أدخلت القناة الثانية مع بداية شهر رمضان بعض
التعديلات على نشراتها الإخبارية، وخاصة ما يتعلق بمكونات "بلاتوه"
النشرة الإخبارية الزوالية . ويمس هذا التعديل مجموعة من العناصر ( شكل حضور المقدم،
شكل البلاتوه وديكوره العام....). وهي تغييرات لا تمس في واقع الأمر"
الفلسفة الإخبارية" التي اتبعتها القناة منذ فترة ليست بالقصيرة،
بقدر ما تهم "المظهر" العام لهذه النشرات. وفي جميع الحالات فهذه
أمور لا تدخل ضمن سياقنا وتحتاج إلى مقاربة من طبيعة أخرى.
ما يعنينا في هذه الورقة المختصرة هي بعض
"الإيحاءات" المضافة التي يمكن الكشف عنها من خلال تحليل بعض عناصر
هذا التعديل. فالمشاهد المعني بالأشكال والألوان (وكذا كل المشاهدين
بشكل لاواع) سيدرك بسهولة وجود تطابق بين هيئة البلاتوه بأشكاله
وألوانه وبين ما يعود، بشكل مقصود أو غير مقصود، إلى بعض العناصر
التي تشكل الأساس الذي قامت عليه الهوية البصرية (
logo)
لمؤسسة متخصصة في الاتصالات هي شركة ميديتل، ويتعلق الأمر في المقام
الأول بالتأطير الذي يجعل اللون الأحمر مدخلا لتلقي عناصر الصورة
مجتمعة ( البلاتوه). وهذا ما سنحاول البرهنة عليه في الفقرات
الموالية.
فما هو مثير للانتباه في هذا التعديل كله هو التأطير
العام للبلاتوه الذي يتحدد من خلال تقطيع هندسي يَمْثل باعتباره مرآة
كبرى تُسرب من خلالها كل المعطيات الإخبارية التي تقدمها النشرة.
فالشكل الهندسي ( وهو شكل أقرب إلى المربع) هو الإطار الذي يجمع شتات
الصورة، وهو النافذة التي نطل من خلالها على"عمق المجال" البصري الذي
ينفتح أمام العين لكي يخبر ويرمز ويوحي أيضا. فكل شيء يتم من خلاله
وعبره، ولا يمكن لعين المشاهد أن تتخلص منه إلا لكي تعود إليه بعد كل
فاصل " إخباري".
إن موقعه في الحيز الخلفي للمقدم يحوله إلى نقطة
استنباهية لا تختلف في شيء عما يمكن أن يتولد عن التأطير الذي يخضع
له أي مُنْتَجِ يقدم للاستهلاك العمومي: فهو تأطير محوري تارة (
الخلفية المباشرة )، ومقطعي تارة أخرى، كما يشير إلى ذلك المربع
الأحمر في الطرف الأيسر من الشاشة. وفي الحالتين معا، فإن العين
"تنتبه" إليه بحكم شكله أولا ( والعين تستثيرها الأشكال الهندسية في
المقام الأول)، وبحكم لونه ثانيا ( فاللون الأحمر لون قوي يستثير
أكثر الناس لامبالاة بالألوان). والرابط بين الشكل واللون هو منبع
الاستثارة ومصدر تلقيها.
وتلك هي النقطة المركزية في هذا التعديل الواعي أو
غير الواعي. فهذا الإطار الخلفي، يتحدد من خلال التقطيع ومن خلال
التركيب العام للمشهد/الصورة، باعتباره كيانا مستقلا في ذاته مفصولا
عما يجري داخل "غرفة" التحرير"، بل يُخيل للمتلقي أن الشكل الهندسي
شيء "مستقل" سُرب إلى البلاتوه باعتبار هويته هو لا باعتباره عنصرا
من الديكور المصاحب. وبصفته تلك يتحول في عين المشاهد، بفعل هذا
الشكل التأطيري، إلى موضوع للتأمل، إنه صورة خارج السياق المباشر
لأنه قابل للتأمل المعزول. وما يمنح الشكل قدرته على خلق حالات
التناسل الدلالي هو ارتباطه باللون الأحمر. وهذا أمر بالغ الدلالة،
فقد ربط أغلب التشكيليين ( كاندينسكي وإيتن مثلا) بين المربع الذي هو
رمز الصلابة والأرض الثابتة، وبين الأحمر الذي هو لون الاندفاع
والحماس والانطلاق الدائم.
ويقود في متضاداته مع لباس المقدم / المقدمة إلى خلق
سلسلة من التنويعات التي تجعل الأحمر دائم الحضور، ويصبح مهيمنا لأنه
الأصل الذي يستعيد من خلاله البلاتوه شكله الأصلي. إنه الخلفية التي
تحتضن كل الألوان الأخرى فهو الثابت الذي لا يتغير والقابل لأن يخلق
تنويعات هي ذاتها التنويعات التي يحضر من خلالها المميز التجاري
لميديتل من خلال تنوع مُنتجاته. فالأحمر في هذا المميز هو الثابت
والمرجع الكلي، تماما كما هو أزرق اتصالات المغرب وأخضر وانا. وبهذا
تتحول ميديتيل إلى "حاضن" و"مستشهر" لنشرة الأخبار ذاتها. فالمربع هو
الحاضن للأحمر، تماما كما هي الأخبار عملية التقاط لحدث، و"الحدث"
انزياح عن الدفق الهادئ للوجود الإنساني واحتضان للطارئ والمغاير
والمتميز، إنها إحالة على " تواصل أفضل".
هل يعي المشاهد حقا كل هذه الإيحاءات؟ قد لا يعي ذلك
بالضرورة من خلال وعيه الصاحي، ولكنه قد يكون عرضة لسلسلة من
التأثيرات التي تأتي بها ما يسمى الإرساليات غير الواعية أو الصور
غير الواعية (
message
subliminal, image subliminale).
ويتعلق الأمر بصور ( وإرساليات ) لا واعية تجعل العين تنظر دون أن
تدرك أنها تنظر، وتجعل الذهن يستقبل إرساليات دون أن يعي ذلك. فالأمر
يتعلق بصور لاواعية لا تدركها العين، ولكن الدماغ يستطيع مع ذلك
فرزها ومعالجتهما وتحويلها إلى سلسلة من الأوامر التي تخترق اللاشعور
وتتسلل إلى الفعل اليومي ( الشراء في المقام الأول). وهو أسلوب مشهور
في الإشهار ويعتمده الكثيرون من أجل شَرْط سلوك المستهلك وتكييفه وفق
الحاجات الشرائية التي تعد الغاية النهائية لكل إشهار، بل إن هذا
الأسلوب "التواصلي" تسلل إلى الميدان السياسي ذاته، وقد اتهم ميتران
الرئيس الفرنسي الراحل نفسه بالاستعانة بهذا الأسلوب الدعائي، وقاده
ذلك إلى المحاكم.
لذلك لا يمكن ألا تتسلل هذه "الأشكال" التعبيرية التي
تعد أساسا لهوية تجارية إلى متلقي الأخبار، فالصور الإشهارية الخاصة
بهذه المؤسسة تحاصر العين في كل مكان وتدفعها إلى اختزان الأساسي
منها، أي ما يشكل الثابت الدائم الذي يحيل على المنتج في كل حالاته.