لم تحتفظ الذاكرة البصرية، من خمسينيات القرن
الماضي إلى الآن، سوى بمجموعة قليلة من الصور التي شكلت في
حينها، وما تزال، حدثا بصريا مميزا استطاع التخلص من محدودية
اللحظة وهشاشتها والتسرب إلى سجل مخيالي يكاد يخترق الأزمنة
الإنسانية كلها: " صاحبة الوردة " " بورتيره غيفارا" " مكلومة بن
طلحة" وغيرها قليل. فمن خلال رؤية وتأطير خاصين " تخلصت هذه
الصور من الشروط المخصوصة التي أنتجتها وتحولت إلى أساطير تختصر
داخلها خطابات بأكملها، فهي لا تتحدث عن شخصيات بعينها بل تعبر
عن مفاهيم، وهي فريدة ولكنها تحيل على صور أخرى سبقتها أو تلتها
عن طريق المحاكاة "( 1). إنها من خلال هذه الميزات وبفضلها
متجاوزة لنفسها وقابلة للتأويل وفق مرجعيات ثقافية متعددة.
فالصورة، شأنها في ذلك شأن الكلمة، لا تدل من خلال ممكناتها
الذاتية، بل تقوم بذلك استنادا إلى محيط مباشر أو ضمني يستعيد،
بالتناظر والإيحاء، وضعيات إنسانية سابقة، أو يُسقط، من خلال
السيرورة ذاتها، ما يمكن أن تتخيله الذاكرة كاستيهام أو كإمكان
للتحقق.
فليس الحدث الواقعي هو ما يمنح الصورة قوتها،
فالحدث عارض، لكنه قد يتحول في بعض حالات التمثيل البصري إلى كوة
تتأبد فيها " اللحظة الإنسانية" ومن خلالها تتسلل إلى العين
والوجدان والذاكرة في انفصال عن الشرط المباشر وضدا عليه في
أحيان كثيرة. فالحدث قد يتوارى ويبلعه النسيان ويظل الرديف
البصري، مع ذلك، حيا، علامة على وجود قوة رمزية قادرة على تجاوز
العرضي والعابر لاستيعاب كل الطاقات الانفعالية الممكنة التي
تفرزها مواقف إنسانية شبيهة بهذا الذي حدث " الآن وهنا".
وأمر هذا التمثيل بين، فالصورة في الحالات المشار
إليها لا تختزن كما خبريا، والإخبار وظيفة أساسية من وظائف
الصورة (2). إن الصورة في هذه الحالات تخلت عن هذه الوظيفة
وتحولت إلى قوة رمزية تسير، بالضرورة ومنطق المعنى الإيحائي
نفسه، نحو التعميم وتجاوز الحدث الفريد والخاص. فكل صورة من هذه
الصور ليست سوى تمثيل لكل حالات " السلم " أو " الثورة " أو "
الفاجعة " التي لا يمكن تصور مثيل لها. إن المدرك المباشر ليس
سوى ممر عابر نحو القابل للتمثلات من خلال واجهات متعددة.
بل قد يكون التمثيل حالة من حالات النظير
المفارق، كما هو الشأن في الصور التي سنحيل على بعضها في هذا
المقال، وهي صور التقطت إبان الأحداث الإرهابية التي شهدتها
مدينة الدار البيضاء في الشهور الأخيرة. فما بين" الذي حدث" وما
يحيط به وبين الصورة التي تمثله، من باب المجاز أو الحقيقة،
تقابل من طبيعة ساخرة، فهو ينزاح عن مضمون الحدث ليسرب معاني قد
يصل مداها إلى حد النقيض الكلي لما تقوله الكلمات. ومصدر هذه
المفارقة، في الحالتين معا، كما سنرى ذلك فيما يأتي، هو تأطير
فوتوغرافي يقلص إلى أقصى الحدود من حجم " عمق الحقل " الذي يمثل
الحدث الفعلي، لصالح واجهة لا تعد في الأصل جزءا منه، ولكنها
تَمْثُل في الصورة باعتبارها أساس التمثيل البصري. وتلكم أهم
معايير التمييز بين الوظيفة الإخبارية للصورة في ارتباطها بالحدث
كما يعرضه المكتوب، وبين رمزيتها التي تحرر العين
من مرجع مباشر وتطلق عنانها لتجوب كل قارات المخيال الإنساني.
تشكل هذه الملاحظات العامة مدخلنا الأساس من أجل
تناول هذا النوع الأخير من الصور. ويتعلق الأمر بالتحديد
بصورتين اقتطعتا من بعض الريبورتاجات التلفزيونية ( القناة
الثانية ) وتداولتها الصحافة الوطنية في الأيام التي تلت هذه
الأحداث في غفلة من قيمتها الحقيقية. فعلى الرغم من خصوصيتهما
وخروجهما عن السجل الصوري المألوف الذي يضم صورا إخبارية في
مجملها، أي توضيحية تصديقية تكرارية كما تشير إلى ذلك التقنيات
الفوتوغرافية المستعملة في " الشرح البصري " للخبر، فإنهما لم
تثيرا اهتماما يذكر ولم يلتفت إليهما أحد، عدا إعادة نشرها في
بعض الصحف ( أعادت نشرهما يوميات الاتحاد الاشتراكي والمساء
والصحيفة).
*********
تحيد الصورتان عن الإخبار وتقدمان وضعا قابلا
لتأويلات متعددة :
-بينما وقف الناس يتفرجون على ما وقع، وانعكف
رجال الشرطة على جمع الأدلة الخاصة بالتفجيرات، كان هناك رجل
ملتح يجتاز الطريق من اليسار إلى اليمين حاملا طفلا صغيرا بين
ذراعيه، وخلفه تسير امرأة غطى السواد كامل جسدها(الصورة 1).

- أما الثانية فتقدم لنا رجلا ملتحيا، شابا في
مقتبل العمر يقف في شرفة شقته ويطل، بنوع من اللامبالاة، على
الشارع الذي يعج بالسيارات وعناصر الشرطة الذين يبحثون في كل
الاتجاهات عن انتحاريين محتملين. والصورة مرفقة بمجموعة من
العناوين الفرعية : " أربع سنوات من حرب المغرب على الإرهاب " –
" صناعة الانتحاريين " -" مدن يحكمها الإسلاميون " ( انظر الصورة
رقم 2).

بدءا يمكن القول إن الصورة المرافقة المصاحبة
للحدث لا يمكن أن تكون رديفا أيقونيا محايدا ( رغم وظيفتها
التكرارية)، إنها أكثر من ذلك، فهي " المضاف البصري" الموجه
للمضمون المرئي من خلال فعل الكتابة ذاتها. وتلازم البصري
والمكتوب قد ينتج وقعا معنويا لا يمكن أن يولده أحدهما في معزل
عن الآخر. لذلك، تحتاج هذه الصور إلى تأمل خاص لا يتم في انفصال
عن توجيهات المكتوب وإكراهاته، بل من خلال " التوازي المفارق "
بين ما توحي به الصورة بأبعادها الرمزية وما يقوله التعليق.
فاللقطة لا تقطع صلة المشهد الخلفي بالأمامي، إنها لا تقوم سوى
بالحد من امتداده. فهي لا تلغي العمق، ولكنها تحوله إلى فرجة
خلفية منها يستمد المشهد الأمامي كامل قواه الرمزية.
والمقصود بالمضاف البصري، في هذا المجال بالذات،
ذلك الضبط الذاتي الذي تقوم به الصورة من أجل الحد من إمكانات
الإثارة الانفعالية التي عادة ما ينتجها الحدث المكتوب أو يقوم
بتخصيصها فقط. فما هو مؤكد هو أن الصورة لا تقول ما يقوله
المكتوب ولا تكرره، تماما كما لا يمكن أن تكون تمثيلا مباشرا
ومحايدا لما حدث، فهي قد تكون أوسع منه أو أقل منه أو نقيضا له (
ألم يرسم ماغريت غليونا وأعلن أنه ليس كذلك ؟). وبناء عليه، فإن
طبيعة " التأطير" والتعاطي الخاص مع " عمق الحقل " هو الذي يرسم
الحدود الفاصلة بين المدرَك والمُتَمَثَّل، أي بين عناصر " الحدث
الفعلي " كما يعبر عنه التعليق، وبين ممكنات الإثارة داخله.
وهذا بالذات ما يميز الصورتين المشار إليهما
أعلاه. فالصورتان الملتقطتان مرتبطتان بالحادث الإرهابي، إلا
أنهما لا تشيران إلى هذا الحدث إلا من باب التمثيل الرمزي، أو من
خلال ما تحتفظ به الذاكرة كمواقف ثابتة أو أحكام مسبقة. فقد لا
توحي الصورتان، في غياب تعليق شفاهي ( حالة الريبورتاج التلفزي)
أو نص مكتوب، بأي حدث، ولكنهما تشيران بالضرورة إلى كون دلالي
ليس غريبا عن عوالم الإرهاب: قد يكون ذلك من خلال دلالة الوضعة (
pose)
أو طبيعة اللقطة، أو من خلال المظهر الخارجي الذي يحضر من خلاله
الرجلان في الصورة ( اللحية واللباس والعلاقات الإنسانية ). وهي
العناصر التي سنقف عندها بتفصيل.
تقدم الصورتان مشهدين غريبين حقا. ومصدر الغرابة
هو هذا التقابل الصارخ بين موقفين : موقف يشير إلى الهلع والموت
والأشلاء المتناثرة والمطاردة، كما يبدو ذلك من خلال عناصر
المشهد الخلفي للصورة ( وهو ما يشكل عمق الحدث الفعلي ) وبين ما
يقوله المشهد الأمامي ويصرح به ( وهو ما يشكل الثيمة الرئيسة
للصورة). في الصورة الأولى والثانية يتراجع العمق ويضمحل ليتحول
إلى نقط متناثرة لا تكاد ترى. وسيقود هذا الاضمحلال إلى قلب كلي
لمعطيات الصورة. فما تقوله الإرسالية اللسانية لا يشكل حدثا كما
توحي بذلك دلالة الكلمات، فالحدث، في منطق التمثيل البصري شيء
آخر، إنه ما يتصدر المشهد الأمامي للصورة وهو ما تلتقطه العين.
لذلك، فالأهمية ليست هي ما يقوله المُمَثل في العمق (وهو كذلك
على مستوى منطوق المكتوب)، بل ما تمثله عناصر المشهد الأمامي.
وهو ما يخلق تفاوتا شاسعا بين مضمون المكتوب وقصدية البصري : في
الواجهة ، مباشرة أمام العين، يمْثُل رجلان ملتحيان ( كناية عن
ترابط وضعهما بوضع ما يحدث في العمق )، أحدهما يتفرج باستهتار
على ما يقع تحت شرفته، والثاني أدار ظهره للأحداث واتجه وجهة
أخرى. فهل هناك تناظر مفارق بين المشهدين أكثر من هذا ؟
وهذا ما يفسر ازدواجية التمثيل في الصورة. فهي
تبدو من خلال مشهديها، الخلفي والأمامي، موزعة على وظيفتين :
وظيفة إخبارية مرتبطة بالحدث كما يصفه النص المكتوب، وأخرى لا
يشكل هذا الحدث داخلها سوى خلفية عرضية قد تمكن، في بعض حالات
التأويل، من الربط بين معنى الحدث وممكنات تأويله خارج إكراهات
المرجع. إلا أن تقليص حجم العمق الخلفي وتحويل كائناته إلى مجرد
أشباح لا يُكشف عن هويتها ودورها إلا من خلال ما يقوله المكتوب،
سيمد الصورة بطاقة دلالية من طبيعة إيحائية. فمن خلال زاوية
النظر هذه تستعيد الصورة جزءا من الواقع ولكنها لا تحاكيه، فهي
تستمد منه بعدها الواقعي ( الشارع والناس وطريقة اللباس والوضع
العائلي )، ولكنها تكتسب بعدا رمزيا إضافيا لا يقف عند هذه
الدلالة أو تلك إلا من أجل تجاوزها. " فالخبر يمكننا من تقليص
درجة اللايقين من خلال الحد التدريجي من عدد الأجوبة التي يمكن
أن تقدم كرد عن سؤال ما"(3)، أما الوظيفة الرمزية فتقوم بعكس
ذلك. إنها خزان يسكنه اللبس والغموض والتعدد والدلالات المحتملة.
فمن خلال هذه الوظيفة تتخلص الصورة من أشيائها لكي تشد عين
المشاهد إلى مفاهيم ورؤى لا تشكل هذه الصورة داخلها سوى
معادلها المشخص. علينا إذن أن نستحضر من جديد
العمق الذي يحاول التأطير إلغاءه أو الدفع به إلى التراجع. لقد
أصبح الحدث ثانويا في علاقته بما يمكن أن تقوله اللقطة.
وهذا أمر بديهي، فواجهات الرمز مفتوحة، إنها ليست
أصلا ثابتا، بل مواقع وعلاقات وتراتبية دائمة التحول. فانفصال
الصورة عن الحدث المباشر يمد العين بما يساعدها على التذكر، أو
بما يقوي داخلها الاشمئزاز والتقزز أو يستثير عندها حالات
الإجلال والحزن أو يدعوها، على العكس من ذلك، إلى التربص لمعاودة
الكرة. إنها بذلك تنزاح عن الانفعالات السريعة، تلك التي تفرزها
اللحظة العرضية ولا تعيش إلا في الحدث ومن خلاله، لتتحول إلى
قيمة تتسلل إلى الأحكام والرؤية وتقدير الأشياء. وهذا ما يشكل
الدور الرئيس الذي يقوم به التأطير في بناء نص الصورتين معا :
التخلي الكلي عن الإخبار، وخلق حالات قابلة للتأويل.
والقوة الرمزية للصورتين مستمدة أساسا من
الانزياح عن وظيفة التمثيل الإخباري. فما تقوله الصورتان معا لا
يعكس رأيا، ولا يروي تفاصيل قصة معلومة ( قصة الإرهاب وتداعياته
)، لقد اختفت كل العناصر التقريرية داخلهما لصالح قوى رمزية
تسللت إلى الصورة ووجهتهما وجهة أخرى. إنهما لا تستعيدان حدثا
ولا تمثلانه، بل تَمْثلان باعتبارهما نصين بدلالات متنوعة لا
تُرى من خلال التمثيل الحدثي، بل من خلال الوضع الرمزي للواجهة
الأمامية. إن ما في الصورة دال على حضور رمزي، وليس نسْخا حرفيا
لوجود واقعي : النظرة والوضعة والموقع و طريقة التنقل في الفضاء
هي ما يحدد الحمولة الدلالية المخصوصة، أما التناظر المباشر فلا
قيمة له.
وهذا ما يظهر جليا من خلال فعل التلقي، فأمام
صورة من هذا النوع لن يقول المتفرج أبدا ماذا حدث، ولكنه سيتساءل
بالتأكيد عن دلالة ما يرى. فما هو أساسي في الصورتين معا ليس
الكم المعلوماتي، فذاك أمر لا يثير اهتمام أحد، إن القوة الضاربة
داخلهما هي السيروة التدليلية التي يطلق عنانها التمثيل البصري.
ولا علاقة لهذه السيرورة بما يمكن أن تقوله الصورة بشكل مباشر،
إنها جزء من علاقات مستحدثة تبنيها العين التي تشاهد. " فالصورة،
على عكس النص المكتوب، تسلم تفاصيلها دفعة واحدة. أما النص فقد
تصبح الجملة الوصفية داخله تأملية إذا لحق تغيير بكلمة ما " (4).
وهذا ما لا يحدث في الصياغة البصرية للوقائع، حيث تختفي الكلية
في الأجزاء دون أن تُمس مع ذلك وحدة الواقعة.
استنادا إلى هذا، فإن ما تقدمه الصورة ليس وجها
إنسانيا مألوفا، ذاك الذي نصادفه كل يوم في الشارع أو العمل، لقد
تحول هذا الوجه فجأة إلى سياق بحمولات دلالية خاصة، وتحول المظهر
الخارجي إلى هوية مخصوصة تختلف عما سواها من حيث الانتماء ومن
حيث نمط الحضور في الواقع. لقد أصبح البورتريه، من زاوية النظر
هذه، بنية تختصر داخلها سلسلة من المواقف والتصنيفات والأحكام
الصحيحة منها والخاطئة. وهذا ما يمكن الكشف عن أبعاده من خلال
التحليل المفصل لكل صورة على حدة.
إن خصوصية الأولى تؤكد غرابة الثانية. فما يربط
بين الصورتين ليس المظهر الخارجي فحسب، بل الأشلاء الممزقة في
الشوارع أيضا. رابط واحد يغطي على كل الروابط: الاستهانة بما جرى
والتبشير بما سيأتي. فالإرهاب ليس انفجارات تدوي فحسب، إنه
انزياح عما ألفه الناس وتداولوه، معيارية في الملبس والمأكل
والتعاطي مع الحياة ذاتها. و" القناع العقائدي " في الصورتين معا
كاف لأن يمد العين بما يساعدها على التصنيف: لباس أسود يغطي كل
شيء، ولحية مطلقة بطريقة تعلن عن انتماء دقيق. وهو " انتماء "
غريب عن المحيط المادي المباشر وغريب عن المارة وما يؤثث واجهات
المتاجر. إنها " الصورة المثلى " التي يمكن أن يكون عليها كل "
الإرهابيين ".
في الصورة الأولى رجل يعبر الطريق بخطى ثابتة
وسريعة متجها إلى الطرف الآخر، يحمل بين ذراعية طفلا صغيرا،
ووراءه، على بعد مترين أو أكثر، امرأة بلباس طائفي غطى كامل
جسدها. إن المشهد ليس جديدا، فقد ألفه الناس في السنوات الأخيرة.
وهي مشاهد منتشرة في ضواحي المدن وهوامشها وأحيائها الشعبية،
القصديرية منها على الخصوص. إلا أنها هنا تعني شيئا آخر، إن
الرابط بين الواجهة الأمامية وبين العمق وبين ما يقوله التعليق
يحول المشهد إلى يافطة رمزية تمد شبكتها في اتجاهات متعددة. إنها
جزء من سياق ولا يمكن أن تسلم دلالاتها إلا استنادا إليه، فخارجه
لن نكون سوى أمام حكاية يومية شبيهة بكل الحكايات التي تؤثث
حياتنا. ومع ذلك، فالسياق المشار إليه هنا أوسع بكثير مما يمكن
أن يحيل عليه الحدث. إن الأمر يتعلق بتعميم، لأنه يحول الحالة
المخصوصة إلى نموذج يتبلور استنادا إلى الانزياح عن المعيارية
السلوكية العامة. وذاك هو المضمون الحقيقي للتقابل بين الحدث
الفعلي، وبين ما يمكن أن يحدث مستقبلا، فالبذرة موجودة، والتربة
خصبة، ولا شيء فوق مائدة الفقير، أما سريره فبالغ الخصوبة، كما
يقول الفرنسيون.
إن الرجل لا يتقدم إلى الأمام ولا يتراجع إلى
الخلف، وهما الاتجاهان اللذان يؤكدان المشاركة في الحدث بالسلب
والإيجاب، وهي بعض دلالات " الوضعة الأمامية " التي تشير إلى
تقابل بين " أنا" و" أنت " ضمن لحظة حميمية تخترقها كل المواقف
الإنسانية ذات البعد التشاركي، أو ضمن خطاب سجالي يواجه بين
كيانين: التحدي أو التوسل أو التواطؤ أو الدعوة إلى المشاركة. إن
اجتياز الطريق من اليسار إلى اليمين ينتمي لرؤية أخرى، وهي
الرؤية التي تكشف عنها دلالات " الوضعة الجانبية"، حيث يتحرر
الموضوع الممثل من موقعه وينتشر على صفحة الصورة، وتتحرر العين
المشاهدة، في الوقت ذاته، مما يشدها إلى نقطة بعينها. إنها متعة
الرؤية المنفلتة من المركز، أو الفرجة التي تمكن العين من
الانسياب على الصورة لإعادة تنظيم عناصرها.
وفي هذه الحالة تكتسب الصورة نفسا سرديا يحول
الممثل إلى عناصر تبنى استنادا إليها قصة كاملة: قصة الرجل الذي
كان يحمل طفلا بين ذراعيه ويعبر الطريق تتبعه على بعد أمتار
زوجته. وهو ما يمكن المشاهد، في مرحل ثانية، من العودة بالمصوَّر
إلى حالات التجريد المتتالية التي تقود إلى استخراج مفاهيم، هي
عصب التمثيل البصري وأساس دلالاته. إلا أن الأمر هنا مختلف،
فالصورة تقول شيئا آخر. فهذه العناصر البسيطة سرعان ما تنفصل عن
سياقاتها المألوفة لكي تتحول إلى بؤر رمزية تعيد تأويل " أحداث
القصة " وفق ما يقدمه المشهد الخلفي من معطيات. فالصورة مصممة –
بشكل واع أو لاواع، وهذا أمر لا أهمية له في واقع الأمر- وفق
استراتيجية تُضَمِّن الواقعي عناصر رمزية، وتربط الرمزي بما يمكن
أن يحيل عليه الواقعي، دلالة على وجود صلات زمنية بين ما حدث وما
سيحدث لا محالة.
إن كل عنصر من عناصر الصورة مرتبط بوضع موصوف في
التعليق أو في الذاكرة أو هو مجرد عنصر ضمن آليات التصنيف
الإيديولوجي بأبعاده الاجتماعية والسياسية والدينية. فغرابة
الوضع الإنساني الذي تقدمه الصورة مستمدة في المقام الأول من
التقابل بين وسط حضري بمواصفات بعينها وبين وضع إنساني يجمع بين
رجل يجر وراءه امرأة على شاكلة ما كان يقوم به البدائي منذ آلاف
السنين. إن الوضع رهيب حقا، فما كنا نعتبره حالات معدودة يتحول
شيئا فشيئا إلى نموذج له وجود حقيقي في الواقع والذاكرة.
ومع ذلك، فإن هذا المستوى لا يكشف عن قيمة دلالية
جديدة. قد نقول إن الصورة تمدنا بمعلومات حول طريقة بعضنا في
اللباس، ويتوقف الأمر عند هذا الحد. هناك بعد آخر، والأمر يتعلق
بالتداعي الطبيعي الذي يولده تتالي الصور : صورة تذكر بأخرى من
باب التشابه أو من باب التناقض أو من باب الإثارة الرمزية. وضع
يذكر بوضع آخر من باب " الاستمرارية " و" الإمعان في القيام بما
يشبه هذا الذي حدث " رغم ما حدث. إن الصورة تخفي شيئا آخر، إن
الرابط الحقيقي بين الحاضر في الصورة وبين مضمون التداعيات
الممكنة هو رابط بين أُمَّين: أم الانتحاري كما رسمتها عدسات
الكاميرات بعد العمليات الإرهابية مباشرة، وبين المرأة التي تسير
وراء الرجل. وهو رابط يشتغل وفق سيرورات متعددة، منها وحدة
الانتماء المشترك ( اللباس) ومنها سيرورة الإحالات الرمزية.
وللذاكرة في هذا المجال دور الوسيط بين المتحقق في الصورة وبين
مجموعة من الصور التي تسللت إلى الوجدان في غفلة من كل الرقابات.
ولسنا في حاجة إلى التفصيل. فالتشابه صريح بين
الطفل الذي يهدهده أبوه وبين الذي تحول إلى أشلاء. ينبعث
الانتحاري في صورة الطفل ويكبر في لحية الرجل، وتتكاثر الأمهات
في الأم التي تسير وراء زوجها: أم سقطت، هناك ما يكفي من
الأمهات. إن الصورة توحد بين الأم الحقيقية والأم الافتراضية ضمن
كون تسقطه الذاكرة اللاواعية. فالأولى ليست سوى حالة، أما
الثانية فهي الأصل الثقافي القابل لتوليد كل الأمهات المشابهة.
بل هناك دلالات أخرى يمكن الكشف عن بعضها من خلال
طبيعة اللقطة والتأطير، وهو ما يتعلق بفكرة التمثيل البصري للزمن
وتمفصله في حالتي الماضي والمستقبل. إن تنقل الرجل في الفضاء يتم
من اليسار إلى اليمين، وهو ما يعني، استنادا إلى نظام اللغة
العربية، عودة إلى الماضي، ما دام التعبير البصري عن الحركية
الزمنية يتم استنادا إلى نظام اللغة، أو في بعضها على الأقل، وما
دام اتجاه الكتابة في العربية هو من اليمين إلى اليسار (5).
واللقطة صريحة في ذلك، فهي لا تكتفي بالاتجاه، بل تضيف إليه
مجموعة من العناصر الداعمة لفكرة الماضوية، ويتعلق الأمر باللباس
واللحية وموقع المرأة من الرجل. إنها مجموع العناصر التي يمكن
تأويلها كتعبير عن اندحار وانتكاسة مروعة.
تعبر الصورة الأولى عن موقف اللامبالاة وعدم
الاكتراث، وتعبر الثانية عن موقف المتفرج الذي يتأمل هازئا عبث
ما يقوم به الآخرون في الشارع. فالموقفان، عبور الطريق والتفرج
من عل، تعكسان النظرة ذاتها لما حدث، ولا تختلفان إلا من حيث
العين التي من خلالها تتم استعادة عناصر " عمق الحقل"، ومن حيث
المضاف اللساني الذي يميز الثانية. في الحالة الأولى " يفر"
الرجل مبتعدا عن مسرح الحدث، وهو ما تكشف عنه الخطى السريعة،
بينما يقف الشاب في الثانية ثابتا في المكان، بل هو موجود في
موقع متميز. " فالنظرة من عل " كانت وما تزال تفيد التعالي
والقوة والمكانة المتميزة والمركز الراقي. إن الذي يوجد في عل هو
الأقوى دائما. لذلك، فالتفرج لا يعني هنا الحياد، كما قد توحي به
بعض السياقات، بل يدل على ما يفصل ما وقع وبين ما يمكن أن يقع.
بل أكثر من ذلك، إنه قد يعبر ضمنا عن التشكيك فيما يحدث " الآن
وهنا". وهو ما يوحي به أيضا لباس الشاب ولحيته من حيث كونهما
دالان على انتماء لا على اختيار شخصي.
وهو الأمر الذي تؤكده الجملتان المرفقتان
بالصورة الثانية. فالجملة الأولى، المكتوبة بالبنط العريض دلالة
على أهميتها، " صناعة الانتحاريين "، تشير إلى استمرارية في
الزمان وانتشار في المكان. فالصناعة سيرورة وفضاء وشخصيات، وهي
العناصر التي يجسدها الشاب الذي ينظر من عل، من حيث سنه ولباسه
ونظرته. فهو من هذه الزاوية ليس فردا، أي حالة مخصوصة منتهية
ومرتبطة بمنزل له رقم وموقع في شارع ما، بل هو رمز دال على قيمة
قابلة للتعميم. وهو ما تؤكده الجملة الثانية، المكتوبة بالبنط
الصغير، دلالة على ثانويتها وثانوية المضمون الذي تتحدث عنه:"
أربع سنوات من حرب المغرب على الإرهاب " . إن فشل " الحرب "
يؤكده هذا الذي يطل من عل، بلباسه ولحيته غير عابئ بما يجري تحت
شرفته. إنه استشراف لمستقبل لا يمكن أن يوقفه ما يتم في عمق
الصورة.
لذلك فالصورتان لا تمثلان لحدث ولا تقدم لنا
أخبارا ، إنهما ببساطة صورتان تبشران بالإرهاب.
-----------
هوامش
1-
Umberto Eco : La guerre du faux,
éd Grasset,1985, pp.212-213
2-
Roland Barthes : La chambre Claire, éd Seuil , 19, p 51
3-
Martine Joly : L’image et les signes , p 152
4-
R Barthes op cit, p.52
5-:
L’éloquence
des images, Images fixes III, 2d P U F 1993, p.104
Pierre Fresnault Deruelle