يعد هذا النص (1)، من الناحية الحدثية المحض،
رحلة سردية من أجل كتابة رواية، أو هو محاولة "للقيام بجولة خارج
الحياة" (2)، طلبا لراحة نفسية يعز الحصول عليها في عالم واقعي لا
يغري إلا قليلا. وأصل الحكاية أن ثريا كويتيا طلب من "الروائي"، أي
من سارد الرواية ووعيها المركزي، أن يكتب له سيرته في شكل رواية
"يستعيد من خلالها عزته" و"يثبت للناس سعيه من أجل مجد يصر البعض على
نسبته لسواه". وقبل الروائي" الصفقة"، لكن أهل الثري عارضوا المشروع
لأنه يعد في نظرهم مسا "بروابط عائلية" قد يلوثها التمثيل التخييلي.
وتنتهي الرواية والثري يصارع الموت في المستشفى، بينما يردد السارد
أنه سيكتب" الرواية" مع ذلك، ويكتشف القارئ أيضا أن الثوب لا يخص
الثري وحده، بل هو صيغة مجازية يمكن سحبها على الفضاء الاجتماعي
برمته.
تلك هي النواة السردية الأصل التي ستنتشر
انطلاقا منها محكيات فرعية ليست في نهاية الأمر سوى ممكنات سردية
"محجوزة" لكنها قابلة للتطور من خلال حالات تشخيصية محتملة تسقطها
الرواية ذاتها ( ما مصير الرواية التي أصر الروائي على كتابتها رغم
معارضة أهل الثري ؟)، أو يلتقطها القارئ من غياب التحديدات السردية
الداخلية التي ترافق أحداثا بلا أفق ( ما مصير علاقة عدنان بزوجته،
ومآل فرح ابنة الروائي وشهادتها في أمريكا ؟). لقد كان الكل يبحث عن
"ثوبه" ضمن آلة اجتماعية رهيبة تطحن في طريقها كل شيء. لذلك، فإن
"الثوب"، كما سنرى ذلك، يتضمن إحالة مجازية لا من حيث إحالته على
موقف "أخلاقي" أو "اجتماعي"، بل هو كذلك من حيث حمولة على البناء
السردي ذاته. فهو يشير إلى غطاء تركيبي دلالي لبنية سردية مجردة لا
قيمة لها خارج الكلمات التي تحققها.
وهذا ما تكشف عنه الآليات السردية المستعملة
في بناء الأكوان الدلالية. فالنص الروائي مبني، من خلال حالات
انشطاره الداخلي، استنادا إلى استراتيجية" تمويه واقعي" تقود
بالضرورة إلى الكشف عن "واقعية التخييل" الذي يتسرب إلى كل جزئيات
الحياة، بما فيها حياة صاحب الرواية ذاتها ( ما يطلق عليه خطأ
التخييل الذاتي). وهي في الأصل استراتيجية فنية دقيقة، أو هي اختيار
يقف عند حدود إدارة تفاصيل السرد الخارجي، دون المساس ببنية النص
التخييلي، وهو نص في طور الإنجاز كما توحي بذلك تفاصيل الرواية. وما
عدا ذلك لا قيمة له على مستوى البناء النصي، بما في ذلك اسم الروائي
ووهم الواقعية الذي قد يثيره. فالتخييل في الأصل هو تخلص من محدودية
التجربة الواقعية واستيعابها ضمن بنية سردية تعيد صياغة كل شيء وفق
ما تشتهيه العوالم الممكنة، وهي الصيغة المثلى للتعبير عن التمثيل
التخييلي.
وهذا أمر بالغ الدلالة، في الرواية وخارجها
سواء بسواء، فالتمثيل التخييلي ليس خلقا لوهم أو إحالة على عوالم
يمكن أن تنكرها العين والوجدان، بل هو بناء يقوم على الاقتطاع والفصل
وعزل عالم مصغر ووضعه خارج الدفق الزمني المعتاد ( لا يمكن للمتصل أن
يكون مصدرا للمعنى). وسيقود التراكب بين الصيغتين ( صيغة الواقع
وصيغة التخييل)، إلى خلق طبقات تخييلية تحكمها مرجعية "واقعية"
واحدة، هي المرجعية التي يستند إليها الوعي السردي من أجل إسقاط
حالات الفصل والوصل، وهما شكلان تنظيميان يختصان بتحديد الروابط بين
أحداث القصتين الأولى والثانية وفق ما تبيحه العوالم الممكنة ذاتها:
قصة خالد وقصة طالب ومن معه. وسيستعيد القارئ تفاصيل "الرواية" التي
تزعم الرواية أنها لم تكتب بعد. وهو ما يعني أن الرواية تضع القارئ
كاتبا "لرواية" لم تُكتب داخلها.
لذلك، فإن النص، من هذه الزاوية لا يشكو من"
قلة الأحداث"، فهي في كل مكان، ولكنه يحتاج إلى "قصة" تحولها إلى
عالم مكتف بذاته: حياة خالد خليفة ليست جديرة بالسرد إلا إذا هي
استوطنت الرواية، وحياة طالب لا يمكن أن تكون قصة، لأنها مصنفة ضمن
زمنية مكشوفة، أي "واقعية". "فالفعل" ليس كذلك إلا ضمن"محدد سردي" (
أو ثقافي، والأمر سيان في النهاية)، يمكن أن يحوله إلى "حدث" جدير
بأن يروى. لذلك رفض الكاتب التورط في تسجيل وقائع حياة تاجر لا تختلف
في شيء عن حياة كل التجار الكبار في الكويت، وحين" تخصص" الفعل،
وانزاح عن المعتاد الحياتي، تشكلت الرغبة في منحه أكثر من حجمه
الواقعي، أي البحث له عن حاضن تخييلي: إن الأمر يتعلق "بالتفاصيل"،
وكل شيء يختفي في التفاصيل، بما فيها الشيطان ذاته. فالتفاصيل هي
الوصف المخصص، سرد الصفات كما تتجلى في " اليومي" و" المألوف" و"نظرة
الأم الحزينة" و"الأب المكلوم" ( تستعيد الرواية تفاصيل الفقر كما
يمكن أن يحضر في تفاصيل الحياة اليومية، ولكنها تستعيد أيضا" السقوط"
إلى الأعلى كما حدث ذلك لخالد خليفة).
وذاك هو مصدر "الوهم الواقعي": إن الرواية
تسرب" الواقع" من خلال التخييل، ولا يمكن أن تحتفي بالتخييل إلا من
خلال إسقاط الواقعي المرئي من خلال اسم الكاتب وبعض إحالاته. فلا
يمكن لقصة خالد " الواقعية" أن توجد إلا من خلال ممكنات التخييل
ذاته. وهي ثنائية لا تخص حجم" الحقيقة"، بل تشير إلى شكل في تصورها :
إن الوهم هو ما يأتي من الواقع، أما الحقيقة فموجودة بين دفتي
الرواية، هناك حيث يعج العالم الفسيح بكائنات لن تُنْصفها سوى "
التفاصيل" التي تحصل من خلالها " الشخصية على حق المواطنة في العالم
الواقعي"، إنها حالة الاستشفاء التي توفرها سردية تخلِّص الواقع من
فوضاه (3)، أي من وهم واقعيته.
إنها مفارقة تبنى ضمن السرد وتُرفع ضمنه أيضا.
إن حقائق التاريخ متغيرة، أما حقائق التخييل"فثابتة"، إنها أشد وقعا
على النفس من "تفاصيل الوجود المرئي". لذلك، فإن من لم يرُقْه وجهه
الواقعي، عليه أن يصنع آخر من تراب التخييل ومائه. فخالد لا يريد
"سيرة"، أي "صورة طبق الأصل"، بل يريد معادلا من صنع" ذاكرته"، لا من
صنع الوقائع. وذاك ما تدعو إليه الرواية وتقوم بالتمثيل له من خلال
كل محكياتها؛ فالكاتب ذاته ليس سوى نسخة، أما الأصل فموجود في مكان
آخر، إنه عليان، الصوت الخفي الذي يكتب قصته بطريقته الخاصة.
واستنادا إلى هذا، فإن هذا الانشطار الداخلي
يتسع ليشمل حياة كل شخصيات الرواية: فللكاتب ظله الممتد في صوت السرد
الخفي، فهو الذي يملي عليه أفعاله أو ينهره أو ينبهه، أو يستثير
داخله عوالم الحلم والاستيهام والرغبة في العودة إلى حضن الأم
("يتدثر بحنانها"، كما يتم ذلك في أحلامه)، بل إنه يسقط حالات فعل
ممكن فيما يشبه المعجزات والخوارق. وللشخصيات الواقعية مضايفات من
عالم الخيال أيضا: يسدي الروائي الشهير فهد إسماعيل، النصيحة للسارد،
تماما كما تفعل ذلك سمر وزوجها سليمان، وهما شخصيتان من شخصيات رواية
سابقة ("سمر كلمات"). بل يمكن أن تتسع الدائرة لتقيم تقابلا بين
"تخييلية" الحب، و"واقعية" الحياة الزوجية، في الحالة التي تخص عدنان
وزوجته؛ فالتخييل حر، أما الواقع فإكراه، أو هو تقابل بين الرابط
الحر وبين إكراهات المؤسسة.
وبعبارة أخرى، فإن الأمر لا يتعلق بتقابل بين
"واقع" و"خيال" ( تقابل بين الوهم والحقيقة)، بل نحن أمام تأرجح بين"
أنا" اليقين الواقعي، وبين "أنا" الشك التخييلي." أناتا "طالب" وخالد
من جهة، و" أنا" التمثيل اللاحق الذي سيحول الوقائع الحياتية إلى
رواية من جهة ثانية ( حياة خالد في رواية). الأولى توهم بالقطعية
والحسم والحقيقة وهي، تبعا لذلك، مدرجة ضمن "ميثاق واقعي" يضمنه اسم
الروائي ذاته، من حيث توقعية أدواره الاجتماعية وانسياب حياته داخل
حالات حكي طبيعي هو جزء من انسيابية إيقاع واقعي مألوف: لا تشكل حياة
السارد عمقا استراتيجيا للأفق السردي، فهي جزئية من زمنية موجودة
خارج توقعات القارئ، إنها "أحداث بدون قصة"، كما أشرنا إلى ذلك
أعلاه. إنها كذلك، لا من حيث القيمة الفنية، بل من حيث ما تقتضيه
الآليات السردية ذاتها. فهي موجودة لأن هناك قصة أخرى يجب أن تروى،
وبدون هذه القصة فإنها ستتحول إلى تتابع حدثي لا يقود إلى أي شيء،
وتلك هي أيضا "التوابل" المضافة، وقع التفاصيل، كما يشتهي ذلك راوي
"القصة الكبرى".
أما الثانية فمطاطية، إنها تشير إلى خلاص كلي
من إيحاءات" الفعل الواقعي"، لأنها تحتكم إلى قواعد سردية "مصطنعة"
تمكنها من التخلص من خطية الزمان وتقريرية الإحالات الفضائية، لتسقط
سومولاكرات الوجود ( الصور الوهمية التي تسقطها شخصيات محبطة) كما
تتبلور في الذاكرات الخفية للأشياء والكائنات. فواقعية القصة هي التي
تبرر تخييلية" الرواية" التي تجاهد الرواية على كتابتها. وذاك هو
مصدر" الصنعة" السردية في الرواية ومصدر المضاف فيها أيضا: محاولة
خلق تقابل وهمي بين "تخييل" و"واقع" تستوعبهما كلاهما بنية سردية
كبرى هي في الأصل بناء تخييلي محض.
لذلك، فإن الرواية تصر على "واقعيتها" لتحتفي
بالمضاف التخييلي، فالمضاف خلق يتسرب إلى الكلمات في غفلة منها ومنا،
أما الواقعي فمعطى، إنه يقلص من هوامش الاستيهام في العين والكلمات.
لذلك، فإن من حسنات العين أنها لا تلتقط ما ترى، بل تصف ما تود أن
تراه. وليس غريبا أن يرد الروائي على خالد خليفة أن الوقائع في ذاتها
لا تصنع رواية، إن الرواية في الكلمات التي تصف وترتب وتقدم وتؤخر
وتملأ ما تناسته الذاكرة أو أغفلته العين. وبعبارة أخرى، إنها تعيد
صياغة التجربة خارج إكراهات الواقع وضمن ممكنات الفن:
" –لن تتعب معي، فأنا بشحمي ولحمي أمامك.
-أنت شخصية حقيقة في الواقع، وأنا أريدك أن
تكون خالد خليفة بطل الرواية. علينا أن نجتاز بوابة السحر، لنخرج من
الواقع ونطأ أرض الفن "( ص 100).
إن هذه الصيغة هي أول المداخل من أجل استيعاب
ممكنات" الثوب" السردية والأخلاقية سواء بسواء. فقد لا يحدد اللباس
موقفا مسبقا، ولكنه يعد، في جميع الحالات، أولى الواجهات التصنيفية
في التبادل الاجتماعي. ولهذا يجب أن ندفع بالأمور إلى ما هو أبعد من
التصنيف الدلالي الإيحائي المباشر. فالثوب، كما سبقت الإشارة، دال في
سياق المظهر الفردي، ودال أيضا في سياق التنميط الاجتماعي، ودال في
سياق البناء النصي ذاته. فهو يشير إلى البدايات الأولى لبلورة صورة:
والصورة تركيب وتأليف وانتقاء، ما يمكن أن يسهم في بناء الهوية
الجديدة، فالرواية ليست كَمَّا من الأحداث، إنها ترتيب، أي "بناء
عالم". لذلك" تنتقي"الرواية من سيرة الثري ما" يصلح لأن يكون مادة
للسرد" وتقصي ما يمكن النظر إليه باعتباره" سمة عادية": "كتب السير
ترصد تاريخ أشخاص، بينما تخلق الرواية عالما فنيا" ( 29).
يتعلق الأمر بنسج" ثوب" سردي جديد ينزاح عن
الظاهر المرئي في الحياة " المعروفة"، وبناء " الحقيقي" كما يمكن أن
تكشف عن ذلك الوقائع الجديدة. إنه الفصل، ولكنه فصل لا يمكن أن يتحقق
إلا في أفق الوصل: الاستعادة وحالات الإدماج المتتالية. وبدون ذلك
لن تكون التفاصيل سوى صدى أجوف لناقوس بلا صوت. والمقصود بالوصل مد
"الجسور" بين حالة " الآن" وحالة "الأمس": رد " العبقرية التجارية"
إلى "الأصل الوضيع" لا التنكر لها. لذلك، فخالد يريد أن يتحرر
من"الثوب" لاستعادة البطولة الكامنة، تلك التي غيبها الانتماء
الجديد. إنه يريد أن يستعيد "الثوب القديم" قطعة قطعة، فتزدحم
التفاصيل في الكلمات والأشياء والأحداث الصغيرة، ولكنه لا يتخلى عن
حسنات" الثوب الجديد": إنه يريد أن يعرف من أين أتى، فالذي يعرف من
أين أتى يعرف بالتأكيد إلى أين يمضي. إلا أن الصعود الفردي لا يمكن
أن يكون كليا، إنه يترك في السفح بقايا من الروح والجسد.
ومع ذلك، فإن العنوان ( الثوب) ليس "استعارة
فاضحة"، كما يمكن أن يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى. إنه يشير
بالأحرى إلى شبكة دلالية ممتدة في كل المناحي، الفردية منها
والجماعية، التركيبة منها والدلالية. فالثوب في اللغة وفي البراكسيس
اليومي أيضا، هو غطاء، أي تخصيص وفصل الواحد عن المجموع، وتجسيد
العام في المتحقق "هنا" و"الآن"، قبل أن يكون إشارة إلى انتماء عفوي
إلى"محظور" هو كذلك بالتعاقد الاجتماعي والتنازل الطوعي لا بقانون
سلطة فوقية ( الإخلاص للطبقة الاجتماعية مثلا)، أو قد يكون الظاهر
الكاذب، أو التنكر والتستر على انتماء ممنوع بقوة الأخلاق أو الدين
أو الإيديولوجيا: تشير الرواية في أكثر من مكان وفي سياقات متعددة
إلى "الطبيعة المحافظة للمجتمع الكويتي"، وهو ما يحيل، بشكل من
الأشكال، على حالة من حالات "تأبيد الأثواب".
فالكائن ليس "لحما حارا "، مصدرا لاستهواء
أصلي موجود خارج استقطاب التوترات الاجتماعية التي توحده في المجموع
وخارجه، إنه قبل ذلك وبعده واجهة مرئية يلعب فيها الغطاء المباشر (
الثوب) دور المحدد الفردي المخصوص، ودور الانتماء الحضاري. بل قد
يحيل على واجهة هووية كما يمكن أن تشير إلى ذلك الألوان والطول أو
القصر وتقابل القطع: لا تتردد الرواية في أماكن متعددة في الإشارة
إلى لباس خالد خليفة:" الدشداشة تخفي البلاوي" (ص 21)، لتقابل بينها
وبين " الثوب" العصري الذي يلبسه الروائي.
إنه يريد، ضمن استعارة الثوب دائما، استعادة
ثوبه في التخييل لأنه لا يريد أن يتخلى عن موقعه الاجتماعي في
الواقع. فالتخييل وحده يمكن أن يصالح بين رغبتين لا يمكن الجمع
بينهما في فضاء واقعي. إن استعادة الثوب ليست رغبة في العودة إلى أصل
غيبه الغنى وغطى عليه، بل محاولة "لتكييفه" وفق حاجات الاعتبار
الاجتماعي الجديد. تلك هي الاستراتيجية السردية في عمقها، وقد صاغها
الروائي بحنكة فنية متميزة. إن الفعل السردي "محاصر" ضمن غاية موجهة
لا يمكنها الفصل داخلها بين دور ثيمي مفترض ( الرواية لا تقول بأن
الثري يحن إلى عيش الفقير) وبين أدوار اجتماعية يمثل لها الفعل
السردي "حقيقة" وتنحاز إلى المجد والمال وتتغنى به. لذلك تسقط
الرواية وتستعصي على الانكتاب، فالمصالحة غير ممكنة، ويظل الانشطار
قائما بين"ثوب" مبهم وملتبس وبين دور عاملي هو الواجهة التي لا يريد
التخلي عنها أبدا ( الذات الفاعلة التي تحقق الفعل ضمن دوائر
التسنين المجرد : بطل توجهه غايات اجتماعية واقتصادية).
ها نحن من جديد أمام الثوب الذي يصلح لأن يكون
هيكلا يستوعب أحداثا. وتلك هي الصيغة المجازية الثانية للثوب. فسلسلة
الأحداث لا يمكن أن تشكل قصة إلا من خلال كساء خطابي هو في الأصل
تصريف للزمان والمكان، وتحديد لنوعية العلاقة الرابطة بين شخصيات
النص التخييلي. وهو ما يفسر كتابة الرواية ذاتها: رواية خالد الخليفة
( الثري صفة تحمل في ذاتها ممكنات الفعل القابل للإنجاز) ورواية
الثوب أيضا، بكل سياقاته الصريحة منها والضمنية.
وليس هناك من فاصل بين الخلق السردي وبين
الثوب إلا في الظاهر. فالثوب ليس صيغة مجازية يراد منها الإحالة على
التشبث بأصل موروث فقط، بل هي، فيما هو أبعد من ذلك، إحالة على بناء
فضاء حدثي مخصوص، بالمفهوم الخطابي للكلمة. فالهيكل السردي ليس سوى
احتمال حدثي مبهم لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال كساء تصويري يمنح
الروح لأدوار اجتماعية وسياسية وأخلاقية متداولة ضمن سقف ثقافي
بعينه. إنها الأدوار العاملية التي تتحدد من خلالها غايات الوجود ضمن
ما يبيح وما يعوق وما يحفز، وكذا الجهات التي تؤول إليها النتائج.
وهي الأدوار الثيمية التي يتحدد من خلالها البناء الاجتماعي ذاته،
إنها تخصص وتحين في اللحظة الزمنية المخصوصة ما يعود إلى هذا السقف
الثقافي أو ذاك ( كل الأدوار الاجتماعية التي تحول المجتمع إلى
مسرحية لا تحتاج إلى إخراج).
استنادا إلى هذا التراكب الثيمي والانشطار
السردي تَمْثُل الرواية أمام القارئ باعتبارها ما يشبه الفرجة
الشاملة التي تستوعب داخلها كل شيء. إنها إسقاط لصورة كبرى تعاد من
خلالها كتابة التفاصيل في شكل لوحات مركزها خالد خليفة ولكنها ممتدة
في كل المحكيات. ولم تكن غاية ذلك هو البحث عن" واقعية"، بل يتعلق
الأمر بتقويض الفواصل بين ما ننظر إليه باعتباره "واقعا" يحاصرنا من
كل الجوانب، وبين ما نصنفه ضمن عالم التخييل، فلا شيء يمكن أن يحد من
امتداد هذا في ذاك، ما دامت العين لا تلتقط دائما ما تراه، بل تعيد
صياغة ما تتوهمه واقعا.
وها هو الثوب في النهاية يمد تلابيبه لكي يكيف
التركيب السردي ذاته استنادا إلى كل إيحاءاته. فانطلاقا من هذه
الشبكة الدلالية يتطور هذا التركيب انطلاقا من توازي مقلوب بين
برنامجين سرديين متقابلين من حيث شكلا التحقق، ولكنهما متشابهين من
حيث الغاية التركيبية التي تقود إلى إشباع دورة سردية مادتها
الدلالية هي"الثوب" ولا شيء سواه. إن المبتغى الأصلي للحكاية الأولى
والثانية واحد: موضوعات الرغبة المسقطة تختلف من حيث المظهر، لكنها
تتشابه من حيث القيمة المثلى: يود خالد بناء مجد أدبي، ويتطلع
الروائي إلى الحصول على مال لرفع الضيق عنه.
إن التوازي لا يمس الاستقطاب الثنائي المجسد
في طرفي المعادلة: المثالية والواقعية، فالأمر أوسع بكثير من هذا.
إنه إحالة على الاتصال والانفصال في الوقت ذاته. إنها آلية سردية لا
يمكن أن تتحقق إلا من خلال سقوط مشروع الرواية ذاته. فانصهار
البرنامجين ليس سوى لحظة، عودة إلى استهواء أصلي يحدد القيمة فيما هو
أبعد وفيما هو سابق على الفعل: يحافظ خالد خليفة على المال، ولكنه
يكتسب مجدا، ويحافظ الروائي على فنه، ولكنه يكتسب مالا. بالمال نمتلك
الفن، وبالفن نكسب المال، إنها معادلة نادرا ما تستقيم، لذلك انهار
المشروع ومن انهياره قرأنا رواية جميلة.
-------
1- طالب الرفاعي : " الثوب"، دار المدى
للثقافة والنشر، سوريا، 2009
2- العبارة لأمبيرتو إيكو
3- العبارة لإيكو أيضا