معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقـة تعريـف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع  خزانات الموقـع  صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

سعيد بنگــراد

الصــورة الإشهارية

وتمثلات " الساخن" و"البارد"

 

 

سأحاول في الصفحات الآتية تحليل ثنائية " الساخن " و" البارد" كما يتم تمثيلها بصريا في بعض الوصلات الإشهارية هنا عندنا أو هناك عندهم. ولست في حاجة، فيما يبدو لي، إلى تأكيد موقع هذه الثنائية وأهميتها في وجودنا المادي الواقعي، وأهميتها أيضا في وجودنا الرمزي الاستعاري الممتد بعيدا في ذاكرة الإنسان الأسطورية والدينية والخرافية. فمنذ أن بدأ الإنسان يعي ذاته ويتسلل شيئا فشيئا من كهوفه مكتشفا إمكانات وجوده ضمن فضاءات قارة كانت النار، وهي العنصر المولد " للساخن" في جميع تجلياته، مصدرا لنمو هذا الوجود وتطوره. تماما كما كانت السيطرة على الماء و"تدجينه" هي المدخل نحو خلق حالة استقرار، ستغير من شروط وجود الكائن البشري على الأرض.

وكما سنرى لاحقا، فإن الوجه الدال للنار لا يقتصر على تحديد حاجات الإنسان الأولية الضامنة لتوازنه النفسي والطبيعي، بل يتعداه إلى الإحالة على كل الصيغ الإيحائية المعبرة عن الجنس وملكوته من خلال تمثيلات استعارية تارة ( القاموس اللغوي الذي يعج بتعابير الحب النارية )، وتارة أخرى من خلال رمزية الفعل الجنسي ذاته حيث يشار في كل الثقافات إلى أن إحالة النار على الجنس مستوحاة من التقنية الأولى التي استعملها الإنسان لاستثارتها، وهي تقنية قائمة، كما هو معروف، على حك غصنين جافين بعضهما ببعض، وهو ما يشير إلى الفعل الجنسي القائم على الاحتكاك بين ذكر وأنثى. بل إن النار وأحد مشتقاتها المباشرة، ونعني به الساخن، قد تصبح دالة على أحكام عنصرية مقيتة تصنف الكائنات الإنسانية وتحدد لهم وظائف مرتبطة بالتناسل البيولوجي بعيدا عن ملكوت الثقافة وإشراقاتها ( صورة الإفريقي الأسود وقدراته الجنسية الخارقة المزعومة، وأيضا كل المنتمين إلى مناطق الجنوب الذي يطحنه الفقر والجهل والتخلف).

وبنفس المنطق يمكن الحديث عن الإحالات الرمزية للماء، وهي رمزية كونية تشير في كل السياقات الثقافية، إلى الحياة والخصوبة والتطهر والحلم، وهي أيضا أحد مصادر البارد وإيحاءاته. والبرودة هي التي حولت الماء إلى رمز دال على " جوهر السلطة الأنثوية السلبية" (1) لأنه يشير إلى" التطهر من الرغبة للوصول إلى أقصى حالات الصفاء " (2). وهو أيضا ما يضفي على العري سمة "الطبيعي" الذي تقبله العين وتألفه بسرعة. لذلك، يُنظر إلى الماء باعتباره لاحقا للفعل الجنسي، فهو ما يطهر من الخارج، " وفي الأساطير اليونانية أن بعض الإلهات كن يسترجعن عذريتهن عند الاستحمام في ينابيع معينة، مثل الالهة هيرا التي اعتادت على الاستحمام في عين كاناثوس قرب آرغو لكي تسترجع عذريتها ". ( 3)

وعلى العكس من ذلك، فإن النار ترمز إلى التطهر الداخلي، تَطَهر يطلق العنان للقوى الغريزية والانفعالية لتحلق في ملكوت الحسي. فالنار، على عكس الماء الذي يدعو إلى الاسترخاء والانكماش، تدفع مكامن النفس إلى الحركة والخروج من حالات الضمور والترهل النفسي للانتقال إلى حالات التحفز والانتصاب.

على أن اقتصارنا على ثنائية " الساخن" و" البارد"، دون ثنائية النار والماء بكل إحالاتها، سيقودنا إلى تقليص حجم الإحالات الرمزية وفق ما يفرضه الانتقاء السياقي الحالي. فلن يحتفظ هذا السياق من ذاكرة النار الرمزية سوى بالحرارة وإحالاتها على الاندفاع والحماس والشبق وحاجات الجسد الغريزية، ذلك أن الإحساس بالبرد أو الحرارة حالة بيولوجية كونية لا علاقة لها بالثقافة. ولن يحتفظ من ذاكرة الماء أيضا سوى بالسياق الذي يشير إلى البارد كحالة ثقافية تحدد مواقف وأحكاما إنسانية مسكوكة.

وكما سنبين ذلك من خلال وصلات إشهارية محددة، فإن هذه الثنائية تقوم، في ارتباطها الكلي بالوجود الجسدي للإنسان، باختزال الإحالات في مفاهيم تشير إلى حالتين متقابلتين للجسد : فمن جهة هناك ما " يهيج" و" يحفز" و"يستثير" و"يوقد" و"يحرك"، وكل الأفعال الدالة على الدينامية السلوكية بكل أبعادها، وتلك هي إحالات "الساخن" الرمزية. وهناك ما يطفئ ويدفع إلي الاسترخاء والانكفاء على الذات، وتلك هي العوالم السلوكية التي يحيل عليها " البارد" ومشتقاته كالثلج والمنعش والمثلج، وهي حالات تتجسد في الكريمات والقشدات وكل المشروبات الغازية التي تعج بها الأسواق.

واستنادا إلى هذه الثنائيات وإحالاتها الرمزية، يمكن إسقاط ثنائيات أخرى نستعيد من خلالها نفس العوالم الثقافية المثارة من خلال البارد والساخن. وهي ثنائيات تشتمل على مفهومي الذكورة والأنوثة، أي على مفهومي السلبي والإيجابي. فبإمكاننا دون عناء إدراج ما يعود إلى الساخن وما ينتمي للبارد ضمن سلسلة غير محدودة من الثنائيات الموجودة في الأشياء والظواهر الطبيعية، وهي ثنائيات فاصلة ورابطة في آن واحد بين عالم الذكورة بسماته الثقافية المثمنة اجتماعيا ودينيا، وبين عالم الأنوثة باعتباره يمثل، في شروط ثقافية بعينها أيضا، الوجه السلبي للذكورة.

وعلى الرغم من أن الرابط بين هذه الثنائية وبين ثنائيات من قبيل "القفل والمفتاح" و"المسمار والثقب" و"الخيط والإبرة" ( يبحث الفكر التناظري في كل الظواهر والأشياء عما يمثل المذكر وعما يرمز للمؤنث) ليست واضحة بالقدر الكافي، فإن تجاوز حدود المعطى الدلالي المباشر سيكشف عن وجود روابط فعلية وعميقة بين الساخن باعتباره الوجه الإيجابي والمتحرك والديناميكي داخل الوجود الإنساني، وبين البارد باعتباره يشير إلى الثبات والجمود والسلب داخل هذا الوجود.

وقد لخص الصينيون مجمل هذه التقابلات في مفهومين يحيلان على عالمين متناقضين في الصفات والخصائص، ومع ذلك لا يمكن الفصل بينهما، ويتعلق الأمر بـ " اليين" ( yin) و"اليانغ" ( yang). " فاليين هو الوجه الظليل للجبل أما اليانغ فهو الوجه المشمس له. لذلك فإن اليين هو الرطوبة والبرد والشتاء والانتظار الغامض، والطاقات الخفية والسلبي والجمود والأنوثة. أما اليانغ فهو العنصر الجاف والساخن والصيف والرغبة المنتصبة والطاقة المنفلتة من عقالها والإيجاب والنشاط والفحولة ".( 4) ومن خلال الكشف عن خصائص حدي الثنائية، تتضح الروابط الموجودة بين عالمي الذكورة والأنوثة وإحالاتها على مفاهيم تثمن الأول وتمجده وتحول الثاني إلى كيان سلبي تابع.

وما يقدمه التصور الصيني يمكن أن يشمل أيضا اليمين واليسار ويشمل الشمال والجنوب و"الفوق" و"التحت"، وتلك هي العوالم التي يمكن الكشف عنها من خلال ما تشير إليه بعض طقوس الاستئناس القديمة. فهذه الطقوس ترد النار إلى السماء لأنها صاعدة، وترى في الماء كيانا أرضيا لأنه يسقط مطرا. (5) وما بين " الساخن" و" البارد " و" الفوق " والتحت"، وما بين "الصاعد" و"الهابط" وبين " المنعش" و" المهيج"، روابط وثيقة تقود من الشيء إلى نقيضه، ومن الحالة المرئية إلى وجهها المتواري في العادي والمألوف. فـ"النار" و"الصاعد" و" العمودي" و" المهيج" سمات للمذكر والحار والحيوي والإيجابي، بينما يشكل " التحت" و" البارد " و"الأفقي" و" المنعش" سمات تشير إلى السلبية والخمود والانكماش والبرودة، وهي سمات للمؤنث.(6)

وتدخل كل هذه التصنيفات ضمن فعل ثقافي يقود إلى التحكم الرمزي في الكون من خلال بنينته عبر عالم العلامات، فالعلامات لا تستعمل " للتحكم في الوقائع فحسب، إنها تستعمل أيضا، وربما أساسا، من أجل تحديد وجود هذه الوقائع، ففي استعمالنا للعلامات نقوم أيضا بمنح الكون شكلا، إننا نقدم هذا الكون باعتباره مكونا من " فوق" و"تحت"، "بارد" و"ساخن"، من "شر" و"خير"، من "رأس" و"بطن". إن هذه التمييزات هي بطبيعة الحال تمييزات اصطناعية، بالمفهوم الثقافي للكلمة، فالحار لا وجود له في ذاته بل هو كذلك في علاقته بسلمية ابتدعها الإنسان لكي يتلاءم مع محيطه". ( 7)

وبالتأكيد، فإن المقصود بعوالم التذكير والتأنيث هنا - وفي جميع السياقات أيضا - لا علاقة له بما يحيل عليه التكوين البيولوجي المحايد للذكر والأنثى، بل يراد به مجمل العوالم التي تسكن العلامات وتعشش داخلها على شكل أحكام وتصنيفات وأوصاف وأفكار مسبقة. واستنادا إلى هذه الأحكام والتصنيفات تتبلور عوالم الأنوثة والذكورة وتصاغ أشكالهما التواصلية باعتبارهما يشكلان محور التبادل الاجتماعي وأساس وجوده.

وفي جميع الحالات، فإن هذا الترابط بين حدي الثنائية يعكس في عمقه روابط التوتر والشد والجذب والنبذ الخاصة بالعلاقة بين ذكر وأنثى. وكما هو الحال في كل ترابط قدري لا فكاك منه، فإن التجلي يغادر شكل وجوده الأول ليسكن عناصر الطبيعة وأشياء الحياة وأشكالها؛ ويتسلل أيضا إلى مضامين الكلمات والتعابير وتراكيبها، ليحدد لنا، بشكل موارب، الأشكال التعبيرية التي يحتمي بها الجنس ليكشف عن نفسه وعن أشكال وجوده بعيدا عن الرقابة الاجتماعية، أي خارج ما يقدمه السلوك الإنساني في حالته الثقافية.

واستنادا إلى هذه الثنائية أيضا، يمكن تصور حالات تصنيف إنساني تتجاوز في أغلب الأحيان الأحكام الدالة على الجنس وطقوسه، لكي تشير إلى تصنيفات أعمق وأخطرمما أشرنا إليه أعلاه. فقد تشمل هذه التصنيفات الفعل ورد الفعل، والانفعال والحلم، والتريث والاندفاع. وفي هذه الحالة سيصبح الساخن دالا على حالة وعي حضاري له خصائصه ونمط وجوده، وهي حالة تبتعد عن العقل وأحكامه الصارمة، في حين يصبح البارد دالا على حالة وعي نقيض، له أيضا خصائصه وأنماط تجلياته، وهي الحالة التي تعبر عن صفاء الذهن وإشراقه بعيدا عن الانفعالات العرضية السريعة الزوال.

وفي هذا المقام، فإننا ننتقل من التصنيفات الخاصة بوجود المذكر والمؤنث لنستحضر صورة الشمال والجنوب، الغرب والشرق، التفكير العقلي الرزين والانفعال العاطفي السريع الزوال. وهنا ندخل ضمن إبدال معرفي جديد يعيد تشكيل المضمون المتعارف عليه لهذه الثنائية. ففي حالتنا هذه يعير المذكر وجهه لكل حالات الغريزة المنفلتة من أية رقابة، ويعير المؤنث وجهه لحالات "الانتصاب" العقلي الثابت، وهي الحالة التي تثمن الثاني وتعلي من شأنه، وترى في الأول حالة انفعالية لا تنتج معرفة.

تلكم هي بعض المرتكزات الرمزية الأساس التي تعتمدها بعض الإرساليات الإشهارية من أجل بناء شكل تعبيري يستثمر ثنائية "الساخن" و"البارد" من أجل صياغة عوالم بعض المنتوجات وإحالاتها الرمزية. فالمنتوج لا يمكن أن يأتي إلى المستهلك حافيا ومفصولا عن غطائه القيمي، فالقيمة التي يشير إليها هي الأساس، واستنادا إلى هذا الغطاء تُبنى استراتيجية التواصل الإشهاري ويتحدد منطقها. فالحديث عن المنتوج خارج عوالم الحلم والرغبة والاشتهاء معناه الحديث عن منتوج لا يتحدد إلا من خلال وظيفته الأولى. والحال أن عالم الوظيفة عالم نفعي بارد وتافه وروتيني، بل ومقزز أحيانا. فالحديث عن العطر النسائي أو الرجالي باعتباره يزيل الروائح المنبعثة من الجسد (8)، لن يؤدي إلى كساد هذا المنتوج وبواره فحسب، بل قد يقود إلى انتكاسة حضارية يختفي داخلها " القناع الثقافي" الذي أخرجنا من دائرة التقابل الطبيعي بين" الطيب والخبيث"، ليدخلنا عالم العطر الاصطناعي ذي الإحالات الرمزية المتعددة.

فما يستهوي الذات المستهلكة في المنتوج هي عوالمه الرمزية المليئة بسحر الممنوع والغامض والسري والمبهم، وقد ذكر السابقون علينا في هذا المجال أن الذات " تستهلك المعنى الرمزي للمنتوج، ونادرا ما تلتفت إلى وظيفته النفعية" ( بودريار). فالدال البصري في حالة الإشهار يجنح، أثناء صياغة ميكانيزمات التواصل الإشهاري، إلى التخلص من مرجعه المباشر ليسرب المعنى ضمن إحالات رمزية تخلق الحلم والسعادة والجنس واللذة.

وضمن هذه العوالم تدرج الإرسالية الإشهارية الحالات التي يشير إليها البارد والساخن، وضمنها تضع منتوجاتها للتداول. قد يحدث ذلك من خلال خلق حالة تقابل حاد بين عوالم البارد المطلق الذي يمنح اللذة المنفردة والاستمتاع الذاتي بعيدا عن الآخر بل وضده أحيانا، وبين الساخن المنبوذ والمقصى باعتباره يستدعي الآخر ويشتهيه. وتلك هي الوصلات الخاصة بالمواد الباردة كالمشروبات الغازية والقشدة بأنواعها.

فالكريمات التي تقول الوصلات الإشهارية إنها تغرقك في عالم من اللذة يصل حد الذوبان، تنأى بك أيضا عن عوالم الآخر وإغراءاته. فهي تربط بين اللذة والقشدة والمشروبات ضمن "عالم بارد "يقود الذات المستهلكة إلى استحضار اللذة على شكل استمناء أو متعة منفردة تدعوها إلى الغوص في ملكوتها المعزول بعيدا عن أية مشاركة. فحالة الذوبان، وهي الثيمة الرئيسة في الكثير من المشروبات الغازية ( حالة كوكالا حالة من طبيعة مغايرة وتحتاج إلى معالجة من طبيعة أخرى)، هي انفصال الذات عن النفعي والزمني والمحسوب، ولكنه في حالة القشدة انفصال يشير إلى الانتكاسة والارتداد، لأنه يتنكر للتوازن الذي يضمن استمرارية التواصل بين ما ينتمي إلى "البارد" وما يعود إلى "الساخن"، أي ما يوحد عالمي الذكر والأنثى ضمن سياج ثقافي " إنساني" تشتهي داخله الكائنات بعضها بعضا.

ولا تقوم الإرساليات هنا أيضا سوى باستثمار أشكال الحالات الوجدانية المشتركة دون مضامينها الأصلية. فالربط بين الذوبان واللذة له ما يبرره في اللاشعور الإنساني، الجماعي والفردي على حد سواء. فاللذة تمثل إحدى الثيمات الرئيسة المؤثثة للمخيال الإنساني، فهي تحيل على فكرة التلاشي والاندثار والاسترخاء وفقدان السيطرة على الذات. وتلك حالات وُجْد تتحقق في سياقات عدة منها لذة الجنس، ومنها لذة التعبد الصوفي، أوالوصول إلى غاية مثلى، ومنها أيضا التلذذ بمواد باردة كالقشدة والمشروبات الغازية.

فلا شيء يثير في القشدة والمشروبات الغازية، ولا فائدة غذائية ترجى من تناولها، إنها مصدر من مصادر اللذة لا غير ( 9). ولقد راهنت الإرساليات الإشهارية الخاصة بالكريمات والمشروبات كثيرا على مفهوم اللذة هذا. فمفهوم اللذة يحيل على عالم غريب مقدس ومبهم. فهو يحتوي على الحالة ونقيضها، إنه يشير إلى الألم كما يشير إلى المتعة والاستيهام : لنتذكر حالتي السادية والمازوخية ومشتقاتهما في الجنس.

بل تقوم الوصلة بأكثر من ذلك، فهي تستثير مواقف ثاوية في لاشعور المستهلك. مواقف شكلت في التاريخ والأسطورة والدين والحكايات ما يطلق عليه " لحظات لاختيارات حاسمة"، وهي اللحظات التي تحاول الإرسالية الإشهارية استعادتها والدفع بها إلى التحقق وفق صيغة بارودية ( ساخرة). إن حالات الاختيار المصيري تتخذ شكلا جديدا : الاختيار بين المرأة أو القشدة، بين الرجل أو قطرة من مشروب غازي، الاختيار بين القشدة والعازل الطبي، الاختيار بين القارورة التي ضاعت بين الأمواج أو الزوجة التي يتهددها الحوت. (10) وفي جميع هذه الحالات، تميل النفس إلى برودة المنتوج ولذته. وفي هذه الحالة، فإن الإرساليات تستعيد بشكل ساخر مواقف دينية وأسطورية : كان على آدم أن يختار بين اللذة والخلود، فاختار اللذة، واختار أنكيدو مفاتن المرأة وغادر رفاق الأمس من الحيوان، واختار أبو فراس منازلة الأعداء إلى النهاية، وفضل المتنبي الموت على الهروب.

وبما أن اللذة هي حالة سعادة قصوى لا يمكن تصور مثيل لها سوى ذاك الذي تمدنا به مخيلتنا عن عالم الجنة وحورياته، فإنها تنطلق من الحسي الملموس لكي تسقط الروحي الذي لا تدركه الأبصار خارج مدار الفعل. فإذا كان الحس هو الغالب والمرئي في تناول القشدة والكريمات والمشروبات، وهو الذي يمنح اللذة دون وسائط، فبإمكان الذات أن تستوعب اللذة الحسية بعيدا عن استيهامات حالة روحية مزعومة. وبطبيعة الحال فإن الكريمات والقشدة وأشباههما هنا لتحقيق هذه اللذة دون مقابل.

وداخل هذا العالم الغامض والمبهم تدرج الإرسالية الإشهارية مفهوم اللذة بكل إحالاته، مبشرة بعالم جديد يمكن أن تتحقق داخله اللذة خارج طقوس المشاركة ومخاطر الآخر. ويقوم هذا العالم على الدعوة إلى اللذة الذاتية، وهي لذة من طبيعة جنسية كما تدل على ذلك كل العوالم المحيطة بالمنتوج، يمكن الحصول عليها من خلال تناول القشدة أو المشروبات الغازية دون الحاجة إلى الشريك.

ولقد وصلت هذه الدعوة قمتها مع الإشهار الخاص بقشدة " هاغن داز" الذي نشر على شكل وصلات منفصلة في جريدة " لوموند" الفرنسية، حيث يوضع المستهلك في كل وصلة أمام اختيار صعب : المرأة أو قشدة هاغن داز، فلا الشقراء تغري كما في الوصلة الأولى، ولا الصهباء تثير النفس كما توحي بذلك الوصلة الثانية، ولا السمراء قادرة على تحريك ما في الفؤاد من انفعالات كما تقول ذلك الوصلة الثالثة. ووحدها قشدة " هاغن داز" تقدم العالم الأمثل الكامل كما يتضح في الوصلة الرابعة حيث يشار إلى عالم القشدة باعتباره عالما كاملا، في حين يشكو عالم المرأة من الضحالة والبؤس والسطحية كما يبدو من مقارنة علب القشدة ببرج بيز المائل.

ولقد قدم بيار فارود تحليلا ممتعا لهذه الوصلة (11) مبرزا أن الاستراتيجية الإبلاغية المعتمدة في التعاطي مع موضوع اللذة يستند إلى خلق تقابل بين الإتقان والوجود الناقص، أي بين اللذة المطلقة وبين الانتصاب غير المكتمل، بين عالم المرأة التافه والخطير والروتيني، وبين اللذة المطلقة التي تقدمها قشدة " هاغن داز". ليصل هذا التقابل في الوصلة الرابعة إلى حده الأقصى حين يستعاض عن المرأة بصورة لبرج " بيز" المائل الذي وضع في مقابل صف من علب القشدة على شكل عمود حاد الانتصاب، للتعبير عن عالم الإتقان اللامتناهي الذي يشير إليه هاغن داز وبين الانتصاب غير المكتمل الذي يمثله البرج وهو عالم المرأة.

وفي هذه الحالة فإن " البارد" يقود المستهلك إلى الاكتفاء باللذة والارتواء الذاتي، وهو ارتواء لا يجلب المخاطر ولا ينتهي بك إلى المستشفيات. فـ" ابتداء من الآن، كما يعلق على ذلك بيار فارود، سيتم إلغاء العلاقات الجنسية نهائيا، لكي نمر إلى الارتواء الذاتي، إنه أكثر ضمانة، فلنتجنب النساء ولنتجنب الحياة ولنتجنب المخاطر، لنبتعد عن الحرارة والذوبان، ونتجنب الاندفاع الإيروسي، (...) إن البارد يكتسح الساحة، إن الأمر يتعلق بحالة تثليج، إنه هبوط في مستوى الطاقة المتوفرة ونزوع هادئ بلا ألم نحو النهاية، فهل هو الموت المسبق مع هاغن داز ؟". (12) فلا شيء يثير الموت فينا أكثر من البارد.

ولهذا فإن اللذة التي تقترحها القشدة شبيهة بعوالم الجنس في الجنة كما تصفها النصوص الدينية. فالجنس في العالم الآخر جنس مصفى ومطهر نُزعت عنه كل مظاهر الانفعال الإنساني، يمارسه ناس عقلاء مع حوريات بلا غنج ولا دلال ولا تمنع داخل عالم وحيد القيم والانفعال والعواطف، إنه جنس شبيه بالخمرة الخالية من الكحول.

وفي مقابل البارد المطلق هناك الساخن المطلق. وتلك هي الحالة التي نعثر عليها في الإشهار الخاص بزبدة " ماجدور"، وهي وصلة إشهارية قدمتها التلفزة المغربية منذ مدة تدعو الناس إلى استهلاك زبدة نباتية لها من المزايا ما لا يعد ولا يحصى لعل أهمها ارتباطها بالساخن. فالزبدة لا تنعش ولا تثلج ولا تأتي بالبارد، إنها تذوب تحت وطأة الساخن وهي تسيح على وجه الخبز الطري الساخن. إن الزبدة باعتبارها التجسيد الأسمى للبارد تعد بؤرة اللذة وموضوعها، تماما كما هي الأنثى في المخيال الإنساني، موضوعا للذة والارتواء وإطفاء نار العطش، والعطش لا يمكن أن يكون إلا في حالات الحار والساخن. فالساخن ديناميكي ومتحرك يبحث عن فريسته، والبارد قار وثابت ينتظر قدرا ستأتي به رياح الساخن لا محالة.

تحكي هذه الإرسالية الإشهارية قصة رجل فاجأته زوجته متلبسا بالرغبة. مواطن بسيط يشتغل في فرن شعبي، يضع الخبز داخل فرن تأكل النار بطنه بلا رحمة ( الفرن غار عميق، والغار في قبر أرضي، ولنلاحظ رمزية المجوف في مقابل رمزية العمودي : أداة وضع الخبز في الفرن وقالب الخبز)، وصوته يصدح بأهازيج تتغنى بالطري الساخن الذي يذوب كما يتصبب جبينه عرقا، وأمامه غيد حسان يرددن معه أهازيج الفرح والحب والشباب ( لباس بألوان زاهية).

وكما هو واضح فإن "الساخن" هنا هو أصل اللذة ومنطلقها، تماما كما كان "البارد" في الحالة السابقة هو أصل اللذة ومنتهاها، إلا أن لذة الساخن تستدعي الآخر وتشتهيه. فكما تذوب الذات اشتهاء للآخر ( الفتيات الجميلات داخل القبو ) تذوب الزبدة على وجه الخبز الطري الساخن، وكما تأكل النار بطن الفرن، يتصبب جبين الرجل عرقا، وكما تلج آلة وضع الخبز في أحشاء الفرن الملتهب، تتحرك المدية في يد الرجل وهي توزع الزبدة على وجه الخبز ذي الشكل العمودي.

وهنا أيضا تتدخل آليات التحريف والمراوغة والاحتيال، وهي أدوات "الإقناع السري"( 13)، لاستثارة الصور الرمزية من مكامنها، وذلك من خلال إزاحة الرقابة الذاتية التي يفرضها التوزيع النفعي للآلات والفضاء والكائنات، ليتحول كل ما في الفرن دالا بالوظيفة والشكل والموقع على تقابل يضع الساخن في مقابل البارد، ويضع المجوف في مقابل العمودي ضمن حالات اشتهاء متبادل. فبينما يوضع المجوف ( بطن الفرن وقطعة الزبدة) في حالة استعداد للاستقبال، يتحرك العمودي ( آلة وضع الخبز وقالب الخبز) من أجل خلق حالة الارتواء التي تقود إلى سكون النفس وطمأنينتها.

والخلاصة أننا أمام موقف نقيض للموقف السابق. فالمنتوج لا يعوض المرأة ولا يلغيها، لأن الزبدة ليست بديلا للمرأة، ولا يمكن أن تحل محلها. ولهذا فإن الإرسالية الإشهارية في كليتها تخلق وضعا رمزيا يتم الخلط داخله بين لذة المرأة ( الفتيات) ولذة الزبدة. فلكي يكتشف المستهلك اللذة الحقيقية لزبدة "ماجدور" عليه أن يستثير داخله لذة الجنس، فاللذة الأولى توحي بالثانية. وهذا الجنس لا تأتي به الزبدة بل تمنحه فتيات جميلات في عمر الزهور. وهنا تكون المشاركة هي القيمة المثلى التي تندرج ضمنها زبدة ماجدور.

بل إن الصورة تزداد تعقيدا بظهور الزوجة فجأة على مدخل الفرن. والزوجة تشير في هذا السياق ( وفي كل السياقات أيضا ) إلى قيم " المؤسسة" بما هي التزام وامتثال وتقيد بطقوس المجتمع وإكراهاته. وهنا يكون الربط الرمزي مزدوجا : إنه يربط من جهة بين الساخن والجنس، وهو ربط مألوف تبيحه الثقافة والمخيال وطبيعة الأشياء ذاتها، ويربط من جهة ثانية بين جنس محرم ولكنه يلهب المخيال ويستثيره بصور استيهامية لا تخضع لأي قيد، وبين جنس مباح ولكنه روتيني ويسكنه الملل ويحول الرجال إلى " موظفي الحب" بتعبير الفرنسيين. وهكذا بقدر ما تبدو الفتيات جميلات مثيرات مغريات، تشير المرأة/الزوجة من خلال حركاتها ولباسها ولهجتها ووضعتها إلى كل ما يقزز وينفر ويدعو إلى الانكماش والعودة إلى " جادة الصواب". إن إدراج المنتوج ضمن الساخن والمهيج والممنوع يجعل منه مرادفا لصورة التمرد وتجاوز الحدود.

وهناك سياق ثالث يشير فيه التقابل بين " البارد" و"الساخن" إلى حالة تروم خلق توازن بين حدي هذه الثنائية، ويستحضر في ذات الوقت، من خلال هذا التقابل ذاته، العلاقات الممكنة بين الطبيعي والثقافي والجنسي ضمن معادلة سنحاول الكشف عن أطرافها من خلال الإشهار الخاص ب" كاريي". وكاريي هو نوع من أنواع المكيفات الهوائية المستعملة في المغرب وخارجه للتلطيف والتحكم في حالات الساخن والبارد.

والتكييف بمعناه العادي هو خلق حالة توازن بين البارد والساخن، عبر التحكم الصارم في الطبيعة وضبط إيقاع حالاتها المتنوعة، إنه من هذه الزواية إلغاء للفصول والتمايزات الممكنة وخلق مناخ لا بارد فيه ولا ساخن. ويحيل في معناه الإيحائي على الامتثالية والتطابق والحفاظ على المعايير السائدة. ويُنظر إليه في مقامنا هذا باعتباره تحجيما للحار والمندفع وتقليصا لامتداداته، ويُنظر إليه أيضا كضابط لإيقاع البارد والتحكم في درجاته. استنادا إلى هذه العناصر الأولية، تقدم الإرسالية تمثيلا بصريا لحالات الساخن والبارد.

وتدور أحداث حكاية التكييف هذه في فضاء " أبيض" بلا ديكور ولا أثاث ولا طبيعة، وحدها أنغام موسيقية سريعة تضبط إيقاع جسدي رجل وامرأة يرقصان بلا مبالاة. الرجل أسود طويل مديد وعاري الصدر، والفتاة بيضاء نحيفة ومنكمشة وسط معطف وثير لم ينجح في طمس معالم أنوثة تطل من عينيها. ومع توالي اهتزازات الجسدين، يأتينا صوت من خارج الصورة يبشرنا بكاريي الذي يعرف كيف يجمع "الساخن والبارد في رقصة واحدة ": Carrier fait danser le chaud et le froid، أي يجمع بين الأسود والأبيض.

إن الملفوظ اللساني وحده كاف لأن يفتح الصورة على إمكانات دلالية لا حصر لها. إنه يوجه دون أن يلغي الحالات المتعددة للتدليل. فهو يقول ما هو معروف بشكل بديهي، إلا أنه يخلق حالة إبهام دلالي مقصود، فكاريي جهاز لضبط التوازن بين الساخن والبارد وتلك وظيفته، إلا أن الربط بين الرقص والأسود والأبيض والساخن والبارد يخلص العبارة من مرجعيتها ويفتحها على عوالم أخرى غير البارد الفعلي والساخن الفعلي؟

واضح أن الملفوظ يستعيد بشكل صريح الأحكام الاجتماعية ( سنرى أنها أحكام عنصرية في واقع الأمر) التي تربط بين الأسود وكل حالات السخونة، وبين الأبيض وحالات البارد والصقيع الذي لا يطاق. وهي أحكام تتعلق بداهة بالمناخ الطبيعي، وتتعلق أيضا بالمزاج النفسي، وفوق هذا وذاك فهي تشير إلى تفاوت في الطاقة الجنسية بين الأبيض الشمالي البارد والأسود الجنوبي الساخن، كما ترسب في أذهاننا نحن، وكما روجت لذلك أدبيات الاستشراق، ويوميات الرحالة الغربيين الذين كتبوا عن أفريقيا وأدغالها وحيواناتها وكائناتها العارية التي لا يرهبها الحر ولا تكترث للبارد.

وهذا ما تقوله الصورة بشكل صريح، فالأسود العاري الصدر والبيضاء المنكمشة إشارتان فصيحتان تقودان المحلل إلى تبني اختيار تأويلي يرى في الإرسالية إحالة مباشرة على رموز جنسية صريحة. وعلى هذا الأساس، فإن كل الدلالات الممكنة تمر عبر هذا الربط الرمزي بين الرقص والسخونة والبرودة وبين الأسود والأبيض، إنها العناصر الأولية التي تشيد انطلاقا منها مجمل المسارات التأويلية التي سنحاول تحديد بعض منها.

وكل شيء يبدأ من هذا الربط، فالغاية التجارية صريحة، بيع منتوج له علاقة بالبارد والساخن الطبيعيين، إلا أن البيع ذاته يحتاج إلي غطاء قيمي، أي استحضار ما تقوله الخبرة الحياتية عن البارد والساخن ضمن العلاقات الإنسانية.

فبما أن هذه الطاقة " المناخية" لا يمكن التمثيل لها إلا من خلال حالات قابلة للتجسيد في وقائع ملموسة - فالساخن والبارد لا يمكن أن يكونا مرئيين إلا إذا تحققا من خلال الجسد على شكل فعل جنسي ممكن، أو تبدو ملامحه من خلال اهتزازات استعارية لا يدرك سرها سوى اللاشعور الذي يخبئ الرغبة في الأشياء والحركات والكلمات - كان اللجوء في مرحلة أولى إلى الرقص اعتبارا لإحالاته الرمزية، فالرقص هو حركة واندفاع و" كوريغرافيا إيقاعية من طبيعة جنسية، وهو كذلك لأنه يجعل مجموعة من الرقصات تمثيلا أو بديلا لفعل جنسي". (14) فمن خلال الرقص والأهازيج يُسْلم الجسد قياده لانفعالاته الداخلية غير عابئ بالقيود التي يفرضها الثقافي أو الاجتماعي أو الديني. وكما يجعل الماءُ العري أمرا عاديا، تبيح الموسيقي للجسد الخروج عن وقاره، وقول ما لم تقله إيماءاته في حالة السكون أو الأفعال النفعية. إن الموسيقى تدفع إلى الانطلاق والعودة من جديد إلى حالات الجسد الغريزية كما تبدو في الطبيعة. وهذا ما تقدمه الصورة بشكل صريح، فالرجل يتقدم بخطى راقصة عاري الصدر نحو امرأة منكمشة أنهكها صقيع الشمال ليمنحها الدفء والحرارة.

و" كاريي" هنا ليستجيب لهذه الحاجات ويشيع جوا من الراحة، ويوفر للنفس الطمأنينة ويعود بها، عبر الرقص والموسيقى والساخن، إلى حالات السكينة والاسترخاء. وتلك أيضا صورة من صور المخيال الإنساني الخاصة بالرقص ودوره التطهيري. فالوصول إلى أقصى درجات السكينة النفسية يمر، بشكل مفارق، عبر استنفار لطاقات الجسد وانفعالاته الأكثر قوة. فالتلاشي والذوبان داخل حالات سكون مطلق يمر عبر حركة الجسد وتأوهاته، إن الهبوط إلى أعماق النفس يبدأ بالاهتزاز الصاخب والحركة المدوية، (15) لذلك لا فرق، في واقع الأمر، بين دراويش يتمايلون في حلقة ذكر على دقات الطبول، وبين عذارى يرقصن على أنغام موسيقى صاخبة في ملهي ليلي.

إن الساخن هنا ارتداد إلى الماضي الطبيعي للجسد، أيام كان هذا الجسد حرا لم تروضه الثقافة ولم تشكمه القيم ولم يمتثل بعد للتعاليم. إنه ارتداد " طبيعي" يتم عبر تخليص الذات من قيود " النحن " وسلطتها التي لا تنتهي عند حد.

ومع ذلك فإن الإرسالية لا تسمح بالمضي في هذا الاتجاه، إنها محكومة بغاية أخرى، لذلك فإن كاريي يُنسب من هذه الحالة من خلال خلق حالة توازن تعبر عنها الإرسالية من خلال مقابلتها بين الأسود والأبيض. صحيح أنه يستثير طاقة كامنة قابلة للانطلاق عند الأبيض، إلا أنه يحد في الوقت ذاته من غلواء الاندفاع الأهوج عند الأسود ليخلق حالة تناسق بين عالمين متناقضين : عالم الأبيض حيث يسود البارد، وعالم الأسود حيث النفس منطلقة وتواقة دوما إلى جو تنتشر فيه السخونة.

إن الحرارة المنبعثة من " كاريي" تستعيد الحرارة التي كان الحصول عليها يتم عبر فعل الاحتكاك، وهو ما تؤكده حالة الرقص الثنائي الذي يثير عند المتفرج فكرة الاحتكاك المولد للنار بجميع أشكالها، أي للساخن ومشتقاته. ومعروف " أن الكائن البشري يعيش في الرقص حالة احتفال مطلق؛ فمن خلاله، لا من خلال الألم، وعى الإنسان البدائي نفسه، وهذا الوعي هو الذي منحه الثقة في النفس ". (16)

وهكذا يصبح كاريي، في نهاية المطاف، مكيفا هوائيا عابرا للقارات، متحديا ثنائيات الكون ومتجاوزا لها. إنه النموذج الأعلى الذي يجمع بين البارد والساخن ويوحدهما، إنه قادر على التوفيق بين صقيع الشمال وشمس الجنوب اللافحة، وهو، فوق هذا وذاك، قادر على ربط الطبيعة بقوتها واندفاعها بالثقافة بإكراهاتها وحدودها.

استنادا إلى هذا الترابط أيضا بين الكائنات والمناخ وفضاءات الجغرافيا، تصبح الطاقة الجنسية الجارفة المزعومة عند الإفريقي مرادفا للطبيعة بمفهومها الأنتروبولوجي(17). فهذه الطاقة، في تصورالغربي، ليست طاقة بيولوجية خارقة، وليست نتاج تركيب فزيولوجي مغاير، إنها وليدة الطبيعة ذاتها، إنها طاقة لم تهذبها الثقافة بعد، ولم تحد من غلوائها قوانين الدين وإكراهات الثقافة. فالإفريقي الأسود مازال " أرضا بكرا" قريبا من الطبيعة مرتبطا بإيقاعها وأسيرا لدوافعه الغريزية المنفلتة من كل رقابة، لابتعاده عن الثقافة وهمومها.

وعلى العكس من ذلك، فإن الغربي ابتعد منذ فترة طويلة عن هذه الطبيعة وارتمى في أحضان ثقافة منحته الترف والراحة، ولكنها قلصت من طاقته البيولوجية، وحولتها إلى طاقة فكرية تعبر عن نفسها في الاختراعات العلمية والإبداع الفني. دليلنا في ذلك " عري الإفريقي "، و" لباس البيضاء"، فالعري حالة طبيعة، أما اللباس فهو حالة ثقافية، فالإنسان تعلم كيف يلبس تماما كما تعلم كيف يتكلم وكيف يمشي.

فهذا الإفريقي الأسود العاري الصدر، الخارج من غابته بحثا عن فريسته البيضاء، يذكر بأفلام التوحش والاغتصاب، أو يذكر بحالات " العشق الأبوي"، حالات اشتهاء سيدة القصر لعبدها، واشتهاء الفتاة لخادمها الأسود. إنه الأسود بعوالمه السحرية، كائن عجائبي، يأتي بذلك الساخن الغريزي الذي افتقدته المرأة البيضاء منذ زمان في رجلها الأبيض الذي أنهكته الثقافة و" موبقات الفكر".

إن كاريي - أيها السادة - مكيف هوائي أصيل يقدم لكم السخونة الأصلية، كما هي في مظانها دون رتوش ولا مساحيق، حيث الطبيعة مازالت، كما كانت، مصدر كل القوى ومصدرا للساخن بكل أشكاله، هو ذا المضمون الأصلي الذي ترتكز عليه الصورة من أجل الترويج لمنتوجها.

وبإمكاننا الدفع بهذه المعادلة إلى حدودها القصوى كأن نسقط مثلا حالة قابلة للتوقع من خلال ما هو متحقق في الصورة ذاتها. فإذا كان اللون أو الانتماء الجغرافي هو ما يحدد خاصية " الفحولة" و" الفوران الجسدي" و" السخونة" المزاجية والجسدية على حد سواء، فلماذا لا يتم التمثيل لفعالية " كاريي "وقوته من خلال خلق زوج جديد قد يشير إلى نفس الثنائية يتمثل في امرأة سوداء عارية تراقص رجلا غربيا أبيض يتدثر بلباس صوفي ؟ وهذا أمر محتمل استنادا إلى طبيعة الأشياء ذاتها، فالخصائص المشار إليها أعلاه كالفحولة والسخونة والاندفاع هي خصائص مشتركة بين الرجل والمرأة.

إن ذلك أمر مستحيل، ولا يمكن أن يقبله المشاهد ذو العين الذكورية، وإن حدث ذلك، فإن الإرسالية ستسقط من تلقاء ذاتها ولن يكون لها أي تأثير. والسبب في ذلك أن الثقافة التي تصاغ داخلها الإرسالية ثقافة ترى في الفحولة شأن ذكوري، فتجلياتها يجب أن تكون من طبيعة ذكورية كما أن تجسيدها لا يتم إلا من خلال عوالم الذكر ومن جملتها الانتصاب الذكري. أما المرأة فهي مصدر للإغراء لا غير، ولا يمكن أن تكون تجسيدا للسخونة. لهذا لا يمكن أن يتم التمثيل لثنائية الساخن والبارد في هذا السياق من خلال السوداء والأبيض. وهذا ما يؤكد ما ذهبنا إليه من قبلُ، فالرجل ليس مستعدا أن يفرط في فحولته لصالح المرأة حتى ولو أدى به ذلك إلى التضحية بجزء من كيانه كأن يجعل الأسود مثالا حيا للسخونة. وعلى هذا الأساس سيظل الساخن ذكرا ويظل البارد أنثى.

لقد حاولنا من خلال هذه النماذج الثلاثة استكناه العمق الرمزي الذي تستند إليه الصورة الإشهارية من أجل بناء إرسالياتها الدلالية والترويج لبضائعها. وهذا العمق الرمزي لا يمكن أن يُفهم وتُستوعب مضامينه إلا من خلال استحضار السقف الثقافي الذي تنتج وتستهلك داخله هذه الإرساليات. فلا يمكن إدراك العمق الرمزي لثنائية الساخن والبارد دون استحضار المضامين الرمزية والمخيالية التي تتجاوز الشيء الساخن أو البارد لكي تحيل على العوالم الممكنة الخاصة بالحالات الوجدانية للكائن البشري.

استنادا إلى هذا، فإن الغاية الإشهارية صريحة. فسواء تعلق الأمر بهذه الثنائية أوبثائيات من طبيعة مغايرة ( البدوي- الحضري، العصري - التقليدي...) فإنها تدمر في طريقها كل شيء، فلا هي ترمي إلي تهذيب النفوس، ولا هي ترغب في الترويج لقيم نبيلة، ولا هي من الدعاة إلى وعي حضاري جديد. إنها ترمي إلى شيء واحد هو البيع ولا شيء سواه، ومن أجل ذلك، فإنها تستثمر كل شيء، بما فيها الأحكام العنصرية المقيتة أو التصنيفات القائمة على إيديولوجيات ذكورية مهترئة.

هوامش

1- Nadia Julien : Grand dictionnaire des symboles et des mythes, Eau

2- نفسه

3- على الشوك : جولة في أقاليم اللغة والأسطورة، منشورات المدى، الطبعة الثانية 1999، ص 136

4- Alin Peyrefitte: Quand la cine séveillera , le monde tromblera, p 4, in Pierre Guiraud : Sémiologie de la sexualité , éd Payot, 1978 , p 168

5- Jean Chevalier et Alain Gheerbrant : Dictionnaire des symboles , R Laffont; feu

6- انظر مقالنا : " النار والذوبان واللذة"، مجلة " أبواب" العدد 30 خريف 2001 - شتاء 2002، ص 173

7- Jean-Marie Klinkenberg : Précis de sémiotique générale , éd Dboeck universite, 1996 p 38

8- Nicolas Riou : Pub fiction , société poste moderne et nouvelles tendances publicitaires, éd d'Organisatios, 1999, p 118

9- بيار فارود : المثلجات واللذة الجنسية، ترجمة سعيد بنگراد، علامات العدد 14 2000ص 59

10- لنتذكر حالة الفتاة التي تسقط من بين شفتيها قطرة من مشروب" فانتا " لتحط على جبين فتى، فتنزل الفتاة من أعلى العمارة لترسم قبلة هي في واقع الأمر التقاط للقطرة لا اشتهاء للفتى، وتلك أيضا حالة الرجل الذي لم يتردد لحظة واحدة في الغوص عميقا في البحر متحديا أمواج البحر بحثا عن زجاجة فانتا ولم يكترث لمصير زوجته التي كانت تتهددها الحيتان.

11- المرجع السابق

12- بيار فارود ص 68

13- انظرLa persuasion clandestine, éd Calmann Levy, 1984 Vance Packard - Gilbert Durand : Les structures anthropologiques de l'imaginaire, éd Dunod, 11 édition, 1992 , p 388

15 -انظر في هذا المجال ما يقوله فراس السواح عن الحفلات الديونيزوسية : لغز عشتار، الألوههة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة، دار علاءالدين، الطبعة السابعة، 2000، ص 242 وما يليها

16- G bachelard : Psychanalyse du feu , éd Folio , 1949, p 58

17- انظر في هذا المجال مقال فرينو دورييل حول الأمومة السوداء Pierre Fresnault - deruelle : l'éloquence des images , Images fixes III, éd P U F ,1993 , p 85 - 95

 

 
 
 
معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقـة تعريـف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع  خزانات الموقـع  صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

موقع سعيد بنگراد - تاريخ الإنشاء: نونبر 2003