معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقـة تعريـف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع  خزانات الموقـع  صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

سعيد بنگــراد

الرمز : المجالات والدلالات

 

 

 

1-

 ليس من السهل أن نحصر في خانة واحدة كل المجالات التي يغطيها الرمز، كما لا يمكن أن نحدد بدقة ما ينتمي إلى الرموز وما لا يمكن أن يصنف باعتباره كذلك. فالقضية لا تتعلق بالظاهرة الرمزية كما تبدو في ذاتها من خلال خصائصها الذاتية، بل يتعلق الأمر بجهة النظر التي يتبناها هذا الدارس أو ذاك. فبالإمكان حصر دائرة الرمز في ماهيات ووظائف محددة العدد والطبيعة، وبالإمكان أيضا أن نوسع من دائرته ليشمل النشاط الإنساني في كليته. وفي الحالة الأولى كما في الحالة الثانية لا نعدم مبررات وبراهين تؤكد أحقية تسمية هذه الظاهرة رمزا وتنفي هذه الصفة عن تلك.

ويشير هذا الاختلاف في التصور والتعريف إلى أن الرمز لا يحمل هويته في ذاته، فهذه الهوية لا يمكن أن تكون شيئا سابقا في الوجود على تداول الناس له واستعماله بتلك الصفة. لذا فإن حدود هذه الهوية لا يمكن الكشف عنها إلا من خلال التعريف الذي يمكن أن يعرف به للرمز. فالرمز لا يتوفر على علامات خاصة به، ولا يستقل بموضوع محدد كما هو الشأن مع اللسان مثلا، إنه في كل مكان، وكل شيء صالح لأن يتحول إلى رمز بدءا من السلوك الإنساني، ومرورا بموضوعات العالم وانتهاء باللغة بحروفها وأصواتها وكذا الإيماءات والطقوس الاجتماعية. لذا فإن الرمز يستعمل علامات وإشارات سابقة على وجوده، وهي أفعال أو إيماءات أو ملفوظات قابلة للإدراك والفهم والتأويل في استقلال عما يشير إلىه الرمز.

وفي جميع الحالات، فإن التعريف الخاص هو الحد الفاصل بين كلية الظاهرة الدلالية وبين التصنيفات الممكنة للمعاني التي تنتجها ظواهرتعبيرية مثل الأيقون والأمارة والإشارة والرمز. فهذه الظواهر تشكل إلى جانب الرمز الأدوات الضرورية المؤدية إلى إنتاج الدلالات وتداولها.

ومن هذه الزاوية يمكن تناول الرمز ودراسة وظائفه وتحديد أشكال وجوده. وهو ما يعني مراعاة المجالات المتنوعة التي تعاملت مع الرمز وحاولت من خلاله تفسيرموضوعها ورسم حدوده.

ولهذا السبب، فإن التركيز يجب أن ينصب على المنتوج الدلالي لا على جوهر الظاهرة. فما يميز هذه الظاهرة عن تلك ليس مادتها ولا خصائصها في الوجود، بل طبيعة الدلالة المنبثقة عنها. ونستبعد، بطبيعة الحال، من هذه التعريفات الرمز بمفهومه الرياضي ( أو العلوم الدقيقة بصفة عامة )، فالرمز في هذه الحالة لايدرك إلا في علاقته "بمجموع القواعد الإجرائية الخاصة بحساب ما" ( روبير )، وهو من هذه الزاوية لا يمكن أن يدخل ضمن احتفالية التبادل الاجتماعي الذي يقوم أساسا على التقويم، السلبي منه والإيجابي. فالأحكام الاجتماعية لا يمكن أن تكون إحالة محايدة على خانات فارغة، إنها تتميز بكونها تصنف ضمن المقبول أو المرفوض أوالمسموح به، وهو الأمر الذي لا يمكن أن تقوم به الرموز الرياضية.

 

2 -

ولعل أكثر استعمالات الرمز شيوعا هي تلك التي تستند إلى صور تناظرية تربط بين وحدات مجردة وأخرى محسوسة، تنوب فيها الثانية عن الأولى وتقوم مقامها. وفي هذه الحالة ينظر إلى الرمز باعتباره صورة دالة تستعمل للإحالة على مدلول يقابلها عن طريق العرف والتواضع. ولقد أسهمت الأنتروبولوجيا المعاصرة في الكشف عن الكثير من أبعاد هذا التصور وقدرته على إستجلاء الكثير من الأسرار الثقافية والحضارية الخاصة برحلة الإنسان على الأرض. فلقد أودع الإنسان، وهو يتلمس طريقه وسط غابة من الظواهر غير المفهومة، الكثير من الأشياء قيما وصورا لدلالات تكشف عن نمط حضوره في هذا الكون.

إن الرمز، من هذه الزاوية، يشير إلى الدلالات التي يمكن أن تتسرب في غفلة منا إلى الكلمات والأشياء والطقوس والحركات. إنه فعل يمنح الأشياء أبعادا تخرجها عن دائرة الوظيفية والاستعمال إلى ما يشكل عمقا دلاليا يحولها إلى رموز لحالات إنسانية. ووفق هذه السيرورة فإن كل شيء يمكن أن يصبح رمزا لحالة إنسانية وفق شروط ثقافية بعينها، يكفي في ذلك أن نحدد الرابط الدلالي الذي يمَكن من الانتقال من العنصر الرامز إلى العنصر المرموز له. فاليأس والأمل والحب والتشاؤم والشجاعة والنبل كلها مفاهيم انتقلت من مواقعها المجردة لكي تسكن أشياءً وأشكالا وألوانا وسلوكات. إن الرمز من هذه الزاوية يعبر عن ميل الإنسان الشديد إلى تحويل حقائق أو أحكام مجردة إلى كيانات مجسدة من خلال أشياء أو سلوكات محسوسة. فالصليب هو رمز للمسيحية والهلال رمز للإسلام والحمامة رمز للسلام والذهب رمز للنقاء. ويمكن أن نأتي بحالات أخرى تهم أشياء ومجالات متعددة، فيصبح الكلب إثر ذلك رمزا للوفاء  والأسد للشجاعة والثعلب للدهاء والغراب للشؤم وهكذا دواليك. والخلاصة أن العبور من المجرد إلى المحسوس لا يتحقق إلا من خلال الرمز وداخله.

إن هذا التعريف بالغ الدلالة، فهو يشير إلى مرحلة كانت النظرة التناظرية إلى الكون هي أساس كل معارفنا السابقة على الفكر العلمي. فالفكر التناظري الشعبي هو الذي يفسر هذا السيل من التقابلات بين كيانات محسوسة وأخرى مغرقة في التجريد. فما يستعصي على الضبط العلمي، يعوض بكيانات ترصد المفهومي المجرد من خلال الواقعة المحسوسة. فالتشابه بين الأسد والشجاعة وبين الدهاء والثعلب، وبين الصليب والمسيحية لا يمكن الحصول عليه من خلال برهنة علمية، بل هو تشابه مفترض يقود إلى ربط سلوك ممكن للأسد وبين صورة مثلى للشجاعة.

 

3-

ومن جهة أخرى، يعتبر إرنست كسيرير ( فيلسوف ألماني 1874 - 1945) من الفلاسفة الأوائل الذين أشاروا إلى تصور جديد للرمز من خلال محاولة تحديد طبيعة العلاقة القائمة بين الإنسان وعالمه الخارجي. فعلاقتنا بهذا العالم، كما يرى هذا الفيلسوف، ليست مباشرة، ولا يمكن أن تكون مجرد رابط آلي يجمع ذاتا بموضوع. فما يفصل الإنسان عن عالمه ليس حواجز مادية تتشكل من الأشياء والموضوعات، بل هو الطريقة التي تتم بها صياغة الواقع صياغة ثقافية تنزع عنه أبعاده المادية لتكسوه بطبقة من الرموز هي ما نعرف عنه وما ندرك في نهاية المطاف. فلم يتخلص الإنسان من المملكة الحيوانية ويتجاوز دائرة الإمساك اللحظي بالأشياء والظواهر، لكي يلج عالم الثقافة إلا عندما بلور، إلى جانب العلامات ( الإرث المشترك بينه وبين باقي الكائنات الأخرى ) فعالية جديدة يطلق عليها كاسيرير الوظيفة الرمزية.

وعلى هذا الأساس، فإن اللغة والدين والأسطورة والخرافة وكل السلوكات الثقافية هي أشكال رمزية تقوم، لحظة إدراكها لما يوجد خارجها، بدورالوسيط بين الإنسان وعالمه الخارجي. لهذا فإن كاسيرير لا يتردد في تعريف الإنسان بأنه كائن رمزي، فهو لايعيش الواقع في ماديته، بل يعيش ضمن بعد جديد للواقع هو البعد الرمزي (1) . فهو يحيط كينونته ويداريها داخل سلسلة لا متناهية من الرموز. وبعبارة دقيقة، >إن السلوك الإنساني هو سلوك رمزي في جوهره، ولا يمكن للسلوك الرمزي أن يكون سوى إنساني <. وبهذا المعنى، فإن الثقافة ذاتها ليست سوى نسيج مركب من الأنظمة الرمزية على حد تعبير كلود ليفي شترواس.

 والواقع أن الأمر لا يتوقف عند حدود إدراك ما يوجد خارج الذات الإنسانية، بل يتجاوزه إلى تحديد طبيعة الدلالات ذاتها. فلا يبدو أن كاسيرير كان منشغلا بتعريف الرمز في ذاته أو في علاقته بالظواهر الإبلاغية الأخرى. فما كان يشغل باله هو الطريقة التي ينتج بها الإنسان معانيه من خلال منحه للأشياء دلالات معينة. فما يصدر عن الإنسان وما يجربه وما يحيط به ليس أشياء معزولة تتخبط في ماديتها، بل إحالات رمزية على دلالات بالغة التنوع. فالمعنى لا يوجد في الشيء وليس محايثا له، إنه حصيلة ما يودعه الإنسان هذه الأشياء من قيم ثقافية هي ما يشكل الذاكرة الإنسانية للكون. فمن > خلال الرمز وداخله استطاع الإنسان أن ينظم تجربته في انفصال عن العالم. وهذا ما جنبه التيه في اللحظة، وحماه من الانغماس في مباشرية الـ "الهنا" والـ" الآن" داخل عالم بلا أفق ولا ماضي ولا مستقبل. فكما أن الأداة ( outil) هي انفصال عن الموضوع، فإن الرمز هو انفصال عن الواقع <( 2 ). وليست الدلالة وطرق إنتاجها وسبل تداولها سوى حصيلة حركة " ترميزية" قادت الإنسان إلى التخلص من عبء الأشياء والتجارب والزمان والفضاء.

 

4-

أ- استنادا إلى هذا الاختلاف بين عمومية الظاهرة وطبيعة الدلالات التي تنتجها الظواهر المختلفة، يمكن القول إننا بمجرد ما نغادر التصور الذي يجعل من السلوك الإنساني في رمته سلوكا رمزيا ( وهو تصور نسبي لأن هناك في السلوك الإنساني ما يحيل على أبعاد طبيعية خالية من أي حكم ثقافي مسبق )، نكون مضطرين إلى التمييز بين ما ينتمي إلى الرمز، وما ينتمي إلى ظواهر دلالية أخرى لها طبيعتها ووظيفتها وأشكال وجودها. فعلى الرغم من الأهمية الإبستمولوجية الكبيرة للتعريف الذي يقدمه لنا كاسيرير، فإنه لا يمكن أن يشكل قاعدة صلبة يمكن الاستناد إليها من أجل التمييز بين الدلالات وتصنيفها. وهذا ما ستحاول اللسانيات ومن بعدها السميائيات القيام به.

فالمعروف أن الإحالات على المعاني ليست واحدة وتختلف من علامة إلى أخرى. فع الرغم من أن الدلالات لا تكترث للمادة الحاملة لها، فإن أشكال وجود هذه الدلالات لا يمكن أن تكون مفصولة عن السيرورة المولدة لها. فالأيقون يستند، من أجل إنتاج دلالاته، إلى التشابه. والمعرفة التي تأتينا عبر الأمارة تستند إلى إجراء استدلالي يتخذ من التجاور منطلقا له. في حين تحيل العلامة اللسانية على مدلولها عن طريق الاعتباط، فلا رابط عقلي بين المتوالية الصوتية والمدلول الذي نملكه عن شيء ما.

ولعل هذا ما يفسر التردد الذي  عبر عنه سوسير وهو يبحث عن تسمية للوحدات اللسانية بين استعماله لكلمة "رمز" أو كلمة "علامة". وسيتبنى كلمة " علامة" مستبعدا كلمة رمز لأن الرمز في نظره ليس فارغا، فهو يشير إلى بقايا تعليلية تجعل من إحالة الدال على المدلول إحالة محكومة بمبدإ التعليل، في حين أن اللسان في جوهره ظاهرة اعتباطية. فالميزان الذي هو رمز للعدالة لا يمكن أن نعوضه بأي شيء آخر، دبابة مثلا ( 3).

لقد كان سوسير يدرك أن الأمر مع الرموز لا يتعلق بعلامات تملك وجودا يمنحها إمكانية اكتساب دلالات متنوعة وفق اندراجها ضمن هذا السياق أو ذاك، فالرمز، في اشتغاله ووجوده، إحالة على سياقات ثقافية هي وحدها التي تجعل من هذه العلامة أو من هذا الشيء رمزا وتنفي هذه الصفة عن علامة أخرى. وعلى النقيض من الرموز، فالعلامات وثيقة الصلة بالاستعمالات، وأي تغيير للسياق هو في واقع الأمر إحالة على مدلول لم يكن متوقعا في لحظة التمثيل الأولى. وكما كان يقول فتغنشتاين، لا وجود لعلامات، هناك فقط استعمالات، والاستعمالات هي سلسلة من السياقات التي تشير إليها الحاجات الإنسانية المتنوعة.

وهذا بالضبط ما يجب الوقوف عنده من أجل التمييز بين العلامة كما هي محددة في اللسانيات والسميائيات وبين الرمز في استعمالاته الانتروبولوجية والتحليل النفسي مثلا. فالعلامة تشير إلى شيء ( أو على الأقل تحيل على التصور الذي نملكه عن شيء ما)، وفي هذه الحال، فإن المعنى معطى من خلال تجلي العلامة ذاتها. فلا شيء يمكن أن يقف حاجزا بين العلامة ومعانيها، ف"السقوط " هو السقوط قبل أن يصبح دالا من خلال إحالة رمزية على حالة نفسية تشير إلى التخلي أوالاستسلام أو الرذيلة. في حين لا يسلم الرمز دلالاته بسهوله، فهو من جهة شيء محسوس له وجود في ذاته بعيدا عن أية دلالة ( الصليب شيء قبل أن يكون رمزا للمسيحية أو التضحية )، وهو من جهة ثانية مرتبط بثقافة، أي بالمجموعة البشرية التي تستعمله. فإذا كانت العلامة اللغوية /أسود/ تحيل على ما يفيد رتبة من رتب الألوان، فإنها لن تصبح رمزا للحزن أو الحداد سوى عند المجموعة البشرية التي تستعملها، فهي وحدها تمنح للسواد قيمته الرمزية، ودليلنا في ذلك أننا نحن المغاربة لا نتشح بالسواد لكي نعبر عن أحزاننا، ربما لأننا نتوفر على طرق أخرى للتعبير عن هذا الإحساس. ويمكن الحديث في هذا السياق عن الرمز عندما >  تنتج اللغة علامات من درجة مركبة حيث لا يكتفي المعنى بتعيين شيء ما بل يعين معنى آخر لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال غاياته< ( 4)

وفي هذا السياق يشير مجدي وهبة في قاموسه إلى قدرة الرمز على إنتاج دلالاته من خلال كل المحسنات البلاغية، فهو > يشمل أنواع المجاز المرسل والتشبيه والاستعارة بما فيها من علاقات دلالية معقدة بين الأشياء بعضها ببعض<. ومن جانب آخر فإنه يميزه عن العلامة التي ترتبط في وجودها الأصلي بدلالة واحدة، > فهي ليست لها سوى دلالة واحدة لا تقبل التنويع ولا يمكن أن تختلف من شخص إلى آخر ما دام المجتمع قد تواضع عليها، فالمصباح الأحمر في الطريق تعارف الناس على أنه إشارة إلى معنى " قف" وليس له معنى آخر. أما إذا علق على باب بيت في بعض المجتمعات فيدل على أنه بيت دعارة. وعلى الرغم من اختلاف معناه بحسب المكان الذي يوجد فيه، إلا أنه في كل مكان على حدة لا يعني سوى أمر واحد< (5).

ب-

 أما بالنسبة لشارل ساندرس بورس ( وهو فيلسوف أميريكي 1839 - 1914، يعد المؤسس الفعلي للسميائيات المعاصرة)، فالأمر على خلاف ذلك. فالرمز عنده يدخل ضمن الثلاثية الثانية الخاصة بالتوزيع الذي تخضع له العلامة في مستوياتها الثلاثة : الماثول والموضوع والمؤول. ومن هذه الزاوية فهو مرتبط بالموضوع، أي بما يشكل موضوعا لإحالة الماثول على شيء ما في العالم الخارجي. لذلك فهو يصنف ضمن الثانيانية التي تشمل الوجودات الفعلية. ويدرج ضمن هذه الثلاثية ثلاثة أقسام من العلامات : الأيقون والأمارة والرمز. والرمز يشكل قسما خاصا يختلف عن القسمين الأول والثاني من حيث كونه يعتبر علامة اعتباطية قائمة عل العرف. فالرمز يحيل على موضوعه استنادا إلى قانون. ولهذا فهو ينحدر من طبيعة عامة ومجردة، إنه ينتمي إلى مقولة الثالثانية، والثالثانية في تصور بورس هي مقولة الفكر والضرورة والقانون الذي يحكم الوقائع استقبالا. ومن خلال وضعه هذا فإنه لا يستند إلى حدث ولا إلى نوعيات أو أحاسيس لكي يوجد، بل يكتفي بالإشارة إلى القانون والضرورة التي بموجبهما يحيل شيء ما على شيء آخر. ولهذا فإن العلاقة القائمة بين الماثول الرمزي وموضوعه لا تستند إلى التشابه ولا إلى التجاور، بل تستند إلى العرف الاجتماعي الذي يعد قانونا وقاعدة. ولهذا فإن > الرمز هو ماثول يكمن طابعه التمثيلي في كونه قاعدة تحدد مؤوله. فكل الكلمات والجمل والكتب وكل العلامات العرفية الأخرى تشتغل كرموز. فنحن نتحدث عن كتابة أو نطق كلمة "رجل " و لكننا في واقع الأمر لا ننطق ولا نكتب إلا نسخة أو تجسيدا لهذه الكلمة<.( 6)

 

وعلى هذا الأساس يمكن القول إن الرمز هو تجسيد لرابط دلالي بين عنصرين، ويعد هذا الرابط عنصرا ثابتا داخل ثقافة ما، وذلك لاعتباطيته. فالأمة تنتقي رموزها استنادا إلى قاعدة عرفية لا إلى منطق أو استدلال عقلي. ( حالات التعبير عن الحزن المشار إليها ). فالرمز على خلاف الأيقون ( دلالة قائمة على التشابه) والأمارة ( دلالة قائمة على التجاور)،  يقوم بإرساء قاعدة عرفية يتم على أساسها تداول المعرفة والسلوكات بين أفراد الأمة الواحدة، أو ربما بين أفراد المجموعة السكانية الواحدة فقط، فقد يحدث ألا يكون الرمز مشتركا بين أفراد الوطن الواحد.

فإذا كانت علاقة الماثول ( وهو ما يقابل الدال في التصورالسوسيري ) بموضوعه ( المرجع في التصور السوسيري) داخل العلامة الأيقونية قائمة على التشابه، وإذا كانت هذه العلاقة داخل العلامة الأمارية قائمة على التجاور الوجودي، فإن العلاقة داخل العلامة الرمزية من طبيعة عرفية. فالأمم والشعوب تخلق، انطلاقا من تجربتها، سلسلة من الرموز تستعيد عبرها قيم تاريخها، فتسقط من خلالها المستقبل وتفهم من خلالها الحاضر. ومن هذه الزاوية فإن > الماثول الرمزي نفسه من طبيعة عامة أو هو قانون أو علامة قانونية. إنه ليس فقط عاما ومجردا ومحروما من أي سياق، ولكن موضوعه أيضا يجب أن يكون من طبيعة عامة : أي مفهوما<.( 7)

ولهذا، وكما كان الحال مع كاسيرير، فإن بورس يرى في الرمز أداة حاسمة في تنظيم التحربة الإنسانية. فلكي تُبلغ هذه التجربة وتصبح عامة وكونية تحتاج إلى أن تصب في أبعاد رمزية. > فالرمز يمكن الإنسان من التخلص من التجربة الظرفية والمباشرة، كما يمكنه من التخلص من الكون المغلق للتناظرات. فمن خلال الرمز تتسرب ذاكرة الإنسان إلى اللغة، وعبره يدرج الإنسان رغبته ضمن أفق مشاريعه الخاصة <(8).

 

5-

ولقد بنى التحليل النفسي كل فرضياته العلمية والعلاجية استنادا إلى الرمز واشتغالاته المتنوعة. فلا يمكن فهم أي شيء في التحليل النفسي بمدارسه المتعددة دون الاهتمام  بالموقع المركزي الذي يحتله الرمز في تفسير الظواهر النفسية وعلى رأسها جميعا الحلم. ولهذا أسباب متعددة منها أن الرمز > يمتلك خاصية استثنائية تجعله قادرا على تكثيف، داخل تعبير محسوس، كل تأثيرات اللاشعور والشعور، وكذا القوى الغريزية والروحية، المتصارعة أو الميالة إلى الانسجام داخل كل كائن بشري <(9)

فكل حلم هو في نهاية المطاف تحقق لرغبة، إلا أن هذا التحقق لا يمكن أن يتم من خلال صور " واقعية" تعيد إنتاج فعل الرغبة وفق الشروط " الموضوعية" التي تتم فيها الرغبات خارج الحلم. وهذا ما جعل فرويد يعتبر كل المضامين الظاهرة التي تخفي وراءها المضامين الكامنة رموزا، فلا يمكن فهم مضمون الحلم إلا من خلال الكشف عن " الأبعاد الرمزية" للعناصر المكونة للحلم، فالرغبة تتحقق في الحلم بطريقة غير مباشرة وتصويرية. وعلى هذا الأساس يصرح فرويد بأن > الأحلام تستخدم كل الرموز الحاضرة سلفا في الفكر اللاواعي، لأن هذه الرموز تتوافق بطريقة أفضل مع متطلبات بناء الحلم نظرا لقدرتها على قابلية التصوير من جانب، وبسبب إفلاتها من الرقابة عادة من جانب آخر<. (10) وقد شرح بول ريكور هذه القضية من خلال ربط التأويل بالرمز، فلا وجود لتأويل إلا من خلال الاعتراف بازدواجية المعنى وإمكانية البحث في ما هو ظاهر عن معاني ثانية لاتسلم نفسها من خلال التجلي. ومن هذه الزاوية فإن الحلم هو هو بؤرة لسلسلة من الدلالاتالرمزية ( المزدوجة ) التي تحتاج إلى تأويل يستند إي اللغة ذاتها ، فـ > اللغة هي في المقام الأول، وفي أغلب الحالات، كيان ملتو، إنها تود أن تقول شيئا آخر غير ما تعلن عنه. إنها تحمل دائما معنى مزدوجا، أو هي متعددة المعاني. ولهذا فإن الحلم، وكل ما شابهه، يقع ضمن منطقة لغوية تعد بؤرة للدلالات المركبة حيث المعني يظهر ويختفي من خلال معنى آخر مباشر. إن هذه المنطقة التي تختزن  المعنى المزدوج أطلق عليها الرمز < (11) 

ورغم أن الرمز في هذا المجال يتخذ أحيانا أبعادا بالغة الخصوصية، ( كيف يمكن لشخص عادي أن يدرك مثلا أن العري يرمز له في الحلم باللباس ؟) فإنه > يستخدم بشكل أكثر عمومية للدلالة على العلاقة التي تربط المحتوى الظاهر للسلوك أو الفكرة أو الكلام بمعناه الكامن، وهويستخدم من باب أولى حيث يتعذر فعلا الوقوف على المعنى الصريح ( كما في حالة فعل عارض يستعصي بصراحة على رده إلى كل الدوافع الواعية التي يقدمها الشخص عنه على سبيل المثال ).<(12) استنادا إلى هذا فهو يعد المدخل الرئيس نحو فهم ميكانيزمات اشتغال اللاشعور وطرق إنتاجه للسلوكات المتعددة ( السوية منها وغيرالسوية ) ولهذا فإن صاحب معجم مصطلحات التحليل النفسي يرى أن الرمز في التصور الفرويدي يتميز بالخصائص التالية :

1 -  تظهرالرموز في تأويل الحلم كعناصر خرساء، فلا يمكن للشخص أن يعطي تداعيات حولها.

2- يكمن جوهر الرمزية في علاقة ثابتة بين عنصر صريح وترجمته أو ترجماته.

3- تقوم هذه العلاقة الثابتة أساسا على التشابه في الشكل أو في الحجم أو الوظيفة أو في الوتيرة. (13)

ولا تختلف الهرمنتية الدينية عن التحليل النفسي في نظرتها إلى الرموز. إلا أنها لا تتعامل معها من نفس الموقع ولا من أجل نفس الغايات. فإذا كان الرمز في التحليل النفسي مسرحا للعبة الاختفاء والظهور التي يمارسها المعنى المزدوج، فإنه في الفينومينولوجيا يحيل على شيء آخر. ف> اهتمامات فينومينولوجيا الدين لا تكمن في تسريب الرغبة داخل المعنى المزدوج، فالرمز عندها ليس لغة للتواري، إنه أولا وقبل كل شيء تجلي لشيء آخر يزدهر في الأشياء المحسوسة، إنه التعبير عن شيء آخر لا يمكن القول إنه يظهر ويختفي< . (14)

فما دام التأويل هو تحويل للعلاقات القائمة والبحث عن أخرى، كما هو تعديل في نمط وجود الأشياء، فإن أي نص هو شيء آخر غير ما يبدو في الظاهر. ولذلك فإن الحالات الوجدانية الموصوفة في النص المقدس ليست سوى رموز لحالات قدسية تحتاج  في ادراكها إلى معرفة أخرى غير ما تقوله الكلمات أو تحيل عليه الأشياء. فلا يمكن أن نصل إلى ملكوت الألوهية أونتعرف على ذات الله أو ندرك فحوى التعاليم الكبرى من خلال حدود مألوفة. وفي هذه الحال، فإن كل ما هو وارد في النصوص من أشياء وحكايات وإحالات مثَلية، يجب النظر إليها باعتبارها رموزا تستدعي تعبئة معرفة بالغة الغنى لإدراك كنه هذه الرموز. لذلك فالمعرفة الحقيقية لا تكمن فيما قيل بشكل مباشر، بل هي معرفة سرية لا يمكن الوصول إليها إلا إذا تمت إزالة الستائر التي تحجبها عنا.                    

هوامش

1- Ernest Cassirer : Essai sur l'homme, ed minuit, 1975, p . 43

2- Jean Molino : interpréter, in L'interprétation des textes , ed minuit, 1989, p. 32

3-  Ferdinand  De Saussure : Cours de liguistique générale , ed Payot, 1972 , p .101

4- Paul Ricoeur : De l'interprétation, Essai sur Freud, éd Seuil, 1965, p. 26

5 - ومجدي وهبة : قاموس الألفاظ الأدبية، مدخل رمز

6- Charles Sanders  Peirce : Ecrits sur le signe, éd Seuil , 1978 , P .161

7- Enrico Carontini : L'Action du signe, éd Cabay, Brux-elles, 1983 , p. 44

8-  C . S . Peirce : Ecrits sur le signe, éd Seuil , 1978 , P .141

9- Alain Gheerbrant : dictionnaire  des symboles, p . VII Jean Chevalier -

10- جان لابلانش و ج . ب . بونتاليس : معجم مصطلحات التحليل النفسي، ترجمة مصطفى حجازي ، ديوان المطبوعات الجزائرية ، 1985 ( الرمزية )

11- Paul Ricoeur, op, cit  p . 17

11-جان لابلانش و ج . ب . بونتاليس : معجم مصطلحات التحليل النفسي، ترجمة مصطفى حجازي ، ديوان المطبوعات الجزائرية، 1985 ( الرمزية )

12- جان لابلانش و ج . ب . بونتاليس : معجم مصطلحات التحليل النفسي، ترجمة مصطفى حجازي ، ديوان المطبوعات الجزائرية ، 1985 ( الرمزية )

13-  نفسه

14- Paul Ricoeur, op, cit  p . 17

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 
 
 
معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقـة تعريـف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع  خزانات الموقـع  صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

موقع سعيد بنگراد - تاريخ الإنشاء: نونبر 2003