معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقـة تعريـف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع  خزانات الموقـع  صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

سعيد بنگــراد

فضاء الحلم وفضاء التمثيل في الصورة الإشهارية

 

 

 

يشتغل الفضاء ضمن آليات صياغة الصورة الإشهارية باعتباره " عمقا استراتيجيا" في التوليد والتلقي والتأويل. إنه الوعاء الذي تتحقق داخله ومن خلاله ووفق إكراهاته مجمل الوضعيات الإنسانية الحاضنة للمنتوج موضوع الدعاية. إن الأمر يتعلق بالمعادل الأيقوني لسلسلة من الحاجات الخفية الموجهة للسلوك الإنساني والمتحكمة في ردود أفعاله. فالصورة تعد، في هذا المجال، رديفا بصريا أو نسخة موجهة للمضمون المرئي من خلال البعد الأيقوني للإرسالية. والمقصود بالنسخة، في حالتنا هاته، ذلك الضبط الذاتي الذي تقوم به الصياغة البصرية للوصلة الإشهارية من أجل الحد من إمكانات الإثارة الانفعالية التي ينتجها النص اللساني المصاحب للصورة، أو العمل على تخصيص هذه الانفعالات وتوجيهها بما يخدم الغاية الإشهارية.

 فعلى عكس الرأي الشائع القائل بقدرة المكتوب على التحكم في مضامين البصري وتوجيهها (وهو رأي صحيح إلى حد كبير)، فإن البصري، في مجال التمثيل الإشهاري بأنواعه المتعددة، يتحول إلى ضابط جواني يفرض على القارئ نسخة واحدة يجب أن تكون هي الوعاء الذي سيستوعب لاحقا كل مضامين المكتوب المتحققة منها أو المحتملة فقط. وهذا أمر ممكن لأن الصورة لا تقدم فضاء نفعيا يكتفي بالإحالة على ما يؤكد " حقيقة" المنتوج، أي الرغبة في خلق احتمال يوهم بالواقعية كما قد يكون عليه الأمر في سياقات فنية أخرى. إن الصورة الإشهارية، على العكس من ذلك، لا تنتقي من الفضاء سوى رمزيته التي قد تتسع لتشمل كل الصور النمطية، وقد تضيق لتندرج ضمن الرمزية التي يتحدث عنها التحليل النفسي، أي الدفع بالمستهلك إلى التماهي مع هذا الفضاء الذي يشكل حلم الامتلاك والاستمتاع بالمنزل الذي تحيط به الزهور من كل الجوانب. يتم ذلك كله ضمن عالم يجمع بين مكونات متعددة فيها البصري والسمعي (الموسيقى) واللساني.

فاستنادا إلى الغايات المضمرة للصورة الإشهارية يمكن الكشف عن طبيعة الروابط الموجودة بين مكوني الوصلة: ما يعود لبعدها اللساني ( بشقيه المكتوب والشفهي) كغاية صريحة، وما هو مرتبط ببعدها البصري باعتباره حاملا للمضمر الإيديولوجي. فالوصلة تتحقق أساسا من خلال فضاء منتقى بعناية فائقة هو ما سيشكل"مسرح الأحداث" المقبلة التي تدور كلها حول المنتوج. وتتميز هذه الروابط بالتعقيد والتركيب واللااستقرار، إنها الضابط للحدود الفاصلة بين المدرك كشيء متحقق، وبين المتمَثَل كواجهات ممكنة الوجود في وجدان الذي يتلقى الصورة. يتعلق الأمر بحدود حقيقية وصارمة، وإدراكُ فحواها هو المدخل نحو فهم طبيعة العوالم التي تتسرب إلى وجدان المستهلك في غفلة منه، من جهة، ومرتبطة من جهة ثانية بالمسارات التأويلية التي يمكن انتقاؤها استنادا إلى أشكال حضورها في الصورة. فالإدراك والتمثل طريقتان مختلفتان تسلكهما الذات للخروج من قمقمها والانتشار في العالم الخارجي. وهذا العالم يتغير وفق حضوره في العين من خلال إدراك مباشر أو من خلال عمليات تمثل مفتوحة.

يشترط الإدراك، كما هو معروف، حضور الموضوع الممثل ( ما يمثل أمام أنظار الرائي بشكل مباشر)؛ ففي غياب هذا الشيء ستنتفي شروط التعرف على الأشياء الخارجية. فلا يمكن أبدا أن نتحدث عن إدراك إلا من خلال الإمساك بنسخة متحققة في موضوع مرئي. فلكي أدرك قطا يجب أن يَمْثُل أمامي هذا القط من خلال حجمه ولونه ووضعته. ففي هذه الحالة توضع العين في مواجهة موضوع نظرتها، وخارج هذه النظرة سنكون أمام نشاط من طبيعة أخرى. إن قوة الحضور تقود، على عكس ما يمكن أن نتصور، إلى تحجيم عمل العين والتقليص من حقل رؤيتها، إنها محكومة بما يقوله الشيء، لا بما يمكن أن تقوله صور هذا الشيء المتعددة في الذاكرة الفردية أو في الصور الجماعية.

أما حالة التمثل فهي على النقيض من ذلك؛ فهذا النشاط ليس مرتبطا بالشيء ولا يكترث له إلا من حيث كونه يعد خزانا لسلسلة من الصور التي تحضر في الذهن في حالات التداعيات الحرة أو حالات التذكر الموجه، أي بما يستثيره هذا السياق أو ذاك. وعلى هذا الأساس، فإن التمثل آلية إدراكية لا تتحقق إلا من خلال إلغاء الوجود المادي للموضوع من أجل استحضار كل واجهاته الممكنة.

وكما هو واضح، فالفرق بين الآليتين في تصور الأشياء والتعاطي معها يعود إلى الصور التي تنتجها كل آلية على حدة. لكل منهما خصوصيتها في تحديد نمط وجود الشيء خارج الذات، ولها طريقتها في إنتاج الدلالات التي يمكن أن يكتسبها هذا الشيء ضمن السياقات التي تحتضنه وتمنحه تحققا معينا. وهذا ما يجعل التمثل أشد قوة وأكثر غنى من الإدراك. إن الغياب يحرر العين من إكراهات الشيء ويمنحها القدرة على إبداع صور تتجاوز  بكثير تلك التي يوفرها الشيء في حالة حضوره. أما النسخة المرتبطة بالحضور فهي فقيرة من حيث الوجود ومن حيث التأليف. وتلك هي الحالات التي تكشف عنها التحولات الممكنة للعوالم الموصوفة لسانيا إلى ما يعادلها على المستوى البصري. فالأمر في الحالة الثانية يحرم النص المكتوب من أبعاد رئيسية، بل ينزع عنه ما يشكل خصوصيته الحقيقية، وهي خصوصية تستوطن ذاكرة القارئ وتستوطن الثقافة التي يتحرك ضمنها.

وهناك مثال مشهور يقدمه إيزر Iser للتمييز بين النشاطين، استعاره من جيلبير رايل الذي يميز بين حالة التذكر ( التمثل) وبين الإدراك المباشر. فالناظر إلى جبل هيفلين والذي يتمثله فقط لا يستحضران نفس المعطيات الخاصة بالجبل. فهذا الجبل الماثل في ذهن شخص ما لا تترتب عنه نفس النتائج المترتبة عن رؤية الجبل الحقيقي أو المصور، أي نفس النتائج التي تولدها الأحاسيس البصرية المباشرة. فالجبل في الحالة الأولى ثابت لا يتزحزح تحكمه فيزياء الفضاء والأبعاد الحقيقية والمكونات المادية الأولى. أما في الحالة الثانية فيتسلل إلى الذهن ضمن ميكانيزمات الترميز التي تتجاوز التعيين الذي تأتي به كلمة " جبل" لكي تشتق منه صور استعارية بعضها قريب وبعضها موغل في القدم.

وعلى عكس ما تبدو عليه الأشياء في الظاهر، فإن تمثل الجبل أغنى من رؤيته، لأنه يشتمل على معطيات متحركة ومرتبطة بانفعالات غير متوفرة في الموضوع المتحقق. إن الذي يتمثل الجبل يستحضره ضمن معطيات نفسية هي بطبيعتها ليست ثابتة، " إن المخيلة البصرية لا تستدعي إذن انطباع الموضوعات داخل أحاسيسنا كما كان يحلو لهيوم أن يقول. ولا يتعلق الأمر أيضا برؤية بصرية بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل يتعلق بمحاولة لتمثل ما لا يمكن أن نراه أبدا كما يبدو في الواقع. إن الطابع الخاص لهذه الصور يكمن في أنها قد تكشف عن مظاهر كان من الممكن ألا يلتقطها الإدراك المباشر. إن المخيلة البصرية تفترض الغياب الفعلي لما يبدو في الصورة. وعلى هذا الأساس، يجب أن نميز بين الإدراك وبين التمثل. فهما نمطان مختلفان لولوج العالم. يفترض الإدراك بشكل قبلي وجود الشيء، في حين يرتبط التمثل دائما، استنادا إلى نمط تكونه، إلى عنصر غير معطى، أو هو غائب ولا يمكن أن يظهر إلا بفضل وجود النشاط التمثلي" (1). وهذا ما يفسر، كما يرى ذلك إيزر دائما، الخيبة التي يستشعرها شخص قرأ رواية ثم شاهدها وقد تحولت إلى فيلم. إن التمثيل البصري يقلص بالضرورة من واجهات العوالم المصوغة لسانيا.

وهذه المعادلة هي التي يتم قلبها في حالات التمثيل الأيقوني. فالأمر لا يتعلق، ضدا على المظاهر الخارجية، باستنساخ أمين لواقع هو ذاته ما يقدمه الواقع بدون زيادة أو نقصان، بل يتعلق بصياغة نص تفرض قواعدُه اقتلاعَ الفضاء من امتداده اللامتناهي قصد أجل إدراجه ضمن حالات تَمَثُل تعيد صياغته ضمن بنية جديدة تتحقق من خلاله صور تعيش في الذهن، لا فيما هو ممثل بشكل مباشر في الصورة. فالحديقة الغناء التي ترسم حدودها وصلة إشهارية ما ليست هي الحديقة التي نصادفها في وسط المدينة أو بجانب حينا، وليست هي الزهور الحقيقية المنتشرة في الحقول الشاسعة، بل هي الصورة النمطية التي تجعل الحديقة (كل الحدائق) مرادفا مطلقا لجنة مفقودة، أو مرادفا لجنة تغذي الحلم وتنشط الروح والفؤاد. إنها حديقة موجودة في عين المستهلك، وهي غير ما هي عليه في الواقع وفي الصورة على حد سواء. بعبارة أخرى، إنها مثير لا تكمن قيمته في البصر بل في الصور الذهنية التي يولدها الشيء الممثل. وتلك هي طبيعة الصورة الإشهارية، إنها تصفي العوالم وتنزع عنها النفعي لكي تقدم للمشاهد/المستهلك صورة حياة إيجابية تتحرك ضمن إيجاب مطلق ( السعادة والصحة والانشراح والمنزل الجميل والزوجة الجميلة والسيارة الجميلة). إنها تفعل ذلك استنادا دائما إلى مفصلة تتم في الزمن وتقود إلى عزل الجميل عن القبيح، والمريض عن السليم في الذات في الأشياء وفي الإنسان. يتعلق الأمر بعودة إلى تصور مانوي قطعي يفصل بين عالمين ضمن استقطاب زمني  يميز دائما بين الماقبل والمابعد، ما قبل استعمال المنتوج وما بعد استعماله.

 إن الدلالات التي تنتجها تمثيلات الفضاء، شأنها في ذلك شأن دلالات الأشياء التي تؤثث هذا الفضاء، لا تتحدد في السياقات الفنية من خلال الأبعاد " الواقعية" لما يتم تمثيله، بل تتحدد من خلال مضاف العين والتصوير والصياغة اللفظية. فما يمنح الفضاء الممثل في الصورة الإشهارية ( الصورة عامة في واقع الأمر) قيمها الدلالية ليس ما يأتيها من الواقع الذي يُستوحى منه، بل مصدر هذه الدلالات هو المستودع الرمزي الذي تستمد منه هذه الدلالات قوتها التي تتجاوز الإحالة على شيء لكي تحقق في الذهن والذاكرة والوجدان كل الصور المرتبطة به: ما يعود إلى أبعاده الرمزية في المقام الأول، أي وجوده على شكل صورة مثلى هي تحقق مطلق لموضوع مطلق لا يوجد في الفضاء الواقعي، بل يتحقق من خلال مجمل الأعين التي تتمثله وتركبه حصانا مولدا لانفعالات شتى.

ولهذا الفصل ما يبرره في آليات اشتغال التمثيل الواقعي وفي آليات تكون المخيال واشتغاله . "فالفضاء هو أساس كل تصوير وتمثيل" (2)، وهو " أساس تشكل المخيال" (3)، " فالمخيال يجتاح فضاء أحلامنا ويمنحه توجهات نوعية " (4)،  بل " هو الشكل الأولي  للوظيفة العجائبية" (5). إنه السند الأساسي لكل إدراك ولكل تذكر. فليس غريبا أن ننظر للأشياء من خلال أشكال تحيزها أكثر من الانتباه إلى بعدها الزمني.

استنادا إلى هذا العمق الأسطوري والمخيالي تحاول الصورة الإشهارية تجاوز إكراهات التمثيل الواقعي للفضاء من خلال منح طابع رمزي لكل أشكال الوجود التي تتم في الفضاء. وهو طابع لا يشمل المعطيات الطبوغرافية فقط، بل يشمل كل ما يعود إلى الكائنات الممثلة. فالإشهار يستند إلى مبدأ أساس مفاده أن الصورة التي يتوقف فيها المتفرج عند الحالة الإنسانية الخاصة المرتبطة مباشرة بالمنتوج هي صورة فاشلة لأنها تحدد للعين موضوعا مباشرا للنظرة. والحال أن النموذج في كل حالات التمثيل يجب أن يظل مجهولا ( غي غوتيي) وألا يثير حوله " الشبهات"، إنه منفذ أول أو حالة ظرفية لا يمكن أن تتحقق لاحقا إلا إذا كانت مصدرا لاستثارة ما يحتضن كل النماذج الممكنة. وهو ما يصدق على الفضاء أيضا، وربما في المقام الأول عليه وحده، لأن الفضاء هو شرط للوجود وليس إضافة يمكن التصرف فيها، فكل وجود إنما يتم في الفضاء والزمان وخارجهما لا يمكن إدراك أو تمثل أي شيء. " فكل تجربة إنسانية تأخذ بعين الاعتبار، من خلال أشكال وجودها الواقعية والأسطورية، وجود علاقة خاصة مع الفضاء " (6).

 وهذا ما جعل الخطاب الإشهاري، وهو يحاول رسم حدود تتم داخل فضاء لا يأسر بل يحرر ويدفع إلى التمثل اللامتناهي، يحتفي بالمحيط أكثر من احتفائه بالمنتوج. ف"الحدائق الغناء" و"المياه الجارية" و"الجبال الشاهقة".... الخ ليست كذلك في ذاتها، بل هي كذلك في ارتباطها بصور نمطية مستبطنة وعادة ما يستحضرها المستهلك بشكل لاواعي كلما وجد نفسه أمام تمثيل فضائي لا يكتفي بتوجيه العين نحو مدرك بصري بل يحفز العين على استثارة الأبعاد الرمزية لهذا التمثيل الفضائي. لذلك، فالأمر لا يتعلق بفضاء فعلي كما يتحقق في التجربة الواقعية، بل هو آلية من آليات استنفار الصور التي يحيل عليها الفضاء الممثل ( الجبل والماء والصحراء والنجود الواسعة...). وهي أبعاد لا يحيل عليها الشيء، بل هي مودعة في الخبرة الإنسانية التي تجنح دوما إلى إيداع المعاني الإنسانية في أشياء الكون وكائناته.

ولهذه الأبعاد وضع خاص، فهي لا يمكن أن توجد إلا من خلال اختصار لكل حالات التحقق الممكنة في صيغة عامة تصبح قادرة على احتضان أكبر قدر من الانفعالات الإنسانية: ويكفي أن نستحضر حالة النظرة إلى الصورة عامة. فهي في الوضعة دالة على شيء آخر غير ما يمكن أن يشير إليه فعل البصر: فصياغاتها المتعددة، كالقسوة والحنان والتوسل أو ما تشاؤون من الحالات المدرجة ضمن سجل إيقونوغرافي مشترك، هي دلالات ناتجة عن تقطيع للمدرك الفضائي وفق غايات دلالية مسبقة، وهو ما يعبر عنه من خلال أفعال البصر ( لمح ورمق وحدج وحدق ورنا وحملق الخ)، وهي كلها حالات تتجاوز فعل البصر المرتبط بحاجات حسية مجسدة في فضاء، لكي تأتي بالمدرك إلى الذهن وفق غايات توجد في العين. وهو أمر يصدق بالخصوص على حالة الصورة الإشهارية.

لذلك، فالتمثيل الإشهاري للفضاء، كما سنوضح ذلك من خلال بعض الأمثلة، عملية قائمة بالأساس على الدفع بالفضاء إلى تسليم أسراره المخيالية الكامنة فيه من أجل تحويله إلى بؤرة متحركة منتجة للصور وقادرة، وفق ما تشتهيه الغايات الإشهارية، على استيعاب الصور اللامتناهية للعين التي ترى المنتوج وتتأمله باعتباره مستودعا هائلا لقيم تتميز بكونها تمثل في جميع الحالات باعتبارها جمالا مطلقا كما يحضر في الحلم والرغبة في التخلص من إكراهات واقع استهلاكي محدود وروتيني. وهو ما يعني بعبارة أخرى، أن الإدراك في حالة الصورة الإشهارية لا يستدعي الشيء موضوعا له، بل ينفتح، من خلال الشيء المدرك، على عوالم سحرية لا يمكن أن تتجسد في الواقع، بل هي كذلك في أحلام مستهلك تستدرجه الصورة لكي يعيش نشوة الاستيهام كبديل افتراضي لواقع روتيني.

وعلى هذا الأساس، فإن الفضاء الممثل في الصورة – بكل أشكالها - لا يتحدد باعتبار امتداده الحقيقي في الواقع، فهذا الوجود لا قيمة له في ذاته، بل هو بناء ثان أو صياغة جديدة تتحقق وفق غايات غير كامنة فيه، بل هي غايات الصورة غير المعلنة. وبعبارة أخرى، إننا ننظر إلى الفضاء باعتبار قدرته على استيطان العين التي تلتقط العناصر المتنوعة المساهمة في إنتاج معاني بعينها وإقصاء أخرى وفق الفرضيات التأويلية التي يتبناها كل قارئ. أما ما يتسرب بعد ذلك إلى فعل التمثيل فلن يكون سوى إثارة لوجود تناظري لا يحيل، في نهاية الأمر، إلا على نسخة من نفسه. إن وظيفة كل تمثيل فني هي تخليص الفضاء من ماديته المباشرة وتحويله إلى حاضن لصور نمطية أولية ستمكن العين المشاهدة من التحرر من إكراهات الإدراك الواقعي الذي يأسر النظرة ويقلص من حقل نظرتها.

بل قد يكون الأمر أكبر من مجرد عين تنتقي موضوع نظرتها، لكي يشمل العملية الرمزية في كليتها باعتبارها تخترق كل شيء في الوجود بما فيها ما يعود إلى بعض أنماط السلوك الذي لا يبدو أن له علاقة بالرمز أو عوالم الأسطورة كتسلق الجبال أو الغوص في أعماق البحار، وهي الثيمات المفضلة لكثير من الوصلات الإشهارية، كما هو الشأن مع الماء المنبعث من أعالي الجبال، أو الرجل التي تطأ وجه القمر في تحد سافر للجاذبية وكل الأشكال الفيزيائية المحددة لدوران أجرام المنظومة الشمسية. " فالإشهار من خلال الصور الكونية الكبرى يكشف عن حيوية الرموز النمطية التي، حتى وإن تحققت من خلال لغة إشهارية ذات طابع حداثي، فإنها تشتغل في ترابط وثيق مع البنيات الأسطورية الكبرى التي تؤسسها" (7). هناك حاجة غير مرئية داخل المستهلك ( وهي ما نسميه عادة بالحاجات الدفينة كالرغبة في الهيمنة والظهور والحب والعدوانية والامتلاك...) تدفع بالصورة الإشهارية إلى تجاوز المعطى المباشر والبحث عن  الفضاءات القادرة على استيعاب هذه الأبعاد في الذات الإنسانية. لذلك، فإن تعامل الإشهار مع الفضاء لا يختلف كثيرا عن تعامل الفكر الأسطوري معه. فإذا كان الفضاء لا يشكل في هذا الفكر صورة خالصة، بل قوة غامضة تفرض سلطتها على مادية الأشياء وعلى حياة الناس"(8)، فإنه في الإشهار أيضا لا يشكل مسرحا محايدا لما يجري، بل هو كذلك باعتباره بعدا رئيسيا في ما سيجري ومن خلاله تتحدد دلالات ما هو معروض. ويمكن أن نمثل لذلك من خلال صورتين إشهاريتين مختلفتين من حيث المضمون ومن حيث أشكال التمثيل:

تمثل الصورة الأولى لفتاة تخرج من البحر، بل إن جزءا من جسدها ما زالت تغمره مياه لا حد لها. إنها تتوجه إلى الرائي( الكاميرا) ضمن وضعة أمامية مباشرة تفيد الاستفزاز والدعوة إلى المشاركة والإغراء. إنها تفتح ذراعيها من خلال ضحكتها للآتي إليها من بلاد " باردة" بحثا عن شمس في الجس وفي الطبيعة. وحول الفتاة طبيعة غناء حرص المستشهر على تصفيتها وتقديمها إلى المشاهد خالية من أي شيء يشير إلى الوجود الإنساني.

لن نقدم هنا دراسة شاملة للصورة، فالمجال لا يتسع لذلك. سنكتفي بالإشارة إلى مجموعة من الافتراضات التحليلية الخاصة بالفضاء في المقام الأول. فكما يبدو ذلك من خلال صياغة الملفوظ البصري، تشتمل الصورة على فضاء يعج بالإحالات الرمزية بدءا من عناصر التكون، حيث الماء في كل الثقافات الإنسانية تقريبا هو رمز للخصوصية والتطهر والانبعاث والرغبة في العودة إلى رحم الأم حيث السائل اللزج طعما ومحيطا وحاضنا وأمانا، من جهة، ويحيل الماء من جهة ثانية إلى اللحظات الأولى في الوجود الأرضي؛ فهو مرتبط بقصص الخلق الواردة في كل النصوص الدينية الإسلامية منها والمسيحية واليهودية، فالكون استوى وجودا ماديا انطلاقا من عماء " فوقه ماء وتحته ماء". إلا أن الصورة قد تشير إلى صورة أخرى هي ما تمثله أفروديت (9) وهي تنبعث من زبد الموج إلهة للخصوبة والجمال والحب.

 بل إن إقصاء الوجود الإنساني من الصورة وتقديم الفضاء ضمن رؤية طبيعية تذكر بالفضاءات الأولى للوجود السماوي حيث كان آدم ينتشي بنعيم الحياة خارج كل الإكراهات؛ فالجنة كفضاء مطلق هي خروج من الزمن ومن ثنائياته. لهذا فإن الصورة تحيل بشكل غامض وملتبس إلى مجموعة من الصور الغامضة منها الجنة التي ضاعت نتيجة خطأ أصلي لن يتم إصلاحه أبدا، وهي "بذلك تثير من جديد العالم السابق على هذه الخطيئة، إلا أنها وهي تفعل ذلك إنما تدعو الرائي إلى ارتكاب الخطيئة ذاتها من جديد "(10)، وهو ما يوحي به العري الذي يبيحه الماء ويقدمه للعين مضمخا برائحة الشهوة التي ستتحقق في فضاء يعج بالكثير من الحميمية لأنه خال من كل شيء وبذلك يوهمك يوهم المستهلك بوحدانيته داخل الطبيعة.

أما الصورة الثانية، فهي مزيج من الأجزاء الفضائية التي يتم تمثيلها بشكل غير مكتمل كطريقة مثلى للدفع بالمشاهد إلى تحيين، على طريقته الخاصة، كل العناصر الناقصة. إن الفضاء موجود في عين المتلقي على شكل وضعيات إنسانية مستبطنة تتحقق بشكل مفرد مع كل حالة من حالات التلقي.

تمثل الصورة يدا أنثوية تقدم وردة إلى شخص محتمل، والاحتمال متضمن في اليد الممدودة التي تحيل في جميع السياقات على السلم والمصالحة والمودة والعناق المرتقب. إلا أن السياق المباشر الذي تكشف عنه الإرسالية اللسانية يلقي بظلال من الغموض واللبس على الواقعة البصرية في كليتها؛ فهو يشير إلى أن الأمر يتعلق ببنك يتوجه إلى زبون من خلال لفظ فرنسي يشتمل على سجلين مختلفين، بل متناقضين من حيث المردودية الانفعالية. فكلمة " avances " تعني في الواقع وفي الوقت ذاته السلف أي إمكانية الحصول على قرض قبل تسلم الراتب الشهري، والتغزل بامرأة ومداعبة مسامعها بكلمات جميلة تجعل النوم يهجر عينيها. والتداخل بين السجلين هو محاولة بالغة الذكاء للربط بين عالمين لا شيء يجمع بينهما: البنك وقلب امرأة. فالبنك مؤسسة مصرفية بلا قلب، ولكنها مع ذلك تخاطب الزبون بلغة القلب. وهكذا يتحول السياق المباشر إلى صور عائمة تتأرجح بين فضاء الأرقام والمعادلات والزيادة والنقصان والفائدة والحساب بلا رصيد، وبين عوالم الحب والورد الجميل الذي يزين كل شيء في الحياة، إنه فضاء الحدائق. لذلك فالوردة هنا شيء ممثل داخل فضاء محتمل. إنه موجود في الذاكرة على شكل مرج أو حقل بعيد أو شارع بعيد أو لحظة مختلسة بين حبيبين في حديقة غناء.

استنادا إلى هذين المثالين يتضح أن الفضاء يتخلص من خلال التمثيل ذاته من إكراهاته ليفتح أمام المستهلك عوالم من طبيعة أخرى. لذلك فانتقاء مقطع فضائي داخل الصورة الإشهارية لا علاقة له بخلق " احتمال واقعي"، كما هو شائع في النصوص اللفظية، بل يروم غاية أخرى هي تحويل الفضاء المنتقى إلى قوة للاستيهام الانفعالي الذي يقذف بالذات المستهلكة إلى عوالم سحرية تعود بها إلى صور نسيها عقلها ولكنها استمرت في وجدانها على شكل رغبات مبهمة نادرا ما تتبين كنهها أو تنتبه إلى مضامينها الحقيقية(11).

ويشير هذا الانتقاء إلى تلك العمليات التي يتحول من خلالها الامتداد اللامتناهي للكون إلى مقاطع فضائية حاملة لدلالات تتحقق من خلال سياقات رمزية مبثوثة في الفضاء خلسة في الفضاء الممثل. وهذه السياقات هي التي يتم تجاوزها من خلال فعل الاستهلاك الذي يخلص العين من النفعي من أجل إشباع حاجات أخرى غير تلك التي يشير إليها المنتوج بشكل مباشر . " فالحاجة تتحول إلى رغبة عندما يكون إشباعها أمرا مستحيلا، حينها تحل الصور التذكرية محل الموضوع الواقعي، وهذه الصور هي التي تمنح  الذات إشباعا مخياليا. إن المتخيل، والرغبة المرتبطة به، لا يشكلان هنا عالما موازيا أو واقعا متعال، إنهما يمكنان الذات من خلال حركتهما النهائية من العودة إلى التجربة الواقعية كما يقدمها العالم " (12). وتمثيل الفضاء جزء من هذا الإشباع الوهمي بل هو عمقه الاستراتيجي.

-------------------

هوامش

1-  W . Iser : L’acte de lecture, éd  mardaga éditeur , 1976, p.248

2- Anne Sauvageot : figures de la publicité ,éd P U F, 1987 p 94

3- نفسه ص94

4- نفسه ص94

5- نفسه ص94

6- نفسه ص 93

7- نفسه ص 93

8- نفسه ص 94

9- انظر  ملاحظات غي غوتي حول هذه الصورة Guy Gauthier : Vingt leçons sur l’image et le sens, éd Médiathèque,1986, p 86

10- نفسه  ص 86

11-  انظر مقالنا : هناك بعيدا في الأعالي ، علامات العدد 27

12-L’image : Textes choisis et présentés par Laurent Lavaud, éd Flammarion,1999, p 22

 

 

 

 

 
 
 
معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقـة تعريـف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع  خزانات الموقـع  صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

موقع سعيد بنگراد - تاريخ الإنشاء: نونبر 2003