معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقـة تعريـف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع  خزانات الموقـع  صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

سعيد بنگــراد

 

المرئي وجوهره في الوصلة الإشهارية

-تمثيل النوعيات والأحاسيس-

 

 

 

 

 

1-نتناول في هذا المقال بعض الأساليب التي يهتدي بها الإشهار من أجل " تبليغ " بعض الطاقات الانفعالية التي غالبا ما يتعذر عليها إيجاد تجسيد مباشر يحتويها ويكون المعادل المطلق أو النسبي لما يمكن أن يُستثار في وجدان المستهلك/ المتلقي. فهذه الطاقات هي جزء من " كينونة " تُبنى من خلال أحاسيس لا يمكن أن تعيشها ذاتان بالطريقة نفسها، كما هي حال كل الأحاسيس التي لا تتخذ شكلا إلا من خلال تقطيع لفظي قد لا يغطي الطاقة الانفعالية كما هي في ذاتها، أو من خلال صورة تتكفل داخلها عناصر إدراكية تنتمي إلى سجلات مغايرة للتعبير عن فحواها. وهذا ما يفسر عجز الوصلة الإشهارية في أغلب الحالات عن الكشف عنها اعتمادا على ممكناتها التعبيرية وحدها. وهذا معناه أن الصورة في حاجة إلى أدوات إقناعية مستوحاة مما هو أبعد من حالات التجلي أو ممكنات التحقق.

وندرج ضمن هذه الانفعالات كل ما يمكن أن تكشف عنه المحاولات التي يقوم بها المستشهر من أجل تبليغ بعض " الخاصيات " التي تشير إليها الألوان، أو بعض الأحاسيس المجردة التي لا ندرك منها عادة سوى مفاهيم عامة مفصولة عن تحققاتها، كما يمكن أن تتسلل إلى وجدان كل فرد كالسعادة والانشراح والحب وغيرها. وندرج ضمنها أيضا كل ما يمكن أن تثيره حالات التواصل الشمي الذي يستند إلى نسق يتكون من عدد هائل من " الروائح " التي تستدعي، من أجل ضبط رنينها، معرفة ثقافية عامة يختلط فيها الديني بالاجتماعي والإيديولوجي. و" الرائحة " هنا لا تقتصر على ما يصنف ضمن دوائر" العطور" المتعارف عليها، بل تشمل أيضا حالات الطبخ وأدوات التنظيف ونسمة القهوة، مع كل التمايزات الدقيقة الفاصلة بين هذه الحالات مجتمعة ( كيف يمكن " تصوير الرائحة" والكشف عن خصائصها).

إن هذه الخاصيات جميعها تتميز بكونها قد تختلف على مستوى الأسناد وحالات التجلي ( يمكن لكل الوصلات أن تثبت، من خلال المقارنة ذاتها، أن بياض المسحوق الذي تدعو إليه أحسن من كل البياضات الأخرى)، ولكنها تحيل على بعض الجواهر المضمونية التي تستعصي على الإدراك الكلي ( الكشف عن البياض الأصلي الذي يحتوي خاصية البياض في ذاته). وهي الانفعالات التي يمكن أن نصنفها ضمن الأحاسيس تارة وضمن النوعيات في غالب الأحيان. والسياقات التي تتحدد داخلها هذه النوعيات والأحاسيس مخصوصة جدا، فنحن نستند في التعامل معها إلى التصنيفات الواردة في سميائيات بورس، وبالتحديد إلى الآليات التي تتحكم في عمليات الإدراك وبناء العلامة أيضا، ما يطلق عليه في نظريته " المقولات الفينومينولوجية ". كما نستفيد في ذلك من كل التأملات الخاصة بتمثيل الجمال كما يمكن أن يتحقق في الأعمال الفنية التي تحاكي نموذجا يشتمل، افتراضيا، على الجوهر الجمالي كما يمكن تصوره خارج أي عمل مخصوص.

2- يميز بورس، في محاولته تحديد الآليات التي تقود الكائن البشري إلى إدراك نفسه وإدراك عوالمه في انفصال عن المتعدد الموضوعي، بين ثلاث حالات للوجود : الوجود النوعي الموضوعي، ووجود الوقائع الفعلية، ووجود القانون الذي سيحكم الوقائع استقبالا (1). وتعد هذه الأشكال الوجودية الأصل الأول الذي تنطلق منه آليات كل شيء، استنادا إلى حالات المفهمة التي نستعيض من خلاها عن الوجود الحسي بوجه رمزي يحل محله، وهي أداتنا أيضا من أجل إنتاج الفكر المجرد واستنباط القواعد المنطقية. لذلك، فإن بورس يطلق عليها أيضا : النوعية والواقعة والعلاقة. وهذه الأشكال هي هي في ذاتها، لكنها لا يمكن أن توجد منفصلة عن بعضها البعض إلا ضمن الفرضيات التي يسقطها الباحث.  

لا يستدعي الشكل الوجودي الأول سوى النوعيات والأحاسيس، لا باعتبارها حقائق فعلية، بل باعتبارها جواهر أصلية مفصولة عن كل السياقات الممكنة: إنها السعادة قبل أن يكون هناك رجل سعيد، وهي الألم قبل أن تكون هناك حالة دالة على ألم فعلي، وهي الأبيض أو الأحمر قبل أن يكون هناك شيء يتميز بالبياض أو الحمرة. وفي جميع الحالات، فإن الأمر يتعلق هنا بوضعيات مفترضة تتميز بالاحتمال ولا شيء هناك في الحاضر أو المستقبل يؤكد، نظريا على الأقل، إمكانية تحققها. لذلك " فهي هي في ذاتها إيجابيا دون الإحالة على شيء ما" (2).

وهناك شكل ثان للوجود، ويتعلق بالواقعة الفعلية كما يمكن معاينتها ضمن سياق بعينه، أو ضمن حالة من حالات الفعل المفرد، كما يمكن أن يتحقق هنا والآن في انفصال عن قاعدة تثبته أو يُتخذ نموذجا لتحققات مشابهة استقبالا. "فهي هي في ذاتها في علاقتها بأول دون اعتبار لثالث"(3). فهذا الشكل الوجودي لا يقدم سوى وجه لتحقق مفرد لا يستند إلى أي قانون، فالواقعة الفعلية التي تتحقق باعتبارها نسخة لا يسندها نموذج أو قاعدة لا يمكن أن تكون أساسا يقود إلى إدراك مجرد للظواهر، وهو الشرط الرئيس للتعميم. لذلك، فإننا ننتقل، من خلال ممكناتها، من السعادة المجردة إلى سعادة فعلية،كما يمكن أن تتحقق في سلوك ما ( واقعة أو موجود)، وننتقل من حالات الأحمر المطلق إلى الأحمر كما يمكن أن يتجسد في ثوب أحمر أو الدم الأحمر أو ما تشاؤون من حالات الأحمر التي لا نستطيع أن نقدم جردا وافيا يحتويها جميعها.

إلا أن تعدد حالات السعادة وتعدد أشكال الأحمر وتنوعها هو كذلك ضمن اللحظة العابرة، لا ضمن القانون الزمني الذي يُنمذج الحالات ويعممها. فالسعادة والأحمر قد ينتفيان بمجرد انتفاء الشروط التي أنتجتهما. بل يمكن القول إننا أمام سعادة بلا ذاكرة وأحمر بلا مستقبل. فالأشياء التي تتحدد من خلال نسخة مفردة فقط أو من خلال واقعة واحدة لا يمكن أن توجد إلا في السياق العابر. إن استمرارها في الوجود رهين برابط من طبيعة أخرى.

ويحيل هذا الرابط على الشكل الثالث، وهو شكل مختلف عن الأول والثاني من حيث الطبيعة ومن حيث الاشتغال، إنه يشير إلى القانون الذي يفصل في السعادة بين النسخة ونموذجها، ويفصل بين الأحمر المتحقق وأصله الاحتمالي، ولكنه يقوم أيضا بالفصل بين السعادة وبين التعاسة وبين الأحمر والأبيض. إنه القاعدة التي من خلالها تتميز الأشياء عن بعضها البعض وتتقابل فيما بينها، وهي شرط ضروري للتخلص من العرضي والعابر. إنه الاحتمال العلمي، أو عمومية القاعدة." يكمن هذا الشكل الوجودي في كون الوقائع المقبلة للشكل الثاني تتخذ طابعا عاما" (4).

 إن هذا الشكل يتحدد باعتباره الأصل الذي تقوم عليه الروابط الممكنة بين الأول والثاني، بين الممكن والمتحقق، وبين النوعية وإمكانات تجسدها. إنه يقدم الضمانة على إمكانية وجود رابط ضروري بين شكلي الوجود هذين. وبعبارة أخرى، نحن في هذه الحالة أمام العلاقة التي تجعلنا نتحدث عن الأحمر لا باعتباره نوعية ولا باعتباره واقعة مفردة، بل باعتباره قانونا يمكن من خلاله التعامل مع كل أشكال الأحمر الممكنة، ومن خلال علاقته بكل الألوان التي ليست هو.

3- ولا يسعنا المجال هنا لكي نقدم المزيد من التدقيقات التي تعد الأساس الذي قامت عليه سميائيات بورس في كليتها، فهذا أمر يحتاج إلى سياقات أوسع. سنكتفي بالإشارة هنا إلى أن بورس بلور، استنادا إلى هذه التمييزات الأولية، نمذجة أولية خاصة بكل مكونات العلامة ( البناء الثلاثي)، تشمل حالات الوجود هاته كما يمكن أن تحضر من خلال المكونات الثلاثة للعلامة. ونكتفي بما يعود للمكون الأول الذي يندرج ضمن فرضيتنا التحليلية. لقد ميز، ضمن تنظيمه الثلاثي، بين علامات نوعية وأخرى مفردة وثالثة معيارية. الأولى دالة على عمومية قصوى، وتحيل الثانية على تحقق مفرد، أما الثالثة فتشير إلى المعيار الذي يتحكم في حالات التحقق المتنوعة. وما يهمنا في هذا السياق الضيق هو الحالة الأولى التي تعين علامات منكفئة على ذاتها ولا تشتغل إلا باعتبارها نوعية أو إحساسا غامضا ( الصرخة التي تمزق ظلام الليل دون أن نعرف مصدرها، واللطخة الحمراء التي تشوش على بياض الحائط). إنها علامات دون أن يكون هناك سند يدل على ذلك، فهي تكتفي بالإحالة على إحساس يتلاشى بمجرد اختفاء اللحظة التي تحتويه، فالأحمر في ذاته كما يمكن أن يحضر في لحظة عابرة أمام ناظري متلق يصنف ضمن العلامات النوعية، لأنه يحيل على إحساس غامض لا يمكن تدبر كنهه إلا من خلال استحضار سياق، إلا أن هذا السياق ذاته هو الذي يقود إلى الانتقال إلى حالة وجودية ثانية تنتفي من خلالها النوعية باعتبار ذاتها.

يتعلق الأمر، من زاوية أخرى، بالبحث في "جوهر " النوعية أو الإحساس لا في " تجلياته الملموسة". وهي حالة مفترضة فقط، إنها لا يمكن أن تقودنا إلى الكشف الفعلي عن جوهر كلي، فتلك قضية حسمت في أمرها أغلب نظريات المعرفة، بل تمكننا فقط من تبين حالات اشتغال الوجدان الإنساني أو ذاكرته في بحثه الدائم عن مطلق في الإحساس والرؤية والامتلاك الكلي لكون لا نهاية له. إنها شبيهة في ذلك بعمل الأساطير التي استعاضت عن العالم الفعلي بعوالم لا تحكمها قوانين الجاذبية والتعاقب الزمني. إنها الرابط الأصلي بين ما يمكن أن نعتبره " توترات غير مرئية " بتعبير مارييت جوليان (5)، وبين الوقائع التي يمكن أن تخبر عنها في الوجود الفعلي. إن امتداد الانفعال خارج اللحظة المتحققة هو الضابط المركزي لحالات الاستيهام التي تطلق عنانها حالة مفردة لا امتداد لها خارج ذاتها: لا يتحقق الانتشاء عبر إشباع العين، بل يتم من خلال تحرير الوجدان وربطه من جديد مع ماضيه الأسطوري الموغل في القدم.

 والوصلة الإشهارية تدرك جيدا سر هذا التباين بين التجلي والأصل المودع في قيمة لا نرى منها سوى تحققات لا يمكن أن تستنفد مجمل طاقاتها. لذلك، لا تعد النسخة التي تضعها أمام ناظري المتلقي سوى ممر للإحالة على" مطلق كلي" وقد تجسد فيه الجوهر الذي يحتوي خصائصه كما هي في ذاتها إيجابيا دون الحاجة إلى سند مرئي. فالنوعيات ( كالأبيض والأحمر، والناعم والأملس...) والأحاسيس ( كالسعادة والحب والطمأنينة...) هي أصل ثابت في ذاتها، ولكنها لا تعاش إلا من خلال خبرة فردية قد تحقق جزءا منها. وما تقترحه الوصلة هو لقاء بين هذه الخبرة التي تستمد وجودها من ممارسة سابقة، وبين سلسلة الاستيهامات التي تولدها إمكانية الحصول على هذا الإحساس في كليته، كما يمكن أن تعيشه ذات معزولة في انفصال عن كل الذوات الأخرى.

وقد تكون هذه المبادئ العامة هي المداخل الرئيسة التي يجب أن تقودنا إلى الكشف عن سر بناء الوصلات الإشهارية التي تعالج هذا النوع من الانفعالات. فالإشهار يهدف، في حالات كثيرة، سواء تعلق الأمر بمفهوم السعادة أو الحب أو الانشراح، أو تعلق بنوعيات كالأبيض والأحمر والناعم، إلى إسقاط وضع إنساني يمكن أن نتصور من خلاله إمكانية الإمساك بأصل" النوعية " كما هي في ذاتها خارج كل السياقات الممكنة التي قد يوحي بها تنوع الممارسة الإنسانية. فالسعادة، في كل الحالات، هي" مفهوم " يمكن الحصول عليه من خلال تشخيصه ضمن سلسلة لا حد لها من الوضعيات الحقيقية أو القابلة للتخيل، ولكنها في ذاتها غير قابلة للتصور من خلال هذه الوضعية أو تلك، فما يلتقطه المتلقي من مفهوم السعادة هو حالة خاصة يجب أن تنتهي به إلى عتبات كل أشكال السعادة، حينها سينتشي بسعادة جوهرية لا أعراض تخبر عنها. فعلى الرغم من الطابع الأليف للوضعية، فإن الوصلة لا تقدم في واقع الأمر سوى" شكل" فارغ قادر على استيعاب جوهر السعادة باعتبارها مضمونا محايثا سابقا على المفصلة التي تعد وحدها وجها قابلا للإدراك.

استنادا إلى هذا، يمكن القول إن الوصلة الإشهارية لا تقود إلى استعادة " الوجه المفهومي" للواقعة كما يتم تمثيلها من خلال الصورة، فهذا أمر لا يتم إلا ضمن قراءة واعية، إنها على العكس من ذلك، أو ربما بالإضافة إلى ذلك، تقود إلى إطلاق العنان لقوى انفعالية لا يمكن ضبط حدودها من خلال شكل بعينه، إنها تتخلص من التسمية والتعيين ومن كل أدوات " التسييج المفهومي" لكي تستعيد جوهرها السابق على أية مفصلة. إن الوصلة لا تروم، في حقيقة الأمر، تبليغ " مفهوم" جاهز بل تقوم بتفجيره في سلسلة من الوضعيات المحسوسة. إن المفهوم عقلي واختزالي وتقليصي بطبعه، أما النوعية فطاقة غامضة بلا حجم ولا حدود. إن المفهوم رابط بين حالتين، أما النوعية فكيان موجود في ذاته، خارج أية علاقة، وفي انفصال عن أي تجسد في وضعية بعينها.

وهذا معناه، من جهة ثانية، أن القوة الضاربة للوصلة الإشهارية لا تكمن في طبيعة ما تقدمه للاستهلاك المباشر، بل مصدرها قدرتها على تخليص المتلقي من لحظة " الإشباع المرئي" ( اقتناء مُنتج ما) والقذف به داخل حالات الاستيهام. وهذا أمر تفسره آليات الإقناع الإشهاري ذاتها، وهي آليات تستبعد بالضرورة أحكام العقل لكي تحتفي بالانفعال وحده. فالإشهار لا يضع خبرا للتداول، بل يسرب حلما، ولا يبيع منتجا بل يلوح بخلاص. والحاصل أن الواقعة المفردة، كما تصوغها الوصلة الإشهارية وتقدمها للمستهلك، ليست في نهاية الأمر سوى استثارة لذاك " الجوهر" الذي يجب أن يبقى خارج كل تحقق، فهو المنبع الذي يغذي باستمرار صور التحققات الممكنة. إنها تنتقل بالموضوع من واقع خارجي ومدرك بشكل مباشر إلى تمثل جواني. فالظاهر للعين يخفي دائما شيئا وراءه.

 استنادا إلى هذا المبدأ، ستواصل الوصلات الإشهارية التنافس فيما بينها من أجل تقديم " أبيض" لا يشبه أي بياض، ولكنها ستفعل ذلك دائما من خلال " بياض مرئي" في موضوع بعينه. إنها لا يمكن أن تكشف للمتلقي عن السر المخبأ في المُنتج، إنها تكتفي بوضعه على السكة التي تقود إليه. إن الاستعانة بالأحاسيس المباشرة لا يشكل غاية في ذاتها، قد يكون الأمر على خلاف ذلك، فهي ليست سوى الشكل المرئي لإحساس يجد تجسيده الأسمى في" الجوهر" الأصل، تماما كما هي السيرورة التي تقود إلى اللذة، فهي حالة ممتدة، وليست لحظة نهائية.

يمكن القول إذن، بكثير من الاطمئنان، إن الوصلة لا قيمة لها على مستوى التلقي المباشر، فهي تتحدث عن حاجة نفعية نادرا ما تثير اهتمام المستهلك ( الوظيفية هي النقيض المطلق للبعد الرمزي المتعي)، ولكنها من حيث الإحالة على قيمة ضمنية تعد مصدرا لإشباع من طبيعة أخرى. وذاك ما تحيل عليه أحيانا الاستعمالات الخاصة بفضاء الأعالي وماء الأرض (كما هي حالة الوصلات التي تقدم للعين منتجا ضمن وضعيات تصور أشخاصا يتسلقون الجبال أو يحلقون في الفضاء أو ينتشون بعباب البحر أو ماء السواقي الجارية)، فالمستهلك في هذه الحالة لا يرى نفسه في السماء، بل يستشعر الرغبة في التخلص من كل ما يشده إلى الأرض والأشياء، ولا يتحسس الماء في جسده، بل ينبعث من جديد ضمن حالة تعود به إلى لحظة " عري"  أصلي هو مبتدؤه ومنتهاه.

وضمن هذا تندرج حالة " الأبيض" وكل النوعيات المشابهة. فهذه النوعية لا تشكل في نهاية المطاف في أغلب الوصلات الإشهارية، سوى ممر نحو الذوبان في قيمة أخرى. فمن خلالها تتخلص العين من نفعيتها لتتحول إلى بؤرة تستوطنها فضاءات الحلم المتحرر من كل الإكراهات. وتلك غاية كل " تواصل فعال" أحادي الاتجاه، وذاك هو شرط " الإقناع" كما يتم في الإشهار أيضا. وفي هذه الحالة، وفي جميع الحالات أيضا، فإن " الإشباع" ليس غاية، فالغاية لحظة فارغة، إن ما يشكل اللذة هو الاستمتاع بحالات التوق إليها. إن الرحلة أهم من غاياتها.

وهو أمر يكشف عنه الفصل بين النوعية في ذاتها ( ما كان يسميه بورس " الأولانية " التي لا تخوم لها ولا ضفاف، أي سلسلة الأحاسيس والنوعيات المدركة في ذاتها)، وبين حالة من حالات وجودها. إن " البياض " المجسد في هذا الثوب أو ذاك كيان معروف، لأنه يتحقق باعتباره كذلك في نسخ لا عد لها ولا حصر، ولكن جوهره سيظل سرا غامضا يستعصي على الإدراك خارج ما يخبر عنه. وتلك هي " لحظة الإقناع" في الوصلة الإشهارية : الإيهام بوجود هذا الجوهر والاستمتاع به من خلال ما يرافق تحقق النوعية أو الإحساس في وضعية بعينها. فبالإمكان إدراك سر الأبيض من خلال استعمال المسحوق " س". لذلك، ف" النْقَاوة " ( النقاء) يجب ألا تقودنا فقط إلى مقارنة الثوب " أ " بالثوب " ب " ضمن حالة تنافس بسيط بين نسوة في المدينة والبوادي لا عمل لهن سوى التلصص على بعضهن البعض، بل يجب أن تقودنا إلى الإمساك بهذا الجوهر الذي تخفيه حالات التحقق ولكنها تبشر به في الوقت ذاته.

وضمن هذه " الغاية" يمكن إدراج وصلة إشهارية بثها التلفزيون المغربي في السنة الماضية :" أنقى من النقاوة نقاوة تيد" (أنقى من النقاء نقاء تيد). فهذه الوصلة لا تتطلب من المتلقي، على مستوى التلقي المباشر، كثيرا من الذكاء لكي يدرك أنها تمدح مسحوقا يقوم بوظيفته أحسن من كل المساحيق الأخرى، فذاك هو منطوقها. إلا أن الأمر قد ينكشف عن شيء أعمق من ذلك بكثير، فالملفوظ يقول شيئا آخر غير الحديث عن مفاضلة بسيطة بين منتجين. إنه لا يقدم نقاء شبيها بكل حالات النقاء، بل يقدم " النقاء" كما هو في ذاته، أي باعتباره نوعية خالصة كما هي في ذاتها ولذاتها خارج حد التقابل أو حد التجسد، إنه " الوجود النوعي الموضوعي السابق على أي تحقق"، فقبل أن يكون هناك ثوب أو شيء ما نقي كان النقاء نوعية في ذاتها. إن الاحتمال هو الذي يستثير الانفعالات ويؤججها، أما التحقق فحالة من حالات الاسترخاء.

إن الملفوظ السابق ينقل التنافس من أرضية التباري على تقديم " ظاهر خارجي"، إلى معركة من أجل امتلاك الأصل، وهو بذلك يحرم الآخرين منه بالضرورة. فالتنافس لا يكون إلا إذا كان في اتجاه تقديم الأصل الذي يجمع في ذاته ولذاته كل النسخ الممكنة. إن الوصلة تستدرج الذات المستهلكة، من خلال المدلولات التوسطية الفاصلة بين غايتها التجارية وبين مضمونها الحقيقي، إلى مجاهل الانفعال حيث ترقد كل الرغبات الدفينة التي تؤرخ لوجدانه التواق إلى محاولة التعرف على الجوهر الذي يعد أصلا لكل النسخ.

يتعلق الأمر بوضع اليد، فيما يشبه حالة من حالات الاستئناس الصوفي، على الأبيض المطلق، الأبيض الوحيد الأبدي الصافي والخالد، ذاك الأبيض المفصول عن كل الألوان الأخرى. وذاك هو ما تتكفل به حالات الاستيهام، فالمُنتج الذي لا يوحي بشيء آخر غير نفعيته لا يمكن أن يكون مصدرا للذة. إن إغراء الاندفاع العاطفي أقوى من منطق العقل البارد. إنها اللحظة التي يمكن من خلالها الإمساك بالحدود الفاصلة بين إشباع نفعي ( وهو أمر لا يمكن التنكر له لأنه يمثل الغاية التجارية لكل وصلة) وبين لذة روحية ( وهمية في جل الحالات). وهذه اللذة هي المضمون الذي يلتقطه المتلقي وينتشي به، فالوصلة لا تبيع فقط، بل تبشر بالآتي الأفضل.

إن قوة الوصلة ومصداقيتها تكمن في قدرتها على التحكم في هذه اللحظة، فذاك مصدر طاقتها الإقناعية وذاك سر نجاحها. كل شيء مرتبط في الوصلة بصياغتها ( تجسيد المضامين). وبعبارة أخرى، كيف يمكن أن ندفع " بالأبيض" ( كل النوعيات والأحاسيس) إلى حدوده القصوى لكي يصبح دالا على سياقات أخرى تغطي على مظهره " الواقعي"، أي الدفع به إلى تجاوز تجلياته والتسرب إلى روح الحكايات والرؤى الأسطورية ؟ الثابت في ميدان الإشهار، أن مصمم الوصلات ينطلق من حالات التلقي المشترك من أجل بعث الروح في منتجات محدودة من حيث الوظيفية، إنه شرط التواصل كما يمكن أن يتحقق استنادا إلى مفهوم الاسترجاع ( retroaction) كما بلوره نوربيرت فيينر. والاسترجاع هو" قدرة الفعل المنجز آنيا على التأثير في سبب وجوده استنادا إلى نسق يبرره "(6). إن الوصلة لا تستجدي الذات المستهلكة ولا تخطب ودها، كما يبدو عليه الأمر في الظاهر، إنها تُشْرِطها وتكيفها بشكل مسبق من خلال التحكم في انفعالاتها.

 والمشترك هنا لا يقتصر على المباشر من التصنيفات الثقافية والأحكام الإيديولوجية، بل يمتد إلى ما هو أبعد من ذلك لكي يستحضر المشترك " النوعي"، أي مجمل الصور النمطية التي تعد إرثا مشتركا للبشرية كلها. وهو ما يعني، في التصميم والتلقي على حد سواء، استنفار كل المعارف الخاصة بالبياض مثلا : إحالات البياض على الطهارة والبداية الأولى والنهاية المطلقة، وإحالاته على كل التقابلات التي تولدها الروابط بين الأبيض وغيره من الألوان، إن اللون ليس لونا إلا في تقابله مع غيره من الألوان. إنه إحالة على متصل يمتد من الإشباع الكلي إلى الاندثار الأبدي.

 تشكل هذه الوقائع، في حقيقة الأمر، استعارة بصرية ولا يمكن التعامل معها باعتبارها حقيقة موضوعة أمام العين للمعاينة والتصديق البعدي. إلا أن ذلك لا يعني التجاهل الكلي للمستوى الإخباري في الوصلة(7). فالإشهار لا ينسى أبدا، كما أوضحنا ذلك دائما، أنه موجه لحث الناس على الشراء ولاشيء سوى الشراء.

فليس المطلوب من الرائي ( الزبون) أن يتأكد من طبيعة هذا البياض من خلال السند الحامل له، فتلك مسألة لا قيمة لها ولا يمكن أن تتحقق في جميع الحالات، مادامت المسحوقات كلها يمكن أن تزعم أنها تقدم أبيض أصليا، بل يتعلق الأمر باستثارة لخاصية البياض الأصلي كما يمكن أن يستشعرها الرائي من خلال صورة داخلية تشكل حالة وعي خاص ليس بالأبيض المرئي، بل بالعوالم التي يمكن أن يحيل عليها، بما فيها حالات الموت باعتبارها حياة بدون ألوان. وذاك هو المدخل الرئيس للانتقال من عوالم التملك المحدودة إلى رحاب الكينونة المنفتحة على كل الاحتمالات الانفعالية. ينبني التملك على يقين مشبع، أما الكينونة فتتأسس على وعد مفتوح (8).

إن الأمر يتعلق بإحساس مزدوج، أو بصيغة من صيغ تلق قائم على حالة انشطار قصوى تجعل نفعية العين ممرا إلى متعة تستثيرها الصور النمطية التي لا يمكن أن تُرى بشكل محسوس. والفرق بيِّن بين نفعية العين وحالات الاستيهام فيها. فالأولى مرئية من خلال الشيء ذاته، إنها واعية وقادرة على تبين ذاتها في حالات الاختيار المباشر والمقارنة والتفضيل. أما الثانية فمن طبيعة أخرى، إنها تتخلص من موضوعها لكي تفتح النظرة على عوالم جوانية تسكنها الانفعالات التي لا تتقيد بالمدرك ولا تكترث لمقتضياته. يعيش الفرد متعة الوجدان بشكل لاواع، وقد لا ينتبه إلى إملاءاته الخفية، ومع ذلك قد لا يكون هناك من سبب للشراء والامتلاك سوى هذه المتعة.

لذلك، فإن النوعيات جميعها يعيشها الفرد دائما من خلال إحساس مزدوج: فهي لحظة في الوجود كما يمكن معاينتها من خلال الوقائع، ولكنها ليست كذلك إلا في ارتباطها الخفي والمستتر بصورتها المثلى، إنها في نهاية الأمر نوعية في الوعي وليست موجودا فعليا. وقد يكون ذلك هو الممر الذي يقودنا إلى الربط بين ظواهر متباينة من حيث الطبيعة والشكل الوجودي. فما الذي يدفعنا إلى الربط بين الأحمر والحرارة وبين الأزرق والبرودة أو الهدوء أو التأمل، وما الذي يجعل الأسود دالا في وجداننا على الحزن؟ الإنسان وحده تعلم كيف يودع جزءا من ذاته في أشياء محيطه. فهو لا يدرك سر المطلقات في وجدانه إلا من خلال ما تكشف عنه ظواهر مألوفة في عينيه، ومنها الألوان ودلالاتها الثانية. وبعبارة أخرى، يتعلق الأمر بخلق حالات تراكب بين نوعيات وأحاسيس تنتمي إلى سجلات مختلفة، فذاك هو الشرط الذي يُجَسَّد وفقه ما لا يمكن تصويره أو تشخيصه في وضعيات ملموسة.

ولا يقتصر الأمر على نوعيات وأحاسيس لا يمكن إدراكها إلا من خلال حالات التشخيص. إنه يخص أيضا عددا هائلا من الروائح التي تعد قاعدة أساسية لشبكة تواصلية عريضة، ومبدأ تستند إليه مجموعة من التصنيفات والأحكام المسبقة : كيف يمكن أن نرسم الرائحة أو نسمع صوتها ؟ فحالة " الرائحة" لا تختلف كثيرا عن عمليات تمثيل النوعيات والأحاسيس، فهي الأخرى تحتاج إلى سند ما لكي " يراها " المتلقي، لا لكي ينشط حاسة الشم عنده، فتلك حاجة بيولوجية، بل من أجل استثارة " كينونة روحية" داخله تتحقق من خلال عطر بعينه. قد يكون الأمر شبيها " بالهوية الشمية " الخاصة بالذات. وليس غريبا أن يهتم مصممو وصلات العطور بتقنيات التعليب، الاسم ولون القارورة وشكلها (9)، فهذه العناصر ليست غريبة عن الانفعالات التي يمكن أن يستثيرها عطر ما. والشكل وحده له قصص كثيرة في هذا المجال (10).

إننا من خلال ذلك نتجاوز ممكنات التصنيف الأولي القائم على استقطاب ثنائي يقابل الطيب بالخبيث، أي يقابل ما يأتي من  الطبيعة بإفرازات الجسد، وهو استقطاب تتحدد انطلاقا منه كل التصنيفات اللاحقة، وضمنه أيضا تتبلور كل إمكانات التواصل الشمي (11). فاستنادا إلى هذه الثنائية يمكن الإحالة على عدد هائل من الروائح المرتبطة بعطور يمكن من خلالها تصنيف الناس دينيا واجتماعيا. فقد تكون العطور دالة على: " الوقار" و" التقوى" والاندفاع الحيوي" و" الرغبة الجنسية" وغيرها من التصنيفات. إنها حاجات داخلية تنفجر في " روائح" تعد مدخلا للكشف عن الجوانب " الروحانية " في ذات كل إنسان. وقد ذهب بورس بعيدا في تحديد الروابط بين العطر وصاحبه إلى القول " إن العطر المفضل عند امرأة يتطابق مع كينونتها الروحية. فإذا لم تستعمل أي عطر، فإنها ستفقد الكثير من رقتها. يبدو أن هناك تشابهات دقيقة بين العطر وبين الانطباع الذي أملكه عن طبيعة المرأة" (12).

بل يمكن الذهاب بعيدا في هذا الاتجاه والقول إن الرائحة أكثر من غيرها، هي ما يفجر في الذات المستهلكة أشد الانفعالات قوة واستعصاء على الضبط العقلي. فقد تدفع العطور بصاحبها أيضا إلى العودة إلى الأصل الطبيعي للكائن البشري خارج محددات الثقافة التي قادتنا إلى اكتشاف العطر باعتباره " قناعا ثقافيا " (13) : حالة التوحش التي لا تكشف، في هذه السياقات، عن طابع عنيف، بل توحي برغبة لا تحكمها قيود ولا يحد من جبروتها وازع : نحيل في هذا المجال على وصلات تصور امرأة مضمخة بعطر تسير وحيدة في الشارع، فتلهب غرائز رجل يسارع إلى إهدائها باقة ورد. هل يجب أن نذكر أن الكثير من الحيوانات تتعرف على شريكها من خلال الرائحة؟

واضح إذن أن الوصلة تقوم بتسريب" الانفعالي" إلى ما يشكل صلابة المفهوم وقوته. وهذا التسريب هو الذي يقود إلى الانتشاء بلحظة تجمع بشكل لاواع بين النفعي وبين حالات المتعة التي نجهل مصادرها في أغلب الأحيان. وهذا هو الحد الفاصل بين اندفاع انفعالي مصدره وعي عاطفي لا تسنده أحكام مفهومية سابقة، وبين وعي انفعالي تحركه الرغبة في التخلص من وعي موغل في عقلانيته.

وليس في هذا الأمر، ظاهريا على الأقل، أي تجن على العقل وأحكامه. فغموض الانفعال واندفاعه ليس إلغاء لحالات الأنسنة التي جاءت بها الثقافة. لذلك " فترك الوعي العاطفي يزدهر لا يعني التقهقر نحو غموض سابق عن الثقافة،  يجب ألا نخلط دون تدقيق، بين لبس بدائي سابق على أي مبدأ للتمييز، وبين لبس مكتسب ولاحق للفعل وخاص بالوعي العاطفي، كما تم الاحتفاظ به باعتباره رديفا للوعي الفكري، أو باعتبارها خصما وعدوا  له" (14). فالترابط بينهما هو التعبير الأسمى عن حالات التوازن في الإنسان، فما بين هذا وذاك يسرب الإشهار مجمل أحكامه.

قد لا يقودنا هذا الأمر إلى الاعتقاد أن الإشهار يشيد رمزيته فقط استنادا إلى مصادر أسطورية تقتات من الصور النمطية وحدها، فهذا أمر تفنده الكثير من الشواهد، ولكننا لا يمكن أن نتجاهل أنه، في حالات كثيرة، يبلور إرسالياته استنادا إلى" الحاجة " بمفهومها الواسع. فليس له في واقع الأمر سوى ما يمكن أن تقدمه " الرغبات" الإنسانية وسبل إشباعها، إنه يؤسس لرمزية عائمة تتغذى من كل الصور المبهمة كما تتحقق في المجالات الفنية والدينية والاجتماعية.

------

هوامش

1- C . S . Peirce : Ecrits sur le signe, éd Seuil,1978,p.69

2-  نفسه ص70

3- نفسه ص70

4- نفسه ص71

5- جولييت ص77

6- Bateson, Birdwhistell, Goffman, Hall, Jackson, Scheflen, Sigman, Watzlawick : La nouvelle communication , textes receuillis et présentés par Yves Winkin p 15 

 

7- انظر كتابنا : الصورة الإشهارية- آليات الإقناع والدلالة، المركز الثقافي العربي ، 2009

8- يقول جاك سيغيلا : " إن وعد الكينونة أشد إغراء من يقين التملك" انظر : Jaques Séguéla : Hollywood lave plus blanc, Flammarion, 1982,p48

9- Mariette Julien : L’image publicitaire des parfums, éd harmattan,1997,

10-,éd Calmann-Levy,1984 Vance Packard : La persuasion clandestine

11- Bernard Toussaint : Qu’est ce que la sémiologie, éd Regard- Privat,1978,p36

12- C. S. Peirce , collected papers ( 1.313) cité par Mariette Julien

13- Bernard Toussaint ,op cit p35

14-قولة لفرانسوا ألكيي تحيل عليها : Nicole Everart-Desmedt : Le processus interprétatif, Introduction à la sémiotique de Ch. S. Peirce, éd Mardaga, Bruxelles, 1990,109

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 
 
 
معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقـة تعريـف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع  خزانات الموقـع  صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

موقع سعيد بنگراد - تاريخ الإنشاء: نونبر 2003