معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقـة تعريـف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع  خزانات الموقـع  صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

سعيد بنگــراد

السيرورة السميائية والمقولات

(قراءة في فلسفة بورس السميائية)

 

 

إن إستيعاب الأبعاد المعرفية العميقة التي تسند الصرح السميائي الذي أرسى قواعده الفيلسوف والسميائي شارل سندرس بورس (*) ، يقتضي العودة إلى البحث في إواليات الإدراك ذاته. فمجمل المعطيات الموصوفة في الميدان السميائي لا تشكل سوى حالة من حالات الإدراك وإنتاج المعرفة الخاصة بالإنسان وعالمه. فالإدراك عنده لا يمكن أن ينفصل عن السميوز ( السيرورة المؤدية إلى إنتاج الدلالة وتداولها)، بل يمكن القول إن فصل السميوز عن الإدراك، لا يؤدي إلا إلى فصل الفعل السميائي عن أساسه المادي الذي يغذي أشكال تحققه.

استنادا إلى ذلك فإن الفعل الإدراكي هو في حد ذاته معرفة. وإذا كانت هذه المعرفة لا تخص سوى فعل التعرف المباشر والأولي، فإنها تعد مع ذلك منطلقا لإحالات لا تتوقف عند حد. وهذا أمر بديهي في تصور بورس، فالتجلي في ذاته لا يمكن أن يكون دالا، إنه يشكل فقط منطلقا يقودنا نحو بناء دعائم العلامة التي هي وحدها سبيل الأشياء إلى امتلاك ذاكرة ما والدخول إلى عالم المفاهيم. وكما يقول دريدا معلقا على فينومينولوجيا بورس > لا وجود لظاهرانية تقلص من حجم العلامة أو من الأداة التي تمثلها كي يتمكن الشيء من الانتشاء بحضوره الخاص. فهذا الشيء في حد ذاته هو دائما ماثول يستخرج من ظاهر البداهة الحدسية <. (1)

وقبل بسط الحديث عن مقولات بورس الفينومينولوجية وربطها بعنصار النسق السميائي، لا بد من التذكير ببعض العناصر الأساس الخاصة ببناء العلامة. إن العلامة بناء ثلاثي يربط بين : ماثول ( représentamen) يحيل على موضوع ( objet) بواسطة مؤول ( interprétant). ويعد المؤول - العنصر الثالث داخل العلامة - الركيزة الأساس التي يقوم عليها فعل العلامة. فهو الذي يضمن صحة الإحالة من الماثول إلى الموضوع. فخارج المؤول لا يمكن الحديث عن فعل سميائي، وأية محاولة لضبط الفكر من خلال العنصر الأول والثاني فقط، معناه الحديث عن أشياء بلا ذاكرة ولا مستقبل. فهذه الإحالة قد تنتج معرفة ولكن هذه المعرفة هي معرفة هشة بلا عمق ولا امتداد وتنتفي بانتفاء الشروط التي أنتجتها.

 إن هذا البناء الثلاثي يستمد مقوماته الرئيسة من نظرية المقولات التي يرى فيها بورس الأداة المنظمة للتجربة الإنسانية في كليتها. وكما سنرى ذلك لاحقا، فإن العناصر المكونة للعلامة ذاتها ليست سوى صياغة جديدة لحدود هذه المقولات. فالعلامة يمكن أن تعرف بأنها أول يحيل على ثان عبر ثالث. والثالث هو الأصل في إنتاج القانون والضرورة والتجريد. إنه، بعبارة أخرى، مقولة الفكر التي يقوم بتهذيب الذاكرات الفردية وتعميمها.

ولهذا فإن استيعاب التصور الذي يقدمه بورس للعلامة يمر عبر استيعاب تصوره لنظرية المقولات ذاتها. إذ لا يشكل التعريف الذي يقدمه بورس للعلامة سوى الوجه المرئي لقاعدة فلسفية ترى في التجربة الإنسانية بكافة أبعادها كيانا منظما من خلال مقولات ثلاث هي الأصل والمنطلق في إدراك الكون وإدراك الذات وإنتاج معرفة تخص الكون والذات معا. فلا حدود تفصل، في الظواهر، بين المرئي والمستتر، ولا فاصل داخلها بين الممكن والمتحقق، فكل ما يؤثث هذا الكون يشكل وحدة تامة. ومع ذلك فإن التنظيم المفهومي للتجربة الإنسانية يقتضي منا الفصل بين المستويات والمظاهر والمجالات.

فما ينتمي إلى العلامة باعتبارها صيغة تنظيمية مباشرة للتجربة الإنسانية، وما ينتمي إلى المقولات الإدراكية باعتبارها تشكل الروابط الأولية التي تجمع بين مكونات التجربة الإنسانية ( أشكال الوجود )، يعود إلى نفس المبدأ : يتعلق الأمر بالتخلص من المعطيات الحسية باعتبارها كيانات جوفاء لا يمكن أن تنتج معرفة، وذلك من أجل صبها داخل قوالب الوجود والمفاهيم. فنحن لا ندرك العالم بشكل مباشر، ولا يمكن أن نقول عنه أي شيء في غياب أداة التوسط التي هي العلامات، أي في غياب المقولة التي تقوم بالتجريد والمفهمة. وتعد هذه المقولة ركيزة أساسية في سميائيات بورس. فلا وجود لفكر بدون علامات، ولا يمكن أن نفكر خارج ما تقدمه هذه العلامات. والذاكرة الإنسانية هي ذاكرة لسانية لا تحضر فيها الأشياء إلا عبر مفاهيم تخبر عنها.

ولقد قدم بورس تصوره هذا من خلال خطاطة ثلاثية يمكن بواسطتها الكشف عن مجمل مكونات التجربة الإنسانية. فلا يمكن للتجربة الإنسانية أن تدرك إلا منتظمة داخل حدود مرتبطة فيما بينها في نظام ثلاثي لا تنفصم عراه. وكما سنرى ذلك لاحقا، فإن كل الظواهر عنده توصف وتصنف انطلاقا من توزيع هرمي يتخذ شكل ثلاثيات مترابطة. إن مبدأ الثلاثية هو المبدأ الأساس الذي سيشكل عمق السيرورة المنتجة للإدراك والفهم والتواصل الإنساني، سواء تعلق الأمر بالمقولات أو تعلق بالبناء الداخلي للعلامة، أو تعلق بما سيسميه لاحقا التوزيع الثلاثي للعلامة. ففي كل هذه الحالات، تنطلق الثلاثية من النوعية ( أول ) إلى الفعل ( ثان) وإلى القانون ( ثالث)، أي من الإحساس إلى الوجود إلى التوسط. وهي السيرورة المؤدية إلى تحديد إدراك عقلي للكون يستند إلى المفاهيم لا إلى المعطيات الحسية المعزولة.

وسيبني بورس تصوره انطلاقا من > مسلمة يُطلق عليها "البروتوكول الرياضي"، فكل نسق يتحدد، وفق هذا البروتوكول، باعتباره كيانا ثلاثيا ولا يمكن أن يكون إلا ثلاثيا< (2). إن هذا البروتوكول يعد أداة منطقية فعالة للقيام بكل عمليات تصنيف الظواهر، وهو ما يعني أن كل شي وكل فعل وكل عدد يختصر في الرقم ثلاثة.

وهكذا، فإن كل الظواهر، وفق هذا البروتوكول، تَمْثل أمامنا على شكل بناء ثلاثي يستحيل اختصاره في ثنائية ستكون بالضرورة مخلة بالنسق. فنحن لا يمكن أن نتصور العدد "1" دون أن نسقط في نفس الآن ما يحد من امتداده المحتمل ( ما يغلق السلسلة )، ولهذا فإن وجود العدد "2" أمر لا بد منه، فهو الذي يحد من الامتداد ويمنحه هوية "2". إلا أن الأمر لا يمكن أن يقف عند هذه الحدود، فتصور كيانين مستقلين ومكتفيين بذاتهما ( ما يعود إلى الوحدة "1" وما ينتمي إلى الثنائية "2" ) يفترض ثالثا يربط بينهما، ولا يمكن لهذا الثالث أن يكون من طبيعة الأول، كما لا يمكن أن يكون من طبيعة الثاني، إنه ينتمي إلى دائرة مختلفة، إنه التوسط الذي يؤلف ويصنف ويجرد، إنه العدد "3". > فالثلاثية ضرورية وكافية في الآن نفسه. إنها ضرورية من الناحية المنطقية وكافية من الناحية التداولية. إنها ضرورية من أجل بناء سلسلة لامتناهية من العلاقات، وكافية لأنها تستجيب للحاجات الاقتصادية من خلال التقليص الممكن لكل عدد يفوق العدد "3" إلى تأليفات ثلاثية <. (3) 

ويتساءل بورس : > لماذا التوقف عند ثلاثة ؟ لماذا لا يمكن الاستمرار من أجل الحصول على تصور جديد من خلال "4 " أو "5" الخ ؟ إن السبب يعود إلى أنه يستحيل أن نكون ثلاثة أصيلة بإدخال تغيير على الزوج دون أن ندخل شيئا من طبيعة مختلفة عن الوحدة وعن الزوج. فـ "4" أو "5" أو أي عدد يفوق ذلك يمكن الحصول عليه من خلال تأليف بسيط لثلاثة. ومن أجل المزيد من الإيضاح، سأبين ذلك من خلال المثال التالي : إن العملية التالية " أ " يهب " ب" هدية لـ" ج" تحيل على علاقة ثلاثية، وباعتبارها كذلك، يستحيل العودة بها إلى تأليف ثنائي. والواقع أن فكرة التأليف ذاتها تستدعي فكرة الثلاثية، ذلك أن التأليف هو شيء لا يكون كذلك إلا من خلال الأجزاء التي يربط بينها. وحتى إذا تركنا هذا الاعتبار جانبا، فإننا لا يمكن أن نقول إن كون " أ" يهب " ج" لـ "ب" من خلال الجمع بينهما في علاقات ثنائية " أ" و"ب"، و"ب" و "ج" و "ج" و"أ". ف "أ" قد يجعل من " ب" رجلا غنيا، و"ب" يمكن أن يتوصل بـ " ج" و"أ" ينفصل" عن "ج"  دون أن يكون " أ" مضطرا  لمنح "ج" لـ "ب". وفي هذه الحالة لا يجب أن تكون هذه العلاقات الثنائية الثلاث في حالة تعايش فحسب، بل يجب أن تدرك باعتبارها تشكل واقعة واحدة. وهكذا يتضح أننا لا يمكن أن نحلل الثلاثيات من خلال الثنائيات. < (3)

ولننظر إلى المسألة من خلال مثال أقل تجريدية من السابق. ويتعلق الأمر بنص سردي يفتتح بالملفوظ التالي :

> لم يكن عيسى يتوقع أن هذا اليوم سيأتي <

إن هذا الملفوظ يضعنا أمام وضعية بدئية مفتوحة على كل الاحتمالات. فهذه الوضعية السردية قابلة لاستيعاب كل الممكنات التي يشير إلىها الملفوظ. فقد يتعلق الأمر، على سبيل المثال بالتحققات التالية، لم يكن يتصور:

- أنه سيغادر مدينته

- أنه سيجد عملا

- أنه سيتزوج

- أن تقوم الثورة في بلاده

- أن يعتقل

إلى ما إلى ذلك من الممكنات القابلة للتحقق والتي تقبل بها العوالم الممكنة المرتبطة بهذا الوضع  الإنساني ضمن شروط بعينها.

إن السلسلة إذن مفتوحة، إلا أن أي تحقق لممكن من الممكنات السابقة سيقوم بإغلاق السلسلة، أي يوقف أي تساؤل يخص الملفوظ المشار إليه. إلا أن هذا التحقق يعني في نفس الآن إدخال قانون ستتحقق وفقه الأحداث ويتحدد مضمونها وطريقة تحققها. فأن يسافر عيسى فذاك أمر سيفرض تحققا بعينه، لا يمكن أن يفرضه الزواج أو الثورة أو الحصول على وظيفة. وهكذا نلاحظ أن التجربة في رمتها تختصر في ثلاثة عناصر :

- إمكان ( ما تشير إلىه الوضعية البدئية، أي ما يقوله السارد )،

- ثم التحقق الذي يليه ( انتقاء ممكن من الممكنات المشار إليها) ،

- ثم القانون الذي سيتحكم في الأحداث استقبالا، وهو قانون منبثق عن الاختيار الذي سيقوم به السارد من أجل توجيه العجلة السردية في اتجاه بعينه.

وكما يتضح ذلك من هذا المثال، فإن إضافة عنصر رابع لا أهمية له داخل هذه السيرورة، فهو لن يغير من الترابط الذي يجمع بين الحلقات الثلاث المشكلة للسيرورة. فأن يسافر بالطائرة أو عن طريق البحر، أو أن يجد عملا في البريد أو في التعليم، أو أن يتزوج عاملة أو معلمة فتلك عناصر  لن تغير من طبيعة التحقق ذاته، ولن تغير من طبيعة القانون الذي يحكم عناصرالتحقق استقبالا. صحيح قد تؤدي هذه العناصر إلى تنويعات تغني التحقق وأساليبه، ولكنها بالتأكيد لن تمس جوهرالترابط الذي يميز كل سيرورة إدراكية.

وما يصدق على واقعة بحجم هذا الملفوظ يصدق على الوعي الإنساني برمته. فالتجربة الإنسانية هي كما هي في حدود انبثاقها من هذه السيرورة الثلاثية، وخضوعها لمقتضياتها. فالمقولات، كما سنرى، ليست مضامين مسبقة ومكتفية بذاتها، بل هي أشكال نقيس من خلالها مظاهر التجربة الإنسانية.

وسيعيد بورس صياغة هذا البروتوكول الرياضي من خلال حدود فينومونولوجية دقيقة خاصة بالإدراك وإنتاج الأفكار وتداولها. فكل عدد من الأعداد السابقة يمكن أن يعبر عنه من خلال مقولة تحيل على نمط خاص في الوجود :

- وجود الإمكان النوعي الموضوعي.

- وجود الواقعة الفعلية.

- وجود القانون الذي سيحكم هذه الوقائع استقبالا.

ولهذا فإن بورس أطلق على هذه المقولات في مرحلة سابقة، أي في مرحلة الستينات والسبعينات من القرن التاسع عشر : النوعية والواقعة والعلاقة. فالنوعية إحالة على الأول، والواقعة هي لحظة تجسيد المعطيات الموصوفة في الأول، أما العلاقة فهي الثالث الذي يربط مفهوميا بين الأول والثاني، أي بين الأحاسيس والنوعيات وصورتها المجسدة في واقعة بعينها. إلا أنه سيغير من هذه المصطلحية في الثمانينات وسيتحدث عن النوعية والعلاقة والتوسط. ولن يتبنى استعمال المصطلحات الأولانية والثانيانية والثالثانية إلا في مرحلة متأخرة ( حوالي 1885). ( 5))

وبعبارة أخرى، إننا أمام تصور يجعل من الأول مرتبطا بالكينونة، وهو ما يعني التعبير عن الموجود في ذاته وفي استقلال عن أي شيء آخر، ويجعل من الثاني معبرا عن الكينونة في علاقتها بشيء آخر. في حين يعهد للثالث القيام بمهمة التوسط الذي يربط الأول بالثاني ضمن علاقة تشير إلى القانون والضرورة والفكر. فبدون ثالث لا يمكن تصور أي شيء، ذلك أن غياب الثالث معناه أننا سنكون أمام إحالة عرضية وهشة وزائلة لا يمكن أن تنتج إدراكا أو معرفة. فالإحالة على كائن بشري من خلال الأول والثاني فقط، معناه الإحالة على كائن بلا ذاكرة ولا تاريخ ولا مستقبل، إنه لحظي، مثله في ذلك مثل الحيوانات التي تكتفي بإدراك الأشياء في اللحظة في انفصال عن الزمن الماضي أو الآتي.

إن وجود الإمكان يعبر عنه من خلال مقولة الأولانية ( priméité) ، ويعبر عن الوجود الفعلي من خلال مقولة الثانيانية ( secondéité)، أما الثالثانية ( tiercéité) فهي التعبير الكلي عن الوجود الثالث، أي عما يشير إلى القانون والضرورة.

ويؤكد بورس أن هذه المقولات قادرة على تزويدنا بكل الوسائل الممكنة للإمساك بالتجربة الإنسانية في كليتها. بل يمكن القول إن التجربة الإنسانية في تشعبها وتنوعها وغناها لا يمكن أن تدرك إلا باعتبارها تداخلا لمستويات ثلاثة هي ما تعبر عنها المقولات السابقة. وبعبارة أخرى، فإن هذه التجربة تدرك باعتبارها نتاجا لمستويات ثلاثة : أول وثان وثالث، أي التجربة في حالة الإمكان، والتجربة المجسدة في وقائع، والتجربة حين يتم استيعابها بصفتها قانونا وفكرا وضرورة. وكل عنصرمن هذه العناصرالثلاثة يحدد كونا له قوانينه الخاصة التي تحكمه وتحكم علاقته بالعناصر الأخرى. فلا وجود للعنصر خارج الوحدة التي تجمع هذه العناصر. وبعبارة أخرى، فإن المقولات تمكننا من رد الكون المتنافر التكوين إلى ضرب من الوحدة، وهذه العملية وحدها هي التي تمكننا من الإمساك ثانية بالشيء باعتبار انتمائه إلى هذا القسم أو ذاك من الأشياء.

وعلى هذا الأساس، فإن الصياغة النهائية للحدود الإدراكية، لا يمكنها أن تقف عند حدود ما يقدمه الأول وحده أو ما يتجسد في الثاني وحده، كما لا يمكن تصور ثالث بدون أول ينسج علاقة مع ثان. إن الأول إمكان فقط، أما الثاني فهو وجود خالص والربط بينهما لا يمكن أن يؤدي إلى إنتاج إدراك أو خلق تواصل دائم. إن الإدراك والتواصل ممكنان فقط من خلال إدخال عنصر ثالث يحول العلاقة بين الأول والثاني من الطبيعة العرضية واللحظية إلى ما يشد هذه العناصر إلى بعضها البعض من خلال قانون لا فكاك منه.

ويحدد الأول والثاني والثالث المقولات الثلاث السابقة التي يطلق عليها بورس المقولات الفينومينولوجية، أو المقولات الفانوروسكوبية و>الفانوروسكوبيا هي وصف للظاهر(  phaneron)، والظاهر هو المجموع الجماعي الحاضر في الذهن بأية صفة وبأية طريقة دون الاهتمام بتطابقه أوعدم تطابقه مع شيء واقعي< (6). إنه المعطى المباشر والعفوي. ولأن إدراك الذات للعالم الخارجي ليس إدراكا عفويا وبسيطا يتم دون وسائط، فإن موجودات العالم الخارجي تتسلل إلى ذهن الذات المدركة من خلال سيرورة تشتمل، في نظر بورس، على لحظات ثلاث : > لحظة أولى خالية من أي قصدية فينومينولوجية، لأن خاصية الشعور أو المحسوس التي يتحقق من خلالها " الشعور البسيط " ليست موضوعية ولا ذاتية، لا فاعلة ولا منفعلة، وبطبيعة الحال فهي ليست قصدية <. وبما أن هذه الحالة الأولى هي من باب الاحتمال فقط - فهي لا يمكن أن تدرك في ذاتها بشكل مطلق - فإنها في ارتباطها بذات ما، > تستجيب لحضورها الخالص ( ما يسميه دان سكوت ب "الهنا والآن " ). وبطبيعة الحال، فإن الأمر لا يتعلق هنا بقصدية ما، فالمحسوس موجود هنا لأنه موجود فقط. إنه موجود في نظر العارف لا أقل ولا أكثر<. (7)

إن الحالة الثالثة وحدها هي التي تحتوي على قصدية، لأنها وحدها تتميز بعمومية مستقلة تجعل منها كيانا يراقب الإمكان والتحقق معا. وبعبارة أخرى، وكما سنرى ذلك لاحقا بتفصيل، فإن الثالثانية هي ما يجعل من المحسوس مدركا إدراكا مفهوميا، ففي غياب المفهوم يستحيل الحديث عن " فهم" أي شيء. ولعل هذا ما يفسر اهتمام بورس الكبير بالعلامة وتكونها ودورها في إنتاج الأفكار وتداولها.

والظاهر أن بورس، كما يبدو من خلال الإشارت الخاصة إلى " المفاهيم " و" المعطى الحسوس" و" الموجود"، قد استوحى الكثير من تصوراته، في مجال الإدراك القائم على المقولات القبلية على الأقل، من المقترحات الفلسفية التي جاء بها كانط.

فكانط أيضا كان يرفض، وفق هذا التصور، بشكل قطعي أي حدس عقلي، فالفكر عنده لا يمكن أن يتبلور ويظهر للوجود إلا إذا تم من خلال مقولات ( التصورات). والشاهد على ذلك وجود سلسلة المقولات التي نظر إليه كانط باعتبارها كيانات قبلية نعقل عبرها المعطى الحدسي، أي النظر إليها باعتبارها مبادئ للفهم الخالص، > أي تلك المبادئ الأولية التي تحدد إمكانية التجربة وتجعل منها معرفة تجريبية موضوعية عامة<. (8) ففي غياب هذه المقولات > ستظل الحدوس الحسية " عمياء، وفي غياب الحدوس الحسية لن تكون المفاهيم سوى كيانات عمياء< ( 9).

وبورس نفسه في النصوص التأسيسة الأولى ( النصوص التي ظهرت سنوات 1866- - 1867 - 1868) كان يستعمل مجموعة من المفاهيم القريبة جدا من تلك التي شاع استعمالها عند كانط. وعلى سبيل المثال، فإنه يفتتح مقالته الشهيرة  : حول لائحة جديدة من المقولات التي كتبها سنة 1867 وكان عمره آنذاك 28 سنة بالعبارات التالية : > إن هذه المقالة تستند إلى نظرية قائمة الذات تتحدد وفقها وظيفة التصورات ( conceptions) في رد الانطباعات المحسوسة إلى ضرب من الوحدة. فصلاحية هذه التصورات تكمن، وفق هذه النظرية، في أن إرجاع مضمون الوعي إلى ضرب من الوحدة لا يمكن أن يتم دون الاستناد إلى هذه التصورات <. (10) إن هذه الصيغة هي استعادة واضحة لمفاهيم كانطية خاصة بالإدراك وإنتاج المعرفة. فلقد استعمل كلمة "التصورات" التي كانت تعني عنده المقولات.

إلا أن التشابه يقف عند هذا الحد ولا يمكن أن يتجاوزه إلى أبعد من تحديد مجموعة من المقولات تقف وظيفتها عند حدود إنتاج معرفة عقلية. فمقولات كانط مرتبطة بسلسلة من الأحكام المؤدية إلى إنتاج إدراك حقيقي، تماما كما كانت مقولات أرسطو مرتبطة بتحديد الكينونة.

فبينما استعان أرسطو بهذه المقولات من أجل الوصول إلى تحديد جوهرالكينونة، واستعان كانط بمقولاته المنبثقة عن الأحكام لكي يصل إلى فصل المحسوس عن الفكر، ( تمييزه بين الأحكام التحليلية السابقة عن التجربة والأحكام التركيبية المنبثقة عن التجربة) (11)، فإن بورس انطلق من نفس الإشكال الإدراكي، إلا أنه لم ير في " مقولاته" سوى أشكال تشير إلى كيانات وجودية مرتبطة فيما بينها وخالقة للوعي في كليته. فالتركيب لا يمكن أن يتم، كما تصور ذلك كانط، من خلال الحدس. > فالسؤال الشهير الذي طرحه كانط في نهاية القرن الثامن عشر عن كيفية الحصول على تفكير تركيبي قبلي، كان يجب، في تصور بورس، أن يكون مسبوقا بسؤال آخر أكثر أهمية : كيف يمكن الحديث عن التركيب ذاته ؟ وكيف يمكن رد التعدد إلى ضرب من الوحدة ؟ وعن هذا السؤال يجيب بورس : إن ذلك ممكن فقط من خلال التمثيل. فالكينونة معناها ما يمكن تمثيله، والتمثيل في تصور بورس تتابع منظم < (12).

ولهذا كان من الضروري الاستعانة بأدوات أخرى، وكان من الضروري أيضا إعادة صياغة الأحكام  الخاصة بالتجربة وحدودها. وسيعثر بورس على هذه الأدوات في النموذج الذي يقدمه منطق العلاقات الذي قام هو نفسه بإعادة صياغة حدوده. > فالوحدة التي تعود إليها الانطباعات من خلال الإدراك هي وحدة القضية <. (13)

وفي هذا المجال، فإن منطق العلاقات يميز داخل القضية بين علاقة أحادية  : ".... هو رجل" ، وبين علاقة ثنائية : "... يحب ...،"  وبين علاقة ثلاثية : " ... يعطي .... ل .....". > ومن هذا البناء المنطقي انبثقت مقولات بورس الفينومينولوجية الثلاث. > فالأولانية هي مقولة النوعية التي تتميز بكونها تمتلك عمومية الممكن، والثانيانية هي مقولة الوجود، وهي الفعل الذي يتم داخل خصوصية الهنا والآن، أما الثالثانية فهي مقولة الفكر والتوسط <. (14) ففي الحالة الأولى تكتفي الإحالة بتحديد كيان منفصل عن أي شيء، فهذا الكيان محدد من خلال خصائصه الذاتية فقط، فهو منفصل عن أي شيء آخر. أما في الحالة الثانية، فالإحالة تتم من خلال ربط الذات بموضوعها، أو ربط الذات بالمحمول، فالشيء لا يتحدد من خلال خصائصه الذاتية، بل بتحققه في شيء آخر، فهو كما هو في علاقته بشيء يحيط به. أما في الحالة الثالثة، فإن الإحالة تستند في وجودها إلى إبراز ما يتوسط كيانين.

واستنادا إلى هذا يمكن فهم البناء الثلاثي للعلامة نفسها. فبورس لا يتصور العلامة خارج هذه التحديدات المنطقية. > فالعلامة هي أول عندما تحيل على نفسها، وهي ثان عندما تحيل على بؤرة "الهنا والآن" التي يتحرك داخلها الموضوع، وهي ثالث عندما تحيل على مؤولها <. (15) وهذا أمر طبيعي، فالمنطق عند بورس ليس سوى تسمية أخرى للسميائيات التي تشكل في اعتقاده النظرية الشكلية والضرورية لدراسة العلامات.

 

تعريف المقولات

 

إن المقولات الثلاث تحدد، كما أسلفنا، ثلاثة أنماط للوجود : > وجود الإمكان النوعي الموضوعي، ووجود الواقعة الفعلية، ووجود القانون الذي سيحكم هذه الوقائع استقبالا<(16).

وبطبيعة الحال، فإن الأمر لا يتعلق بأكوان منفصلة عن بعضها البعض لكل منها وجوده المستقل، بل الأمر يعود إلى كون واحد منظور إليه من زوايا ثلاث. فكل زاوية تمنح هذا الكون مظهرا خاصا. فمن خلال الأول يتبدى الوجود باعتباره نوعيات وأحاسيس، أما في الثاني فيتخذ شكل مجموعة من الوقائع المتحققة فعليا، أما مع الثالث، فإن الوجود يتحول إلى سلسلة من القوانين والقواعد، أي يصبح مجموعة من المفاهيم التي من خلالها نعقل الكون ونتمثله كفكر وضرورة وقانون.

فما فحوى هذه المقولات ؟ وما هي العلاقات الرابطة بينها ؟ وكيف تتحول هذه المفاهيم إلى أدوات  لاشتغال العقل وإنتاج الأحكام والمفاهيم ؟

 

مقولة الوجود النوعي الموضوعي

 

تحيل هذه المقولة التي يطلق عليها بورس الأولانية على " الوجود النوعي الموضوعي"، ذلك الوجود الذي يكمن في وجود الشيء في ذاته خارج أي سياق أو تحقق. وبعبارة أخرى، فإن الأولانية تحيل على سلسلة من الأحاسيس والنوعيات المنظور إليها في ذاتها. إنها تحديد للكينونة في طابعها المباشر دون وسائط أو تجسد أو علاقة مع أي شيء آخر. ويعرفها بورس بأنها > نمط في الوجود يتحدد في كون شيء ما هو كما هو إيجابيا دون اعتبار لشيء آخر. ولا يمكن أن يكون هذا الشيء إلا إمكانا < (17). فالأول في هذه الحالة يحيل على الشيء في ذاته، مفصولا عن محيطه وعن سياقه المباشر وغير المباشر. ويرد بورس مضمون هذه المقولة إلى الأحاسيس كالألم والخوف والفرح والحزن، وإلى النوعيات كالأحمر والأخضر والمر والخشن واللين.

فهذه الأحاسيس وهذه النوعيات هي كما هي في ذاتها بعيدا عن أي تحقق ولا تتحدد إلا من خلال خصائصها الذاتية دون التساؤل عن تجسدها أوعدم تجسدها في شيء آخر. > فالإحساس هو نوع من الوعي الذي لا يستدعي أي تحليل، كما لا يستدعي أية مقارنة ولا أية سيرورة، كما لا يتجسد لا كليا ولا جزئيا في فعل يتميزمن خلاله هذا الحقل من الوعي أوذاك <. (18)

فما هي النوعية وما هو مضمونها؟ عن هذا السؤال يجيب بورس > هناك نظرة يبدو من خلالها عالم الظواهر وكأنه مصنوع فقط من النوعيات. وما هي هذه النظرة ؟ إنها تلك التي نعتنقها عندما نهتم بكل عنصر كما يبدو في ذاته، ومن خلال إمكانياته الخاصة دونما اهتمام بأية روابط أخرى < ( 19). فإذا تأملنا أي شيء في ذاته وفي انفصال تام عن أي شيء آخر سيتضح لنا أن هذا الشيء لا يمكن أن يشبه أي شيء آخر. فالإحساس هو كما هو قبل أن نفكر في صبه في واقعة أو نجسده في فعل يكشف عن كامل أوجهه. ولهذا فإن بورس يرى في النوعية " العنصر الأحادي للكون. فكل شيء مهما كان تعقيده وتنافره يمتلك نوعيته الأصلية < (20)

 

وعلى هذا الأساس تتحدد الأولانية كمقولة للوجود الاحتمالي، ولا يمكن أن تشتغل إلا باعتبارها ما يحيل على الاحتمال والإمكان. فتجسدها في شيء آخر غير ذاتها يحيلنا على شيء آخر، أي على نمط آخر للوجود هو بالضرورة تجاوز لحدودها ومعطياتها.

إن الأولانية تتميز بالعمومية، ولهذا فإن الإبهام والغموض والالتباس سمات خاصة بها، فهي الكلية التي لا تحضر في الذهن من خلال أجزائها لا من خلال مظاهرها، إنها الأحاسيس خارج أي تجسد، وهي النوعيات في انفصال عن الوقائع التي تخبر عنها وتمنحها هوية.

 إن الأولانية مقولة توجد خارج أي تحديد، فلا زمان هناك ولا مكان ولا تمييز ولا تخوم ولا أجزاء.> فكل شيء يمكن أن يعزل ويطرح كأول داخل سلسلة ...] والأول معناه بداية جديدة وأصل، فلا شيء يحدد الأول بشكل مسبق، فلنفترض أن (5) هي أول فماذا سيكون الثاني؟ إنه غير محدد بعد؛ قد يكون (6) وقد يكون (4) وقد يكون (10) أوما شئتم، فالأول حر ولا محدد. إن الأولانية هي مقولة البداية والجدة والحرية والإمكان واللاتحديد < ( 21).

إن الأولانية هي الإحساس قبل أن تكون هناك ذات تحس، وهي النوعيات قبل أن يكون هناك شيء تتجسد من خلاله هذه النوعيات. > فمادامت الأشياء لا تؤثر في بعضها البعض فلا فائدة من القول إنها موجودة، إلا إذا كان هذا القول يعني أنها موجودة لذاتها <(22). إنها الاحتمال فحسب، والاحتمال نمط في الوجود لا يرتبط بحالة ولا يعود إلى واقعة بعينها، بل يشير إلى الانفتاح الدائم على أشكال للتحقق أو على خيبات لا تنتهي. فهل بإمكاننا أن نصف الأحمر ؟ وهل يمكن أن نحدد كنه السعادة والفرح والألم ؟ إن الأحمر في ذاته لا يمكن أن يوصف، فقبل أن يكون هناك شيء أحمر، لم يكن الأحمر سوى نوعية لا وجود لها إلا في ذاتها، > فالنوعية ليست مرتبطة في كينونتها بكائن ما، سواء مَثُل ذلك على شكل معنى أو على شكل فكر. وهي أيضا ليست شيئا مرتبطا في كينونته بشيء مادي يمتلكه. وأن تكون النوعية مرتبطة بالمعنى فذاك هو الخطأ الذي ارتكبه المفهوميون، وأن ترد إلى الذات التي تتحقق من خلالها فذاك هو خطأ الإسمانيين.

إن النوعية هي إمكان مجرد. وخطأ الدراستين السابقتين يكمن في اعتقادهما أن المحتمل والكامن لا يمكن أن يوجد إلا من خلال واقعة تجسده < (23). لذا يحق لنا القول إن > النوعية خالدة ومستقلة عن الزمان وعن كل أشكال التحقق<. ( 24) وهو أمر يصدق أيضا على أحاسيس كالفرح والسعادة والألم والغضب، فتلك أحاسيس عامة لا قيمة لها خارج خصائصها الذاتية.> فالإحساس يجب أن يكون متطابقا مع نسخة من نفسه، والأمر يتعلق بطريقة أخرى للقول إن كل إحساس هو نوعية للوعي المباشر .<( 25)

ويعتقد دولودال أن الأولانية شبيهة بـ " العاطفة البسيطة " التي قال بها مان دو بيران، ورغم ذلك فإن دولودال يلاحظ أن الفرق شاسع بينهما. فما كان يشغل بال دوبيران هو تحديد طبيعة الأنا، في حين كان بورس منشغلا بتحديد طبيعة الظاهر. (26) فبورس لا يكترث للذات التي تقوم بالتجسيد، فما هو أساس هو التجسيد ذاته. تماما كما هو الشأن مع تصوره للمؤول، فالتأويل ممكن حتى وإن غابت الذات التي تقوم بعملية التأويل.

لهذا السبب، فإن المعطيات الموصوفة داخل الأولانية - بحكم احتماليتها - قد تتحقق وقد لا تتحقق، وقد تتجسد في واقعة ما وقد تظل احتمالا إلى ما لا نهاية، فهي قابلة لأن تستمر في الحياة باعتبارها مجرد إمكان يشير إلى إمكانية للتحقق. إن هذا لا يمس جوهرها ولا يغير من كنهها. إنها تذكرنا بالمتخيل الذي يرفض أن ينحني لقوانين الزمان والمكان، فهو منفلت من الجاذبية ومن إمكانية الغرق، لذلك فإن الكائن " يطير ويمشي على الماء بقدميه ويكبر ويشيخ ثم يعود صبيا". وقد تقوم الثالثانية بقتله، إلا أنه قد يبعث من رماده كي يغزو الثانيانية من جديد ويغنيها. ( 27)  ويلاحظ بورس أننا > نعيش في عالمين : عالم الوقائع وعالم المتخيل (...) ونطلق على العالم المتخيل العالم الداخلي، أما عالم الوقائع فنطلق عليه العالم الخارجي <(28)

إن الأولانية مقولة عامة، إلا أن عموميتها، كما سنرى في الفقرة الموالية، ليست من طبيعة قانونية فكرية كما هو الشأن مع الثالثانية، بل هي من طبيعة الهلامي والسديمي الذي لا يتحدد من خلال أجزائه المكونة. فالمتصل لا يمكن أن يكون كيانا متحققا، إلا أنه قد يغذي كل أشكال التحقق الممكنة. لذلك فإن فكرة الأول المطلق ترتكز على أساس معرفي يقول بأننا لا يمكن أن نفكر في هذا الأول من خلال أجزائه.

وإذا غادرنا الظواهر الطبيعية وعدنا إلى اللسان مجسدا في سلسلة لامتناهية من الكلمات وأخذنا كلمة "سيارة " كمثال وحاولنا الاهتمام بهذه الكلمة في ذاتها ( دون الاهتمام بما تحيل عليه، ولا على ماذا تدل )، أي باعتبارها متوالية صوتية تجمع، توزيعيا، بين سلسلة من الأصوات المنطوقة بهذه الطريقة أو تلك، فإننا سنكون أمام  نوعيات أو أحاسيس غير محددة ولا تحيل على أي شيء غير كونها أصواتا : أي قبل أن تتجسد كدال يستدعي بالضرورة مدلولا ( أو ماثولا يحيل على موضوع في اصطلاح بورس). فإذا نطقنا بهذه الكلمة أمام شخص لم يسبق له أن سمع هذه الكلمة ولا رأى سيارة، فإنه بالتأكيد لن يدرك أي مضمون فكري، ولن يتجاوز ذهنه حدود سلسلة من الأحاسيس قد تثيرها لديه طريقة النطق أو طريقة التأليف بين مجموعة الحروف التي تكون كلمة " سيارة ". وستظل الكلمة في ذهنه مجرد إمكان لا غير.

وبناء عليه، فإن الطابع الكلي واللامحدد للأولانية هو الذي يجعل من وجودها وجودا هشا، إذ إن وعي معطياتها سيؤدي إلى اختفائها > فمقولة الأولانية هشة لدرجة أن أي تماس معها تدمير لها< (29) : إني أشعر بألم لا أستطيع تحديد كنهه ( إحساس غامض وغير محدد ) لكنني بمجرد ما أتبين طبيعة هذا الألم، فإنني أكون قد تجاوزت الأولانية لكي أدخل إلى نظام مقولة أخرى لها علاقة بالوجود الفعلي، لا بالمحتمل والممكن. فـ "الظاهر" لا يبدو من خلال الأحاسيس أو النوعيات فحسب، > فبالإضافة إلى نوعية الأشياء، هناك الأشياء ذاتها باعتبارها موجودة فعليا في انفصال عنا،  فنحن لا نكف عن الاصطدام بها <. (30) إن الظاهر في هذه الحالة يبدو من خلال مقولة ثانية، وهي مقولة من طبيعة مختلفة ومحددة لوجود آخر، ويطلق بورس على هذه المقولة الثانيانية. فما هي الثانيانية وما هو مضمونها وطبيعتها وما هي طرق اشتغالها وما هي علاقتها بالمقولة السابقة والمقولة اللاحقة؟

 

مقولة الوجود الفعلي

 

إن الاحتمال هو مجرد احتمال، والارتكاز على الاحتمال وحده لن يوصلنا إلى أي شيء. فلا يمكن للأول أن يكون أساسا لتجربة فعلية، كما لا يمكن أن نتبين من خلاله أي شيء. فلابد إذن من تصور عنصر ثان يقوم بنقل الأحاسيس من وضعها الأصلي الأولي، إلى ما يجعل منها عنصرا داخل علاقة مع شيء آخر. وهذه العلاقة هي وحدها القادرة على الانزياح عن الخصائص الذاتية للشيء والولوج إلى دائرة العلاقة مع شيء آخر. فالشيء الذي لا يتقابل مع شيء آخر لا وجود له. لهذا فإن الكينونة هي نمط في الوجود يتحدد من خلال تقابله مع شيء ليس هو. > فالقول بأن هذه الطاولة موجودة، معناه القول إنها صلبة وثقيلة وتحدث أصواتا. وبعبارة أخرى، إنها تنتج آثارا تنعكس مباشرة على الحواس، وتحدث آثارا من طبيعة فزيائة صرفة. < ( 31)

ولهذا فإننا في انتقالنا من الأولانية إلى الثانيانية نكون في واقع الأمر بصدد الخروج من دائرة المتصل المنفلت من أي تحديد إلى الوجود العيني المحدد من خلال وقائع. انطلاقا من هذه الملاحظة، فإن الثانيانية كما يعرفها بورس هي > نمط وجود الشيء كما هو في علاقته بثان دونما اعتبار لثالث. إنها تعين وجود الواقعة الفردية < .( 32)

إننا مع الثانيانية ننتقل من الإمكان إلى التحقق، أي نلج دائرة الوجود. وبعبارة أخرى، إننا نقوم بصب المعطيات الموصوفة في الأولانية داخل وقائع محددة من خلال نقلها من طابعها الاحتمالي إلى طابعها المتحقق. فالأولانية كنمط للوجود لا تستطيع وحدها، أي من خلال إمكاناتها الذاتية، أن تحدد أي شيء، فهي الاحتمال فقط. لذا، فإنه إذا كانت هذه المقولة ( الأولانية ) هي مقولة البداية والجدة، أي أنها أول داخل السلسلة ( 33)، فإن الثانيانية تحد من حرية هذه السلسلة. ذلك أن تحديد الثاني معناه تقليص للإمكان وتحويله إلى تحقق عيني. > فالعنصر الثاني داخل السلسلة يقوم بتحديد الأول، إنه يضع حدودا ويغلق بابا. فالأول وحده ليس سوى إمكان داخل السلسلة، أما الثاني فيحين السلسلة، إنه يدخل الوجود < ( 34) .

لقد سبق أن رأينا أن كل شيء يمكن أن يعزل وينظر إليه باعتبارها أول داخل سلسلة، فإذا كان الأول هوالرقم 5، فإن الثاني غير محدد، ويمكن للوضع أن يستمر على هذه الحال إلى ما لا نهاية.  إلا أننا إذا قلنا بأن الثاني هو الرقم 10، فإننا نكون قد قمنا بإغلاق السلسلة، ووضعنا حدا للاحتمال لكي ننتقل إلى التحقق، ونكون في نفس الآن، كما سنرى ذلك في الفقرة الموالية، قد سربنا القانون الذي سيحكم هذه الوقائع استقبالا. إن الثاني هو إيقاف لدائرة الاحتمال، لأننا ندخل عنصرا نقيضا يتجلى في الوجود.

إن دخول الوجود معناه دخول الفضاء ودخول الزمان، ومعناه أيضا الانتقال من المتصل إلى اللامتصل. فمن الغموض واللبس والإبهام ننتقل إلى الوجود الفعلي، أي ننتقل إلى وجود تكون فيه الأحاسيس والنوعيات مجسدة في وقائع محددة. فلا يمكن للحدث أن يكون مجرد احتمال أو مجرد إحساس، إن الحدث تحيين مرئي، ولقد تساءل بورس قائلا > إذا سألتكم أين يكمن تحيين حدث ما، فستردون قائلين : إنه وقع في مكان معين وزمان معين. إن تحديد المكان والزمان يتضمن كل علاقات هذا الحدث مع الموجودات الأخرى <. ( 35)

وعلى هذا الأساس، فإن الواقعة ( الحدث) هي التحقق الفعلي الذي يتم من خلال الحدود المحددة  لأي وجود، والمقصود بهذه الحدود : الزمان والمكان، > فالأشياء لا تدرك إلا متحيزة في المكان ومتعاقبة في الزمان <. (36) 

فإذا كان الأحمر في ذاته غير قابل للوصف، وإذا كان الألم والسعادة غير قابلين للتحديد أيضا من خلال خصائصهما الذاتية، فإن الانتقال إلى الثانيانية معناه نقل هذه الأحاسيس وهذه النوعيات من طابع اللامحدد إلى الطابع المحدد ضمن وقائع قابلة للإدراك كوجود عيني. فالأحمر قبل وجود شيء أحمر لم يكن سوى إمكان، لكنه وقد تجسد في " ثوب أحمر " أو " علم أحمر " ، فإنه سيتحول من الإمكان إلى الوجود القابل للمعاينة.

وإذا عدنا إلى المثال السابق ( مثال السيارة )، ونظرنا إلى السيارة من زاوية الثانياتية ( أي من زواية الوجود الفعلي)، فإننا نكون أمام نمط جديد للوجود. فالسيارة التي لم تكن سوى أصوات مدرجة داخل سلسلة مكتوبة أو منطوقة ستتحول إلى شيء يمكن معاينته لا باعتباره نوعية أو إحساسا، بل باعتباره وجودا. وستكون السيارة في الوجود تحقيقا للسيارة كإمكان ( أصوات : أحاسيس أو نوعيات ). فالشخص الذي لم يسبق له أن سمع بهذه الكلمة، قد يشعر بمجموعة من الأحاسيس، إلا أنه لن يدرك أي شيء أبعد من هذه الأحاسيس، فهو قد يصرف نظره عن الأمر كله، أو قد يسأل عن فحوى السيارة، حينها يمكن أن نأخذ بيده لنريه سيارة فعلية. وفي هذه الحالة فإننا نكون قد قد ربطنا بين كلمة "سيارة" وبين شيء موجود فعلا. وبعبارة أخرى نكون قد أفرغنا معطيات الأولانية داخل واقعة فعلية. فما كان مجرد أحاسيس سيتحول إلى وجود فعلي.

انطلاقا مما سبق، فإن الثانيانية هي مقولة > الواقعي والفردي، إنها مقولة التجربة والواقعة والوجود : وجود الشيء ووجود الحدث، وجود الفكرة والوضعية والحلم المدرك. إنها مقولة " الهنا والآن "، وجود الشيء الذي حدث في زمان ومكان معينين. إنها مقولة القوة العنيفة ومقولة الجهد الذي يصطدم بمقاومة، إنها مقولة الفعل ورد الفعل<.( 37) إن الثانيانية، من هذه الزاوية بالذات هي الشرط الأساس لتحويل الإمكان واللاتحديد ( اللاعضوي واللامحدد ) إلى حقائق مجسدة داخل حقل التجربة الإنسانية.

فهل هذه المقولة كافية وحدها لإنتاج دلالة وتحديد إدراك، وهل هي كافية للحديث عن قانون وعن قاعدة ؟ وبعبارة أخرى، هل باستطاعة الإنسان التخلص من مقتضيات "الأنا " و" الهنا " و"الآن " اعتمادا فقط على الثانيانية، أو اعتمادا على المزج بين الأول والثاني ؟.

كلا > فتحديد الإنسان من خلال الأولانية أو من خلال الثانيانية معناه ألا إمكان للحديث عن قانون ولا عن ضرورة < (38). فالأولانية تشير إلى الإمكان فقط، والثانيانية إلى التجربة الصافية فقط : هذه الأشياء هنا لا أقل ولا أكثر، أي أننا لازلنا في مرحلة قائمة على عملية ربط عرضي بين إمكان ووجود.

وبناء عليه لابد من دخول عنصر ثالث، عنصر يقوم بتبرير العلاقة الرابطة بين الأول والثاني. > فنحن لانستطيع أن ندرك مضامين فكرنا انطلاقا من الأولانية والثانيانية فقط. فكل ما يتم إنجازه يعود إلى الثانيانية، أما الحاضر المباشر، إذا أمكن الإمساك به، فلن يكون له سوى طابع الأولانية <. (39). إن العنصر الثالث الذي يجمع بين الأول والثاني سيقوم بالكشف عن القانون الذي يجعل من تحقق الإمكان داخل الوجود أمرا ممكنا ومعقولا. إن الأمر يتعلق بما يطلق عليه بورس الثالثانية، أي نظام الرمزية الذي يمكننا من التخلص من مقتضيات التجربة الصافية، لامتلاك العالم فكريا.

 

مقولة القانون والضرورة

 

إننا نعيش داخل عالم رمزي، فنحن نتبادل أشياءنا وكلماتنا وسلوكنا استنادا إلى تصورات رمزية. فالاحتكاك المباشر مع الواقع مجرد وهم، أو هو كذلك بالنسبة للعامة أو إلى ذوي الأذهان البسيطة. فالإنسان لا يلج العالم الخارجي دون وسائط، إنه يفعل ذلك من خلال اللغة ومن خلال الدين والأسطورة والخرافة، فكل هذه " الأشكال الإدراكية " هي وسائط يلج الإنسان من خلالها إلى عالم الأشياء. إن فكرة التوسط بين الإنسان وعالمه هي الأساس الذي يجعل من كل شيء وكل سلوك يفرغ داخل قوالب رمزية لكي يتم استيعابه باعتباره مجموعة من المفاهيم. فتنظيم التجربة الإنسانية يتم دائما بعيدا عن الإرغامات التي تفرضها "الهنا" و"الآن".

 وعلى هذا الأساس، فإن الإمساك بالبعد الرمزي للتجربة الإنسانية هو وحده الكفيل بإنتاج المعرفة وتداولها، وتلك هي الوظيفة الأساس التي تقوم بها الثالثانية ( القانون الذي سيحكم الوقائع استقبالا). فالسلسلة تتوقف عند الثاني، لكنها لا تكتسب طابع القانون إلا مع دخول الثالث، فالأولانية تحيل على الثانيانية عبر الثالثانية، والمقولة الأخيرة هي ما يبرر العلاقة بين الأول والثاني ويمنحها بعدا فكريا. > فالقول بأن سقراط إنسان معناه القول إنه إنسان يمتلك مجموع الخصائص التي تسند عادة إلى الفصيلة البشرية، والقول بأن الماس صلب، معناه القول مثلا إننا لا يمكن أن نحدث فيه خدوشا من خلال آلة ما مهما تعددت المحاولات من أجل فعل ذلك <.( 40)

يمكن القول إذن إن الثالثانية هي الشرط الضروري لإنتاج القانون والضرورة والفكر والدلالة. فلا يمكن للأول أن يحيل على الثاني إلا من خلال وجود عنصر ثالث يربط بينهما ويضعهما في علاقة. وعلى هذا الأساس، فإن الثالثانية هي مقولة التوسط بامتياز. فكل ما يتوسط شيئين ويقوم بالربط بينهما يشتغل كثالث. والتوسط معناه جعل الأول يحيل على الثاني وفق قاعدة تشتغل كقانون. فالقول بأن ( 5) هي الأول وأن (10) هي الثاني معناه إرساء قانون يجعل الانتقال من الأول إلى الثاني يتبع سبيلا ( قاعدة ) يحدد نمط اشتغال السلسلة كلها. > فالقانون هو الطريقة التي يستطيع من خلالها المستقبل الذي لا نهاية له الاستمرار في الوجود <.( 41)

إن العادة التي تسمح لنا بتأويل سلوك معين، والقانون الذي يجعل من الحديد يتمدد بالنار، والفكر الذي يسمح لنا بالربط بين " السيارة  كأصوات والسيارة كوجود حقيقي"، كل هذه العناصر تشتغل كثالث، أي كثالثانية تسمح لنا بالتخلص من مقتضيات الوجود العيني والتحليق بعيدا عنه، أي خلق عالم تجريدي نفسر به الواقعي والمتخيل على السواء. > فإذا كانت الثانيانية هي مقولة الفردي، فإن الثالثانية والأولانية هما مقولتا العام. إلا أن عمومية الأولانية هي من نظام الممكن، في حين أن عمومية الثالثانية هي من نظام القانون والقاعدة.(42)

وللمزيد من التوضيح، سنحيل من جديد على المثال السابق. لقد قلنا إن الشخص الذي لم يسمع كلمة سيارة قد لا يحتفظ من هذه الكلمة سوى بأصوات تثير لديه أحاسيس معينة. إلا أننا إذا وضعناه أمام سيارة فسنكون حينها قد ربطنا بين اسم وشيء موجود فعلا، أو ربطنا بين مجموعة من الأحاسيس وبين ما يجسدها في واقعة فعلية. فهل هذا الربط كاف لكي نتحدث عن فكر أو قانون أو ضرورة ؟ بالطبع لا، فهذا الربط يتميز بالعرضية، فهو مؤقت ولا يستند إلى أي قانون. فهذا الشيء هنا فقط لا أقل ولا أكثر. وبعبارة أخرى، إن الأمر يتعلق بتجربة صافية خالية من أية دلالة. فقد ينصرف صاحب السيارة ويعود الرجل إلى جبله أو صحرائه وسينسى الكلمة والسيارة معا. لماذا هذا " النسيان " ؟ لقد حدث ذلك لأننا لم نضع بين يديه القانون الذي يجعله " يتذكر " السيارة. وهذا القانون هو الفكر الذي يجعل كل الأشياء المشابهة تصدق عليها كلمة سيارة. وهذا القانون هوالتعريف الذي قد يعطى للسيارة. فهي آلة ميكانيكية تحتاج إلى الوقود للاشتغال وتسير على أربع عجلات وتستعمل للتنقل ... حينها سيتخلص الرجل من" النسخة " الموجودة أمامه ليمتلك النموذج الذي يستوعب داخله كل النسخ. فعندما يمتلك هذا القانون، فإن كل السيارات، أي كل الآلات التي تستجيب لعناصر هذا التعريف ستكون عنده سيارة دونما اعتبار لنوع السيارة أو هيئتها أو تاريخ صناعتها.

وبناء عليه، فإن المقولة الثالثة ( مقولةالمفهمة والتجريد) هي أداة الإنسان من أجل التخلص من التجربة الفردية وإسقاط السنن كتكثيف لمجموع التجارب الفردية. ذلك أن الإمساك بالأول والثاني لا يتم إلا من خلال الثالث. إننا نعيش الأحاسيس ونعيش الوجود من خلال هذه المقولة. > إن الإنسان يوجد داخل الرمزية. إن فكره يتشكل من علامات، وبواسطة السنن ( الثالثانية ) يستطيع الإمساك بالواقعي ( الثانيانية ) وبالممكن ( الأولانية ) < (43). فـ > علاقتنا بالواقع ليست مباشرة، إننا نكون لأنفسنا نموذجا للواقع عبر تأويل رمزي. وهذا التأويل يستند إلى أسنن مشتركة تشكلت وتطورت داخل السيرورة الإبلاغية < ( 44 ). وهذ أمر طبيعي >فالفكر ليس  نوعية، فالنوعية خالدة ومستقلة عن الزمان ومستقلة عن كل تحقق، ولن يكون بالتأكيد واقعة، ذلك أن الفكر عام  (... ) إنه عام لأنه يحيل على مجموع الأشياء الممكنة، وليس فقط على تلك الموجودة. (...) <. (45) فلكي يحيل سلوك ما على قانون أو يكون مصدرا لدلالة يجب أن يظهر بمظهرالعام، أي يكون قادرا على تغطية مساحة تشتمل على بنية عامة تحتوي على كل النسخ الممكنة لهذا السلوك.

 

خلاصة

 

استنادا إلى كل ما سبق، فإن العلامة السميائية في تجلياتها المتعددة ( اللسانية وغيراللسانية) لا يمكن أن يُفكر فيها خارج هذه الحدود. فالماثول "أول"، وهو كذلك لأن سلسلة الأصوات المشكلة له لا يمكن أن تقدم لنا سوى معطيات نوعية لا تحيل إلا على نفسها، إنها الإمكان فحسب، فمن المحتمل أن تظل تلك الأصوات خالية من أي إحالة سوى الإحالة على ذاتها. فماذا تعني المتوالية الصوتية : ش ج ر ة خارج قدرتها على الإحالة على شيء آخر غير ذاتها ؟

من هنا فإن الموضوع "ثان"، فارتباط المتوالية الصوتية بموضوع ما معناه خروجها من الاحتمال إلى التحقق. فما كان مجرد احتمال يتحول إلى وجود فعلي، فارتباط المتوالية السابقة يحولها من الاحتمال إلى التحقق.

إلا أن ان هذا الربط هو ربط عرضي لا يخضع لأي قانون ولا يمكن استعماله مرة أخرى. فالفكر لا يمكن أن يرتبط بحادثة مفردة، ولا يمكن أن يكون وليد نسخة مخصوصة. فلا بد إذن من إيجاد رابط يقوم من جهة بتبرير العلاقة الرابطة بين الماثول والموضوع، ويقوم من جهة ثانية بضمان الإحالة استقبالا. ولذا فإن المؤول هو "الثالث" داخل السلسلة، إنه من نظام الرمزية التي تجرد الواقعة من أبعادها المخصوصة لتحولها إلى مفاهيم عبرها نعقل الوقائع وندرك الأشياء ونتخلص من إكراهات " الأنا"و"الهنا" و"الآن". فالمتوالية الصوتية لن تصدق على شجرة بعينها، بل تصبح دالة، من خلال المؤول، على كل الأشجار الممكنة.

وفكرة الدلالة ذاتها مبنية على سيرورة ثلاثية، فلا يمكن تصور دلالة خارج سيرورة تجمع بين عناصر ثلاثة، وذلك يعود في تصور بورس إلى مقدمتين منطقيتين : > المقدمة الأولى هي أن كل علاقة ثلاثية أصيلة تستدعي دلالة، مادامت الدلالة هي بطبيعة الحال علاقة ثلاثية. والثانية هي أن العلاقة الثلاثية لا يمكن أن يعبرعنها من خلال علاقات ثنائية. وقد نحتاج إلى كثير من التفكير لكي نقتنع بأن كل علاقة ثلاثية تستدعي دلالة <. (46)

في ضوء المعطيات السابقة، يمكن القول إن الشرط الأساس لتداول المعنى، ولإنتاج دلالة وخلق حوار بيإنساني يكمن في وجود عنصر يقوم بتنظيم معطيات التجربة العادية وفق مصفاة تتطابق مع الذاكرات الفردية بحيث إن كل ذاكرة تتحدد من خلال ذاكرة المجموع .> إن المقولة الثالثة لعناصر الظواهر تشتمل على ما نسميه بالقانون عندما نتأملها من الخارج فقط، أما حين ننظر إلى وجهي العملة فإننا نسميها فكرا. فالأفكار ليست لا نوعيات ولا وقائع وليس بمقدور أية مجموعة من الوقائع أن تنتج قانونا، ذلك أن القانون يتجاوز الواقعة المتحققة <. ( 47)

وكما كان الأول بداية وكان الثاني نهاية، فإن الثالث هوالقانون الذي وفقه تتم العلاقة بين الأول والثاني. والرابط بين العناصرالثلاثة هو ما يحدد في نهاية المطاف طريقتنا في الإمساك بالتجربة الإنسانية واستيعابها كمفاهيم أي كفكر، وهو وحده الذي يقذف بالإنسان داخل سيرورة رمزية يدرك عبرها كل شيء باعتباره شكلا رمزيا. فالشيء لا يدرك في ذاته، بل يدرك باعتباره سلسلة من الإحالات الدلالية المتنوعة.

 

ولإن كانت نظرية المقولات حقلا مكتفيا بذاته، ويخص التجربة الإنسانية في عموميتها، فإنها تعد الأساس الصلب الذي على أساسه ستبنى السميائيات باعتبارها نظرية في المعرفة ومنطقا في الإدراك. فالعلامة ليست تعيينا لأشياء فحسب، وليست إنتاجا لمعنى فحسب، إنها في المقام الأول الأداة الرئيسة لتنظيم التجربة الواقعية ومثولها أمامنا باعتبارها تجربة رمزية.

الهوامش

 *-  يجب نطق اسم  peirce  بورس وليس بيرس للأسباب التالية :

1- ينبهنا دولودال في كتابيه :

- Peirce ( C S ) : Ecrits sur le signe , Ed Seuil Paris 1978

 - Deledalle ( Gérard ) : La philosophie Americaine , éd, Nouveaux horizons, 1978

إلى ضرورة الالتزام بالكتابة الصحيحة لاسم بورس

فهو يشير في هامش  الصفحة 7 من الكتاب الأول إلى النطق الصحيح قائلا : prononcer : Peurce - ويقول في كتابه الثاني ص 131 :  prononcer : Peurce 

 2- أما لودفيننغ ماركوز ، فيقول في كتابه :

  - Marcuse, Ludwig  : La Philosophie Americaine,éd Gallimard, col  Idées, 1967

ص  49 : ... Il l'applelaient  professor peirce , bien qu'il ne fût pas professeur et que son nom ne s'écrivît pas Pierce , mais Peirce, et qu'il ne se prononçait pas Pierce mais poerss

3- أما  بول غوبلي وليتزا جانز، فيقولان في كتابهما :

 

Semiotique for Beginners , éd ICON Books , 1997

 ص  18 : >  Hailed as the formest American Philosopher , Charles Peirce (  pronounced purse ) was born into.

 شارل سندرس بورس فيلسوف أمريكي ( 1839 - 1914 ) يعتبر المؤسس الحقيقي للسميائيات الحديثة. ورغم أن أعماله لم تُعرف إلا في مرحلة متأخرة إلا أن الدراسات الحديثة حول التأويل تجد في مقترحاته النظرية منطلقا صلبا من أجل  لتأسيس سميائات تأويليلة تتجاوز القيود التي فرضتها سميولوجيا سوسير. يمكن في هذاالمجالالإحالة على أعمال أيكو الأخيرة.

1-  Jeaques Derrida : De la grammatologie, les éditiond de Minuit, 1967, P . 72

2-  Joelle Réthoré : La Sémiotique phanéroscopique de C S Peirce , Langages n 58 , p 32

3- نفسه ص 32

4- انظر  Peirce : Textes anticartésiens , présentation et traduction Joseph Chenu , éd Aubier, 1984 , p . 6o et suiv

5 - Peirce ( C S ) : Ecrits sur le signe p 78

6-   Peirce ( C S ) : Ecrits sur le signe , Ed Seuil, Paris 1978 p 67

7- Deledalle ( Gérard ) : La philosophie Americaine , éd, Nouveaux horizons, 1978 , p 38

8- زكريا ابراهيم : كانط أو الفلسفة النقدية ، دار مصر للطباعة ، ص 62

9- نفسه ص 61

10-C S Peirce : Textes fondamentaux de Sémiotique , tra Berthe Fouchier-Axelsen et Clara Foz, éd Méridiens Klincksieck , 1987

11- Kant : Critique de la raison pure , éd Flammarion, 1978, p 63 et suiv

12- Savan ( David ) : La Sémiotique de Peirce , Langages 58 p 10 - 11

13- Deledalle ( Gérard )  : Théorie et pratique du signe , éd Payot , 1979 , p 34 - 35

14 - نفسه ص 35

15- نفسه ص 35

16-  Peirce ( C S ) : Ecrits sur le signe ,  p 69

17-   Peirce ( C S ) : Ecrits sur le signe ,  p .  70

18- Peirce ( C S ) : Ecrits sur le signe ,  p . 84

19- Peirce ( C S ) : Ecrits sur le signe ,  p . 91

20- Peirce ( C S ) : Ecrits sur le signe ,  p . 92

21- Savan ( David ) : La Sémiotique de Peirce , Langages 58 p 11

22 -  Peirce ( C S ) : Ecrits sur le signe ,p .  70

23 -  Peirce ( C S ) : Ecrits sur le signe , p .  89

24 -  Peirce ( C S ) : Ecrits sur le signe , 

والكلام لودولودال في التعليق الذي خص به هذه الكتابات ص 207

25 -  Peirce ( C S ) : Ecrits sur le signe , Ed Seuil Paris 1978 p . 85

26 - Peirce ( C S ) : Ecrits sur le signe , Ed Seuil Paris 1978 . 

انظر التعليق الذي خص به هذه الكتابات ص 206

27 - لقد قامت نيكول إفرات دسمنت بدراسة عقدت من خلالها مقارنة بين المقولات الثلاث، وبين المتخيل الواقعي والرمزي. واعتبرت بموجبها أن تلك المقولات هي صياغة جديدة للعناصرالثلاثة المشار إليها . انظر   Evereart-Desmedt ( Nicole ) : Le processus interprétatif : Intoduction à la  sémiotique de C . S . Peirce , Ed Mardagua 1990  . الفصل الرابع . لقد قدمنا ترجمة عربية لهذا المقال في: "علامات"  العدد الثالث ، سنة 1995

28 -  Peirce ( C S ) : Ecrits sur le signe , Ed Seuil Paris 1978 p 93

29 - Peirce ( C S ) : Ecrits sur le signe , Ed Seuil Paris 1987 , p . 73 - 74

30 -  Peirce : Textes anticartesiens , présentation et traduction Joseph Chenu , éd Aubier, 1984 , p  77

31 - Peirce ( C S ) : Ecrits sur le signe , Ed Seuil Paris 1978

انظر التعليق الذي خص به هذه الكتابات ص 209

32- Carontini ( Enrico) : Action du signe Ed Louvain-Laneuve 1984 p 17

33- Savan ( David ) : La Sémiotique de Peirce , Langages 58 p 11

34 -نفسه ص 11

35 - Peirce ( C S ) : Ecrits sur le signe , Ed Seuil Paris 1987, p . 69

36 - ابراهيم زكريا : كانط والفلسفة النقدية ص 56

37 - Everert-Desmedt ( Nicole ) : Le processus interprétatif : Introduction à la  sémiotique de C . S . Peirce , Ed Mardaga 1990 p 35

38- Savan نفسه ص 11

39 -  Peirce ( C S ) : Ecrits sur le signe , Ed Seuil Paris 1978 p .  98

40- Peirce : Textes anticartesiens , présentation et traduction Joseph Chenu , éd Aubier, 1984 , p 79 - 80

41- Peirce ( C S ) : Ecrits sur le signe , Ed Seuil Paris, p 98

42- Evereart-Desmedt ( Nicole ) : Le processus interprétatif : Introduction à la  sémiotique de C . S . Peirce , Ed Mardaga 1990 p 36

43 - نفسه ص 104

44 - نفسه ص 106

45 - Peirce ( C S ) : Ecrits sur le signe , Ed Seuil Paris 1978 p 81 - 82

46- نفسه ص 99

47- نفسه ص  81 - 82

 

 
 
 
معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقـة تعريـف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع  خزانات الموقـع  صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

موقع سعيد بنگراد - تاريخ الإنشاء: نونبر 2003