وهذا ما جعل الخطاب الإشهاري، وهو يحاول رسم حدود تتم داخل فضاء
لا يأسر بل يحرر ويدفع إلى التمثل اللامتناهي، يحتفي بالمحيط
أكثر من احتفائه بالمنتوج. ف"الحدائق الغناء" و"المياه الجارية"
و"الجبال الشاهقة".... الخ ليست كذلك في ذاتها، بل هي كذلك في
ارتباطها بصور نمطية مستبطنة وعادة ما يستحضرها المستهلك بشكل
لاواعي كلما وجد نفسه أمام تمثيل فضائي لا يكتفي بتوجيه العين
نحو مدرك بصري بل يحفز العين على استثارة الأبعاد الرمزية لهذا
التمثيل الفضائي. لذلك، فالأمر لا يتعلق بفضاء فعلي كما يتحقق في
التجربة الواقعية، بل هو آلية من آليات استنفار الصور التي يحيل
عليها الفضاء الممثل ( الجبل والماء والصحراء والنجود
الواسعة...). وهي أبعاد لا يحيل عليها الشيء، بل هي مودعة في
الخبرة الإنسانية التي تجنح دوما إلى إيداع المعاني الإنسانية في
أشياء الكون وكائناته.
ولهذه الأبعاد وضع خاص، فهي لا يمكن أن توجد إلا من خلال اختصار
لكل حالات التحقق الممكنة في صيغة عامة تصبح قادرة على احتضان
أكبر قدر من الانفعالات الإنسانية: ويكفي أن نستحضر حالة النظرة
إلى الصورة عامة. فهي في الوضعة دالة على شيء آخر غير ما يمكن أن
يشير إليه فعل البصر: فصياغاتها المتعددة، كالقسوة والحنان
والتوسل أو ما تشاؤون من الحالات المدرجة ضمن سجل إيقونوغرافي
مشترك، هي دلالات ناتجة عن تقطيع للمدرك الفضائي وفق غايات
دلالية مسبقة، وهو ما يعبر عنه من خلال أفعال البصر ( لمح ورمق
وحدج وحدق ورنا وحملق الخ)، وهي كلها حالات تتجاوز فعل البصر
المرتبط بحاجات حسية مجسدة في فضاء، لكي تأتي بالمدرك إلى الذهن
وفق غايات توجد في العين. وهو أمر يصدق بالخصوص على حالة الصورة
الإشهارية.
لذلك، فالتمثيل الإشهاري للفضاء، كما سنوضح ذلك من خلال بعض
الأمثلة، عملية قائمة بالأساس على الدفع بالفضاء إلى تسليم
أسراره المخيالية الكامنة فيه من أجل تحويله إلى بؤرة متحركة
منتجة للصور وقادرة، وفق ما تشتهيه الغايات الإشهارية، على
استيعاب الصور اللامتناهية للعين التي ترى المنتوج وتتأمله
باعتباره مستودعا هائلا لقيم تتميز بكونها تمثل في جميع الحالات
باعتبارها جمالا مطلقا كما يحضر في الحلم والرغبة في التخلص من
إكراهات واقع استهلاكي محدود وروتيني. وهو ما يعني بعبارة أخرى،
أن الإدراك في حالة الصورة الإشهارية لا يستدعي الشيء موضوعا له،
بل ينفتح، من خلال الشيء المدرك، على عوالم سحرية لا يمكن أن
تتجسد في الواقع، بل هي كذلك في أحلام مستهلك تستدرجه الصورة لكي
يعيش نشوة الاستيهام كبديل افتراضي لواقع روتيني.
وعلى هذا الأساس، فإن الفضاء الممثل في الصورة – بكل أشكالها -
لا يتحدد باعتبار امتداده الحقيقي في الواقع، فهذا الوجود لا
قيمة له في ذاته، بل هو بناء ثان أو صياغة جديدة تتحقق وفق غايات
غير كامنة فيه، بل هي غايات الصورة غير المعلنة. وبعبارة أخرى،
إننا ننظر إلى الفضاء باعتبار قدرته على استيطان العين التي
تلتقط العناصر المتنوعة المساهمة في إنتاج معاني بعينها وإقصاء
أخرى وفق الفرضيات التأويلية التي يتبناها كل قارئ. أما ما يتسرب
بعد ذلك إلى فعل التمثيل فلن يكون سوى إثارة لوجود تناظري لا
يحيل، في نهاية الأمر، إلا على نسخة من نفسه. إن وظيفة كل تمثيل
فني هي تخليص الفضاء من ماديته المباشرة وتحويله إلى حاضن لصور
نمطية أولية ستمكن العين المشاهدة من التحرر من إكراهات الإدراك
الواقعي الذي يأسر النظرة ويقلص من حقل نظرتها.
بل قد يكون الأمر أكبر من مجرد عين تنتقي موضوع نظرتها، لكي يشمل
العملية الرمزية في كليتها باعتبارها تخترق كل شيء في الوجود بما
فيها ما يعود إلى بعض أنماط السلوك الذي لا يبدو أن له علاقة
بالرمز أو عوالم الأسطورة كتسلق الجبال أو الغوص في أعماق
البحار، وهي الثيمات المفضلة لكثير من الوصلات الإشهارية، كما هو
الشأن مع الماء المنبعث من أعالي الجبال، أو الرجل التي تطأ وجه
القمر في تحد سافر للجاذبية وكل الأشكال الفيزيائية المحددة
لدوران أجرام المنظومة الشمسية. " فالإشهار من خلال الصور
الكونية الكبرى يكشف عن حيوية الرموز النمطية التي، حتى وإن
تحققت من خلال لغة إشهارية ذات طابع حداثي، فإنها تشتغل في ترابط
وثيق مع البنيات الأسطورية الكبرى التي تؤسسها" (7). هناك حاجة
غير مرئية داخل المستهلك ( وهي ما نسميه عادة بالحاجات الدفينة
كالرغبة في الهيمنة والظهور والحب والعدوانية والامتلاك...) تدفع
بالصورة الإشهارية إلى تجاوز المعطى المباشر والبحث عن الفضاءات
القادرة على استيعاب هذه الأبعاد في الذات الإنسانية. لذلك، فإن
تعامل الإشهار مع الفضاء لا يختلف كثيرا عن تعامل الفكر الأسطوري
معه. فإذا كان الفضاء لا يشكل في هذا الفكر صورة خالصة، بل قوة
غامضة تفرض سلطتها على مادية الأشياء وعلى حياة الناس"(8)، فإنه
في الإشهار أيضا لا يشكل مسرحا محايدا لما يجري، بل هو كذلك
باعتباره بعدا رئيسيا في ما سيجري ومن خلاله تتحدد دلالات ما هو
معروض. ويمكن أن نمثل لذلك من خلال صورتين إشهاريتين