معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقـة تعريـف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع  خزانات الموقـع  صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

سعيد بنگــراد

 

" أنا " الغرام و"حالات التشهي"

قراءة في رواية "اسمه الغرام" لعلوية صبح

 

 

 

 

 

قد تكون "الأنا" محدودة من حيث ممكنات التمثيل السردي، فهي مضطرة دائما للاستعانة بأنا أخرى غيرها "لتكتمل عندها الدورة السردية وتُشْبَع"، ولكنها تمتلك القدرة على المزج الكلي بين "ملفوظ" يصف و"تلفظ" (1) يستعيد الانفعال ويُضَمِّنه دلالة كلية، بعضها من الوصف وبعضها الآخر مما يوحي به المقام أو يعلن عنه صراحة. فالملفوظ محايد، أما التلفظ فهو بقايا الذات في كلماتها. وهذا أمر جلي، فالأنا في ذاتها انفصال عن المألوف وخروج عن المعيار الجماعي، إنها تطمح دائما إلى صياغة عالم ضمن انفعال يتحقق خارج محددات ال" نحن" وضوابطها.

إن المزج بين "الأنا" وملفوظها ضمن حالة هوى مطلق يحضر في الذاكرة والكلمات والمنافذ الحسية -كما سنرى ذلك فيما سيأتي- هو ما يشكل الاستراتيجية السردية التي استندت إليها رواية علوية صبح الجديدة "اسمه الغرام"(2) من أجل صياغة عوالمها التخييلية على مستوى سيرورة البناء، ومستوى الظلال الرمزية، ومستوى الإشباع النهائي (اختيار لحظة الحسم السردي). فما يثير المحلل في هذه الرواية في المقام الأول، هو ما يُدرج ضمن الكلمات والأشياء بعيدا عن إحالاتها المرجعية؛ إن عوالم التقرير ليست سوى ممر نحو ما يُخَبأ في التشخيص، فالنص يقتات من الاستعارات والظلال الإيحائية لا من الوصف المباشر للوضعيات المألوفة.

وقد استكشفت الرواية بشكل رائع، من أجل الذهاب بهذا "الغرام" إلى حالاته القصوى، كل ممكنات الأنا ووظفتها من أجل التخلص من الخطية والتتابع الطولي، فالطولية نقيض التوتر والاحتقان والنمو المحجوز، وللتخلص أيضا من إكراهات النهاية التي تقتضي وجود تراكم للأحداث قد يتحول إلى عبء يحد من قدرة السارد على تصريفه ضمن ختام حسن يمتص "حالات التشهي" عند المتلقي، وهو أمر تأباه طبيعة النمو السردي في الرواية وتتجنبه. فالنهاية لا تشد القارئ، إنه لا يكترث لها، فهو يعرفها من الصفحات الأولى، إن ما يستهويه هو اللحظة كما تصفها الساردة وتتغنى بتفاصيلها. إن قوة الرواية ليست في "الحبكة"، بل في العوالم التي تبنيها الكلمات.

وتلك خاصية من خاصيات ثيمة الحب في كل اللغات وفي كل الثقافات أيضا. فالثابت فيه أنه لا يمكن أن يتحقق إلا في الاستعارات ومن خلالها بعيدا عن لغة التواصل النفعي وإكراهاتها، ولا يمكن أن يعبر عن نفسه أيضا "إلا من خلال المفرد وممكنات الأنا" (3)، "فالحدود بين الهويات تنمحي في فورة الحب وتتلاشى مرجعيات الخطاب ومعانيه"(4). ف"الأنا" تتضخم داخل هذا الخطاب وتنتشر وتتوسع دوائرها لتستوعب كل ما يحيط بها باعتباره الوعاء القادر على استيعاب الفائض الانفعالي، لتتلاشى بعد ذلك وتندثر وتغوص من جديد في حالة استهواء مطلق، لتظل الكلمات وحدها شاهدة على شهوة لا تنقطع.

تبدأ الرواية باستنفار كلي لذاكرة تستعيد تفاصيل حب قديم: نهلا، بطلة الرواية، لبنانية من الجنوب (شيعية) تقرر، في سن الخمسين، سرد وقائع عشقها الأبدي لهاني ( مسيحي): فقد أحبت هذا الرجل حبا "خارج المألوف" الطائفي، وخارج المألوف في أدبيات السلوك العشقي، وعاشته كما يمكن أن يتحقق في صيغة مثلى لا نظير لها. ولم تنل السنون من هذا الحب، فكلما تقدما في السن وترهل الجسدان ازدادت الشهوة قوة وازدادت حرارة الكلمات الواصفة. وستظل تعشقه بعد زواجها إلى أن تصاب بمرض الازهايمر وتضيع في أتون حرب تموز. وتنتهي الرواية بلوحات سردية شاعرية يمتزج فيها الخوف من الموت والدمار والضياع وفقدان الذاكرة، والتلذذ برؤية "السيد" عن بعد واشتهائه و"شم" عباءته وانتظار زياراته الليلية، بينما يهش النبي موسى في الحلم "بعصاه" على الذاكرات والأجساد المحبطة ويسقط طائرات العدو.

ولن نتوقف طويلا عند "المفاصل الكبرى" التي يقوم عليها النص الروائي، فهي وضعيات مرئية من خلال التشخيص ذاته، ذلك أن جوهر الرواية، كما سنحاول الكشف عن ذلك، مودع في الظلال، لا فيما يمكن أن يشد إلى الأشياء في "حقيقتها". لذلك سنتحدث هنا عن الجزئي والبسيط وما ألفته الأعين، أي عما يعد إفرازا لصور يطلق عليها في ميدان المتخيل التصاورات ( سومولاكرات)، وهي صور استيهامية تسقطها الذات من أجل استعادة الماضي، وتستعين بها أيضا وأساسا من أجل التغطية على الهوة الفاصلة بين الوقائع وبين ما يتسرب إلى الكلمات كمحددات إضافية مصدرها الذاكرة لا الواقعة في ذاتها، ويتعلق  الأمر بما تقوله الحواس وتخبر عنه باعتباره مدخلا للإمساك باشتغال الهوى. فما يقال عن أجساد في الخمسين لا يستعيد الجسد الفعلي، بل يستثير نظائر دلالية مخزنة في وجدان لا يشيخ أبدا، فالنظير (5) كم انفعالي يشير إلى دلالة مضافة تقوم على أنقاض النفعي لالتقاط هوى النفس في الأشياء والكائنات.

وقد تكون سن الخمسين سر الأسرار في الرواية والمفتاح الذي يقود إلى كل الدلالات الممكنة. فالساردة تشد على هذا المفصل المركزي بقوة من خلال إسقاط "ثقل" السنين النفسي والجسدي: شباب ولى إلى الأبد، وشيخوخة تتوعد دون خجل. إنه الحِران، تمسُّك كلي بالذاكرة باعتبارها الواقية التي تجنبنا "تصديق" ما فعلته السنون. ولن يتحقق "التوقف الزمني" إلا من خلال استعادة لفظية "لطراوة" غابت عن الجسد، ولكنها استوطنت الكلمات بإحالاتها المباشرة وغير المباشرة. بل تفعل الرواية أكثر من ذلك، فمن خلال مزج دقيق وغير مرئي بين التمثيل للزمنية الداخلية للرواية، والزمنية الخارجية ( مجمل الإحالات على وقائع لها علاقة بالسياسة والنضال والمقاومة)، تسرب الرواية "عوالم حميمية" بعيدا عن أكليشيهات التحرر بمعنييه السياسي والجنسي، لتلتقط بذلك "لحظة" فارقة في الوجود الإنساني تخص فردا، ولكنها قابلة أيضا لأن تنسحب على كل الظواهر، بما فيها مستنقعات السياسة وزيف الإيديولوجيا: سن اليأس الإيديولوجي والسياسي والجنسي.

وهو ما يفسر كون السرد لا يراهن على كم زمني يستوعب الأفعال ضمن امتداد طولي يمكن الكشف عنه في الفعل ذاته، بل يُمْسك بهذه اللحظة التي لا يمكن دونها أن نفهم أي شيء، ليصرِّفها بعد ذلك في لوحات سردية تتخذ شكل فصول مرقمة ( وعددها 17). "فالبوح"، بكل معانيه، سمة من سمات الرواية، إنه تصريح بانتماء إلى عوالم الأنوثة: نوعا ووجودا ورغبة تولد من الجسد وتتلاشى داخله، بالحقيقة والمجاز ( اللذة وترهل الجسد وموته)، ولكنه أيضا، وربما أساسا، أنة الألم الصادرة عن ذات تستقبل الموت وهو يزحف بطيئا على الجسد ويعيث فيه فسادا ( تكرش الرجال وعجزهم الجنسي، وإدمان النساء على المرآة وعلى المساحيق وعمليات التجميل).

فالرواية تتقدم من حيث كونها تراوح مكانها، وتراكم معطيات من حيث تدفع إلى التخلص من حاضر فعلي لاستعادة ماض يحيل على طاقة هووية يمتصها وينشر تفاصيلها خطاب الحنين. فالحنين نقيض الانتظار ( الأمل)، إن الانتظار وعْد بفعل، أما الحنين فانكفاء على الذات ونبش في خباياها بحثا عن "سلوان" أو"عزاء" ، قد لا يبرر الحاضر ولكنه قد يخفف من وقعه. لذلك، لا تسير الرواية إلى "الأمام" الزمني"، بل تتجه نحو " أمام" سردي يبني مستقبله استنادا إلى تقهقر إلى الماضي. فالرغبة موجهة إلى استحضار لحظة والإمساك بها من جديد، لا إلى استشراف فعل يمكن أن يَعِد بأحداث، وهو أمر تقتضيه الإحالة الزمنية في الرواية: لا نستحضر المستقبل كثيرا في سن الخمسين، فكلما اقتربنا من النهاية ازداد تعلقنا بالبدايات، وكلما مال الجسد إلى التلاشي، ازداد عشقنا لصورته الأولى: إن الجسد ثروة غير قابلة للتخزين إلا في الكلمات.

لذلك، لا يبني السرد، ضمن هذه الاستراتيجية، حدثا، بالمعنى الذي يجعل هذا الحدث انزياحا عن دفق حياتي "عادي" إيذانا بميلاد قصة، ولكنه يحيط بكل مثيرات الرغبة ويمنحها أبعادا حسية ضمن فعل يتحقق في الذاكرة ومن خلال قدرتها على صياغته حسب ما تشتهيه صور الاستيهام التي يغذيها "الحنين" وينفخ فيها من روحه، دون أن يحيل بالضرورة على شيء خارجه، فالوهم مكون أساس من مكونات الحب، بل إن جزءا كبيرا من "شهواته" مستمدة من الاستيهامات لا من تحققه في الواقع.

وعلى هذا الأساس، فإن مصدر "اللذة" في الرواية ليس أحداثا، بل هو حالات التوق الدائم إلى "الانصهار" في ما هو أبعد من الذات وأدنى منها: الانصهار في الحبيب وفي الطبيعة وفي الفناء المطلق عبر "سباحة تقود من رحم الأم إلى رحم الأرض"، كما تعبر الرواية عن ذلك بطريقتها الخاصة ( ص35). فالتزاوج بين "الأنا" العاشقة و"الهو" المعشوق ليس انشطارا، بل هو إسقاط لممكنات العودة إلى الواحد المطلق الذي يقوم على نفي قطعي لكل حالات الاستقطاب الممكنة، بما فيها امتزاج اسمي العاشقين ضمن تركيبة صوتية واحدة، نهلا وهاني، كما تقول الساردة نفسها:

"الشعور بالنقصان جحيم العاشق وعذابه. للعاشق دوما رغبة في الحضور أمام المعشوق، على أنه حضور تام وكامل وطاغ (....)،"كل حواسي استعادت ذاكرتها يوم لقائنا. فهاني موجود في كل جسمي، وأنا حاضرة في كل ملامسه. هو أنا، وأنا هو. وذاكرة جسده ما عادت منفصلة عن وجودي"( 41).

في لحظة اللقاء، تتحول "الهو" إلى "أنا" مطلقة تنتفي بعدها كل الضمائر. فليست ممكنات الرغبة هي ما يقود إلى التمييز بين الضميرين، إن ما يُسند الاستيهامات التي تطلق عنانها الأنا وتغذيها وتستعيدها في شكل استعارات هو شكل حضور هذه الرغبة في ملفوظ يستوعب تلفظه بشكل مباشر؛ فهاني حاضر في صوت نهلا باعتباره أنا ثانية تهرب من الهو لتمتزج بأنا نهلا ضمن ملفوظ واحد. وهو ما يشير إلى إمكانية خلق حالة تماهي مطلق بين الحاجات الوصفية للملفوظ وبقايا الذات فيه. فهاني "موضوع" مطلق في الوجود وفي الذاكرة، إنه لحظة خارج الزمن تجاهد الساردة الإبقاء عليها في صفائها كما كانت من قبل أو كما كانت قبل أن تكون: "كأن حبنا ولد قبل أن نولد" ( ص19). "أشعر كأني أمه التي ولدته وربته وكبرته وأحبته حبا لجزء منها، هاني ليس جزءا مني، بل هو كلي، كل أجزائي" ( ص20). ولكنه ذات فاعلة أيضا، غير أنها لا يمكن أن توجد إلا في ملفوظ نهلا وداخله تتحرك وتفعل، إنها الوجه الآخر لاستيعاب العاشق لمعشوقه، إن هاني وقود الهوى أما نهلا فهي القوى التي تستوعبه.

فالساردة لا تستعير نسخة من الحب، إنها تمسك بالأصل الذي تفيض عنه كل التحققات الممكنة، فهو ليس غراما، إنه "الغرام"؛ وليست بدورها ذاتا، بل هي النموذج الأصل لكل الذوات، أو هي السلوك الذي يبحث له عن معيار خارج ما هو موضوع للتداول: تعبث عزيزة بجسدها كما تشاء، ويعبث الآخرون بجسد سعاد، وتكتفي هدى بالمتاح الاجتماعي، وتنكفئ أخريات على الذات ضمن حب مِثْلي لا امتداد له خارج نفسه، وتبقى نهلا وحدها خارج السرب تؤسس لسلوك عشقي جديد يبحث له عن نموذج يحتضنه. إنها المعيار الأصلي والنسخة التائهة في الوقت ذاته. لذلك تتحدث الرواية عن الغرام، ف"الغرام" هو "الولع" و"شدة التعلق"، وهو "العذاب" أيضا. إنه الوجود الممكن الذي تُشْتق منه كل الحالات التي نقيس من خلالها درجات التعلق، ولا يشكل الحب داخل هذه "السلمية العشقية" سوى حالة "اعتدال" تقاس على نقيضها، لا انطلاقا من حجم الانفعال الذي يميزها عن غيرها من النسخ.

إن الأمر يتعلق بصيغة سردية تبيح الالتفات إلى التفاصيل في الطبيعة وفي الرواية سواء بسواء. فالتفاصيل هي عماد كل شيء: ما يحيل على الثيمات المستثمرة في النص وما يعود إلى آليات التمثيل السردي وطريقته في رصد الموصوف؛ لذلك لا أهمية للأحداث في ذاتها، ولا قيمة "للوضعيات الكبرى" إلا من خلال ما يمكن أن يتسرب إلى الملفوظ من ذات هَوِية ( sujet passionné)  تستوعب الكون بأشيائه وكائناته وصفاته وأسمائه من خلال حالة استهواء قصوى تقود في الرواية وخارجها إلى حالة انصهار كلي هو ما يعبر عنه "ضياع" و"اختفاء" و"تيه" نهلا. وهي حالات تستمد كامل إحالاتها الرمزية من التقاط مدى زمني تخترقه الرمزية من كل الجهات: حرب تموز التي شنها العدو الإسرائيلي على لبنان.

يستثير هذا الكم الزمني الـمُسَرد التذكر ويدعو إليه بحياء، تماما كما يتذكر المحتضر كل تفاصيل حياته دفعة واحدة: مزاوجة بين الحرب وسن الخمسين، صدمة الوجود والفناء، إنه العراء والعري والدمار والأنقاض، في الحرب وفي الذات التي تستقبل الخمسين، فاصل بين الشباب والشيخوخة، أو هو حد يصل الحياة بالموت ضمن إيقاع لا نكتشف هوله إلا من خلال ما يلحق الجسد من " تخريب": " ويراودني إحساس لئيم بأن عمري يصير بطيئا بليدا وثقيلا، وجسدي الخمسيني مهدد بأن يصير هو الآخر متهالكا مثل ذاك البناء العتيق القائم عند الزاوية" ( ص47).

وتلك إحدى مفارقات الرواية ومصدر قوتها أيضا؛ فهي تتقدم باستمرار، وتفتح آفاقا توسع دائرة السرد وتمنحه القدرة على استيعاب فضاءات تمزج بين المتخيل والواقعي، ولكنها لا تفعل ذلك من خلال حدث مرئي في سلوك، بل تضمِّن الفعل السردي، في كل نقلة جديدة، مزيدا من الانفعال لا يصير حدثا إلا في "الاستعارات الواصفة" ومن خلالها؛ فهذه الاستعارات "تضخ" في الحب أبعادا جديدة تخرجه من دائرة "المألوف و"المسموح به" و"المقبول" و"المعتدل"، ليحلق بعيدا عن "عتبات" لن يأتي بعدها سوى الهوى، أي انبثاق حالة تماس مباشر مع "الحسي الأدنى"، أو "حالة استهواء" تشد الذات الهَوِية إلى ما يلغي حالات الوعي، للانتشاء بالأريج المنبعث من جسد يتسلل إلى الذاكرة من خلال حسيته لا من خلال أبعاد ثقافية هي في الأصل مضافات قسرية لا أنسنة يقتضيها التحضر:

" ...قلت ونحن نحكي عن عضو المرأة حين ولدت ابني أحمد إنه ليس ثمة أمومة وحب في معزل عنه. عندما أقف عارية وأتطلع إليه، أرى أنه مصدر أمومتي ومصدر الغرام... مصدر الضوء والدفء والمشاعر، لماذا يقولون القلب ينبض ألا ينبض هو أيضا؟" (ص45).

إن الأمر يتعلق بحالة تمازج كلي بين استنباهات برانية ( الأحاسيس الآتية إلى الذات من الخارج) وأخرى جوانية ( ما يأتي إلى الذات من داخلها): امتدادات الذات في الطبيعة وامتدادات الطبيعة في الذات، حالات جذب ونبذ تحيل على الانشطار الأول وممكنات الانصهار اللاحق ( انفصال الذات عن الطبيعة والعودة إليها). وهو ما تؤكده الوقائع التي تصفها الرواية حيث يعاين القارئ حضورا طاغيا للطبيعة بمعنييها الشائعين، أي ما يحيل على أشياء العالم الخارجي، وما يدل على ما هو موجود خارج التكييف الثقافي: لا تتوقف نهلا عن مداعبة أشياء الطبيعة، الماء والأزهار والأشجار وبراري الجنوب اللبناني من جهة، وتسهب أيضا في وصف الجسد في حسيته، أعضائه ومناطقه وهضابه ونتوءاته من جهة ثانية.

إن الجسد الأنثوي جغرافيا لا تختلف كثيرا عن جغرافيا الطبيعة، وهو ما يبرر التحسس والتلمس والقدرة على معاينة الخراب. وربما يعد هذا فاصلا بين "حيادية" الجسد الذكوري، وبين "بؤر" الرغبة والمتعة في الجسد الأنوثي. وتلك أيضا هي المداخل الأساسية من أجل الإحاطة بهوى الحب لا بالحب في ذاته. إن الأمر يتعلق في هذه الحالة بإعادة الاعتبار للحسي في الجسد والتغني "بفتنته". ف"الحسي" في الرواية " لا يحيل على"عري طبيعي"، لقد تخلص الجسد من خلاعته من خلال سحر الكلمات وإيحاءاتها، فنهلا "ترى" جسدها، ولكنها لا تكتشف متعته إلا من خلال وصف ما ترى. إن الأثاث الثقافي يحجب عنا أجسادنا في غالب الأحيان.

  ولذلك لا يمكن استيعاب العودة إلى الحسي إلا من خلال هذه اللحظة بالذات، ومن خلال الظلال الرمزية التي تجللها وتنشرها في جميع الاتجاهات. فالنص يتحول من خلال هذه الظلال من مجرد تمثيل سردي يُفَصِّل القول في حياة مجموعة من النساء والرجال، إلى إدانة صريحة لنمط حضاري في التعاطي مع الجسد وكل مرفقاته. لذلك، فهو رمزي لا من حيث تجريدية مفترضة، بل هو كذلك من خلال طبقات التشخيص داخله. وذاك هو السبيل الذي يقود إلى الكشف عن القوة الحسية التي تشد إلى الطبيعة دائما، بل هو ما يفسر "جَنْسنَة" كل أشياء الطبيعة استنادا إلى ما توحي به ثنائية الولوجي ( المذكر) والاستيعابي ( المؤنث): "في طريق عودتها إلى بيروت لفت نظرها مشهد شجرتين واقفتين وحدهما على طريق نائية وأرض غير مسكونة. كانت واحدة أعلى وأكبر من الأخرى فروعها منحنية عليها، كما لو أنها تمد كفها إليها وتحتضنها. تمنت لو تتحول هي وهاني إلى شجرتين مثلهما" ( ص305).

ف"النأي" و"الخلاء" في الطبيعة يمتدان إلى ما هو أبعد من تمثيل لعالم خارجي، لكي يتحولا إلى فراغ في الذات الساردة لا يستوطنه سوى عشق يعود بها إلى حالة تُشَخص خارج الزمنية المعتادة والفضاء المألوف. إن الرغبة الجارفة تستعبد صاحبها، ولكنها تقوده إلى التحرر من مُسْبقات الثقافة والمجتمع: إنها لا تمجد العري، بل ترسم حدود "حسية" جديدة يتمثل فيها العضو لصاحبه في صورة هي مبتدأ اللذة ومنتهى الانصهار في الآخر، وحيث "يصير مستقر الشهوة جوانيا، كأن القمم في الجسد هي أماكن الحس المحض" (ص274).

وهو أمر بالغ الدلالة في الرواية، " فالحسي" ليس كشفا عن الأعضاء، يتعلق الأمر في هذه الحالة بخلاعة صريحة موجودة خارج التسمية ومحددات العين الإضافية، إن قيمة الحسي تكمن فيما يمكن أن تكشف عنه المنافذ الحسية في الذات التي ترى وتتملى. فمصدر المتعة والتشهي، خارج الكلمات، موجود فيما توفره هذه المنافذ وتبيحه. إنها سلسلة من الأشكال الإدراكية التي ينتفي فيها "التوسط" بين المدرِك والمدرَك، تماس مباشر بين الذات التي تحس وموضوع إحساسها، تماما كما هو الأمر مع ما تقوله ملامح الوجه وتقوله العينان وانتصاب الشعر في حالات "الذهول" و"الاندهاش" و"الانبهار"، فهي حالات تقود إلى تعطيل الوعي وإخلال بوظائفه. وتلك هي الوضعيات التي تتوقف عندها الرواية وتنتشي بوصفها، فهي المعادل الحسي لكل الاستعارات التي تفصل الجسد العاري عن حسيته الطبيعية: " أتخيل أن الأشجار العاشقة تتعرى من الحزن حين تهرب منها أوراقها"(ص51).

وذاك منفذ آخر تستثمره الرواية من أجل الذهاب"بالغرام" إلى حدوده القصوى. هناك من جهة كل العوالم المضافة التي تأتي بها الاستعارات، التي تقدم معادلات تصويرية لحالات نفس استبد بها الهوى : لا تتوقف نهلا عن الحديث عن الغرام والعشق والحب والشوق والهيام وكل ما يصنف ضمن الربرتوار الهووي في صيغ شعرية تؤجج الانفعال وتشخصه في وضعيات تنأى به عن المألوف في وجود الأشياء. وهناك من جهة ثانية الاستثارة الحسية التي تقود النفس ( نفس المتلقي ونفس الواصف المباشر) من خلال الوصف إلى الالتفات إلى الحواس باعتبارها المداخل الرئيسية لاكتشاف حالة أصلية مفترضة للجسد، أو لامتصاص طاقة الحسي الأدنى المحايث كما وضعته الطبيعة في الجسد خارج لواحق الثقافة. فالرواية تحتفي بما تقوله المدارك المباشرة وما تحس به وتدفع إليه أو تتقزز منه، فهي المنافذ الأولى لإدراك عفوي لا يكترث لقصديات الوعي وإكراهاته، "فالجسم يهتدي إلى الجسم" (ص46)، سواء تعلق الأمر باللقاء الجنسي أو تعلق بالأمومة ( الصفحات التي خصصتها الساردة للاحتفاء بالأمومة من خلال الرضاعة).

ولا تتوقف الرواية، في هذا المقام، عن تمثيل حالات الجسد في حسيته: "اعترفت بكل عضو في جسدي، وخصصت له في خيالي دورا في الحب يلائمه. فمي لقبل المحبوب، وأنفي لأشم فوحه في حضوره وغيابه، وذراعاي لعناقه في صحوي ومنامي، وصدري لاحتضانه في الحقيقة والخيال، وأذناي للإنصات إلى دقات قلبه وصوت أنفاسه، أما عيناي فلهما أكثر من مهمة" ص87- 88 ). إن الحسية سابقة في الوجود على الوعي: هناك حسية العين حين ترى، وحسية الأيدي حين تلمس الجسد وتداعب البظر مصدر اللذة وقمتها، وحين تغوص الأقدام الجميلة في الأوحال التي خلفتها الأمطار.

وهناك الرائحة، والرائحة هي منتهى الحس، لأنها تشتمل على فاصل أول بين الجسد والطبيعة، بين الفناء وبين الأبد المطلق، فالاستقطاب الأصلي في الرائحة ثنائي يجمع بين الخبيث والطيب، الخبيث في الجسد والطيب في الطبيعة، وليس العطر سوى "قناع ثقافي" تستعين به الذات من أجل التغطية على روائحها الأصلية ( بعض المشاهد التي تصف فيها عزيزة الروائح الكريهة المنبعثة من مناطق اللقاء الجنسي عند أحد زبائنها). لكن الرائحة هي أيضا عودة إلى الانصهار في حالة سابقة على التأنسن، إنها استنفار لذاكرة الجسد الأولى حيث كانت الحواس مصدر لذته خارج الثنائية المستحدثة الفاصلة بين الإنساني والطبيعي: حيوانات كثيرة تتعرف على شريكها من خلال الشم.

وضمن السياق الحسي ذاته تندرج صورتا "السيد"و"النبي موسى"، ولكن ضمن سجل رمزي يتحقق على مستوى الاستيهام  والرغبات المحبطة. يمكن الذهاب بحسية الشم في هذه الحالة إلى ما هو أعمق مما سبق، حيث تتحول الرائحة إلى حالات تشهي "السيد" والحلم بالاقتراب منه ولمس عباءته، وهي لقطة عميقة في الرواية، تصف فيها الساردة غيرة بعض النسوة من "المرأة التي طلبت منه عباءته وأرسلها إليها، راحت أصواتهم تتوالى: نيالها، يا ريت فيني شمها مثلها، بتكون ريحته معلقة عليها " ( ص 302)، حيث يمثل التعلق "بالدكتاتور والزعيم والسلطان" رغبة قصوى في القهر واستزادته، وهي حالات يستشعرها المستضعف والمقهور والمغلوب على أمره، إنه يتمنى الانصهار في ذات السيد عبدا أو تابعا أو ذليلا. إن الأمر يتعلق بتشهي الاستعباد.

وضمن السجل نفسه، تبرز عصا موسى. فقد رأت سعاد ( سعاد نموذج المرأة المقهورة) في منامها النبي موسى يلبس هو الآخر "عباءته"ويمسك "بعصاه" ويلوح بها في السماء ويسقط طائرات العدو ويعيد البنايات إلى حالاتها الأصلية و"يحيي" الموتى. والأمر يتعلق برمزية صريحة، فالعصا هي الأداة التي تصد العدو وأداة لرفع الضيم الذكوري وأداة لإشباع جنسي مفقود في الواقع ( رمزية عصا موسى مشهورة في هذا المجال، فقد رأى فيها البعض إحالة على الفالوس، القضيب).

وفي الحالتين معا، فإن الحسية هي طريقة أخرى للكشف عن التوتر الداخلي الذي يدفع بالانفعالات إلى تحققات تختفي في الاستعارات والاستيهامات فعليا أو رمزيا. ويبدو أن مصدر البعد الجمالي في الخطاب ليس شيئا آخر سوى تلك الرغبة في التعبير عن الذي يندرج ضمن "التوترات" التي تستعصي على تصنيف مسبق أو لاحق أو مدرج ضمن المألوف. وهذا هو الحد الفاصل بين خطاب عزيزة حيث تعود إلى الحسي، أي التماس المباشر كلحظة حسية خارج التوتر، وخطاب هدى الذي يبتعد عن التوتر والحسية في الوقت ذاته من خلال الانسياق وراء معيار اجتماعي هو الضمانة على امتثالية قيمية مألوفة، وخطاب سعاد الذي يحقق الرغبة في الحلم والتماهي في نهلا، وبين خطاب نهلا، حيث تدشن "لحس جديد" من خلال الانغماس في الحالة القصوى التي هي انصهار "لحمين"، أي محاولة امتصاص هذا "اللحم" في أفق تحويله إلى لذة تتحقق فيه وخارجه في الوقت ذاته.

إن الأحداث تتم في الرواية كما لو أن الكثافة الهووية، مجسدة في امتزاج الحسي بحالات الاستيهام اللفظي، تطوح بالذات خارج نفسها وتغرقها داخل نفق مظلم تضيع داخله الأشياء وتفقد شكلها وتندثر ولا يبقى منها سوى محددات دلالية لا تكترث للنفعي في الحياة لتكتفي بالمضاف، أي ما يتجاوز حد التحقق الفعلي ويمسك بالهوى في ذاته في لحظة سابقة على أي تحقق، "فالغرام" تسنده حميمية قوية تختزن كل طاقات "الهوى" وتشير إلى ممكناته فقط. ولن يكون "الازهايمر" في هذه الحالة سوى نكوص إلى حالة من حالات الحس الأصلي السابق على الحياة، "نقطة قصوى بين الحي واللاحي" بتعبير سميائيات الأهواء. إنها تستعيد بطريقتها اللحظة الخالدة في تاريخ التخييل حين يقول عطيل لديدمونة: " أيتها المخلوقة الرائعة، ليستول الضياع على روحي إن لم أكن أحبك ! اذهبي ! عندما أكف عن حبك، فسيكون ذلك عودة إلى العماء".

إن الرواية، من خلال هذه الحسية، تمنح الجنس ما يعود إلى الجنس ولا شيء غير ذلك. فالجنس جزء مركزي في الوجود لا من حيث هو إشباع لرغبة ولا من حيث هو تناسل وتكاثر، بل من حيث هو في المقام الأول لحظة نستعيد من خلالها لذة المتعة والألم والبداية والنهاية، وربما أيضا استثارة الحنين إلى العودة إلى "رحم الأم"، موطن الأمان الأصلي ومنتهاه. لذلك تصر الرواية على قول كل شيء عن الجنس وتتجنب في الوقت ذاته، الانغماس في رومانسية مريضة وسطحية تستعير الوضعيات المسرودة من السائد الاجتماعي، إنها لا تثير، فالإثارة ليست في الكلمات، بل في تركيبها وفي المقام الذي تتحقق ضمنه، ذلك أن الخلاعة ليست في الجسد بل في العين الناظرة.

-------

1-ملفوظ énoncé  ، تلفظ énonciation

2-علوية صبح : " اسمه الغرام"، دار الآداب، بيروت ،2009

3- Julia Kristeva: Histoires d’amours, Denoel,1983,p.9

4-نفسه ص10

5-النظير valence يشير إلى محدد دلالي مضاف، فعصا الأب في الرواية أو المذياع لهما دلالة نفعية مباشرة، ولكنهما مصدر لذكريات تخص الأب وعوالمه.

 

 

 
 
 
معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقـة تعريـف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع  خزانات الموقـع  صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

موقع سعيد بنگراد - تاريخ الإنشاء: نونبر 2003