يُنظر إلى النموذج عادة على أنه
الصورة المثلى لشيء أو سلوك ما، ولهذا فإنه يشتغل باعتباره
الموضوع أو السلوك الذي تجب محاكاته والتماهي فيه، فهو يحيل على
الشكل الأمثل الذي يجب أن تنتهي عنده كل الأشكال : ما يتعلق
بحالات الشيء وأنماط السلوك. فأجمل العوالم وأحسنها وأفضلها
وأرقاها هي تلك التي يقدمها النموذج، وما لا يستقيم داخله يمثل
الاستثناء، أو يحيل على صور أفرزها سلوك مريض يشكو من خلل في
الهوية. إن النموذج، من خلال هذا التحديد، يتطابق مع فكرة المثال
الذي يقاس من خلاله السلوك الفردي والجماعي على حد سواء.
وقد يُنظر إليه باعتباره يشكل مجموع الخطاطات
السلوكية المكتسبة، وكذا خطاطات الإدراك والفعل والممارسة وردود
الفعل. وهي خطاطات تأتي من الانتماء إلى ثقافة ما. ولهذا فإنها
تشكل ما يشبه أداة التوسط المثلى بين " علاقات موضوعية
" (
الموضوعية هنا نسبية، أو هي كذلك ضمن سياق
اجتماعي بعينه )، وبين الممارسة الفردية التي لا يمكن أن تُدرك
وتفهم وتستوعب إلا من خلال إسقاط النموذج الذي يمنحها هويتها.
وذاك هو الهابتوس
habitusكما
حدده بورديو. وهو، فيما يبدو، تعريف محايد لا يشتمل على أي حكم
مسبق يقود إلى تفضيل هذه الخطاطة على تلك.
ويمكن أن ننظر إلى النموذج، من جهة ثالثة،
باعتباره بناء افتراضيا يمكننا من التعرف على نمط اشتغال مجموعة
من الظواهر وتحديد طبيعة مكوناتها. وهو الاستعمال الخاص بالنموذج
في مجموعة من العلوم، ومنها اللسانيات والسميائيات بطبيعة الحال.
فكل النظريات في هذه المجالات تقوم على افتراض يقول بوجود نموذج
عام يمكن من خلاله فهم الظواهر في تحققاتها اللامتناهية. وبدون
هذه النماذج لا يمكن أن نتبين طريقنا وسط غابة لا متناهية من
التحققات المتباينة في الوجود والاشتغال.
وفي جميع هذه الحالات، فإن النموذج هو بناء نظري
( استنباطي في أغلب حالاته) يشتمل على سلسلة من الإجراءات
التطبيقية، الغاية منها الكشف عن هوية الظواهر من خلال قياس درجة
التطابق ( أو عدم التطابق) بينها وبين النموذج الذي يتضمن كل
الصور التي يمكن أن تتجلى من خلالها الظواهر. وهي الصيغة الخاصة
أيضا ببناء المفاهيم، فالمفهمة هي محاولة لأسر القوى الطبيعية
والاجتماعية من أجل ترويضها وإخراجها من حالات التنافر، إلى ما
يوحد ويميز ويصنف داخل سلمية ثقافية متفق عليها. وه ما يعني ربط
الظاهربالخفي، والمتحقق بالمثال، والمتعدد بالمفهوم الذي يحل
محله.
وهذا أمر في غاية الوضوح. فالمعرفة الإنسانية في
كل مظاهرها قامت على مبدإ أساس : الربط بين الكوني العام وبين
المفرد الخاص. فالتفكير في العام لا يمكن أن يتم خارج ما تقترحه
التحققات المخصوصة، ولا يمكن إسقاط الخاص خارج المظلة التجريدية
التي يوفرها العام. وبتعبير آخر ( وهو تعبير لإدوار سابير)، فإن
الامتلاك الفكري للعالم الخارجي يمر عبر امتلاكنا لما يمكننا من
تهذيب الذاكرة المخصوصة وتعميمها لكي تصبح قادرة على استيعاب كل
الذاكرات الممكنة (1).
ولن نتوقف عند الحالة الثالثة، فهي مستقاة من
بناء مفترض عادة ما يكون خاليا من أي استثمار دلالي، لذلك فإنه
لا يشكل صورة يقاس من خلالها السلوك الإنساني الذي هو حالة خاصة
بإنتاج الدلالات وتداولها واستهلاكها. وبعبارة أخرى، يعد النموذج
في الحالتين الأولى والثانية بناء ثقافيا تخضع عناصره بكل
علاقاتها الممكنة للتغير الدائم، أما في الحالة الثالثة فهو
مجموعة من الخانات الفارغة ( إنها فارغة لأنها تستمد قيمتها من
موضوعات تحققها لا من عناصرها الذاتية).
وعلى الرغم من وجود تباينات متعددة بين ما ينتمي
إلى النموذج في معناه العام ( أي المثال الذي يجب أن يحتذى )
وبين مجمل الخطاطات التي نستعين بها من أجل إدراك العالم
الخارجي، أو تلك التي تعد بناء نظريا افتراضيا يراد منه تصنيفُ
الظواهر والكشفُ عن الروابط الموجودة بينهما، فإن الروح التي
تتحكم في كل التعريفات الخاصة بالنموذج تظل واحدة، ويتعلق الأمر
بالإجراء التجريدي. والتجريد هو سيرورة تقليصية تقوم برد التجربة
الواقعية إلى أشكال بسيطة لا تحتفظ من المعطيات الموضوعية سوى
بالعناصر المميزة، أي تلك التي تساهم في بناء هوية الشيء أو
الظاهرة. وبحكم طبيعته تلك، فإنه يمكننا من الكشف عن التناظرات
أو الاختلافات الممكنة بين وضعيات تنتمي إلى حقول مختلفة، أو بين
ممارسات ثقافية متميزة عن بعضها البعض.
ولهذا السبب، فإن الأساس في بناء النماذج
النظرية، أو محاولة الإمساك بالنموذج السلوكي العام الذي يتنكر
في ثوب المتحقق المفرد، هو التمييز بين العرضي والثابت، بين
الثانوي والأصلي. وفي هذه الحالة فإن النموذج يتقابل مع الموضوع،
تماما كما يتقابل العرضي والممكن مع الضروري والدائم.
وعلى هذا الأساس يمكن القول، إن مجمل الخطاطات
التي نستعين بها من أجل إدراك عالمنا الخارجي وخلق حالات التمايز
بين أشيائه وكائناته وأشكاله، إنما تستند إلى ضرورة الفصل بين
المعطى الموجود خارج الذات المدركة، وبين الكيانات المبنية، بين
الانطباع والحدس المباشر وبين الإمساك المفهومي بالظواهر. وهذا
هو الشرط الأولي والضروري للتخلص من إكراهات الزمان والفضاء، وهو
أيضا الشرط الذي يمكننا من تجاوز هشاشة الحواس ومجهوداتها
المحدودة في الاحتفاظ بكل السمات المميزة للشيء. فالإمساك ب"
الجوهر القابل للتعميم
".
(سابير ) (2) يقتضي التخلص مما يميز الظاهرة ويخصصها والاحتفاظ
بنموذج عام يشتمل على كل الظواهر الممكنة. إن تكسير المتصل شرط
لكل معنى، والمدى المحسوس بين الأفعال مقياس لكل زمن.
والخلاصة أن النموذج ليس سابقا في الوجود على
النسخة، ولا يمكن تصور نموذج خارج ما تفرزه الممارسة الإنسانية.
فكل النماذج " الأصلية " منها و" الفرعية" إنما هي تلخيص وتكثيف
وتثبيت في أشكال مجردة للحالات السلوكية المتشابهة والمتكررة في
الزمان وفي الفضاء. إنها الأساس الذي يقوم عليه التواصل بين
الأفراد والجماعات، بل هي الضامنة للروابط الممكنة بين أمم
متميزة عن بعضها البعض ثقافيا وحضاريا.
وهو الأمر الأمرالذي يدعونا إلى القول إن التواصل
الإنساني مهده النماذج لا يتم من خلال النسخ المخصوصة، فالنسخة
في ذاتها كيان تائه لا تحكمه دلالة ولا اتجاه. لذلك فإن النموذج
يعد، من خلال حالات اشتغاله المتنوعة، انعكاسا بعديا في ممارسة
قبلية، إنه خارج الممارسة وداخلها، فهو خارجها من حيث نمط وجوده
التجريدي، وداخلها من خلال وظيفة الرقيب التي يقوم بها.
فتحرير" الأنا" من إكراهات الزمن والفضاء يمر
عبر استعادة العالم الخارجي على شكل صور مجردة تشتغل كمصفاة تمر
عبرها كل النسخ المخصوصة. وبعبارة أخرى، فإن الأمر يتعلق بالتخلص
من المعطيات الحسية، واستعادة الحياة على شكل نموذج عام ومجرد
يتميز بانفصاله عن كل النسخ المتحققة ( رد التجربة المتنافرة إلى
ضرب من الوحدة بتعبير كانط). فلا شيء واضحا قبل ظهور المنفصل،
ولا يمكن إدراك أي شيء خارج التقطيع المفهومي الذي يقوم به
اللسان. فاللسان هو الأداة التي من خلالها نهتدي إلى " الذات" و"
الخارج "، إلى المعطى المباشر والفعل المؤجل.
إنه أرقى شكل رمزي اهتدى إليه الإنسان. فمن خلال
اللسان وداخله تمكن الإنسان من " تنظيم تجربته في انفصال عن
العالم " (3)، وإدراجها داخل غلاف مفهومي يحميها من الإحالة
الظرفية العرضية. ومن خلاله أيضا استطاع التخلص من إكراهات "
الزمنية الطبيعية"، وهي زمنية، كما هو معروف، مكررة ومعادة وبلا
ذاكرة، لكي يخلق زمنيته الخاصة، الزمنية الإنسانية، زمنية التطور
والنمو المطرد والتراكم الخلاق.
فالتسمية ( الشكل المفهومي للوجود ) تعد، في
نهاية الأمر وبدايته، محاولة للإمساك بذاكرة عامة تشتمل على
مجموعة كبيرة من السياقات الممكنة، وهذه السياقات لا تتعلق فقط
بالأشكال الخاصة بتحقق الشيء وأنماط وجوده وحالاته، بل لها علاقة
أيضا بموقع هذا الشيء داخل الممارسة الإنسانية وكذا بمجمل
استعمالاته. فوظيفة الشيء هي منطلق الثقافة وحالاتها الأولى،
لذلك فإن الأشياء تطمح إلى احتلال موقع داخل اللسان درءا
للتلاشي والذوبان في عالم طبيعي يحكمه مبدأ الانتقائية والتحولات
الدائمة. فاللسان لا يعبر عن الفكر، ولا يشكل غطاءه الأساس فحسب،
إنه، بالإضافة، إلى ذلك الأداة التي من خلالها يتخذ هذا الفكر
شكلا على حد تعبير كاسيرير(4). فنحن لا نستطيع أن نتعرف على ما
يوجد خارجنا وأن نصفه أو نقول عنه أي شيء إلا من خلال الحدود
التي يوفرها اللسان، فالذاكرة الإنسانية، في جزء كبير منها،
ذاكرة لسانية.
لذلك، فإن الثقة التي نضعها عادة في ما نطلق
عليه" الواقع الموضوعي" سرعان ما تهتز وتحيط بها الشكوك من كل
الجوانب بمجرد ما يتخلص الإنسان من ظرفية المعيش المباشر، لكي
يبلور معرفة تخص هذا الواقع، حينها ستطفو على السطح علاقات جديدة
هي المحددة للروابط الممكنة بين الإنسان وعالمه الخارجي. وهذه
العلاقات هي ما يطلق عليه أشكال التوسط الرمزي ( أرنست كاسيرير)
وهي الحد الفاصل بين الحيوانية وعوالم الإنسان. إنها أشكال رمزية
أفرزتها الممارسات الإنسانية المتنوعة، وليست معطى ثقافيا مرتبطا
بهذه الثقافة دون غيرها.
وداخل هذه الأشكال الرمزية ومن خلالها تبلورت
وتطورت كل النماذج الثقافية المعروفة وغير المعروفة. فالإنسان -
في تصور كاسيرير على الأقل- كائن رمزي، لذلك فهو لا يعيش واقعا
جديدا مختلفا عن ذاك الذي يحيا داخله الحيوان، إنه مميز عن
الحيوان لأنه يعيش داخل كون تؤثثه الرموز. والبعد الرمزي هو الذي
يفصل بين رد فعل عضوي يربط ربطا مباشرا بين مثير خارجي، وسلوك
مباشر، وتلك حالة الحيوان، وبين مثير خارجي وبين استجابة مؤجلة
لا تتم إلا من خلال استحضار سيرورة معقدة وبطيئة هي السيرورة
التي يخلقها التعاطي الرمزي مع الوجود الإنساني.
وبناء عليه، فإن الإنسان لا يرى الواقع ولا يحيا
تفاصيله ولا يتأمله إلا من خلال سلسلة من الوسائط الرمزية، ومنها
اللغة والدين والأسطورة والفن وكل المنتوجات الروحية الأخرى.
فكلما ازداد النشاط الرمزي وتنوع، تراجع الواقع المادي على حد
تعبير كاسيرير، (5) وحلت محله النماذج الثقافية المجردة التي
ينتظم وفقها السلوك الإنساني، ووفقها يفهم ويصنف، بشكل صريح أو
ضمني. فالنماذج ليست منبهات واعية في جميع الحالات، بل خطاطات
مستبطنة تسكن اللغة والجسد، وتحدد ماهيات الإيماءت وردود
"
الأفعال العفوية"، عادة ما تكون هي الضابط
والناظم لكل السلوكات، وهب المتحكمة في أشكال تحققاتها الممكنة
وغير الممكنة.
ولذك فإن أحكامنا وتصنيفاتنا ونماذجنا الثقافية
لا تحمل الحقيقة في ذاتها. فهي تُصاغ من خلال لغة لها منطقها
الخاص في المفصلة والتقطيع المفهومي، وتتحقق داخل تربة ثقافية
تتميز برؤيتها ومخيالها الخاصين. وهذا أمر بالغ الأهمية،
"
فالطريقة التي يدرك من خلالها الإنسان عالمه الخارجي مبرمجة في
اللغة وشبيهة في ذلك بطريقة اشتغال الحاسوب، فالذهن البشري مثله
في ذلك مثل الحاسوب يسجل ويبنين الواقع الخارجي في انسجام تام
مع البرنامج المعد لذلك".
(6)
والحاصل بين وصريح
:
1-
لا وجود لواقع واحد كلي الوجود والمظهر
والاشتغال، ويمثل عند جميع الكائنات بالطريقة ذاتها.
"
فالواقع ليس واحدا منسجما، إنه عوالم متنوعة تشتمل على نماذج
وأنساق تعكس تعددية الأجهزة العضوية وتنوعها"
(7)
.
2-
إن كل النماذج الثقافية التي أفرزتها الممارسة
الإنسانية هي نماذج نسبية. وباعتبارها كذلك، فإنها لا يمكن أن
تكون جوابا مطلقا على قضايا إنسانية تتميز بالتنوع والتجليات
المختلفة.
والنتيجة أن النموذج لا يمكنه أن يُستنفد في نسخة
واحدة تكون هي تحققه الكلي والنهائي والأمثل. فالتطابق بين
الصورة المثلى ونظيرها المتحقق سيعلن عن نهاية النموذج ذاته (
ويعلن عن نهاية الممارسة الإنسانية ذاتها)، لأن التطابق يلغي
حالات التجريد الضامنة للتحققات الممكنة. فمثالية النموذج مستمدة
من حالات الإمكان المجرد، لا من ضرورة التحقق في نسخة.
والنموذج لا يمكن أن يكون أيضا بديلا مطلقا لكل
النماذج الأخرى، لأن في ذلك إلغاء لتمايزات هي من صلب المحيط
الجغرافي والحضاري والتقطيع اللغوي؛ إنه شبيه في ذلك بكل
التمثيلات الرمزية. فالتمثيل الرمزي لا يمكن أن يكون شاملا يعفي
الذات من وعثاء
السفر في ذاكرات لا ترى من خلال ما تقوله الإحالة
الأولى. إن القول بذلك معناه القول إننا نتحرك داخل عالم أبيض
خال من التحديدات الدلالية الإضافية، حيث تكتفي اللغة داخله
بالرصد المباشر والمحايد لكائنات الكون وأشيائه خارج انفعالات
الذات وجنوحها الدائم إلى العبث بالعلامات من خلال خلق حالات
متنوعة للانتقاء السياقي.
فلا جدوى إذن من البحث عن مدلول نهائي تنتهي عنده
كل المعاني كما تصور ذلك البنيويون الأوائل. فالرغبة في الإمساك
بالسنن الذي تنتهي عنده كل الأسنن( 8)، شبيه بالبحث عن لغة تتحرك
خارج كل الثقافات. فالتبسيطات جزء من السيرورات ولا يمكن أن تكون
إجراءات مطلقة. لذلك، فإن التوازي بين حالات التحقق المتنوعة،
وبين لانهائية الإمكان هو الرابط الأمثل بين نسخة تتجدد
باستمرار، وبين نموذج قار أو بطيء التطور. إنه الضمانة الوحيدة
على إمكانات النمو والتبدلات المتتالية.
استنادا إلى هذا، فإن الاعتقاد في وجود نموذج
أمثل هو وحده الذي تتشكل من خلاله كل صور الوجود الإنساني، معناه
افتراض وجود لحظة أولية قابلة للتحديد باعتبارها البؤرة التي
تنتهي عندها كل الحقائق الأخرى، وهو ما يعنى، بشكل من الأشكال،
الاعتقاد في إمكانية العودة إلى متصل قار يحضر في الوجود، كما في
الذهن، من خلال كليته لا من خلال أجزائه كما يرى ذلك لالاند في
قاموسه (9). وهو موقف غريب حقا قد يوحي بإمكانية إسقاط تجربة
إنسانية خرساء خالية من المعاني، ولا تتخللها العلامات. والحال
أن وجود الإنسان والمجتمع " رهين بوجود تجارة للعلامات" (10).
والخلاصة الفصيحة من كل هذا أن البحث في الأصول (
أصول الحياة ذاتها) هو بحث في سراب مضلل لا طائل من ورائه، فكلما
اقتربنا منه ازداد ابتعادا. فلا مبتدأ في الظواهر ولا منتهى، بل
هناك حالات متنوعة للنمو والتطور والتلاشي في شيء آخر، وهي حالات
تشير إلى سيرورة الوجود، لا إلى فعل بدئي أو خاتمة للمطاف.
وما هو ممكن حقا، في حالات البحث عن الأصول، هو
الانطلاق مما هو معروف في شكله الحالي ( ومن المتاح المعرفي
الحديث) من أجل محاولة رسم حالات التطور الممكنة لأشكال الوجود
الإنساني. وفي هذه الحالة، فإن الأمر لا يتعلق بالعودة إلى أصل
مؤسس لا شيء قبله، بل يرتبط بمحاولة الإمساك بمنطق للتطور هو ما
يشرح إواليات الاشتغال وأنماط التجلي المتعاقبة. ذلك أن التصريح
بوجود أصل مكتمل، يقود حتما إلى الاعتقاد في وجود حد نهائي لا
شيء بعده، وهو الحد الذي لا يمكن أن يتم خارج ما يقدمه النموذج
الذي صيغت داخله حدود البداية والنهاية. فالنموذج، في هذه
الحالة، هو السبيل الوحيد الذي يوفر كل أشكال الخلاص النهائي.
وهذا ما يفسر طبيعة اشتغال الصورة المثلى. فكل
نموذج ثقافي منظورا إليه في ذاته، في انفصال عن النماذج الأخرى،
يختزن داخله - بالفعل أو القوة - فكرة النهاية، فهو يشير إلى
تصور يرى في الحياة كما زمنيا معدودا، أي حالة تتحرك ضمن زمن
منته. وقد لا تكون النهاية هنا ( أو في حالات مشابهة) إحالة على
خطية كرونولوجية تتميز بطولية ( غائية أصلية ) ستتوقف عند نقطة
بعينها، إلا أنه في تحديده لسطح قيمي يلغي ما يأتيه من كل
الجهات، فإنه يلغي فكرة التطور، ويحيل على فكرة الامتلاء الدالة
على إمكانية استعادة حقيقة أصلية.
وهذا التصور هو الذي يبيح للبعض ادعاء امتلاك
الأصل الحقيقي للنموذج، وهو ادعاء يغذيه عادة الجهل بالنماذج
الأخرى، أو رغبة في حماية ذات تهددها المخاطر من كل الجوانب.
فعندما يتحدثون عن ماركسية حقيقية أو مسيحية حقيقية أو إسلام
حقيقي أو أي معتقد هو الآخر حقيقي، فإنهم يحولون نسخة واحدة إلى
بديل مطلق للنموذج، وهو ما يقود، في الوقت ذاته إلى إلغاء كل
النسخ الأخرى. وإلغاء النسخ إلغاء للنموذج ذاته.
وهو
أمر يصدق على الصراعات داخل النموذج الواحد ذاته.
وتلك هي الحالة التي مثلتها الفرق الإسلامية المتصارعة. فكل فرقة
كانت، ومازالت، تدعي أنها التحقق الأمثل لما جاء في القرآن
والسنة. ويصدق أيضا على المسيحية بكنائسها المتعددة، ويصدق على
اليهودية. بل يصدق على نماذج اقتصادية حديثة تبلورت في القرنين
الأخيرين، ويتعلق الأمر بتعاليم الماركسية. فانطلاقا من النموذج
الماركسي " الأصلي"، تأسست أنظمة شيوعية مختلفة، ادعى كل نظام
أنه يجسد التطبيق الأمثل للنموذج الحضاري الذي صاغ حدوده ماركس
وانجلز. ومعروف أن هذه الصراعات بين النماذج المختلفة وتحققاته
المختلفة أيضا وصلت إلى حد الاقتتال والإقصاء الكلي.
ولهذا السبب، فإن التاريخ، في هذه الحالة وفي كل
الحالات الشبيهة، لا ينتهي باعتباره كما زمنيا، بل ينتهي
باعتباره كونا قيميا يحكمه مبدأ التقابل بين الكائنات والأشياء،
ليصبح امتدادا لا متناهيا يحيل على انسجام كلي لا يمكن أن
يستوعب كل ما يوجد خارجه، لأن الذي لا يستقيم داخل هذا الامتداد
مُقصى، فهو يمثل حالة خارجة عن إرادة مثلى، هي الإرادة الأخلاقية
العليا التي يتضمنها النموذج.
إن النموذج في هذه الحالة ليس فرضية قيمية- ضمن
فرضيات أخرى- قد تقودنا إلى حقيقة ضمن حقائق أخرى، بل هو اختيار
ثقافي كلي هو القادر وحده على ربط التحقق المفرد بالصورة المثلى
التي يقدمها النموذج. وانطلاقا من هذا الاعتقاد بالذات تبدأ
التصنيفات ويبدأ الإقصاء والازدراء والأحكام المسبقة.
وعلى النقيض من ذلك هو ما تشير إليه الممارسة
التي تتم داخل الزمنية الإنسانية المفتوحة على كل الاحتمالات
الثقافية. فالثقافة - التي هي عماد الوجود الإنساني، ولحظة الحسم
في خروجه من مملكة الحيوان إلى دائرة الوجود الإنساني الرمزي-
ليست معطى مسبقا، وليست جوابا نهائيا عن سؤال الوجود، إنها
مجموعة من الأجوبة الأساسية التي أفرزتها الممارسة الإنسانية في
مستوياتها المتنوعة : ما يعود إلى البيولوجيا وما يرتبط بأحوال
النفس وما يتعلق بمظاهر العمران الاجتماعي. وهي باعتبارها كذلك،
ليست سوى التحققات الممكنة لمضامين ذات طابع كوني في غالب
الأحيان، لذلك لا يمكن أن تكون ردا كليا ونهائيا على أسئلة، هي
بالمنطق والضرورة، أسئلة جزئية.
استنادا إلى هذا، فإن النموذج الثقافي المخصوص لا
يخلق القيم ولا يبعثها من رماد، إنه يستحوذ عليها ويضفي عليها
تلوينا محليا يعد إضافة نوعية للكوني المشترك. إن الأمر يتعلق
بإعادة صياغة حدود قيمية وتكييفها وفق حاجات محلية مخصوصة لا ترى
من خلال المضمون القيمي الكوني، بل قد لا تستقيم داخله من خلال
مجمل تجلياتها. فالكوني ذاته ليس سوى حصيلة لسيرورة زمنية
تاريخية بطيئة. إنه صياغة تجريدية لكل ما أفرزته النماذج
الثقافية كما تبلورت ونمت وتطورت من خلال الممارسات الإنسانية
المتحققة ضمن أطر زمانية وفضائية مختلفة.
ولهذا السبب وجب التعاطي مع القيم باعتبارها
منتوجا إنسانيا لا تشكل النماذج داخله سوى صيغة من صيغ الوجود
الممكنة. وبعبارة أخرى، فإن ما يندرج ضمن دائرة النموذج يقود إلى
التخصيص وخلق حالات التلوين المحلي. أما ما يعود إلى الكوني
الإنساني، فإنه يخلق حالات التعميم، وهي الحالات التي تشكل
المصير البشري المشترك، الذي لا يمكن أن يتحقق من خلال نموذج
واحد. فالتحققات تتحكم فيها أطر بالغة الغنى والتباين منها الإرث
الحضاري، ومنها مسارات التطور المختلفة، ومنها معطيات الجغرافيا
بكل مظاهرها.
ويمكن صياغة ذلك بطريقة أخرى تعتمد الشكل الأولى
للحياة. فالإحساس، وهو الحد الأدنى لظهورالكينونة الدالة على
وجود حياة في شكلها الأولي، على حد تعبير گريماص، (11) هو كتلة
شعورية كلية ( الإدراك الحسي الأولي للكون) تستمد حجمها الإنساني
من سلسلة التقطيعات المضمونية التي تلحق مادتها. وهي تقطيعات
مرتبطة بسلمية عرفية وليست معطى بيولوجيا مستقلا بذاته. فجزئية
شعورية ما ليست دالة إلا ضمن إبدال عام تتحدد داخله التمايزات
الممكنة بين الحالات الانفعالية المتنوعة.
وهكذا يمكن التمييز داخل هذه الكتلة " العديمة
الشكل" بين "الهوى الجارف"، و"الاستعداد النفسي" و"الميل"
و"الشعور" و"التعلق" و"المزاج "الخ. وهي جزئيات شعورية مرتبطة
بموقعها الخاص ضمن دفق زمني متتابع ( 12) ( هناك الثابت القار
والمتواصل والسريع الزوال ...) ومرتبطة بالصيغ الفعلية الممكنة
التحقق ( ما يترتب عن هذه الجزئية مختلف عما يترتب عن تلك).
وهو ما ينعكس على فعل الحواس ذاتها. فالسمع والشم
واللمس والذوق والبصر تعد منافذ أولية تقود الذات إلى التخلص من
قمقمها للانتشاء بنفسها داخل كون لا يدرك إلا مجزءا. فالمدرك
البصري مثلا يخضع لتقطيعات وفق سلمية مضمونية يتم وفقها التمييز
بين أفعال للبصر تتحد من خلال أشكال بصرية منها اللمح والرمْق
والحدج والنظر... وكذلك الأمر مع السمع حيث يمكن التمييز بين
السمع كبعد بيولوجي، وبين التنويعات التي تلحق المادة السمعية.
حينها يمكن الفصل بين الدوي والصراخ والهمس والصوت الحزين
والفرح، ونميز أيضا بين ثغاء البقر ونهيق الحمير الخ.
وعلى هذا الأساس، فإن تصور قيمة ما في ذاتها
معناه فصلها عن كل النماذج الثقافية الممكنة وربطها بدائرة
الوجود الإنساني في محدداته الأولى. والمحددات الأولى تشير إلى
ما يشبه الأساس القيمي المشترك عند الكائنات البشرية مجتمعة،
تماما كما هو الحال مع الانفعالات الموصوفة أعلاه. فهذه
الانفعالات حالات إحساسية أولية مشتركة بين الكائنات الإنسانية
مجتمعة، وهي انفعالات مصدرها الإفرازات الفزيولوجية التي يحدثها
تفاعل الذات مع محيطها الخارجي.
إن هذا التفاعل
هوالذي يتم التقاطه والتعبير عنه ثقافيا من خلال
رصد حالات النفس البشرية مجسدة في السعادة والفرح والحزن والتحدي
والغيرة ...الخ، ونثبته لغويا في صفات وتسميات تصنف وتميز وتعزل
وتحكم.
"
فالعلامة هي الخطوة الأساس والضرورية من أجل بلورة معرفة موضوعية
بالعالم، إنها كذلك لأنها تشكل لحظة توقف داخل سيرورة التحولات
اللامتناهية للمضامين. فلا وجود لمضامين تتكرر وتحافظ في الوقت
ذاته على الخصائص ذاتها"
(13). إن العلامة على هذا الأساس، تشتمل على مضمون عام لا على
حالة مخصوصة.
ولتوضيح ذلك من خلال حدود مشخصة، يمكن الإحالة
على قيمة كالخير مثلا. فعندما يُنظر إلى هذه القيمة في انفصال عن
أي نموذج قيمي كيفما كان نوعه، فإنها تتحول إلى موقف إنساني لا
يستمد قيمته إلا من الرضا الذي يمكن أن تستشعره النفس وهي تمارس
فعلا يمجد الإنسان ويعلي من شأنه، تماما كما هو الحال في السياسة
مع مفاهيم من قبيل " المواطنة" و" الواجب" و" الحق" الخ. فتلك
قيم لا تتحدد من خلال " الولاء " لنظام سياسي ما، بل تستمد
مضامينها القريبة والبعيدة من الانتماء إلى الدائرة الإنسانية
الكونية التي يتم تصريفها داخل تربة ثقافية سياسية مخصوصة.
وتبعا لذلك، وجب التمييز بين القيمة باعتبارها
كيانا مطلقا، وبين حالات تجسدها في في فعل خاص. وهو ما يعني
ضرورة فصلها عن كل أشكال المردودية المرتبطة بها غير تلك التي
تأتي بها الفضيلة الإنسانية كما يمكن أن يستشعرها أي إنسان يسكن
الكوكب الأرضي. فما سيأتي به الدين أو أي نموذج أخلاقي بعد ذلك،
يدخل ضمن الإضافة النوعية التي تخصص وتضفي المزيد من التمييز على
الحالات الثقافية الخاصة.
استنادا
إلى كل ما سبق، يمكن القول إن الاعتقاد في كلية النموذج
ووحدانيته ونهائيته، هو اعتقاد في وجود حقيقة مطلقة استنادا
إليها نحكم على كل الحقائق الأخرى. وعلى النقيض من
ذلك، فإن تنسيب النموذج وتنسيب الحقائق المرتبطة
به، معناه التعاطي مع الممارسة الإنسانية باعتبارها بحثا دائما
عن حقائق لا نعرف عنها إلا الشيء القليل. لذلك وجب التعامل مع
الحقيقة باعتبارها حلما سيأتي أو نجما يلوح في الأفق، لا
باعتبارها صياغة نهائية تمت في زمن ولى دون رجعة.
الهوامش
1- Edward Sapir
: Le langage, Payot 1970 , pp,16-17
2-
نفسه ص 17
3-
Jean Molino : interpréter, in L'interprétation des textes , ed
minuit, 1989, p. 32
4- Ernest
Cassirer : La philosophoie des formes symboliques, Le langage,
éd minuit , p 31
5- E Cassirer :
Essai sur l'homme, ed minuit , p 41
6-E T Hall : La
dimension cachée, éd seuil, p 15
7- E Cassirer :
Essai sur l'homme, ed minuit , p 41
8- Umberto Eco :
Le signe;, éd Labor , 1988,p 96
9- Andre Lalande
: Vocabulaire technique et critique de la philosophie , aricle
: continu
10- Umberto Eco :
Le signe, éd Labor, 1984, p 151
11-
انظر
A J Greimas : Séiotique des passions, p 22
12- Jacques Fontanille - Claude
Zilberberg : Tension et signification , éd Mardaga 1998, p 211
13- 13- 31 Ernest
Cassirer : La philosophoie des formes symboliques, Le langage,
éd minuit , p
|