معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقـة تعريـف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع  خزانات الموقـع  صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

سعيد بنگــراد

السرد النسائي أو الفحولة المسترجلة*

 

 

 

سنحاول في هذه الصفحات الكشف عن خاصيات بعض النصوص الروائية التي تصنف صمن " السرد النسائي " ( لا كل السرد النسائي ). وهي نصوص احتفت بالجسد وحده باعتباره البوابة الأصلية لكل تحرر. ومع اعتقادنا الجازم في حق المبدع ( والمبدعة ) في أن يكشف عن ذاته ومحيطه بالطريقة التي يشاء، فإننا لا نمنع أنفسنا من حق الكشف عن طريقة تشكل هذه النصوص وتحديد بعض سماتها النصية : الوصف والسرد في المقام الأول.

  وسنقوم بذلك من خلال التصنيفات المسبقة المودعة في اللغة، أداة التمثيل الأولى ومصفاته. فالصفة في ذاتها حكم مسبق يفصل ويعزل ويثمن : إن الكتابة بالتعميم كتابة رجالية، أما الكتابة النسائية فهي للمرأة بالتخصيص، والتخصيص دال على لاحق في الزمان: الأولى نظام يشتمل على كل القوانين المؤسسة للنوع، أما الثانية ففرع لا يحقق سوى جزء يسير منه. إن نموذج قياس كل شيء ليس غريبا عن هذه الصفات: إن الكتابة النسائية ليست سوى محاكاة للكتابة، فالكاتبة بارعة قدر اقترابها من النموذج الرجالي.

والأمر لا يقتصر هنا على التصنيفات الأولية التي تحضر من خلالها المرأة في اللغة من حيث التذكير والتأنيث والصفات التي يأتي بها منطق التداعي والمعاني الإيحائية اللاحقة، فتلك حقيقة أصبحت من بداهات البحث السميائي المعاصر، بل يشمل صيغ التمثيل وتقنيات الوصف واستعادة الحدث وبنائه وفق إكراهات الفن السردي، الروائي منه على وجه الخصوص. فمضمون ما يقال ليس مفصولا عن طريقة قوله، والكلمة لا تقود بالضرورة إلى المعنى المنشود، فقد تُضَيِّع في طريقها جزءا منه أو تلتقط ما سها الوعي عنه. ونحن، في جميع الحالات، لا نبحث عن معنى، بل نبحث عن ظلاله؛ فالمرئي كالعري لا يغري، لأن الإغراء ليس فعلا بل وعد بفعل.

وبعبارة أخرى، يجب رفع اللَّبس عن التفاوت الممكن بين القصد المعلن سرديا ووصفيا ( ما تود الساردة قوله حقا)، وبين القصد الخفي الذي لا يمكن التحكم فيه لأنه قصد اللغة ذاتها، وقصد " الوضعيات السردية المسكوكة"، كما هي مثبتة في الموسوعة الثقافية ( الفعل السردي )، وفي الطبقات الدلالية التي تشتمل عليها الكلمات في استقلال عن السياق الحدثي المباشر ( الفعل الوصفي). وأمر ذلك بين، فالإيديولوجيا ليست بالضرورة موقفا مسبقا، فهي لا تشترط الوعي ولا تستدعيه، فالتفاصيل هي ما يستهوي الإيديولوجيات، أما الوضعيات الإنسانية الكبرى فمكشوفة.

وقد لا نذيع سرا إذا قلنا إن النظام السردي قائم أساسا على مبدأ القيمة الذكورية التي تحدد من خلالها مردودية فعل الرجال والنساء سواء بسواء، وهذا المبدأ هو بؤرة الغاية السردية: التمثيل لقيم استعمالية عارضة، أو لقيم أساسية تخص الهوية وأشكال تحققها (قيمة الامتلاك أو قيمة الكينونة ). وفي الحالتين معا، فإن البطل يستعيد ما ضاع منه أو يغير هويته من خلال الارتباط بالبطلة/الموضوع. والموضوع أصلا ليس كذلك إلا من خلال مبدأ الرغبة، وخارجه سيفقد كل مردودية سردية. ووفق هذه المبادئ " الكونية " تحددت المعالم الأولى للتشخيص السردي.

استنادا إلى صور المتخيل هاته، وهي كثيرة، يتحول الانتصاب إلى فعل كلي يشمل التفكير والهيجان الجنسي ضمن استعارة عجيبة تجمع، ضمن ثلاثية أصلية، ثلاثةَ أفعال تنتمي إلى دوائر مختلفة: " فعل الخلق" و" الفعل الجنسي" و" فعل الإبداع الفني"، وهو ما يبدو من خلال المبدأ المنظم للعماء الذي يخلق من الكلي العديم الشكل سلسلة من الكيانات المتميزة عن بعضها البعض. وستكون المعرفة، على هذا الأساس، " نظاما يفرضه الذهن على فوضى الحواس" (1). إن موقع هذه الصورة معروف في الفكر التناظري. فأصل الاختلاف هو التقابل بين المذكر الولوجي وبين المؤنث الاستيعابي. وسيبدو الأول، بالتناظر وحده، إيجابيا بالضرورة، وسيحضر الثاني في الذهن من خلال سلبية مزعومة.

إنها استعارات بالغة الغموض وعادة ما تفقد، في التداول اليومي، دلالتها العامة لكي تستقر على صورة جنسية هي ما يشكل في قاموس التداول مدلولها النهائي والأوحد. لذلك، فإن مداها لا يقف عند حدود نسج مواقف تحدد لكل جنس موقعا داخل التبادل الاجتماعي بكل إكراهاته، بل تتسرب إلى مجمل الصور المخيالية التي يستمد منها الفعل السردي مادته في التمثيل لوضعيات مشخصة، ومنها عوالم المرأة، سواء تم ذلك من خلال قصة المرأة أو تحقق من خلال الضمير الأنثوي الذي يستثير، من خلال التشخيص السردي، عوالم المرأة : تتحقق المساواة الجديدة من خلال اللغة ذاتها، فلن تستعيد المرأة هويتها كمعادل تام للرجل إلا من خلال التبني الكلي لعوالم المذكر والثقة في تقطيعات المتخيل في لغته.

ولقد تسربت هذه التحديدات المسبقة، البيولوجي منها والثقافي على حد سواء، إلى وجدان المرأة، وجعلتها منطلقا لإثبات ما لا يمكن إثباته، لأنه أمر مثبت، خارج الاستقطاب الثقافي العارض، في الأصل وفي المنطلق، في البيولوجيا وفي التقسيم الاجتماعي للأدوار. إن الاسترجال حالة ثقافية عامة تتحقق من خلال " الاستعمال الحر للجسد"، استعمال يجب أن يتم خارج المؤسسة وضدا عليها، وهي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يتحقق من خلالها الاسترجال النسائي باعتباره صورة مثلى للمساواة. فاستنادا إلى التفوق الذكوري المستبطن، تود المرأة في الروايات، أن تأتي إلى الوجود الرمزي المضاد من خلال البوابة نفسها، فاتحة تغزو القلاع الذكورية الحصينة فتوجه السرد إلى ما يحيل على دائرة حدثية منفتحة على تداعيات تعيش في الوصف الكثيف على شكل استيهامات تستعيد من خلالها موقعها الإيجابي : تتقلص كل فضاءات الفرجة الحياتية وتغيب تفاصيلها لكي لا يبقى هناك سوى الجسد ممرا وحيدا لبناء الحدث واستعادة الذاكرة المفقودة من خلال إعادة رسم حدود الفعل الأنثوي ضمن وضعيات تمتشق فيها الأنثى سيف الفحولة لتفعل في جسدها ما تشاء. إنها بذلك تحاكي سلوك المذكر وتتبنى دوائر فعله.

فعندما تخلصت المرأة من سلطة الرجل اكتشفت سلطتها في جسدها. إنها تسرد الانتصاب النسائي من خلال إدراج الفعل المنجز آنيا ضمن سياقات ثقافية تمتح من التراث قوتها ورمزيتها، حيث " يحق للمرأة النخير والشهيق لحظة الرهز"، و يحق لها تصوير مكامن اللذة خارج لغة العشق العذري الذي يكتفي بخلق حالات الاستيهام ( يأتي المفكر ليغنم وينتشي و" يداعب العسل" " ويضع أصبعه فيه "، برهان العسل، سلوى النعيمي، و"تعطي نفسها بسخاء، وتترك نفسها على سجيتها تعوم في ملذات خدر شهي وهادئ مع  تلميذ في عمر أبنائها، لأن ذلك يوازي استمتاع كهل بجسد شابة" ضجيج الجسد، هيفاء بيطار).

إنها وضعيات لا تنتمي للسرد إلا من باب التمثيل التوضيحي، حيث يتحول الفعل السردي إلى طاقة إقناعية، كما تقتضي ذلك آليات المحتمل، والمحتمل صيغة للتمثيل لا يمكن أن تتحقق إلا في وضعيات مشخصة تزدري البرهنة الحجاجية، ومنها الوضعيات السردية.

ولكن دون التساوي في ذلك ممكنات الصور الثقافية المسبقة. استعمالان مختلفان للجسد : الجسد في كتابات الرجل مناسبة لإثبات القوة والفحولة والتفوق والزهو، وهو في كتابات المرأة آلية من آليات الإغراء : بين الولوجي والاستيعابي تتسرب الاستعارات المسبقة التي تفصل بين الإبداع الأنثوي الذي يتملى الجسد ويتلذذ في وصف تضاريسه ونتوءاته وأشد تفاصيله استعصاء على التخيل وأكثرها استجابة للاندفاع الإيروسي، وبين نظرة ذكورية لا تكتشف الجسد إلا في حضور المؤنث المهيج والمغري والدافع إلى الانتصاب. فالمرأة لا يمكن أن "تدك الأرض دكا"، ولا أن " تمتطي الرياح" ولا" أن تسافر في عمق الأشياء"، فهي الأرض والرياح والعمق، إنها استعارات من صنع مخيال ثقافي يتصور الجنس معركة ويحول كل الأشياء إلى أدوات جنسية و" تنتصب " الأفعال بين يدي الرجل، فهو يلج ويركب ويمتطي ويدك وينقض ويستولي ويأخذ ويلقي بموضوعه أرضا أو على السرير.

عناوين بعض الروايات دالة في هذا السياق : " جسد ومدينة " زهور كرام،" ذاكرة جسد " و" فوضى الحواس" و" عابر سرير "، أحلام مستغانمي " برهان العسل " لسلوى النعيمي، " ضجيج الجسد " هيفاء البيطار، و غيرها كثير. قصص شتى مبرمجة بشكل مسبق في الذاكرة الجماعية تدعو كلها إلى " استراق السمع" لمغامرات تستثير اللذة المحرمة، ولكنها لا تتسرب إلى الوجدان إلا على شكل طرائف سرعان ما تحتل موقعها الطبيعي داخل المرويات العادية. فالحدث داخلها لا يبنى، إنه مستعار من وضعيات مكشوفة التوقعات.

ضمن شروط الاستبطان هاته، لن يكون النشاط السردي فعلا واحدا، بخصوصيات واحدة، فعلا قادرا على استيعاب الموجود الخارجي في تنوعه. إن الفعل السردي، كما تثبت ذلك آليات التلفظ، ليس تمثيلا لحدث، بل هو صفة لوجود الحدث في المتخيل الجمعي، ووجود الحكم الإيديولوجي في اللغة. ومن هذه الزاوية أيضا، فإنه لا يطال سوى ما تبيحه الذاكرة باعتبار موقعها المخصوص في التاريخ وفي الموسوعة التي أفرزها. والموسوعة هي الذاكرة الثقافية الخاصة التي تشتمل على كل المواقف التصنيفية المسبقة التي تجعل المذكر أصلا لكل شيء، فهو الشدة والفحولة والقوة والجزالة، وكل الصور التي أنتجها فضاء مِذْكار لا يدخله إلا الذكر من الرجال. لقد عممت اللغة، لقرون طويلة، بل لآلاف السنين، بنيات استعارية عتيقة ترى في المرأة جارية وتابعا وخادما وموضوعا للذة. ورغم انتفاء شروط الاستعباد حافظت هذه البنيات على وجودها شاهدا على" أن الكلمة ليست تعيينا لشيء، بل دليل على وجود شخص يفكر في هذا الشيء" (2).

تحيل هذه البنيات، في واقع الأمر، على عوالم ذكورية لا تستوطنها سوى أفعال الرجال ولا يمكن أن تتسلل إلى نصوص الفن المؤنث إلا من خلال صوت ذكوري يأتي إلى القصة من خارجها voix off :" هو رجل الليل حقا" "... يضرم الرغبة في ليلها ويرحل " ، " يشعل كل شيء في داخلها ويمضي "، " تحبه كما لو أنه لن يأتي، كي يجيء "، " كي تقنعه أنها انتظرته حقا "، " فهي تدري كنساء البحارة تدري، أن البحر سيسرقه منها وأنه رجل الإقلاع حتما" (3).

فما الذي يجعل المرأة مقيمة خلافا للرجل المرتحل ؟ لا شيء سوى الأكليشيهات المسبقة التي استعارتها الساردة من ذاكرة تعمل في الأصل على استئصالها. إن الاستعارات الجنسية محدودة في ذاكرة السرد النسائي، لأن الفعل الحسي الأنثوي نهاية وليس مبتدأ ( أسطورة السيف الباحث عن إنائه). لذلك تجيد المرأة الكتابة عن الحنين إلى ذاك الغائب الذي سيعود حتما، " فهي من صاغ في التاريخ خطاب الغياب: إنها المقيمة، وهو الصياد المسافر، وهي الوفية ( إنها تنتظر) وهو الزير الذي تستثيره كل النساء. هي من خلق الغياب وخلق عوالمه التخييلية، ولها من الوقت الشيء الكثير للقيام بذلك. إنها تنسج وتغني (...) وكل رجل ينتظر فيه شيء من الأنوثة" (4).

وهو أمر يثبته نمط بناء عوالم هذا النوع من السرد النسائي – وربما هو ما يفسر، كما سنرى ذلك، وفرة الوصف الاستعاري وتقلص حجم الحدث السردي- . هناك فضاءات كثيرة في المخيال محرمة على الإبداع النسائي، فالمرأة لا تعرف الليل إلا في شرفة الانتظار، وهي لا تدعي ركوب الخيل ولا تشق الغابات إلا مسبية أو عرضة للاغتصاب. وهي الحالات التي حاولنا وصفها سابقا من خلال التأكيد أن العوالم التي تودعها الساردة نصها مصنوعة من وعي ذكوري تسلل إلى كلمات تجاهد على تخليصها من فحولتها التاريخية. إنها صور تحاول استثارة نقيضها من خلال ضخ حالات الانتصاب في اللغة التي تصف وتسرد وتخلق الوضعيات الإنسانية.

" كان يعانقني خلف الباب المغلق عناق الوداع ولا نستطيع فراقا. يقبلني ويقبلني، ولا أستطيع فراقا، وأركع أمامه وأنحني أفرك رأسي عليه وأريده أن يملأ فمي وأكاد أختنق لهفة وينتشر وأمتص لهفة شرهة حتى آخر قطرة وأرفع عيني إليه لأرى وجهه المعذب باللذة يتشنج مرميا إلى الوراء ويداه على شعري" ( برهان العسل ص 32).

إن تشخيص " الانتصاب النسائي" لا يتحقق في الحدث السردي، بل في معادلات موجودة في تضاريس الجسد الذي لا يمكن أن تُستثمر إمكاناته إلا من خلال الإطناب في وصف ما يحيط به، إنه يعشش في الوصف الاستعاري الذي يغطي على سرد لا يعد بالكثير من المفاجآت. ففي كل حركة هناك كم وصفي هائل يدفع بالحدث إلى التراجع ويذوبه في لغة لا تخفي أي شيء، ولا يستطيع السرد استيعاب كل ممكناتها إلا من خلال الإحالة على المسكوك والمعروف والمتداول : قصة المرأة في المجتمع وقصتها مع الرجل.

إن اللذة ليست فعلا، أي تسريدا لوضع يتم في الزمان ووفق إكراهاته، إنها استعادة استعارية يصر السرد النسائي من خلالها على منح الأشياء ذاكرة أخرى غير ما يقوله التعيين المباشر، إنها لحظة تشل الفعل وتدرجه ضمن حالات وصف يكبل السرد ويعوقه عن خلق مرجعياته الداخلية المفصولة عن الأحكام المسبقة. فبما أن المرأة لا يمكن أن تعيد تسمية العالم ولا أن تخلق كلمات بدلالات أنثوية مخصوصة، فإنها تستعيض عن ذلك بصفات مضافة قد تغير من هوية الأشياء، أو تمنحها بعدا أنثويا يقود إلى مساواة منشودة، ولن تستطيع  القيام بذلك إلا عبر الوصف.

إن احتماء الروائية بالوصف يعكس تقلص المساحات التي يمكن أن يستوعبها السرد في الذاكرة النسائية، لذلك لا تعتمد السرد إلا كغطاء عام، أي مجرد هيكل شكلي قادر على منح المضامين الوصفية نوعا من الحياة. وعادة ما تكون هذه المواقف السردية سلسلة من الوضعيات الإنسانية المألوفة في الذاكرة الاجتماعية. وتلك هي الحدود الفاصلة بين السرد والوصف: إن السرد مخيال أما الوصف فمعرفة مشتركة، إنها غطاء ثقافي يخصص ويسرب التلوين الإيديولوجي، إنه يكشف عن رد الفعل هنا والآن. إن " المعرفة ليست فقط نصا سبق أن تعلمناه، بل هي نص مكتوب في مكان ما " ( 5).

إن هذه الصورة المزدوجة تطال السرد النسائي كما تطال التمثيلات الممكنة للمرأة حدثيا ووصفيا. وليس هناك من تفاوت إلا في الضمائر أو في سلسلة المواقف المستوحاة أصلا من خزان مودع في الذاكرة الجمعية يتم تصريفه على شكل مواقف اجتماعية عادة ما لا ينكشف أمرها إلا من خلال تحققها في وضعيات قابلة للاستعادة السردية دون أن تكون في ذلك خاضعة بالضرورة لمقتضيات البناء الروائي.

إنه اختيار يقود بالضرورة إلى منح الوصف مساحة أكبر من مساحات الفعل السردي. ذلك أن كل تسريد للجسد يجب أن يمر عبر ممكنات الوصف باعتباره معرفة مركزية تحتفي بالتفاصيل التي أغفلتها عين المذكر وهي تشتهي الجسد خارج تفاصيله. استنادا إلى هذا الاختيار لن يشكل السرد سوى نواة صغيرة تقف وظيفتها المركزية في الإيهام بوجود حدث. يجب البحث عن الحدث الحقيقي فيما هو مدرج داخل المقاطع الوصفية، بصيغها الشعرية في المقام الأول. فالساردة لا تأتي إلى الأشياء ولا تستنطق طاقتها من خلال التوظيف السردي ( الحدث ذريعة فحسب)، بل تستحضر ظلالها من خلال الاستعارة، ففيها يخبئ الشيء جوهره. إن السرد حركة تسير وتلتقط العرضي لأنه مدرج ضمن الزمن المتحول باستمرار، أما الوصف فبحث عن تفاصيل الشيء في الفضاء الثابت.

" قبل الحب بقليل، في منتهى الالتباس، تجيء أعراض حب أعرفها. وأنا الساكنة في قلب متصدع الجدران، لم يصبني يوما، هلع مقبل كإعصار.

كنت أستسلم لتلك الأعاصير التي تغير أسماءها كل مرة، وتأتي لتقلب كل شيء داخلي.. وتمضي بذلك القدر الجميل من الدمار ".

كنت أحبهم، أولئك العشاق الذين يزجون بأنفسهم في ممرات الحب الضيقة، فيتعثرون حيث حلوا بقصة حب وضعتها الحياة في طريقهم"( فوضى الحواس ، ص 43).

ليس هناك إذن سوى الجسد أداة لاستعادة " ما أضاعته وما سرق منها خلسة"( أحلام مستغانمي ). إنه منطلق كل التمثيلات المخيالية التي تحاول إعادة تشكيل الخريطة الإنسانية – بكل أبعادها- من خلال عيون مؤنثة : ليس هناك أكثر من الزنوج قدرة على استنطاق أجسادهم، فعندما يستولي السيد على اللغة وعلى كل فضاءات المتع لن يبقى هناك سوى الجسد أداة مثلى للمقاومة : كنت تأخذ جسدي عنوة، فها أنذا أعطيك إياه طواعية، سأسكنه اللغة لكي ينتج استعاراته بعين المؤنث، لا كما يأتي إليه المذكر. إن جسد المرأة هو بوابة الريبة من الزمن، إنه ليس كلا وليس جزءا بل خطوط الحساسية وخارطة للحنان دائمة التحول، فهي لا توجد في الجسد، بل في اللغة التي تصف، وفي العين التي تتكفل بالمضاف الذي تخلقه التمثيلات اللسانية المفتوحة بطبيعتها.

وهي طريقة أخرى للقول إن استعادة ما ضاع لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال إطلاق العنان للحواس كي تقول ما لا يمكن أن يقوله العقل، إنها وحدها قادرة على خلق حالة من المساواة بين الذكر والأنثى. ربما يتعلق الأمر باستحضار لا واع " للحظة المركزية " في الليبدو كما يتصوره فرويد، قوة من طبيعة واحدة، تنظم النشاط الجنسي خارج الاستقطاب الثنائي الأنثوي والذكوري. وهي الصيغة الشهيرة التي تصنف الأنثى كذكر غير مكتمل.

وهو ما يمكن إدراجه، وفق قوانين البناء السردي، ضمن التقابل بين " ذات فاعلة " وبين" ذات ثيمية " تمتح عناصر تشكلها من النص الثقافي السابق في الوجود على النص : الذات والموضوع، الذكر والأنثى. وهو تقابل يستعيد بشكل ضمني التقابل بين السلبي والإيجابي، ولكنه يمكننا أيضا من فهم الوضع الإشكالي لذات فاعلة لا يتحقق فعلها إلا من خلال فعل آخر. إن الأمر يتعلق بتدليل سابق على مسارات التشخيص السردي : ترفع المرأة سيفها عاليا لتسلمه إلى الفارس الذي يأتي ليملأ الإناء  ويمضي.

إن الساردة في حاجة إلى الوصف الكثيف، فهو الوسيط الذي يقوم بملء الفراغ الفاصل بينها وبين العالم الخارجي. إن السرد الذكوري " عفوي" يتحقق من تلقاء ذاته، أما السرد النسائي فمحجوز في الذات التي لا تعرف كيف تجعل الحدث أداة للتخلص من أناتها، حينها يصبح الوصف هو المدخل الطبيعي لذلك. وربما يعود ذلك إلى التصورات المسبقة عن علاقة الرجل والمرأة بجسديهما،" فالرجل يدرك جسده باعتباره علاقة مباشرة وطبيعية مع عالم خارجي يحضر في ذهنه من خلال موضوعيته، أما جسد المرأة فمثقل بما يخصصه " (6).

 وهذا التباين في طبيعة هذه العلاقة هو الذي يجعل الجسد النسائي أكثر حضورا في النص الروائي من جسد الرجل : تتحدث خديجة مروازي بلسان ذكر ( هو)، ولكنها لا تستطيع خيانة الأنثى داخلها، فتستعمل في صفحة واحدة كلمة " جسد " 5 مرات، دون أن نتحدث عن الإشارات المتتالية إلى أعضاء كالساقين والفخذين : " حيث جسدي على مسافة مني" ، "جسدي شاحب إلى حد الفجيعة "، " وألمس جسدي حتى يعاودني التعذيب " و" ...يتلو الآخر تحت جسدي الانهيار" " لملمت جسدي " ( سيرة الرماد ص 10). ولست في حاجة إلى التأكيد أن الرجل لا يتحدث عن جسده، وإذا حصل ذلك فإنه يستعمل كلمة " جسم".

إنها بذلك تتأنسن من خلال الجسد ذاته، ذاك الذي كان بالأمس أداة استعباده أو بؤرة لإشباع خارجي. إنها تضع رغبتها في الكلمات قبل أن تضعها في الجسد وفي أطرافه. إن الجسد لا يكون إلا من خلال السرد، لكن السرد يستعصي عليها، يتضاءل حجم الأحداث ليتحول إلى مجرد سبر لأغوار ذاكرة مباشرة نادرا ما تسافر إلى ما هو أبعد من الجسد واستيهاماته. إنها تملك كل شيء، التاريخ والوقائع والدلالات، ولا ينقصها سوى أبطال قادرين على لعب أدوار مرسومة بدقة في نصوص الفرجة الحياتية.

بل إن الوصف يتحول في كثير من الأحيان إلى الحالة السردية الوحيدة الممكنة، مع كل ما يمكن أن يحيل عليه من تقابل بين الفعل السردي ومقتضياته، وبين فعل الوصال المضاد بطبيعته للحركة. إن الوصف على عكس السرد ليس محكوما برؤية تبشر بنهاية، فهو ممتد في الكلمات لا في الفعل، وفي الأشياء لا في مردوديتها السردية، إنه فرصة لاسترداد النفس أو الهروب من المواجهة. أما السرد فموقف يبنى ورؤية قد تصح أو لا تصح، إنه يستند إلى قوة المخيال واتساعه وقدرته على خلق نظام كوني مصغر استنادا إلى ذاكرة ممتدة في كل الاتجاهات، إن الإبداع انزياح عن المألوف.

وهذا هو الحد الفاصل بين كتابة تنتج معانيَ وبين كتابة هي إخراج سردي لمعان يتداولها الناس في النكات والمواقف المسكوكة.

والأمر لا يتعلق بقصور في التمثيل أو بنضوب في الخيال، بل سببه محدودية الذاكرة المؤنثة التي تستوعب هذه الفضاءات على شكل " مساحات " فارغة لا يسكنها الفعل. إن هذه العوالم " مبرمجة "، بشكل متحيز، في الذاكرة الثقافية العامة وفي اللغة باعتبارها معدة لاستقبال أفعال لا تندرج ضمن دائرة " اهتمام " النساء، فحين يركب الرجل فهو فارس تستهويه القفار والليل والفضاءات الوعرة، وحين تركب المرأة فهي في هودج يحميه الحراس من كل جانب – على شكل جمل أو سيارة من آخر موديل، لا يهم-.

إن الوصف لا يتعلق في هذه الحالة بمحاولة لتنظيم المرئي المباشر، فتلك عوالم تحضر في الذهن من خلال المفترض الاجتماعي، بل يحل محل السرد ليكشف عن هوية أخرى عادة ما لا يلتفت إليها الوعي المذكر. يتعلق الأمر بالتمثيل لمشاهد مألوفة في الذاكرة الثقافية. ما يشبه الأطروحة التي تقوم على موقف فكري مجرد يحتاج إلى التشخيص لكي يتأنسن ويحتمي بسياقات تخصصه وتحوله إلى إيديولوجيا يدعو معناها المباشر إلى الإدانة الصريحة، وذاك هو القصد الصريح المودع في اللغة ولا يكلف القارئ سردا إلا وسعه.

لكن دلالات الملفوظات المتحققة ليست من الطبيعة ذاتها، فهناك المعطى، وهناك سياقاته المباشرة. ومن هذه الزاوية، فإن المشاهد ملغومة، من حيث الحمولة الإيديولوجية ومن حيث القصد المسبق. فما ينتمي إلى البعد السردي يتشكل من خطاطات متوقعة تندرج ضمن معرفة مألوفة عند القارئ، ما توحي به التوقعية السردية، فهي جزء من موسوعته ( ما يطلق عليه في الأدبيات السردية بالأشكال الكونية ). فالوضعية السردية المسبقة تنتمي إلى الموروث، أي إلى الخبرة الإنسانية في علاقتها بالزمن وفي علاقتها بالأحكام الاجتماعية : هذا موقف مدان دينيا أو اجتماعيا أو أخلاقيا، ويمكن أن نمثل له بكل المواقف التي يمكن من خلالها تشخيص " الوضع النسائي" والتعبير عن إدانتنا له.

وفي المقابل هناك معطيات الوصف، وخصوصيات التلفظ التي تمنح الوضعية أبعادا أخرى تحولها من مجرد ذاكرة تستعيد إلى سياق يخصص. إن الدلالة الثانية هي الأهم وهي الأساس، لأنها تُطَبِّع الثقافي وتحوله إلى سياق مقبول. إن الحكم لا يضع حدا " لجرم مشهود"، بل يؤكد الغلبة الذكورية، فالامتلاك حالة طبيعية، فقط يحتاج شكله إلى تعديل، وهو دليل مضاد لما يمثله الحدث السردي.

هوامش

*- نشر هذاالمقال بمجلة " متابات معاصرة العدد 77 2010

1- Pierre Guiraud : Sémiologie de la sexualité, éd Payot 1978, p73

2-: L’idée et la forme, éd P U F , que sais-je, 1979, p 10   J Claret والقولة منسوبة إلى بول فاليري

3- أحلام مستغانمي : فوضى الحواس ، دار الآداب، 2007، ص 10 -11

4- R Barthes : Fragments d’un discours amoureux, éd Seuil, 1977, p20

5-   Philippe Hamon M Introduction à l’analyse du descriptif, éd Hachette université, 1981, p51

6- Simone De Beauvoir : Le deuxième sexe I , éd folio, 1949-1976, p 17

 
 
 
معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقـة تعريـف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع  خزانات الموقـع  صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

موقع سعيد بنگراد - تاريخ الإنشاء: نونبر 2003