معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقـة تعريـف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع  خزانات الموقـع  صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

سعيد بنگــراد

الذات والجلاد وتفاصيل الزنزانة

قراءة لرواية " سيرة الرماد " لخديجة مروازي

 

 

 

هناك مبدأ فلسفي هندي قديم يقول بأن " الأنا" لا يمكن أن تعرف نفسها معرفة موضوعية، وإذا هي حاولت فعل ذلك، فستكون في حاجة إلى " أنا" ثانية تصف الأولى، وستكون الثانية في حاجة إلى ثالثة تقوم بهذا الدور وهكذا دواليك.... والخلاصة أن " الأنا" في تفردها لا يمكن أن تكون وعاء لمعرفة موضوعية.

وعلى عكس ما تبدو عليه الأشياء في الظاهر، فإن هذا الأمر لا يدعو إلى الأسى. فعلى الرغم من استحالة وجود معرفة مطلقة مهدها الذات، فإن هذه " الأنا" إن كانت لا تمتلك القدرة على إنتاج معرفة موضوعية، فهي مع ذلك قادرة على استعادة ما يخرج عن سلطانها من خلال نشر نفسها سرديا في وقائع متنوعة تقوم بالتأليف بينها وبين ذوات أخرى شبيهة أو مناقضة، تتحرك ضمن ظروف متباينة يمكن الجمع بينها ضمن بنية واحدة من أجل صياغة حدود تصويرية يمكن أن تقربنا من المعرفة الموضوعية. صحيح أن السرد لا يقودنا إلى " وضع اليد" على حقيقة ثابتة، كما لا يمكننا من استعادة "واقع" خالص من خلال فعل لغوي محايد، إلا أنه مع ذلك قادر على مدنا بالوسائل التي تساعدنا على " تشخيص" مجموعة من الحقائق المبثوثة في صور حياتية هي الرابط بين "واقع" نحياه في غفلة عن قوانينه، وبين عوالم ممكنة تصفي التجربة وترفعها إلى مصاف المخيال الذي يغذي البعد الثقافي في كل فعل إنساني. علينا أن نثق في العوالم الممكنة لا في الحقائق المسرودة، فالمعنى مثواه المحفل الذي ينظم ويرتب ويخلص هذه الوقائع من بعدها النفعي لكي يحولها إلى بؤر تسكنها الإحالات الرمزية.

ولهذا السبب وجب التعامل مع السرد باعتباره أسلوبا خاصا في الإقناع، إنه شبيه ب"الإقناع السري " الذي تحدث عنه فانس باكار في ميدان التواصل الإشهاري (1)، فهذا الإقناع يلقي ب" الحقائق الموضوعية "داخل فرجة حياتية تتميز بالبداهة ولا تثير شكوك المتلقي. إنه يقوم، من خلال التمثيل التشخيصي، بتعطيل آليات الدفاع العقلية للاستفراد بالوجدان ومخاطبته باللغة الانفعالية التي يتقن استعمالها من أجل تمثل ردود الأفعال والمواقف والسلوكات. وهذا الأمر تفسره طبيعة الإقناع ذاته، " فالإقناع هو من نظام المحتمل " ( أفلاطون) (2)، لا من نظام الحقائق الموضوعية، فهو لا يقوم على ثوابت المنطق وآلياته الحجاجية، بل يستند إلى استثارة الطاقات الانفعالية المتنوعة من خلال تصوير وضعيات إنسانية مألوفة تطمئن إليها الذات المتلقية.

استنادا إلى هذا، فإن حقائق السرد ليست هي حقائق التاريخ، فالمؤرخ قد يحذف أو يعدل أو يتراجع عن حكم ما إذا تبين له أن هناك وثائق أو شهادات جديدة تثبت عكس ما سبق تدوينه، أما العوالم التي يبنيها السرد فلا أحد يستطيع التنكر لها أو التشكيك فيها، لأنها توجد خارج الزمن " الواقعي" وخارج منطقه وقوانينه.

وهذا ما يميز، في ميدان التمثيل السردي، بين أسلوب الشهادة وبين إكراهات السيرة الذاتية وبين منطق السرد التخييلي. فالنوعان الأول والثاني محدودان في الفضاء وفي الزمان لأنهما نتاج ذات " معروفة" مسيجة بمجموعة من الإكراهات لعل أهمها التقيد بالوقائع التي تمت فعلا. ولهذا فهي تتعامل مع التجربة من خلال إحالتها على عوالم يمكن التأكد من واقعيتها، كما يمكن إثبات صدقها أو كذبها. أما التخييل فهو من نظام المحتمل الذي يبني قوانينه استنادا إلى العوالم الممكنة لا إلى حدود التجربة الواقعية.

فرجب ( بطل شرق المتوسط لعبد الرحمن منيف) سيظل هو الرمز الأبدي للمعتقل السياسي الذي عذب حتى شارف الموت، وبهذه الصفة تسلل إلى وجداننا، وسيظل كذلك إلى الأبد، أما شهادة شخص معتقل فيمكن التشكيك فيها أو تنسيب أحكامها من خلال مقارنتها بشهادات أخرى. وفي جميع الحالات، فإن ما يروى محدود في الزمان والفضاء، ومحدود من حيث الإحالات الرمزية أيضا.

وعلى هذا الأساس، فإن ما هو ثابت في التمثيل السردي ليس وجود تطابق كلي بين ما يُحكى وبين عالم الأشياء الحقيقية ( ولن يوجد هذا التطابق أبدا )، إن المهم في السرد هو القدرة على بناء عالم ممكن يقوم بتهذيب النسخ المتحققة ليحولها، بعد التنقيح والتهذيب، إلى نموذج يستوطن الوجدان. فبناء عالم تخييلي، استنادا إلى " حقائق موضوعية"، معناه الرقي بالعرضي والزائل إلى مصاف القيم الثابتة التي يتكفل الوجدان بتخليصها من سمات الخاص والمفرد.

وضمن هذ السجل التمثيلي تندرج رواية " سيرة الرماد" (3) لخديجة مروازي. فهي في تقديمها لصياغة تخييلية لحياة العسف والسجن والاعتقال، تقوم بنشر حالات وجدانية خاصة في نماذج تعمم التجربة وتضيفها إلى تاريخ الأمة بكل مضامينه المشرقة منها والحالكة. إنها تستعيد ما التقطته الآذان وشاهدته الأعين وعانته النفوس على شكل قصة خاصة تلخص كل القصص المشابهة. وبعبارة أخرى، فإن الأمر يتعلق بصياغة عوالم ممكنة تعد أبنية ثقافية يحتكم إليها الوجدان من أجل صياغة ردود أفعاله.

وبالإمكان، استنادا إلى ممكنات النص، المباشرة منها والضمنية، أن نحدد سلسلة من المسيرات التأويلية المتباينة، فالنص غني بممكناته التدليلية، إلا أننا سنكتفي في هذا المقام برصد واحدة منها، ويتعلق الأمر بتلك التي تصور حالة الذات المعذبة في علاقتها بجسدها كما يشير إلى ذلك صوتا الساردين، المذكر والمؤنث، في القسمين الأول والثاني.

وبغض النظر عن التأويلات التي يمكن أن تعطى لهذه العلاقة في كل حالة على حدة ( المذكر والمؤنث )، فإن ما هو دال في هذا السياق هو الطريقة التي تأتي بها الذات المعذبة إلى جسدها. فيد الجلاد وسوطه وعيناه هي الممر الذي سيقود مولين ثم ليلى بعد ذلك إلى اكتشاف الجسد، أي اكتشاقف الحدود والمهانة والخلاعة. فحين يُنتزع الإنسان من أثاثه وحميمية أشيائه ومنزله، فإنه يصبح " عاريا" أمام نفسه وأمام الجلاد. ففي المعيش اليومي العادي تحجب عنا الثياب والأثاث وتنظيم البيت وكل الأشياء الصغرى الرؤية وتحول الجسد إلى بديهية لا تثير انتباهنا، أما في السجن فكل شيء يُعرض أمام أعين الجلاد وسياطه. فالجسد هو الممر إلى نفسية الضحية وهو الموضوع الذي يمارس عليها الجلاد ساديته.

ومن جهة ثانية، فإن السرد لا يصف حالة راهنة مدرجة ضمن زمن متواصل، بل يستعيد زمنا مضى، فالذاكرة هي التي تصوغ ما جرى ضمن زمن سردي يتكون من طبقات داخلية تحيل فيه الذاكرة على متتاليات زمنية، كل متتالية تقود إلى الأخرى ضمن تطور انتكاسي يقود من لحظة الإفراج ليعود إليها ثانية، حيث يقرر مولين وليلى أن يكتبا عن زمن السجن وعذاباته، وعن تحولات الجسد المتتالية.

ويبدو أن عنوان الرواية صريح في هذا الشأن، فالأمر يتعلق بسيرة للرماد، أي بحالة من الحالات الدالة على التلاشي النهائي. إنها سيرورة خاصة بتطورات النار الممكنة. فمن القبس يشتد الأوار وتصبح النار لهيبا متأججا، ثم تجنح نحو الخمود حتى تصير رمادا. وتلك صورة مثلى لتجسيد الوجود الزمني في الأشياء والكائنات، فالرماد هو الوجه المشخص للكم الزمني المجرد الذي لا يدرك إلا من خلال حالات التحقق في نسخة مفردة، وخارج هذه النسخة سيظل قيمة مطلقة تستعصي على التحديد والضبط، أو لن يكون سوى " آنات" ثابتة بلا شكل ولا تخوم.

تتكون الرواية من قسمين موزعين على مجموعة من الفصول. قسم يروي تفاصيل أحداثه مولين وقلبه معلق بالبحر وليلى التي تملؤه آناء الليل وأطراف النهار، وتروي ليلى في القسم الثاني تفاصيل التعذيب في مخافر الشرطة والسجن والزواج والطلاق. هذا بالإضافة إلى تفاصيل أخرى تخص الإيديولوجيا والسياسة والمرض والحرمان الجنسي والتطاحن بين الرفاق ...

تبدأ الرواية بالحديث عن البحر. ففي البحر ما يكفي من الماء للتطهر والعبث، وفيه المدى المفتوح على كل ما تشتهيه الذات المتحررة من كل القيود. يبدأ مولين( السارد والشخصية الرئيسية في الجزء الأول) سيرته بالقرار التالي : - " البحر لا شيء غير البحر. إنه التعاقد الذي طوقت به نفسي منذ عشرين عاما، لن ألتفت إلى بوابة السجن. هكذا كانت تلح علي لْميمة في كل زياراتها، وحين تغيب تلحقني بالوصية عن طريق ليلى والأصدقاء. " ( ص 7)وتنتهي بالحديث عن طفل يبحث في ذاكرة امرأة هدها السجن والانتظار عن حكاية قد تكون زادا للغد المجهول : -" أريد حكاية من حكايات اليوم والغد وليس الأمس ". - " هل تعني البداية أو قصة الغبار الذي يعلو النهاية ؟ كل الشموع التي ترى في الغرفة هي من أجل هذه الليلة لكنها لم تجد من يشعلها تماما كجسدي " .( ص198)

وما بين البحر والحكاية هناك تفاصيل أخرى خاصة بالمطاردة والاعتقال والتعذيب والحياة داخل السجن في زنزانة بلا قلب تتحول داخلها النار الملتهبة في قلوب الرفاق والشوارع والمدرجات إلى رماد تذروه رياح الزمن بلا رحمة.

وتلك التفاصيل هي عصب الرواية وروحها، فهي المدخل إلى تحديد بعض عوالمها الدلالية، فالأمر يتعلق بجزئيات تستوطن اليومي والمعاد والمكرور، وهي أيضا، وربما أساسا، لحظات تطول وتستطيل لتمتد في ماض قريب ظل يتوغل في البعاد حتى تحول إلى حنين موجع تتلذذ الذاكرة باستحضاره كلما ضاقت الزنزانة بالأجساد والأنفس.

فالذاكرة في هذا المقام أساسا هي الوسيط المفضل بين المعيش المباشر الخالي من كل حركة ( السجن تعطيل لكل الرغبات )، وبين الفعل السردي باعتباره استعادة لكم زمني هو المدى المحسوس الفاصل بين الأحداث. فعندما يتقلص حجم الحاضر أو ينتفي يصبح الماضي هو الملاذ الأخير، وهو الوسيلة الوحيدة القادرة على حماية الذات من التمزق والتلاشي والانهيار الكلي.

وذاك هو أساس التمثيل السردي، إنه رصد للتحول الطارئ على الذات ومحيطها من خلال تشخيص تحولات الزمن المجسدة في ظهور شعيرات بيضاء وتساقط الأسنان والترهل الذي يصيب العضلات والأفكار. فمن خلال الذاكرة ( وهي ميزة كل حكي يتم في فضاء مغلق ) نقيس مساحات التغيير التي يحدثها التوغل في الزمان والابتعاد عن نقطة البدء في الأشياء والكائنات. ونقطة البدء هي اللحظة السابقة على الاعتقال أيام كان الفتى يحمل جسمه بين يديه مزهوا والروح نارا لا تخبو، وكانت الأفكار صارمة حادة موحدة لا يأتيها الباطل من الجهات الأربع.

وذاك تقابل مفجع، وهو كذلك لأنه تقابل لا يندرج ضمن الزمن الطبيعي، بل هو نتاج زمن موجه، زمن قسري تتحكم في إيقاعه كائنات تصادر الحلم، وتعطل الفعل وتلغي كل الرغبات وتعيث فسادا في الأنفس والأجساد. يدخل ضمن هذا الإيقاع الرتيب كآبة الفضاء والقضبان وتشابه الأيام والأشياء، فكل شيء منظم : الأكل والنوم والمرض والزيارة، إنه الاستنزاف الزمني الذي تترجمه " الأمراض التي تأتي بالجملة وتوزع على المعتقلين بالتقسيط " كما يقول النص.

يصدق هذا على كل مناحي الحياة في السجن كما تصورها الرواية : حالات المقاومة وحالات المرض وحالات الانتكاسة والصراع والتشرذم. إنها حالات تجسد المعاناة الكلية التي ترهق الذات التي تتحرك في الزمان لكنها ثابتة في المكان، يتغير لون الشعر وتنبت التجاعيد في الوجه وتبقى الزنزانة شامخة لا ينال منها تغير الوافدين عليها.

ويكفي أن نشير هنا إلى التمازج بين لحظة الخروج من السجن بعد عشرين سنة من الاعتقال والتوجه رأسا إلى البحر والارتماء في أحضانه، وبين لحظة البداية التي تدشن رحلة التعذيب والعبث بالجسد وامتهانه. فما بين التعذيب والسراح والخروج إلى البحر عشرون سنة مرت ستختصرها الذاكرة في شيء واحد هو الرغبة في التطهر، فالماء كفيل بتطهير الجسد والنفس على حد سواء.

ومن البديهي القول إن الماء في سياقنا هذا، وفي جميع السياقات أيضا، دال على التطهر، إنه طقس من الطقوس الرمزية الموغلة في القدم. فقد ظل الإنسان يرى في الماء منبعا وأصلا لكل شيء، إنه الحياة ذاتها ولا يمكن تصور أي شيء خارج الماء، لذلك تعددت رمزياته وتنوعت إحالاته الأسطورية. فهو رمزي من خلال لزوجته، ورمزي من خلال انعدام شكله ولونه وطعمه ولونه، وهو أيضا رمزي من خلال ركوده وجريانه، ومن خلال سقوطه من السماء أو تفجره من الأرض. ولذلك فهو مرتبط بالرغبة في العودة إلى الأصول الأولى، إنه إحالة على البدايات المؤسسة للكون وانبثاقه من غمر لا حدود له. وهو بهذا يشير إلى التطهر بأبعاده الحقيقية والرمزية. إلا أنه يحيل أيضا على الحنين إلى العودة إلى رحم الأم، إنه استدعاء للرحم والحماية والتخلص من عوالم القتلة والجلادين.

إن الأمر يتعلق بإحالة مزدوجة، إحالة فيها نداء الأم الذي يحث مولين على عدم الالتفات إلى السجن، وهي إحالة على النسيان والتقدم إلى الأمام، وفيها أيضا إحالة على الماء اللزج الذي يغطي الرحم ويرطبه ويجعله عشا للجنين الآتي، لذلك فالولادة ليست سوى بعث جديد، أي كون يولد باستمرار دون توقف. فالعودة إلى البحر شبيهة بالعودة إلى رحم الأم، فكلاهما يوفر أسباب الحماية، فالإنسان مازال يعيش على وقع " صدمة الولادة " ( 4) ، فهو مازال يحن إلى العودة إلى رحم الأم حيث الوجود جنة تلبى فيها كل الرغبات دون جهد أو عناء.

وهذا التمازج ينبني سرديا على الربط بين لحظة الخروج من السجن ولحظة الدخول إليه ضمن مقطع سردي واحد هو ما يشكل مستهل الرواية ومدخلها الأساس، وهو مقطع يصعب الفصل داخله بين ما يحيل على النهاية ( نهاية مدة الاعتقال)، وبين ما يشير إلى البداية ( لحظة الاعتقال وبداية التعذيب). وهذا الربط هو من طبيعة رمزية، يسقطه السرد لكي يخلق حالة من التداخل بين ماض انتهى ولكن آثاره ستظل تكسو الجسد في أدق تفاصيله، وبين حاضر لا يغري، إنه بلا طعم ولا أفق : - " ماذا تبقى من العمر بعد عشرين عاما في دهاليز الإسمنت. عشرون عاما التهمتها برودة الجدار وصدأ القضبان ( ...) سيقذف بنا مباشرة إلى المستشفيات لنلوك فيها بقية العمر بعد أن زرع الجدار سم الجليد في أطرافنا لنحصد أمراضا بالجملة تتوزع علينا بالتقسيط " ( ص 7).

وفي هذه الحالة، فإن الكيان الإنساني يرتد إلى حالته الأولى بعيدا عن الثقافة ( بالمفهوم الأنتروبولوجي لكلمة ثقافة ) وبعيدا عن الأشكال المتنوعة التي تمنحها هذه الثقافة للهوية. فهذه الهوية تتحدد داخل السجن وفي مخافر التعذيب من خلال " كم لحمي" لا يتميز عن غيره في أي شيء ( زنزانات متشابهة ولباس موحد وأكل موحد ونوم موحد.. )، وتتحدد من خلال رقم لا قيمة له إلا من خلال موقعه ضمن تسلسل لا يخضع سوى لمنطق التتابع التصاعدي أو التنازلي.

وهي حالة يزداد فيها الاعتماد على منافذ الإدراك الحسي ( الحواس الخمس ) التي تعد منافذ أولية عامة ومشتركة بين الإنسان والحيوان : السمع لإدراك ما يوجد خارج الزنزانة، أو النظر عبر الثقوب، والشم للتعبير عن التقزز من إفرازات الجسد، واللمس لتحسس الأطراف. واللمس يشكل حالة خاصة في النص، فالجسد مادة للمس، فالسارد والساردة لا يتوقفان عن تحسس الجسد وتلمس أطرافه : - " جسدي على مسافة مني، أضع يدي على رجلي ولا أعرف أنهما مني، ساقاي فخذاي " ( ص10)-" لملمت جسدي بعنف " ( ص 10)- ألمس جسدي " (ص 10)-" وأتخيل حدود ما يمكن أن يوقعه بي ما أوقعه المخبرون بكل جسدي " . ( 12)- " من الجسد بدأ الواحد منهم يجر حلمة الثدي " . (ص 141 )- " أحسست آلاما متزايدة في كل أعضاء جسدي ". ( ص 142)

فالسارد ( الساردة أيضا ) لا يداعب أطرافه ولا يتلذذ برؤيتها، ولكنه يمرر يده على كل مناحي الجسد للتأكد من سلامة " هويته"، فالخدوش والآثار التي تتركها السياط قد تغير من الهوية الجسدية وتمس سلامة الشكل الذي استقرت عليه في أذهان الأقارب والأصدقاء، وكل الذين عرفونا وعرفناهم.

وذاك إحساس ملازم لكل إنسان سوي، إلا أنه يشير إلى ما هو أبعد من هذا، إنه إحالة رمزية على العودة بالكائن البشري إلى مرحلة حيوانية ولت حيث كان الإدراك يعبر عن نفسه من خلال مجموعة من الأحاسيس الأولية المنبثقة عن فعل الحواس. والسلوك الحيواني لا يعتمد على شيء آخر غير هذه المنافذ، فهو يتجنب الخطر ويتبين موقع الفريسة ويتعرف على الشريك الجنسي استنادا إلى أدوات الإحساس ومنها في المقام الأول اللمس والشم والبصر والسمع.

وعلى الرغم من الصورة السوداء التي يرسمها السرد للوجود في السجن ( الاعتقال والتعذيب والأعين المعصبة والأيدي المقيدة، وهي كلها إحالات على فصل الذات المعذبة فصلا مطلقا عن الكون من خلال التحكم في الإدراك الحسي، والإدراك الحسي كما سبقت الإشارة إلى ذلك هو منفذ الذات الأول للخروج من القمقم الجسدي )، فإن مولين يجد لحظة خروجه من السجن فرصة للتأمل، فأمام البحر يمتد البصر بعيدا دون حواجز ويتيح للذات تأمل الكون وتأمل نفسها بعيدا عن الحواجز التي تقيمها الأشياء. إن الأمر يتعلق بالتخلص من الحيوانية والعودة من جديد إلى ما يفصل الإنسان عن غيره من الكائنات الحية، " فالإنسان الذي يتأمل هو حيوان غير سوي " كما كان يقول جان جاك روسو. (5)

وهذه الرغبة في الاغتسال هي ذاتها التي استبدت بليلى لحظة خروجها من مخفر الشرطة. فعندما ألقي بها إلى قارعة الطريق، والتجأت إلى راهبة فرنسية ( لوسيت) كانت كل رغبتها هي أخذ حمام يخلصها من كل ما علق بالجسد من أدران :- " ... كان يجب أن أنبش في ذاكرتي عن عنوان يجمعني، يغسل تعفني ولا يطلق للتأويل ذيوله، كنت أريد أن أطوق المسألة بأكبر قدر ممكن، لم أكن في حاجة لبيان ولا تضامن ولا فضيحة. أريد فقط أن أرتب ذاتي التي بعثروها وشتتوها على الرصيف ذات فجر " . ( ص 157)

وعند هذا الحد يتوقف التشابه بين الحالتين، فالاغتسال ليس له الأبعاد نفسها عند الساردين. ولهذا السبب، فإن الأحداث التي ستأتي فيما بعد سترسم للذاتين مسارين مختلفين. فبينما آثر مولين، بعد خروجه من السجن، التأمل والاقتراب من عالم البحر طلبا للسكينة، فوهب نفسه لرماله وأمواجه في عودة صوفية إلى منابع الحياة الأولى، انكفأت ليلى على جروحها خوفا من الناس ودرءا " للفضيحة ".

ولهذا، فإن طقوس الاغتسال كما تشير إليها الحالة التي تصفها ليلي تحيل على قيمة أخرى تختلف عما سبقت الإشارة إليه. إن الماء في الحالة الأولي مرتبط بالرحم والأم والتأمل، ولا يشكل الماء في الحالة الثانية سوى رغبة في التخلص من قذارات علقت بالجسد فلوثته. لذلك فإن الأم الثانية ليست رحما، بل إحالة على البحث عن راحة نفسية توفرها عوالم غير مرئية لكنها تمني النفس بإمكانية التخلص من كل جلادي الأرض.

وعلى هذا الأساس، فإن الماء، بالإضافة إلى أنه يساعد على التخلص من قذارة الزنزانة وإفرازات الجسد، يشتمل على بعد آخر هو الإحالة على التطهير الرمزي، إنه يزيل قاذورة مصدرها انتهاك لحرمات ما كان يجب أن تنتهك، " فالقذارة في واقع الأمر ليست مرتبطة بانتفاء النظافة أو غيابها، بل لها علاقة بكل ما يشوش على هوية أو نظام أونسق، وهي أيضا ما لا يحترم الحدود والمواقع والقواعد". (6)

ولخلق الآثار الدالة على البعد الرمزي للماء والأم وأشكال الدنس والتطهر من كل القذارات، يعمد النص إلى تكثيف كل حالات التعذيب الممكنة في مشهد سردي يشتمل على كل أشكال التعذيب التي مورست على المناضلين في سجون النظام. وتلك استراتيجية سردية تفرضها ضرورات التعاطي التخييلي مع حقائق سجلها التاريخ وأثبتها في سجلات موثوقة تعين زمنية حقيقية لا افتراضية.

فمن خلال لحظة سردية محدودة تتسرب إلى السطح مجمل المضامين التي تصور حالات العذاب التي يمكن أن يستحضرها القارئ عن مخافر التعذيب والأقبية السرية والسجون المختلفة. ولهذا السبب، فإن المضمون الحقيقي للواقعة السردية الممثلة لا يكمن في الكم الخبري الذي تتضمنه بل يكمن في نمذجته، أي في قدرته على تحرير الذاكرة من إسار النسخة المفردة ( حالات التعذيب الخاصة) لتكون قادرة على استيعاب عوالم التعذيب كسلوك منحط يعود بالإنسان - الجلاد والضحية - إلى حيوانيته الأولى وقد تجرد من كل القيم.

وهذا ما تقدمه الرواية في جزئها الثاني. فالسرد يتوقف فجأة ويهدأ من إيقاعه ليُفصل في حالة مخصوصة، وهي الحالة التي تصور مشهدا من مشاهد التعذيب الذي مورس على ليلى. إن النص يلتقط لحظة من لحظات التعذيب ليجعلها مرجعا داخليا إليه يستند القارئ من أجل تصور كل حالات التعذيب التي شهدتها مخافر الشرطة.

فاستنادا إلى هذا النمط التمثيلي، تقوم صياغة المشهد السردي بإدراج مجموع الوقائع الممكنة القابلة للتشخيص ضمن سجل رمزي يحول الوظيفي والنفعي والمباشر إلى بؤرة لتناسل الدلالات الإيحائية التي تستمد قيمتها من المخزون القيمي الذي تعلم داخله الإنسان كيف ينتمي إلى ثقافة مجتمعه، وتعلم أيضا كيف يقاوم ويرد عنه الأذى داخل الرموز ومن خلالها.

فالتعذيب ليس سوطا، إنه في المقام الأول اعتداء على هوية الذات. ففي الوجود الإنساني هناك مسافة تحدد الحيز الفضائي الخاص بكل" أنا"، ويشكل هذا الحيز ملكية معترفا بها ضمن التقسيم الخاص بالفضاء العمومي، وهناك الحيز الجسدي الذي يشكل هو الآخر ملكية خاصة، والحيزان معا لا يجوز لأحد التصرف فيهما إلا برضى الذات وفي ظروف خاصة هي ظروف الود الإنساني، أو ظروف لقاء جنسي مرغوب فيه. وخارج هذه الحالات يعد كل اقتراب من الذات يتجاوز ما هو مسموح به ثقافيا اعتداءً حتى وإن كان مجرد نفس يلفح الوجه أو لمس خفيف لا تكاد تنتبه إليه الذات.

ويحدد النص هذه المسافة بطريقته الخاصة في الفصل الأول من القسم الثاني حيث تبدأ الساردة برسم تقابل حاد بين لحظتين من لحظات الدخول إلى الملكوت الفضائي الخاص بـ" الأنا" : لحظة تجسد الحب الذي يصل حد التعبد الصوفي، وأخرى تجسد الحقد الذي يصل حد العدوانية المقيتة : " والله لو سألوني عن أعظم شيء في الوجود لقلت نهد امرأة " ص 140، يقول عاشق وهو يتأمل جسد ليلى." الاشتراكيين اولاد القحبة مبرعين في البنات! شوف بحال القالب أو گالت ليك السياسة " ص 141. يقول جلاد وقد نزع عن ليلى ثيابها في حصة من حصص التعذيب.

وهذا تقابل يجب أن نوليه أهمية خاصة، لأنه يشكل المدخل الذي قد يمكننا من التعرف على العوالم النفسية للقتلة والجلادين : كيف يمكن للشيء الواحد أن يكون مصدرا لاستيهامات لا رابط بينها ؟ وكيف يمكن للجسد أن يكون باعثا على التأمل، ومستثيرا لأكثر الانفعالات حيوانية ؟

والبداية تكون من اللغة ذاتها، اللغة التي تقودنا إلى التعرف على الشيء الموصوف ذاته ( النهد في حالتنا). فالصوت الأول ينحني أمام بهاء الصانع والمصنوع، أما الثاني فيقف عند حدود الشبيه الموازي الذي يكتفي بتحديد رغبة من خلال ما يثيره شكل العضو. الأول يستثير الرغبة عبر تمثل الجسد من خلال قيم جمالية، والثاني يستثيرها من خلال قاموس الشتيمة الذي لا يتجاوز حدود الإحالة على الشبيه المجسد ماديا. والأمر يتعلق بتمثلين مختلفين لعوالم الذكورة والأنوثة.

فالذكورة عند الأول تولدها الأنوثة وبها تكتمل، وهي عند الثاني قيم ثقافية تحط من الجنس النقيض ولا تتحقق إلا ضده. وبما أن الذكورة عند الجلاد هي سوط وبصق وشتيمة، فإن النيل من ذكورة الآخر ( ذكورة الاشتراكيين في هذا المقام ) تمر عبر شتم الأعضاء الجنسية للأم أو الأخت. وهذه الحكاية معروفة في معيشنا اليومي، إن الانتقاص من قيمة الرجل يمر عبر ذكر عوراته المتعددة ومنهن الأم والأخت والزوجة.

إن الأمر يتعلق ب" لاشعور لغوي " تختبئ داخله كل الصيغ اللغوية البذيئة والسوقية التي تحاصرها " الأنا" في مواقعها الخلفية، إلا أنها تظل تبحث عن مقامات ينتفي فيها هذا التقابل، وهذه المقامات لا علاقة لها بالقوة في ذاتها، بل لها علاقة باختلال أصلي في موازين القوى ( علاقة الجلاد بالضحية ). وهي وضعية تكشف عن سلطة الجلاد اللامحدوة، ولكنها لا تؤكد ضعف الضحية. " هكذا انتقلوا إلى حصة السوط الذي بدأ يترنح ليرسم فحولته على جسدي " ( ص 142)

فالسوط من خلال الشكل وحالة الانتصاب يتحول إلى قضيب ينال من الجسد مبتغاه عبر إيذائه ماديا ومعنويا. فالجلاد يوجد أمام الضحية ضمن وضع مركب، فهو يتلذذ بإيذاء الضحية، لكنه يشعر أنه مخصي لأن الضحية لا تكترث له بل تتحدى سيده، ولا تعير سياطه أي اهتمام. إن الأمر يتعلق بتصوير لوضعية شخص سادي مازوخي لا يستطيع الوصول إلى الرعشة الكبرى إلا عبر إيذاء شريكه وإيذاء نفسه ماديا أو رمزيا.

ولهذا فإن موقع الجنس داخل الشتائم هو موقع استعاري يستعيد، بشكل رمزي، طبيعة العلاقة الجنسية ضمن سياق ثقافي متخلف كسياقنا. فبما أن العلاقة بين رجل وامرأة هي تعبير عن ممارسة نشاط سلطوي - حقيقي ورمزي في الوقت ذاته - فإن أي اختلال يصيب هذه العلاقة سينعكس على ممارسة السلطة الفعلية. وذاك هو المدخل نحو فهم القاموس السوقي في خطاب كل الجلادين. " فالشتيمة هي التعبير عن إرادة سلطوية مكبوتة فقدت الثقة في نفسها، فهي تشعر باستمرار أنها عرضة للاستفزاز. ولهذا السبب، فإنها تنتهي باحتقار الخصم عبر تجريده من القوة التي يمتلك، لأنها تخشى قوة التأثير عنده ". ( 7)

وتأتي الشتيمة في مرحلة ثانية على شكل إيماءة صادرة عن عضو ما. والإيماءات في هذا السياق أكثر فصاحة من اللسان. وهي الحالة التي يجسدها منظرالجلادين وقد كشفوا عن أعضائهم التناسلية أمام ليلى التي جنبتها " الباندا" الموضوعة على عينينها بشاعة المنظر وحيوانيته.

إلا أن النص يعيد بناء النظام السردي من جديد، وينتشل الجسد من سقوطه المدوي. وهكذا تستطيع الساردة في أوج العذاب والإذلال وانتهاك كل الحدود أن تكتشف أنها تمتلك جسدا جميلا، فيه الهضاب والنتوءات التي يسكنها الإغراء، جسدا يجب أن يكون مصدرا لكل انفعالات الحب والعشق، ورابطا وثيقا بين الناس :- " فقط في المخفر السري اتكأت على جسدي، تأملته طويلا وهو ينضب دما، وأحببته، لأول مرة التفت إلى جسدي في تفاصيله وتقاطعاته. أواه لو أحببنا بعضنا بالقدر الكافي لتغير الكثير من ملامح الوضع " .( ص 150)

وهو الرد الفصيح علي بذاءة لغة الجلادين ونظرتهم. فالجسد لا يمكن أن يدنس إذا كان طاهرا، بالمعنى الجمالي لا الأخلاقي، رغم ما يصدر عنه ورغم ما يُفعل به، وهو ليس خليعا لأن الخلاعة ليست معطى، بل هي معنى يسكن أعين الجلادين.ابتداء من هذه اللحظة ستتحدد طبيعة العلاقة الرابطة بين جلاد يحس داخليا بالدونية والاحتقار، وبين جسد جميل لا يستطيع امتلاكه ولكن في مقدوره أن يعبث به. والعبث هنا هو التلطيخ والتدنيس، بالمعنى الرمزي للكلمة، إنه إحالة على الحالات التي تشير إليها ممارسة الاغتصاب، والاغتصاب في كل السياقات هو انتهاك لحرمات، يدخل ضمنها انتهاك حرمة المنازل وانتهاك الأسرار وانتهاك الحدود، وهو في المقام الأول انتهاك لحميمية لا يجب انتهاكها.

وتمثل هذه الحالات رأسمالا رمزيا قوته الضاربة لا تكمن في جوانبه المادية، بل تتحدد من خلال الضرر المعنوي الذي يسببه : ورد في أسطورة تأسيس روما أن روميليس رسم على الأرض خطا، وقتل أخاه لأنه لم يحترم في نظره الحدود التي يرمز إليها الخط. (8) فعوالم " الحد" هي الضبط ورسم الحدود، وهي أيضا ما يُسند كل تعاقد اجتماعي.

فالتعذيب لا يتحدد من خلال بعده المادي، بل هو نيل من كبرياء الذات، ونيل من " تقدير الذات لنفسها ". ليلي تبدأ بالغثيان قبل الحكي وتنتهي بوصف منظر العادة الشهرية وقد لطخ الدم جسدها من أقصاه إلى أقصاه. ويشكل دم الحيض ضمن السجل الرمزي للدم حالة خاصة لا علاقة لها بحالات الاندفاع والحماس والحياة.

فهذا الدم ، وكل ما يحيط به، يحيل على عوالم القذارة والدنس. وهي عوالم تبعد المرأة عن شعائر الدين وشعائر المجتمع وشعائر اللذات ( الجنس ومرفقاته ). وهو بالإضافة إلى ذلك محظور اجتماعي يُتداول سرا ويُخفى عن الأنظار ويرفض أن يسمى ( انظر في هذا المجال الوصلات الإشهارية الخاصة بوسائل الطهارة من الحيض، وطريقتها في الترويج للمواد الواقية ). إنه هنا حالة إجهاض لخصوبة لم تكتمل، كإحالة رمزية على عقم المكان وجفافه، إنه رفض ذاتي لعالم لا يمكن أن يستقيم. إن التعذيب الجسدي أقل شأنا وأقل رهبة من الغثيان الذي تثيره عوالم الجلاد.

والنص لا يقف عند هذا الحد، إنه يدفع بالقذارة إلى مداها الأقصى لتصبح دالة على انحطاط اجتماعي كامل. فالقذارة لا توجد في أقبية النظام فحسب، بل موطنها أيضا أحكام المجتمع وتصنيفاته. وعلى أساس هذا التقابل يقيم السرد توازناته الخاصة من خلال التمثيل لمشهدين يحيلان على مفارقة درامية :- من جهة يشتهي الجلادون جسد ليلى ويعذبونه لأنه يرفض التدنيس.- ومن جهة ثانية تشتهي ليلى محمدا ( زوجها) بعد خروجها من مخفر الشرطة ويهجرها في الفراش لأنها قذرة." تخيلني في تلك الليلة كذلك الذي يمطط عنقه، يمد حبال صوته محاولا صد هجوم الحشود التي تصرخ في وجهه أختك عاهرة، والرجل يرد على الحشود لا ليبرئ ذمة أخته بل ليقنعها بأن لا أخت له " . ( ص 161)

وفي هذه النقطة بالذات تلتقي كل أنواع القذارة لتجعل من الذات النسائية، السياسية وغير السياسية، بؤرة لكل الأحكام المسبقة. وبهذا المنطق سيلاحقنا التعذيب وسنظل نجرجر ذيول المهانة حتى ونحن نسير في الشوارع طلقاء أحرارا أو هكذا نتوهم. ولهذا فإن " السجن في هذه الرواية عبور من الذات المثخنة بالمعاناة إلى حقائق المعيش. وهذا هو المسار الإجباري الذي تسلكه الأرواح المندفعة نحو المستقبل" .( 9)

وتلك هي البؤرة التي يمكن من خلالها فهم الاستراتيجية السردية التي تقود إلى بناء نص روائي يحيل على كون دلالي منسجم يمتح عناصر تدليله من سيرتين لذاتين مرتبطتين ببعضهما البعض من خلال إحالات الذاكرة، لكنهما يختلفان عن بعضهما في المصير وفي المسار.

فالمسافة التي يقيمها المحكي بين نفسه وبين التجربة الممثلة سرديا هي ذاتها التي نستعيد من خلالها ذلك التقابل القائم بين حياة السجن " الحاضرة" بمحدوديتها في الفضاء والفعل، وتفاصيل الرغبات حيث لا شيء سوى السياط والجلادين بأسمائهم وصفاتهم، وبين الحالة التي تستحضرها الذاكرة وتبدو الحياة فيها نضالا ومرحا وانطلاقا ومستقبلا بكل الألوان، وبين الحالات التي تصور خيبات الأمل المتتالية التي أشعلت فتيلها سنوات السجن وغذتها الصراعات بين رفاق الأمس وحالة المهانة التي تنتهي إليها ليلى حين يتهمها أقرب الناس إليها بالقذارة.

ومع ذلك فإن النص يسقط حالة مثلى يجسدها الطفل الذي ألفته ليلى وألفها وصار يصاحبها في وحدتها بعد خروجها من السجن. وهنا يعود الجسد إلى أصله الأول منبعا للحنان والتزاوج. والمرأة بالولادة تتزاوج وتمد جسرا نحو المستقبل : انتهى محمد( زوجها ) لأنه آلة صماء من آلات نظام اجتماعي مهترئ، وانتهى مولين ( الرجل الذي أحبته فيما بعد) فهو رغم أنه يمثل الصدق والنقاء إلا أنه يمثل مشروعا سياسيا فاشلا ( أو مشروعا لم تنضج الظروف بعد لاحتضانه ) ولم يبق سوى الطفل مريد ابن الجيران، ابن الشعب، الذي يشير إلى مستقبل من طبيعة أخرى.

 

 1- Vance Packard : La persuasion clandestine , éd Calmann-Levy, 19842-

2ذكره : Tzvetan Todorov : Poétique de la prose, éd seuil, 1971, p . 923-

3سيرة الرماد : خديجة مروازي ، دار إفريقيا الشرق، 20004-

4- أ وتو رانك ( 1884 - 1939 ) محلل نفساني شهير من أتباع فرويد ، وهو صاحب النظرية الشهيرة المعروفة ب"صدمة الولادة" Traumatisme de la naissance ،وهي نظرية تفسر مجموعة من القطاعات السلوكية الإنسانية بالخروج من رحم الأم حيث كانت الحاجات تلبى دون تردد.

5- يقول روسو : " l'homme qui médite est un animal dépravé" 

Sémiologie de la sexualité, éd Payot , 1978 p 132 - 6  Pierre guiraud6-

Julia Kristeva : Pouvoir de l'horreur, Essai sur l'abjection, éd seuil, 19807- :7

8 أوبيرتو إيكو : التأويل بين السميائيات والتفكيكية، ترجمة سعيد بنگراد، المركز الثقافي العربيو 2000، ص 269-

9عبد القادرالشاوي : رواية " سيرة الرماد" ظهر الغلاف.

 
 
 
معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقـة تعريـف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع  خزانات الموقـع  صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

موقع سعيد بنگراد - تاريخ الإنشاء: نونبر 2003