كمية توحي بتغيير أو توهم بتحولات تسقط مضامين معكوسة بلغة السميائيات السردية. إن الرواية لا تحقق شيئا من خلال الفعل، فحقيقتها الأولى والأخيرة هي غرق مصطفى سعيد واختفاء جثته، وهي اللحظة القصوى الدالة على زمنية اطرادية لا راد لقضائها، كما يرمز إلى ذلك النهر الذي لا يتوقف.

ومن هذه الزاوية يمكن استيعاب النمط السردي السائد في النص الروائي. إن السارد يسرب الزمن على شكل كميات غير محددة بطولية غائية، بل يفعل ذلك من خلال قدرة الزمن المنتقى عل استنفار طاقة يمكن أن تسهم في فهم " ظاهرة" مصطفى سعيد الذي ظهر واختفى، إنه يعود إلى الخلف ليلتقط لحظات موزعة على مدد زمنية متفاوتة في القيمة والحجم، ولكنها مرتبطة في كليتها بمحاولة تحديد حجم انفعال فردي لا يمكن أن يقود بالضرورة إلى هدف بعينه.

وذاك هو المبرر، فيما يبدو، وراء اختيار ماء النهر نظيرا رمزيا لما يمكن أن يكشف عنه الوجه الحدثي للسرد. وللنهر إيحاءات لا تحصى. فلقد كان دائما مثار دهشة الإنسان وحيرته، فهو الحركة المجهولة المصدر والمآل، إن ماءه خطي ينساب دون توقف، قد يتمهل وقد يرفع من إيقاع دفقه وقد تفيض جنباته ويكتسح في طريقه كل شيء، ولكنه لا يغير من مجراه أبدا. إنه شبيه بالدرب الذي يحيل على الحياة، وشبيه بالقمر في حالاته المختلفة. لقد شكل في الأساطير الكوة التي يطل منها الإنسان على العالم الآخر، لذلك وضع فيه توابيت موتاه وأقام لهم طقوس الوداع على جنباته. إنه ليس مغلقا كالبحر وليس شلالا يسقط من عل كما هو الماء في الدهليز، إنه هنا إحالة صريحة على الزمن بكل صفاته: دلالة على الحياة التي لا تتوقف ودلالة على الموت ودلالة على الخصب والتطهر أيضا. ولذلك فهو يختلف عن ماء البحر المكتف بذاته في الفضاء وفي الزمان، ويختلف عن ماء الشلالات، ماء السيول التي تظهر فجأة فتجرف وتقتل وتختفي. إنه ثابت في مكانه: يأخذ ويمضي، وقد يأتي بما لم تتوقعه ( اجلس على ضفاف النهر وانتظر، ستطفو جثة عدوك لا محالة، يقول مثل هندي)، ولكن مياهه لا يمكن أبدا أن تستعاد، إنه القضاء الذي لا راد لها، إنه شبيه بالتاريخ الذي يمضي ولا يتوقف ولا يعيد نفسه أبدا. وذاك سر إصرار الرواية على أن تجعل الفيضان في عز الصيف، تأكيدا لنشاز حالة وغرابتها.

 لذلك ما كان للرواية أن تسقط الموت خارج الماء العنيف، فلم يكن مقبولا أن ينتحر أو يُقتل أو يسقط في بحيرة أو في بئر، بل لم يكن من الممكن غرقه في البحر ذاته، فماء البحر مغلق ولا يمتلك ما يكفي من الإشارات الدالة على الزمن، إنه يحتوي على الغضب وعلى كل إمكانات الموت، ولكنه لا يمكن أن يكون سندا لمضمون يؤسسه العنف الزمني في تدفقه الأبدي. لقد كان محكوما على مصطفى سعيد بالموت في قلب النيل في حالة فيضانه العاتي. إن الأمر يتعلق بإحالة مزدوجة: ما يمكن أن يحيل على الزمن، فالنهر شبيه بالدرب، فهو أيضا يوحي بالحياة التي تسير إلى الأمام دوما. ومن هذه الزاوية، فإنه يؤكد استحالة استعادة الكم الزمني، فنحن لا نبدأ من جديد، ولكننا نواصل السير إلى الأمام. لقد كان مصطفى سعيد، وهو يحاول استعادة مجد ضاع، يمارس أبشع حالات الانتقام، لذلك لم يمنح محيطه سوى الموت، حتى المرأة التي تزوجها في الريف السوداني وأنجب منها لم تسلم من رائحة الموت فيه فقتلت زوجها وانتحرت. لقد كان بتعبير الرواية " بقعة مظلمة" ص 69. ولن تستوعب هذه البقعة إلا ضمن ظلام أشد حلكة وسوادا. وسيكون النيل الهائج في هذه الحالة هو القوة القادرة على اجتثاث هذا الظلام نهائيا لتستفيق القرية وقد اختفى مصطفى سعيد إلى الأبد. لقد جاء من الظلام، وعاد إليه.

ويشير، من جهة ثانية، إلى حالات التطهير، والتطهير ليس الطهارة، إنه التخلص من الأدران عبر بتر العضو الحامل لها. لقد كان جسما غريبا في القرية، رغم " توبته"، كان شخصية تختفي وراء سلسلة من الأقنعة التي لم تفلح في السيطرة على وجدان متقلب، فابتلعه غرين النيل وغيبه في ظلمات الليل والعاصفة وقلب الأرض. إن الأمر يتعلق باجتثاث كلي سيكون هو المدخل إلى إسقاط حالات غرس جديد، وهو ما يفسر اختفاء الجثة: فالقبر دال على حالة من حالات استمرار الحياة في الوجود.

لذلك لا يستثمر النص في بناء رمزيته إلا الحالة الدالة على الماء العنيف من أجل تسريد النهر. إنه يلتقط هذه الرمزية لكي يوظفها إلى أقصى الحدود لا لغياب البحر في السودان، فللسودان بحره، بل لأن النهر وحده في حالة هيجانه يمكن أن يستوعب قوة العنف التي وضعتها الرواية في الكلمات وفي السلوك وفي الإيقاع الحياتي لمصطفى سعيد، ومن خلاله اقتلاع جذور العنف الفردي العديم الجدوى، والاحتفاء بالدفق الحياتي خارج رغبات الأفراد ونزواتهم.

إن غايات البطل موجودة خارج غايات الرواية، بل إن الرواية لا تتحقق إلا من خلال انكسار البطل وعودته نسيا منسيا في قرية ريفية بلا قيمة. فحتى حالة الغرق التي تعد مفصلا مركزيا في الرواية لا يخصه السارد بمشهد خاص، بل يورده بشكل عرضي على لسان الفلاحين أو من خلال ذكريات زوجته. مما يوحي بأن الغرق كان حتميا. فالنبتة لم تمد جذورها طويلا في تربة القرية.

وهو الاختيار الذي يزكيه السرد حين يفضل ألا تظهر جثة مصطفى سعيد. إن ظهورها قد يقلل من قيمة الفيضان، ولكنه قد ينزع عنه أيضا بعده الرمزي الكلي، فهو لم يكن إنسانا، لقد كان فكرة حاضنة لسلسلة من الوضعيات، أو حالة تختصر حضارة بأكملها كما يمكن أن يفهمها الفرد، لا كما يمكن أن تستوعبه عقيدة للتغيير:

" أحيانا تخطر لي فجأة تلك الفكرة المزعجة أن مصطفى سعيد لم يحدث إطلاقا وأنه فعلا أكذوبة أو طيف أو حلم أو كابوس ألم بأهل القرية تلك ذات ليلة داكنة خانقة ولما فتحوا أعينهم مع ضوء الشمس لم يروه " ص 59 .

وتلك هي النقطة المركزية الرابطة بين الروايات الثلاث في استعمالها للماء العنيف. لقد كانت أولاد حارتنا تبني استراتيجية الفعل داخلها استنادا إلى مدد قصصي يبرمج الفعل فيها بشكل سابق على شكل طاقة رمزية تبحث لها في الوعاء المعاصر عن عناصر تستعيد من خلالها قوتها الرمزية. فكان استعمال الماء استعمالا جماعيا تعبيرا عن خلاص جماعي يسقط الانتماء إلى الأب ( لا يهم أن يكون الجبلاوي دالا على الله أو على لحظة في الزمنية الإنسانية )، فالأمر  ليس سوى مدخل لاستشراف الرغبة في العودة إلى ما يبعث الطمأنينة الكلية وهي رحم الأم.

 أما في الثانية فقد كان الماء العنيف مودعا في الأمواج، باعتباره النظير الرمزي لعنف اجتماعي يستطيع البحر، أن يتحول إلى وجه رمزي له. لذلك، لم تكن العودة إلى البحر أو الخروج منه دلالة على خلاص فردي، بل هي محاولة لتطويع العاصفة في البحر لتصبح الوجه الآخر للعاصفة الطبقية التي تقتلع جذور الظلم. ومن هذه الزاوية أيضا كان استعمال الماء استعمالا طبقيا يسقط حالات خلاص اجتماعي مجسدا في أب من طبيعة أخرى هي العودة بالمجتمع إلى حالة مساواة مطلقة.

وتقدم موسم الهجرة، حالة مخالفة، فكل عناصرها تقود إلى البحث عن خلاص فردي. إنها رحلة فرد معزول يشكو من غياب أي غطاء عقدي. لذلك لم يستعمل الماء، بل كان موضوعا للماء. لقد جرفه عنف النيل ليخلصه من عنفه الخاص. فما هو أساسي ليس ظلام الليل والعاصفة كما هو الأمر في الشراع والعاصفة، بل الظلام الذي يسكن مصطفى سعيد، فهو ما يشكل الرديف الحقيقي لعنف الماء. لقد تاه مصطفى سعيد بحثا عن خلاص فردي فابتلعه المياه.

---------------

هوامش

1- Gaston Bachelard : L’eau et les reves , éd livre de poche, Paris 1942, p 190

2- نفسه ، ص 190

3- نفيه ص 190

 

 

 

 
 
معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقـة تعريـف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع  خزانات الموقـع  صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

موقع سعيد بنگراد - تاريخ الإنشاء: نونبر 2003