معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقة تعــريف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع   خزانات الموقـع صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلاما

 

سعيدي المولودي

الذكريات والحجارة

 

   1  ـ إلى ( أ )

لك المرارة. لك السر، حين أتهاوى، أمضي على فرط اللوعة، مثلما تمضي لبيتها نملة، أطير من طوقي إليك، وأشرب البراري على الريق. كالساقية أناديك، أيها المجرى. كالغبار...

كالغابات يستوطنني برد الغربة، جائع كالرصيف، ذائع كالنزيف، مأتم أبيض يمشي في كفي، كأنما تتبعني هذه الصحراء، وحيدا أنقر نحاس السماء.

من الحبل للوريد، للبطين للجريد، قاب الأقواس أو تدول، دربا للدرب، أتصلصل، مفازة تظللني، ثلج يتخللني( البارد كالسيف ).. فإلى أين أيتها العشايا ؟ من حافة السرير للسبيب، من العطر للحبيب، أفتح حزني على لون الغربان، أولد كالمتاهة، أحمل قبري بين ذراعي، عل طريقا يلقاه، ويغلق الفجوة بين قدمي وحبل الخطوات...

من بئر الصباحات أقفو طينة الليل، من شرق العظم لمغربه، أستطيل ـ طال: أنا الجبل المفتوح للتيه أو الحجارة أو الإمارة، تجوبني أفنان الذكرى كالسكين...

أيتها الغمة الأمارة بالشوق، ممنوع أنوب إليك، ممنوع أسير إليك، أسيرك الذي لا يفتدى، داخل في كوة الحصاد، يتبعني ظلي كالجنازة، وصيفي يعود القهقرى، وأنا دمي لوعة" الشنفرى"

سلاما، أيتها القافلة البيضاء، ابتعدي، ما أنت لنفسك. كيف لي أن أجلس في عقبيك، أعيد النبض إلى لجة القلب، أو أهرب من الصلب... كل هذه القمامات تشبهني، كل هذه القرابين تراودني، وكل هذه القارات تفلت من قبضتي، محطم الصداقات كزجاج الريح، أنام في جب المرايا، ويسهر في قامتي الأرجوان...

فإلى أين أيتها العشايا؟ إلى أين تسافر هذه لعصافير البيضاء؟ لا جدران، في الممرات البعيدة أتماس مع الهواء المثقوب: وطني. وطني المغلق، النعل اليابس. تعال، إنك صريري، أصفف الأحجار في بوحك، وأحلم بسعة الأغصان.. إنك انتظاري النواح. أتكيء على قفص من نجواك، ومن الأقصى للأقصى، جالس في خلوة القاع، لما اشتهيت السلة هرب من حقلك العنب...

سلاما، أيتها الغجرية الولهى، يا وشما من الرعب يستنفر الأقداح، يا جبالا تصعدني كالعبرات. من لي بالمرافيء البعيدة، بالطفولات المخبوءة تحت الأحجار، بالندامى، وكبرياء الماء.. كالبرودة أنت يا سماء من مدينة ترقد في ليلها، يضاجعها الفراغ القادم من كل الجهات. هي الساعات تدق، نعم أنا منساق وعندي زوبعة...أهتاج، وتستفيق في دمي المجاعة، من ليس فيه القلب أنا، أقلب على جهات القهر، دروبا، وهاهو ضوء التاريخ يفر من وجهي، أحمل قارات يابسة وأعبر النهر: ميتة أقدام هذا الرحيل. باردة يد المجيء. فيا أيها الجبل الملتهب، أ أ صعدك أم تصعدني؟.إني شارع يمتد صوبك بلا مدينة...

ـ  قرار شخصي.

حين أفكر في وطني، أفكر في كفني، في كل الغايابات، في كل الحقول، وبأي اللغات سأحفر قبري. إل

2 2ـ إلى ( م )

شجرة في وجهي. أرحل عبر الشارات القديمة، وأفتح نحوك خارطة من بذور. على شأفة الرحيل أترقب التيه، وأتجرع مرارة السماء كالغصة، وأرسم وطنا على شاكلة الريح، أرتقب العشب في منتهاه. مزارات صماء تأكلني، أمشي إليك في كدر البعد، أتمسح شهادتي كالمغلوب بأمر الله، أقول لهذا التاريخ اليقضمني، يعريني كالمقموط:تبت يداك...

ساحل من الخوف يلفني كالإزار، يشق قامتي كالقضبان: ميت خفق الهواء يا رفيقي، فلماذا يكون هذا البعد طريقي؟تصرخ الحارات الهوجاء في وجهي، حطاب أنا، يحمل همه على ظهره ويمضي. ثمة انتظاري.

ها أنت تحمل الصليب في غيبك، تتوضأ على ذكراك حانات اللغو، من "سجلماسة" لباب الفتوح، أغرس الذكرى في مبتداها، أتدحرج كالصلوات الخمس، أينعت الرابية، يا رفيقي خضاب الأمسيات، والسنون القلاع...نام التاريخ في صدري،، الآن وحده تحضرني اللغات الهاربات أشق جيبها الجميل..

أي سيل يفتح هوة الباب، يا رفيقي، ويهرقنا في أرض الله.

جلسنا على ضفة النهر، ذراعا فذراعا، حتى ارتدانا الليل، وظلت سحابة دكناء تغشى خدر الأسماء، وتنادي الأعماق. للعشب أن ينام في قدمي.وللفرح أن يكون بابي.

أي غربة تربونا تربونا، تلقي بنا في الوجه الذي لا أعرفه، ولا تعرفه.أنت تدري كم قاتل هذا السائر في قبض الليل يحط قوسه على فسحة الشد، ألم تصلك بعد ضراوة الفرح، نشوة الضفائر اللاهثة؟ أينع الخسف في برية العمر، منذ هذا الحصن لم تعد لنا الأسوار، أي آصرة بين هذا العبء وجفاء الوطن؟لا. لا خوف على هذا الآتي، إن الوطن يبني فينا عريش الجوارح، فانتظر الساعة، انثر أشلاءك على بذرة الصبح، عدني في حضورك، سم هذا النهر سيفا، خوفا، واحزم حقائبك على التو، وكسر قرابتنا على حائط القسوة، شدد صوتك فينا، ولا تسافر إننا في انتظارك.

مطر جامح يغازلني، في هذا المنفى البعيد ـ يا رفيقي ـ امرأة توزع الغربات، ومدائن مكسورة كالزجاج، أصل إلى أشباه الفصول، أقول لهذه الصحراء، أنت نبضي، والطريق إليك موجة انكسار، فماذا أفعل بهذه البنادق الصغيرة؟.

أقف يا رفيقي على هوة الغيم، برزخ من الذكريات يطاردني، أضع يدي كل طواقي العصيان وأقول: يا عقارب كل الساعات اتحدي

     3 ـ إلى ( ب )

ما ارتداك البحر إلا للبحر، خابت عيناك في أرصفة التاريخ، والوطن المتعب، مابين الأفق وخيوط الشمس، انتثر الحب. مهلك أيتها الرايات المشعشعة اهتزازا، أيها الصفصاف العتيد احتراقا. هاهي ارتعاشات الرحيل الثاقب تعتريني، تختفي الطلقات من قلب الهواء. قالت لي خيل الله: اشتعالا، والطريق تراودني، أمسي في نخل المقاهي، كالليل إذ يتطاول، أو يطول. كأنك لا تأتي، أحمل صداقتي خارج العالم، أوقظه من قلة النفس، أستيقظ. وأنت ما زلت تحدق، تسكن خفقة الكون، زمانا التقينا، فض خاتم الصباح الفاتن. أعرف أن العالم أرحب، وأرحب منه صرخة اللقاء.

قاوم في غربتك، أيها المملوء انتظارا، وقل لكلاب التاريخ: نباحا، نباحا. إني أستغفر هذا الهشيم، لما تلقاني الرصاصة ألجأ للذكرى، وأختبيء كما تختبيء المواعد القلقة.

قدماك الآن جنتان

تعب كلها هذه الليالي الباردة، فمن يشتهيها؟

أنت من ضربت خيمتك على مشارف الشمس، وجلست تحدق الآن في مغربها، وهي تسير نحو شروق أبدي لا يسعه كل العالم.

أنت علمتني دروب الغربة، والسلوى. ما أقسى الآن" إيفران"، ما أقساها عشايا تفترس هوانا، البذرة التي تصنع كل العالم. هي المروج الأطلسية تورق في الشرفات، فافتح وعدك على المصاريع، للوطن جرحه، ولكل الخطو ملحه..

قدماك الآن شاطئان:وراءك البحر، أمامك البحر. فانهض وتقدم.

   4 ـ إلى ( ع )

الظلمات هي الظلمات، يا رفيقي، أولى لك، ثم أولى لك، أن ترفع نبضك امتلاء، وتقول لتضاريس كل هذا العالم انكسارا..

البداوات هي البداوات يا رفيقي.

أفيق على وطأة الأنحاء، وتهرب الشموس من ذراها، لشدة الموت، أشتد كالطريق، وأتنفس بصعوبة الأرحام، والظلمات هي الظلمات، يا رفيقي، نخرج من الجراح للجراح. هذا متسع الوقت، ليقف هذا الطفل على قدميه.

نريد أن نفرح طويلا.

نريد أن نموت طويلا.

ما الذي يبتغيه هذا الجدار، أيها الفينيقي الجميل، يارفيقي.قالت لي المساءات: كأنك تهبط الآن صامتا، ترتد بك المودة، تتلألأ قوافل من وهج بين يديك. مازال العمر قاسيا، سأسمي الرمل طريقا، فلون تعبك بالطين، يامن تحب أن تستريح قليلا، وتفيق على دورة الشمس. من سار بين السيف والطعنة له الأجران، فقل للظهيرة: أماما، وللبلل أنت حاضري

   5ـ إلى ( هـ )

 

من برج الساحات الرمادية، تصل آهات السير، أيها الصنوبر، ليال انتعلتها واغتربت وحيدا، كانت الأشجار في ساعديك تترقرق في اخضرار الرحيل...

لا سماء غير الغربان، تلبس وجه التاريخ، وتذروه جراحا، من أقاصي ال" سوس " انتهيت أو ابتدأت، قلت: لابد للمحطات أن تكون، ولما لم تكن، قلت: كل الشتاء مقبل، وما زال في البحر بعض الوفاء. إن الماء يتقدم. 1984

رسالة إلى " صندوق النقد الدولي"

سيدي الأعمى، أيها الجرف المالح، يا عدوي الجميل. ها أنت تغمرني الآن خطوة، خطوة، تدمر أهوائي، وتحصد من قبضي المرايا سجالا، وتمتص دمائي حبالا فحبالا..كلما عدوت، قامت في وجهي وصاياك ككلاب الصيد، تقتص مني اقتصاصا، أعود الطينة الأولى، وأنتهي حيث بدأت.

أنا الهارب بجلدي من كف المرارات، أفتل تاريخي كالمنبوذ، ألف أغصاني على ألق الجوع، أنام من فيضه، المستعان به، أقيم الفرائض على مبهاه، فمن أين تأتيني أيها الأعمى، تتلقف أحلامي في فسحة الهواء، تتسلل إلى حنين الرمل، وتسرق من طوقي ذرية الأسرار، وتبني الأسوار بيني وبين عناقيد النبع. أنت، من يبيعني ويسخر من وطن يشتريني.

عفوك أيها الصندوق

أنا المنبوذ كتاريخ جارية، أحن إلى صدأ العشب، أخشى أن أمسح دمعي، فتنهار أسواق الدولار، ويحتويني شرار اللهفة. أنا المرصود كالنجم القطبي، حتى طعنة السكين يا سيدي ترتاع... أطعمتهـ (م ) عرق الاحتمال، وبهجة الدم، أكلوا، شربوا، وقفت وحيدا في الباب، وما زلت أحدق في غابة من حطام..يا هوة تلقيني في عز الفلاة، وترضعني حليب اليباب.. أطلق ضفائرك الوحشية، يا قاتلي المتطاول، يا من أحصيتني إحصاء، وأصليتني النار إصلاء، وشيدت برية من الوصايا تأخذ بخناقي. كنت كالقبر، أرحل في سواد الأموات، مغلق كالجهالة، يعلوني غبار البداوات العتيقة، لا أعرف للسماء معنى، يحدني الفراغ من كل الجهات، عاريا كأنين صحراء عزلاء يرتد في غيم الأرجاء، أطفالي العشر، النسل المسقوف بالرعب، يمضون في خرائب من مرايا مهزومة، فالتقمتني أيها الحوت، تقول: أنا الآكل حقول الرغد، تملأني سيول من رفاه، الآمن المأمون، العالم بخبايا الأرض، وأتنفس الدولار..

لا. عفوك سيدي.

إني الخالد في قلائد من جوع، عاطل إلا من خوف يشق العمر، أبحر في توابيت من قفر، أنا من سلالة تقتات من الأحجار، فمن أين تأتيني وتفتح قامتي في وجه الخواء.. كنت الفلاح، متعبا كالموج المصطفق، لا أملك من هذه الأرض ـ الكرة غير شبر، أنام على وعده العمر كله، أنقش السنابل على مداه...وتقف الآن في وجهي تقول:أنا المثخن بجراح الخيرات، آكل الديباج والحرير، أسكن قبابا مرصعة باللؤلؤ والمرجان، وبحر من العلم يسع علمه صفحة الأكوان، تفيض مواسمي بروائح الدولار، وقررت أن ترفع من ضرائب، لأني أكتنز خيرات كل العالم.

وكنت الأجير أحترق مقهورا كحبل الدلاء، أفتح الطريق لهذا الرعب، لتنفذ من سم الإبرة كل الجمال، أيها المجوسي الجميل، وتقول: أنا بائع الورد، الملغوم بنعمات الله، المدجج بالفضة والعاج، والذهب والماس، أبتاع من عليائها النجوم، فقلت لصحن الأسعار الطائر ذهابا، ذهابا في عنان السماء..

عفوك سيدي. لا تعاتبني، فأنا من أمة خرجت من جفوة الصحراء، وتحن لخلوة الصحراء، لا تعرف الفرق بين الباب والذباب، بين الطفل والطبل، بين الماء والسراب، وبين المعزة والغراب...وليكن هواك، فأرحب من كل الضفاف شوارع بلادي..قد تكون الآن جدولت ديوني، فتعال جدول أحزاني، فأنا في النهاية كل الرصيد.

1982.

 

 

" شان إيميق أومارك أيا"

( هذا قليل من الشوق)

اعلم وطني، أنك خارج من ألق الموت، تحيي رمل النار في لونك، وتبدأ عناق الزيتون والنخل والتين، بيروت حورية من أغصان هذا المد، جئناها على قيظ لملكوت، أبحرت جاراتها في مهنة لخوف، فاعلم أنك تبني الغول في وجهي، ما منا إلا مصلوب على حرف بيروت، ومنحوت على غابات يثرب... لما جاءها المخاض، قلنا يا وطني إليك المشتكى، وضعت أصباغها على سكون البحر، لم تنبض ذاكرة السنان، قاتلت بصدرها، يا وطني، قلنا هذا أوان القتل، من لا يقتل الناس يقتل، ومن يظلم الناس لا يظلم، مددنا أوصالنا في بيداء الحر، هشمنا الثريد والجرائد على مرماك... إنا فتحنا لك هذا الفتح المهين، ليس لموتانا بطاقات رسمية، ليس لنا إلا أن نرسم الأسماء على هذا القعر المشدود إلى أوتار الجماح، المشفوع بلذة الجماع، والاعتذار عن حفل الاختتام، نخاطب ساحاتك المغمورة في الأوثان، نصلي صلوات الاستشقاء، من لا يشقى في محبتك، أيها العقد الفريد في خانات السماء، لا تعلو به قدم...

هذا اسمك المتقدم في سواحل الدمع، فقنا صبوة الزيغ، وكن هذا النزيف المشرق في قارعة الفلاح، والشريد، والمشنوق بالأمن، كذلك تستيقظ أحراش النبوة في مراجلك..

إنك تعلم سر النجوى والنعيم المفتعل في الحصون والشوارع الدفلى، فاعلم أنك هذا القدر المحصول في الأبهاء، والمحلول في أعياد الطبل والغيطة، لاشيء منا يمسح درع الشمس... لا ماء... لا هواء..

هذا مقامك، لاتصل، لانصل، لا يصل مجدك، عبورا إليك، لست أنت، أنت الضمير في كمين الفقراء، هلا اتصلت، هلا انفصلت، هلا بارزت شيئك، قاتلت كثبان الفجر، وعيون الظهيرة...لك الملك والانفطار.

شان شويت أومارك أيا..

لفرط هذه الرغوة، الوحشة الفاحشة، اقتربت، اكتويت بالملح، وبلابل العصف، من يأكل هاماتك، يفنى، تفنيه أو تنفيه... لك البدء..

هل تناسل منك بيروت، يا أبتي هذه لمرة. الآن تنهار باسمك الفحولات، الغزوات المجانية، أيها الأعرابي ـ الورق المقوى، والمتزوج الأرباع تبيد الزرع والنسل، وتمطر القهر، هو السيف لذوي القربى والمساكين واليتامى... فيه الأجر المضاعف، المتضاعف... لك القسوة وحدك...

ومن لا يركب الخطر إلى هواك تغمدته بعيثك... لك النظر..

أي ربيع أنت تدمي، أي خريف تبدي...

سأقترب، أرتقب، أبرق، هذا سر المهنة، وطني، لست مني، مابيننا جدار القارب، وألف ياقة من الغربة تأسر مساءاتك، لاشيء غير جسدي واحتراقي أشهرهما قربانا لحضرتك، فاستثر ناقتي بهول الحداء، لك الصورة، لك الدم، نبنيك على مشتهى القدم والساق، لم نصل، لم تصل... هذا عين الهوادة...

فهل تربو الفتنة إليك، من أين ترحل بيروت لأين، وأنت تعلم أن الرحيل لا يكون إلا لواحدة: إليك.

أوا شان شويت أومارك أيا.

مقصور هذا السفر إليك، إنما الأعمال بالنيات، أغريب أنت، أبعيد، أقريب، أيها الأقسى، الأقصى، لافرق بينك وبين النأي، هل تفتض سمتي، أنا مهيض العشق لاعشق الآن إلا للموت، ولا موت إلا أن يكون تحت ضفائر بيروت، وأنت تعلم سر النار، لما تكظم جنازتي، وتلتفت إلى صدري كالغليل، تنسل إلى مديتي، فاعلم أن طعنة الجبان أبدا تقوم من الخلف...

إيوا شان شويت أومارك أيا..

من يدلني إليك، أي مساء يهنيك، أي مضاء، لا تؤاخذني على انقلاب العين في العين، واغتيال المطر في قارورة العطر، ما للكشف خير من سعتي، أنا المصبوب في كفيك، تطير من حدقتي ليلة العجف، هي عودتي، قدر الساقين أن يفترقا، يرتفعا، وينسدا على مسغبة الجوف....من أجل هذا السراب تفتنني البداوة والهراوة لأرجمن داليتي، ولا يتكلم...فإليك عني، ما شهادتي إلا جسر بين خطوط مداك، تتوج النفي علينا سلطانا، تكتف أوضاعنا لجزائر الخلد، صولة تبدأ من شارات الفلق، ما بيروت إلا مأدبة لنا، موجة من لا تغويه الصلوات في محراب الرماية، باركنا فيه مرق الصديد، فإلى أين ترحل السنابل منها، وأنت تعلم أن الرحيل لا يكون إلا في الحلول...

لا تبادلني جرحا بالجرح، إني أمتد على نتوء الزحف، وجنون التلال، لامحيد عنك، حتى توثقك غرفة الاشتهاء، أعلم مخارج الصوت، مداخل النهر، لاغضب يأتينا في الغفوة، لا صدود عنك، أنت تلهب مخازن الحدود، تتحد أوتارك بالنجم، ولذة القتل في القتل... لتشربوا على هواكم:

برميل نفط خير من ألف بيروت..

لبيك... لا يأتينا الدم إلا مستباحا، صراحا، شتاتا يلملم البعض البعض منا، وخير البيت القبر، فلا تنزع شطآنك إليك ـ منك، هذي الحرمات تؤكل عيانا، قد ترعن الهواجس في أنظارك، والرحيل أنت تعلم منك ـ إليك... فكن زاد العترة، وولي هذه المحنة، واعلم أنك غالق الصب والهوى، والوريد والنوى، تجيف الجند الأبواب في عوائد الصدر، ليس لي إلا شكل حمال الصد:

هذا انكشافي.. اكتشافي

اقتناعي..انعتاقي

ظلي ولظاي..

هذه بداية العد، والقد، فاعقل سحائبي، وتوكل،

واشددني إلى صحراء شفتيك

وارتضني لوحا محفوظا على شرفات معراجك،

وافتح لي طستك، وسرة لطفك،

أخلع هامتي...

أوا شان شويت أومارك أيا

أولا ما ذشنيخ، أولا ما يذيثنيذ..

ألف، لام، نون، فاء، طاء، غلبت الروح، لم يبق من عاشقتي إلا سرب غمام يكنزني، يركب القاصي والداني، أ أ حملك أم تحملني يا هم الغربة في برد الأزمنة الحافية...لاغرب ينكث وضوئي، لا شرق يمشط أشلائي.. حلية السوق وحدها توصدني، تصرعني على شآبيب الصبية، وهذا الهجير النائم في طلعة الساعد ينض زواله عن مفاتن الشوق...النفط والدولار أهلكا من قبلنا ألا إنهما مهلكانا...

وأنت تعلم..

شمر عن ذاكرة البئر،

لا تصادق ظاهر اليد،

هذا ترف الأئمة، فامكث، لا عصمة اليوم:

كلامنا لفظ مفيد كاختصر: نفي، وقتل، ثم ذبح البشر

فاستعذ بطينتك، بارك شيعة اليم، لقد ظهر الكساد في الحرف والحرب، فاشددني إلى حزام أمنك، أنزل في شراسة الغرق،

شراسة الغرق. 1982.

"ثيمدلالين"

(الضفائر)

آه، يا أبي.

مثقوب الضفتين آتيك، أضع في مائك وميضي، وأنشر هديل على طرة الجنوح.كأنما أدعوك. عائد إلى هروب الغربة، فلا تفتنني. عادني غوث الظمأ، إني أسير السبق أنام في وحشة النبوءات، وأفتل عشاء الرمل على شاشة البحر، أي الحروب تغنيني، لعلي ازدوجت...

كلا. ما زال خلخال الصيف احتمالي.أتوسد في خوفي خاتمة الرجفة، لكن السيف بطيء، وممحاة الطفل هواء... تعاتبني مداخن الليل، وها أنا بجهد اللغات، أستسلم، وأسكن لدفء الباب.

كأني أقف بين يديك،

مزرعة تمتد في مقاتلي،

طيور مهاجرة تتكلم دمي. أطرق الحارة والصيف، ورغوة الأحباب، وللمرة الهاربة، أسكن لتفاصيل العشب، تربوني مواقد الأشجار. لتوها أسافر كالنفير أعدو، تلاحقني الوردة الغريبة، يفتضني الأرق:

أنا هذا العرق

فلا تكنزني، ما أنا الفضة ولا الذهب.

داخل الشتاء أنا البارد.

تعتريني الصخرة، من بدئها أحلم بعري السؤال... الجريد كنت من موائدي يقطر نهر الطواف، ما جئت إلا لأتمسح ركن الخطوات، وأغمض القلب على مزار الجرح. وقفت وأنت تشهد، للصبح سوالف الدم المتاح، أرهقتني متاريس النعي، فقل للظلمات:

يا سبحانك، توكئي على باطن اليد، مداري هذا العشق، ولي في مداه حرية السبق.

آه. يا أبي.

جناحان من الفرط، لعلي أصدم الغيب، في بيته يؤتى الخدم. من قاع الحضن أو براءة الجدران، أصل:

لاغيب.

هذا ضيق التاريخ، ونصب الفصول، مابين الغرة والغرة، أتورط في الغزوات. كيف مات المجيء. أيتها الكأس العزلاء، أعطيني خواءك، كي أنام في هواه.

خارج الشتاء أنا البارد.

الشريد في بدء اللسعات، أسترفد الغابات، المحلول، المنهمر، الجباص، أشهر تفاصيلي في وجه النايات، الخارج من فرحة الأرياح، محمولا على عريشة النار، تسافر الأنفال في صدري...

مملكتان من القيظ.

كأنما أحفر قامة موتي. كلما خطوت في نخل التاريخ، أطعموني رفات الطريق، مغلق العدوتين، أنقش شهوتي على وادي العبور. فتبارك الذي بيده السوط، من طلوع الشمس لمغربها، للمغرب، تباركت أيها المغرب. فخذني بعواديك، واتقد، أيها المغرب، أيها البارد..

آه. يا أبي.

قبضتان من الجوع.

احترفت أن أغوص، أو أسافر في برد التابوت، أرسم حقول الثأر..كأني بالسماء لاتمهل.أقف على الجذوع، من مرات آتيك مكتوفا كشمس الخريف، أسائل عنك الراقدين على الشوق، محفوفا بتواشيح الدفن..

غائم من جرة العتق، أصلي في مهدي، هذا احتمال الكف بين الرقمتين، أو أضع خلافتي على صك المدام.. آه. أيها الطريق الأكثر احتلالا، أقرأك السلام، السلام، أيها المشاع، المرابط في سدرة المبتغى.

خوفي عليك.

سهوب المودة انشطاري. مرافئي حبل الطفولات المرصود، المطارد في حناء الليل والنهار. أقترب من كل السواحل، أصهل. لي هذه الغلة أرقم جثتها في بيني، وأسكن لردى الرذاذ. لاشارع يمتح عودتي.لا رماد للخروج، إني ظلال التلات أغلي، تمسح هوادتي الجرادة اللمياء، لا خروج من الرماد:

لا أحد يسأل هذه الساعات التي لا تنطق.

كافة الليل مفتوح على الرمح،

أيها التينة يا أمي، تسند الدموع رأسها على كتفي، الساقط مداري، تنادين الخوف، ولا نوم يضيء، فادخري ضفافك، لا متسع لمجد الأواني:

مطهمة هي كل البدايات،

مطهمة كل العداوات،

كل الصداقات... أيتها النبتة المدججة، يا قدري.

في قبة الوقت أتشح بالاحتراق.

التاريخ بعض تميمتي، أتجشأ القبائل الميتة في الغباء، محاصرة في دوخة الأقفال..

تباركت أيها المنتعل خرائط الورد، تضع صيفي على منحنى القلب، تسير، تسير، ما أنا إلا موله أتقلب في امتدادي.. من غربتي الغضبى أتشكل كالغور، لي وشوشة الطين البيضاء، وانتظار الحريق، أتعقب الشمطاء قرتي، وأشد جسدي لربة العويل، أخاف، أخاف...

آه.أيها البدوي،

يا آدم أبي، أيها المغفل.

1984.

 

 

"المشي بحالتنا"

كن صديقي الآن، أو دالية الظل الراحل، تمشي على خاصرة التيه، وتغطيني كالأعماق، أو غفوة الرماد، وارتعاشة الأساور في معصم الذاكرة، تهتز تحت خوذة النسيان، وترفل في عناقيد الفجر...

لماذا تصير الليلة أقرب من إيماءة الشوط؟ تتسع الظهيرة في نوبة الأقدام، تنغرس في حلة اللجام، وترقم صيفها على سرير الوداع... ما الفرق بينك وبين القارب الميت في انكسار الطفولة، ينحو على سعة الأنقاض، ويمش مبللا كخلوة الطريق...

قبل أو بعد لا تستيقظ بذور الموتى، لتملأ شقوق التعب، يامن تمشي..

كن صديقي، أو نبوءة العشب، أو رمح المساءات الزاحفة، يسرح في قيلولة الرعب الجانح، النائم على مهرة الدم، ينفتح على أجنحة الصدأ، بينما شمس الذبول تلألأ في مجيء البحر، تركض للدوي، وصليل الهتاف...

أعرف ضاحية الجذور، وقبور السيبة، والخطايا، والرزق على الله، وأولياء الأعناق... وليس بيني وبينك غير هاتيك الضفاف الشاخصة، تستفيق على ثغاء الصمت، والصوت المثقل الذي يخطيء القلب، ويطوي مزارع الغبار في جبين الثلج...

أثلج قلاع الصدر، يا من تمشي... وتسند الروح رأسها لهواه.

أثلج مسالك البوح، هل أنت ليل ضاقت في ريشه العناكب، ألهث وراءك كالأرق، تشربني القبائل العزلاء، وطوفان الصلوات العذراء...

أسميك: إنها الساعة تغرب في قميص الأحداق، فلا تعرني خوفك الجارف، أونبض الشهوة العاري، أعطني هجرة الطير، واضرب كبوة هذي العشايا بالمرطوب... ولا تكن صديقي.

كن طريقي، أوباب الجمر يغمرني، كحمى اليباب، يامن تمشي لشفة الحال، وتغريني بجذوة الغيم. عادة على مدية الجري أصل لشيح الجسد، أنقش نافذة الضوء على فنار الأرض..تبيض كأسي ينابيع السؤال، واخضرار الرمال... قل هي الخيل تصادف نخلها في بردة البراري، أو أغصان المحبة على الريق.. فلا تشرب عزاء هذه الفصول، إنك التعب المكسو ذهابا، ذهابا.لك العود. أبشر. إن المدى يصل، وريح الدمعة تأتيك، هل ترى غير ذراع يهرع مبتورا نحو الضوء، ولوح أصم يقرئك السلام، ويمضي في ممالك من غرق، تستلي على الطريق...

وحده الطائر الميمون الواقف على غصن اليابسة، يصغي لصيحة الأرجوان، ومزاليج الحلم المشتعل في قبة السؤال. مات وجد الهروب، والطريق إليك معبدة، مرة بأطباق المحبة، ومرة بسراب الرحيل، حين تف لوعة الضفاف، يامن تمشي بطيئا كالوقت، وتملأ أسفار النوايا بمرارة الطريق. كن عدوي الآن، وحافر السهو في كفي، وافتح في ليلنا باب الأعداء. أنا لا أقوى على ظمأ المحطات، وظلال السلخ التي تمشي وراء ظهري، تهدر كالقطاف.

في كل الصدفة ألقاك، ولا قلب يرحم صبابة الفجر، هل أنت نهر مله الموج؟ أصطفق في عري اللحظة، كأني أتسقط رائحة العبور، وضوء الجسر، ناقما، أعلن أن رماد الفقر يحترف خطوي، ينبت نبيذه في انتظاري. هي الشمس لا يجيء طعمها، والأسماء لا تخلد لمائها.

آه. يا رحلة الصيد القديمة الملقاة على عاتق اليد، إني أبغض هذه العادة، أحلم بغرفة بيضاء، أضع فيها " الرهج" في طفولة الأعداء، تماما مثلما تفترسني الغابات البعيدة.

آه. يا وصلة القيد القديمة، إن الماء يجلس في لبدة الوقت، والشجرة تغادر جذورها. خوف رهيب يسبق اللون، يسرقني الليلة وحيدا لأقترب من هواك، أيها البلد الطيب، الطائب، فتح الله عليك، أيها الوتد المفروق، كما لو أنك تدخل طوق المتاهات، كما لو أني أرقب فيك علة الهواء، يورق الرمل في قامتي ويرشف فيض الظل. يا من تمشي لمودة الحال.إني أبنيك خلف محجات الوجد لأبلغك قبل الضوء، وأرسم ضايات العواء في غيمة الوعد، أتظلل برد الرغبة وشتاءات القهر، كبرية تتلمس طريقها في أروقة الهواء، وتبكي صداها، تغني ذكراها: تسمعني حافات الرؤيا، وشبابيك الصفير المخبوءة في حمأة الصحاب، يا ليلة الغدر المجبول على لب الصدى، إني جرس الدم القديم، تستدفيء لغتي شهوة البدء.كم مرة تفيق أوراق الجرح، وتسدل العيون ركضها على مشكاة الحنين( ما الوقت مني، إني هاوية الأنفاس، يلهو زناد العواصف في فمي، أرتجف كحبل الشرفات، وتذهب خلوتي في طوق الفتات.)

يامن تمشي، ها أنت لا تطيق النسيان، فاخرج إلى أول الأرض، مرة أو مرات، ولتنهض المسافات في قدميك. يامن لا ترى ألا ترى، ويامن تسمع ألا تسمع، يا أنت ـ يا أنا لا نساوي قرط البصل. كأننا نقترب من مرمى النبوءات المهجورة.

يا من تمشي فيضا من الرواء لسوق الحال، تنمو في بينه حقول السرى، وأعتاب الحاقة، كن طريقي كي أشهر موتي فيك، أتوسد فيك نجوعي، أو أهديك لحظة البدء، فتقبل صلاتي المثقلة بالخطايا، وأنفاس الصبايا، وهن يركضن نحو الباب، حيث لا باب.

ها أنت السارق خطو الأحباب، أم سيد الوقت تشرب الأنخاب في الطرقات، وتبكيك الألواح المعقودة في صمت الأغلال.. أيها البلد الطيب، الطائب، فتح الله عليك، هل أنت العبد الخارج من سيرة السواد، تكتب عرق التربة والانتماء واختلاط الليل والنهار، والأمر بالنهي، النهي بالنهي، أنا من يناديك من فرط الشهوة، ألبس تاريخ البئر، وتؤجل عاداتي كالحقل. أما آن للسيد أن ينقر خيوط النبع، وتكة السروج..يامن تمضي. ها نحن نمشي بحالتنا، ولا أحد يقطع دابر الكون، مدائن خرساء تصعد، وأزمنة جوفاء تحدونا، هل أنت اللازم فانصب، إني أرقب في هواك خيمة الصلصال، فكن عدوي الراسخ في الهوة، واقطع طريقي ليس لي إلا اسم واحد يأكل صيف القدمين.( يسكنني لهيب الثأر، أنا المغسول بخراب الأزمنة، يتوضأ على ضفافي الروع، وتجلس في دربي رحى الغيوم، سلطنة بيضاء تتقدمني، تغسل الرايات للكوعين، وتمسح القرب للمرفقين) فكن صديقي ـ العدو، أوشك أن يملأني الرعب، مابين سور اللحظة واللحظة، تولد في كأسي طيور تنقر السماء، فكن طريقي إليك، أيها البلد الطيب، يا من تمضي. هكذا نحن من صندوق الاقتراع لصندوق النقد، نواري الجرح بالجرح، الطعن بالطعن، ونمشي. فأعطنا أمانا أيها البلد الطيب، فكل هذه الصناديق ملة واحدة، ولا تغرس في خطونا قساوة المشي بحالتنا.

1982.

 

"ثيسوراف"

( الخطوات )

أنا الواقف على رائحة السيف،

للريح: زرقة

للموج: غرفة،

أنا طفل الأربعين ارتحالا،

أولد على قوس الندى،

طول المدى: أربعون ذراعا

طول الذراع:أربعون عاما،

أمشي على صلاة الخطو

وبيت الذكرى: أربعون اشتعالا.

ـ الخطوة الأولى في كناش الرهبة:

موت الحالة في قلبي.

هي هنيهات هاربة من قبضي، أجادل آخر صفحة من هذا الخريف، وأتقدم نحو كف الخوف، أبني سانحة البدء.. وأراك.أراك تقطف السور من صدري، ترمي به عرض الخيط الفاصل بيننا، تخرج كل صباح تهدم طيورنا على الشرفات وتستريح على فرصة رابضة في بئر الكلام، وتنفينا لشائعات المحبة...

أربعون ارتحالا... وأنت دم الطريق. أنت تعرف النهر الهارب إلى عرضه، المسروق في أعلاقنا، ومرايا الحلم في غابة الاحتراق. لطالما ارتقبناك، اكتوينا على معالمك النيزكية، وافتقدنا أطراف الحقل المتوفى افتراضا، المتناسخ اعتراضا..

أراك. لاتصطفق، لا تعبر إلى صمتي لماما، كيما أتربع خصوبة الطريق نحو العشايا، وتقول ليتها الآن تهرق عيدها في كوني، وتزرع صوبي إعصارا. كنا نحصد رأس الماء على مرآك. نشرق بالنزيف العائد، أوزارا كنا نحفر مثوانا في إسمنت المحبة، وارتقبناك أيها الملح الصائد فينا، وكنا شهودا على مملكة الأقدام....

أربعون اشتعالا. هذه نبوءتي الممدودة. خطر مرة أن أصعد رايات البدايات، وانكسار الغابات في امرأة الصحراء، ما استقام فيها العود... وأنا كتبت هذه الخطوة على شفير البعد، سأهرب من ظلي وألقي به في قاع الهواء... وأمشي.

أعرف أن كل الطرقات محجوزة.

شارع يمتد كسقف الحداء،

أصدقاء من عنب،

أوراق تهمس بلل الأغصان،

أسماء تتآكل على قميص من السيب، وأنا وذكريات لهفى على سرير من الرمل، فأينا يحمل هم الآخر؟.

* * * * * *

عناية القلب، مجزرة نابتة.

فاض الهم على بيوتات " زعير "، فمن يبني شوق الأمهات على برد موتاها:

انتجع الدم من الدم،

خرق الثوب المسمار،

شاة الطريق نحروها،

ماء الطريق صلبوه. لاغالب اليوم إلا خوذات الجند، تعدونا كأزرار تين الهند، هذا صداقنا: المرأة منا لا تتزوج حتى يفترعها الحذاء.

وأراك. ما كان منك، كان علينا، أي الأرصفة الخضراء يومنا، كل هذه الأزمنة النكراء علينا. قل لي: كيف لهذه السماء تمطر ذهابا، وترق سفن الإياب.

* * * * * *

سيدي الأعمى، هذا موتي فيك.

أيها الوطن اليسرقني،

أنا الصغير في البعد، تعال، تعال إلى النهر كي نصطاد نوبة الجسر.

ـ الخطوة المعادلة في كناش الرغبة

ها أنا أتحول إلى ملكي.خلاخيل تمد نحرها في دربي، وأنا من بعيد ألوح بصدى هذه الليلة المسافرة.المقامات المثقوبة في رحاي، أقرضها هذا المدى، وأرتب مراسيم هذا القرب الدائر.

مفرغ من الحين.

شريد هذه الطائفة الكبرى من البين. وفلول الصبوة تهيجني، تحملني أغزو هذه الفتنة النائمة على الغدر... هي مسافة تفصلني عن العراء المنصور بالله، أشرب هذا الناسوت العاشق في ظهري، وأرشق الغابة بحبات من الردم، حيث يتوقد لؤلؤ الجرح في سراب أجاج يرصص ذراعي وتحذوني الرغبة في أن أغتسل من جنابة لعشق اللازوردي الذي يحجب فعل النار: كأن يتجدد فاسوخ النسيان على جمر الذاكرة، ويفتح صلاة الفجيعة ومتون الوديعة.

* * * * * *

مات العبء في القلب، فمن يلح الآن على المسافات.وأنا طفل الأربعين ارتحالا: اتفق أن ارتقبت هذا الشروق العريق، ومحبة فيكم ألغيكم، وأفتح فيكم شهوة الانتظار، ولكي لا يظل الكلام حاجزا بيننا، ارفعوا النواقض لدرب الفصاحة.

ضعوا هذا العالم بين قوسين،

وتكلموا.

يا حواشي هذا القلق اتحدوا.

وأنا أسير غليكم أعرف أن قدمي ممحاة طفل قديمة، ولكن لا منفى..

هذا البحر ليس إلا فرصة..

وأنا طفل الأربعين ارتحالا.. لم أزل أقاتل حتى جاءوني بالكتاب، أن:

صه، صه. أيها الطفل،

حرام عليك ثدي أمك مثلما لحم الخنزير.

صه، صه.

وهي أمي وأنا ولدتها، فأينا يحمل هم الآخر؟

( ومادام الأمر كذلك، فلا أهلا، ولا سهلا بهذا الحليب المعقم..).

* * * * * *

ـ الخطوة الدائمة في كناش العقود

الحمد للآهات..

الحمد للآهات، حضر لدى شاهديه العبد الغارق في مودة الركض، الفقير إلى شمس الألفة، المتواطيء مع مواقيت المسغبة العظمى، ونفايات الأزمنة، الحجارات المختومة بالدمع...

عيناه رمانتان...

كفاه حمامتان...

تاريخ ميلاده: الجوع بحاضرة القسوة المحروسة بعناية الجند. رقم بطاقته: السماء المخبوءة في ذروة البعد، المودعة في خريف المهد. المتزوج باللحظة الراهنة، المطلق العنان في الحضرة القادمة الموشكة على السرير.. وأشهداهما:

أنه اشترى ارض المحبة الدهماء، المتوردة في حيلولة القلب، وبادية البال، من البائع له المقر بالصبابة، المعترف بديباج الحيازة جملة وتفصيلا، ينفخ فيه من روحه اللاهبة، ويجيز عاقبته نحو الإشراق. عرفه0 بثمن قدره في الغابات القصوى، الموت يدفعه الشاري أقساطا، ويفني فيه شوقه أمشاطا... حدودها:

قبلة: الأوثان المورقة في بارقة الصلب، المسماة بيوتات الفقراء، بطول المرايا..

غربا:ساحل الرغبة المرفوعة صوب الاشتداد بطول ألف ألف انهيار...

شمالا: الخطى اللاهثة المسماة نشيدا أو بريدا بطول ألف الألف ذراع شريدا...

جنوبا: الصحراء المعمورة نحو فسحة الجنون، وبذرة العناق، بطول مائة عوم انتظارا أو اشتعالا..

شهوده:

التاريخ المشاع في الأعناق، الجوع المسافر في جريد اللوعة، القهر الطائف، السيف الخارج على حرمة الأسماء، البدر الطالع على دين الملة، الفجر المخبوء في جرح الزلزال، الشمس الحارثة على تلة الموج، الليل التأله على سواد الرحل، الواحات الهاربات إلى ساق النعل، الدروب المخيطة بريع الرياح، الطير النازف الحلم، الواقع على مرعى الصدر، الوطن الخارج من باب الفتوح، لمتعة الفيض...

وحرر بتاريخ النواسخ والرواسخ، بجيب الأول تحت جمر الأعداد، وبجيب الثاني تحت سلة الرماد، ... الرماد، وأنا عبد حبه تعالى، طفل الأربعين اشتعالا.

1983.

 

"لا قصائد"

 

أنا المصفح، تراب رجليك، أو هامتك، تعتريني خلوة الريح، يا نخلة ضالعة في الكبرياء. إني عرجونك العاطل، أنام في مهب اليقظة.

ليس في الهوة إلا خطاي.شيء ما كالوقت يكنسني. مخافة أن يطير الصحو، أضع بندقية، وأنام في صدئها كالقبعة.

يملأني طقس الحر... هكذا تسرقني الحافات، أرتب ضيق الأسفار، أيها التعب: يا كم خطوة بيني وبين هذه المسافات الشاغرة.

( كان آدم إذا جاع، نسي حواء، وإذا شبع تذكرها.)

أنا عنقود هذا المساء، اركض في جرة السؤال. غريق، أنا من لا يصل من غوصي، أنشب أظفاري، في عنق هاتيك الزجاجة..يا قاتلي المتربص، أيها اللامكان، جفت قدماي على ماء الرحيل..

تلبسني أكوام الغيظ. هذا الطول. وحدي أتشقق، يسكنني النجيع على الحبل، أيها الغارب المستطيل... هي، كم أنشودة تفصل بيني وبين النبوة.

أحس الآن أني محروس كالناب، مذبحة تتقدمني، كل السنان تتلصص جلدي، يا رمل العشق، أيها الموصد، إني أعترف:" ما اجتمعت غمتي على ضلال".

تصطف الشدة في رقبتي. حدأة تجرب خوفها في سريري، أعواما تغلقني المودة، وأستيقظ على غريب ما يجتث صدري.

يقودنا طعم الغابات، هكذا: تجلس القبائل الصفراء على صفحة النهر، تبني هواها كالأغصان. لا مقام لاخضرار الصوت، أيتها الحواس الخمس: كم طعنة بيني وبين المنكبين.

حفاء هذه السواحل: دمي. من يا بستي يقترب حجر الريق. يا دوي الغبار الآتي، كم موتا يأتيني. تقضمني قبرة الوهم، أخشى في كل لحظة أيها الترف الأزرق أن نقوم بعد نفاد المقبرة...

(... وكان آدم يمشي فتطوى له الأرض، صار كل مكان وضع عليه قدمه يفيض نفطا ).

الواحد، دمي. في الغابات ينهض.

كأنما أجلس تحت ظل زوبعة، تاريخ من الرمل في قدمي يبني مربعه. كأنما أجلس في جوف ضفدعة، تساقط أسناني كجريد صومعة...خريف أبيض يرفع في دمي إصبعه، يسألني: يا نائما في خوف المزرعة، تعال، أعطني مداك للهزات الأربعة.

السائد، دمي. في الغابات يركض.

جسدي، صيف بارد كالممحاة، في ساعدي تنام أكواب الرعاة، وخلاخيل السيل، وأغصان العراة. زمانا، أشق شارات العمر في السراة، وامشي على حافات الضوء كالغداة. فما وصلت. وصلني السيف قبل المخلاة.

العائد، دمي، في الغابات ينهض.

تسافر أوراقي في مروة العراء، أحط شفتي على سقف الهواء، مابين دفتي سماء برق الحناء، تلبس تاريخا من الدروع والأشلاء. عائد بخف الحنين، يا عروة الحذاء، هاتي مداك، لزلزلة الأشياء..

الراحل، دمي، في الغابات يركض.

واحات من دخان تغمض أسفاري، من ليلة عزلاء في حارات النهار، أفتح ساقي لمودة الأشجار. مجاعة زرقاء تشدني للأوزار، وأقف على غربة الأحجار، احمل فضة المدائن، وكوة الأظفار، تسعني كل المرايا..فأنى لانحداري.

القاحل، دمي، في الغابات ينهض.

 

أيتها الحمامة البيضاء من التعب، رفرفي. فأنا تدخلني دودة الهرب. أيتها الغمامة العارية كالجرب، استيقظي. لا صحراء تقل أجراس العنب. ـ عفاك ـ يا امرأة التاريخ، هزي بجذع الغضب، فأنا تسكنني ضوضاء القصب.

حقيبة متهدلة، تتكلمني، كالغرابة. أضع يدي في مساء بارد كجذع الغابة. وأرحل من غرة البئر لبد القميص، كالذبابة...

مابين الشفة والشفة تجلس قطة الكآبة، مات سواد القلب، وهذا البياض أغلق بابه. هرب الدم من دورته، يامن تغتال أحبابه.وحاضت دموع الحقل، يامن تقتل أعشابه...ميتة كل السواحل، فأين يغرز السيف أنيابه...

خارطة مبللة، تشدني، أنا الرحابة. يلملمني الطريق كالظل يهرق أتعابه. وأنا... طالما اشتهيت أن أفتض أعتابه، ها هي الريح تلغوني، أو تذروني كالسحابة..قارات عابرة في وجهي تذرف أعنابه.. مهلك. أيها الخيط الشارب أنخابه، تولني بالعدل، فأنا مملكة صبابة...

حديقة متورمة، تراودني، كالجنابة، أسرح في زمان غاو لا يغسل أثوابه. في منتهى الصدر وطني يلقيني أوصابه، أبني صوته في عز الطفولات، أو خرابه، وأحمل خوفه في برد العراء أنا الدابة، يسافر الرعب في أمشاطي، يلملم أذنابه، وأنا حقيبة متهدمة تأكل أعصابه. ليس لهذه اللغة رقبة، فأين يغرز السيف أنيابه..

1985.

 

حوليات متأخرة

أنا الوثني، الآهل بالاحتراق، ثالث الربين، أقف على ذيل الفضة، مالك البرين، مالك البحرين، أتدلى من خيمة الله: مرآة المسافات. بيني وبني، افطر على رقصة الحرب:أيها الوقت.أشتهي أن أنام على دفة الهواء، أضع يدي في ثقب الماء، وأتوسد حجارات السيف: المعبود، يا صغيري، أيها الأبيض.

أنا الوثني، المحمول على طلقة العباب، يسافر تعبي في أسنان البحر، أنتصب كالهضبة، وتجلس الغابات في كفي، ودخان السلطنة في قلبي. أتأبط النهر، وأتوغل في شهوة الجزار: أيها الأناي.أعرف رائحة العصر، ولذة الأجساد الملفوفة كالتبغ، أسير نحو الشمس أو اللمس: شارع الآلهة أثري، وغبار الزمان نشيدي الصاخب. غريب عن قدمي، قريب من شفتي الهواء، من دمي سنان الشتاء: أيها القارس. نسل من الطواف يسكنني.فآه.آه... يا ثغور الجسد من يحتل مداك.؟

أنا الوثني، الملثم، جئت من الغيب قطرة، دمعة،أو نوبة، أتجذر، وأتدثر بعزلة السيف: أيها الحاضر، مفتوح الصدر على الشق، منحدر في خلق السماوات، أنف التاريخ من برودي، وهوة المكان من جدودي.موصد للرغم، وطرة القهر، منصور على الشتات، أتعقب صدى الغزوات، أو تناديني، أناديك: من بنى هذه " الرباطات"، ألأفعى النائمة في كل الدرب.

شطان من البحر وأنا الأقوى على مهنة الغبار، مسيج بحقول الدمار، من كل تلمسان لكل البتراء، تدق عيوني كالمسمار.

وطني، أيهذا الطارق. وطني ـ ياالله ـ رمانة غامضة اليدين، مروحة صماء، " دلاحة " يطبعها الجند ليل نهار، فأين تختفي منه الأسماء.؟

من شارع " الزلاقات"، أنقض على رغوة الصهيل، أرابط في جذوة الأغصان، بين الشد والشد، القبض والقبض، هذا من هدوئي، سأرفع إصبعي كالأعمى، أناديك: من بنى هذه" الرباطات"، ليغتال العصافير في مكة النهار.؟

من ليالي " العقبات"، أتعقب الأشلاء، الأسماء والأنهار، فآه، يا أبا الرقراق، إني أصعد الفلك، أنقش الأزمنة البلهاء، ودقات الجند على باب الصحو، فقل لأمواج كل المحيطات: أيتها الصبايا القارسات اشهدي...

زمانا كان البحر كان رفاقي يعشقون المحار.. زمان كان القهر كان رفاقي يمتحون البهار، كانت الغابات تنام على ضفة القلب، وكان الوطن: محبرة، أو مقبرة، أو مجزرة،أو رحيقا من الأسلاك ينهل متعة الخناق.. فآه. يا أبا الرقراق، فاتحة الإغلاق، تموج، قل: لكل حارات الرباط، غني مسكون باغتباطي، أتأبط جوعي كالنصل، وأغتسل على رأفة القضبان. من بدايات الخلق، وأنا أغرس شفتي في فستان الأرض: ارضع الصخر، والأدغال. واحات الحزن قدمي، خانات الشمس دمي.من طينة الأغراب، أمشي في الهوادة. سيل منصور على طعم الجدران، تطير الأوزار من سواعدي، قافلة تفتض الرحيل، ويرسو على جليد السور، ما من ذرة في الصحراء، إلا طريقي، الطارف، التالد، أستوشم المساءات، أصرخ في وجه برودة السماء، فأصابعي تحترق، وتخترق صمت الهواء. شدي بخناقي أيتها الحبال، أيتها الجبال، غني أنا المكسور" يعقوب" الموحد للعبور، واجهات الشمس أنصابي، وخرير الموت مدامي...

كل الليالي" تتغرنط"، سأحفر دربها في انعتاقي، أو أصل على غرة الهول، وأنا على لوعة الهبوط، أندلسية الشفتين خاتمتي، لها الحرب، أو القلب. من سعة الهجر تربوني" قرطبات" الخوف، أقترب من شهوة المكان، أغرس في عمقه حارة الأغلال: من بنى خابية هذي" الرباطات"، القيامة النائمة على الصدر...كالحائط يشدني الشرق الدائم، أشتهي الآن أن أنام في حرفه، غيمة ، تحطني الريح كمئذنة وحشية..إني الموحد الصارخ أمجد قتلى الطريق، تسافر الجند في أضلاعي. فلا ترحل أيها الشرق: رأسي النابض، صاعقة تضيء، وجسدي مملكة هاربة في اتجاه الريح...أنت من تغريني.

1984.

 

حاشية حديثة إلى " الكاهنة داهية"

لصيفك الآن الحلة الممدودة، أو القفص الشاكل، تعبر الحضرة من دمه، أو تساقط من غربة الأتعاب. لا مملكة. تتناسل الغلالات أو المحاذير، توشوش في كنف الأوبة، من بدها أسألك الوحدة. ما بال هذه الدوحة تربو عن الأفنان، تعلق بمائها الطيور، أو الأوزار اليابسة، هي الساعات الآن تدق، وأنا من ثلة القبض، أشكو إليك عز المتاهات أقول لصولتها: إني الغمد حيث تسافر الأنواء، البيضاء، البيضاء، كيما أنحد بطبعك نحو الأعماق، واقف على مودة الأعراق..

آه. يا جدتي، ما الفرق بين الشمس والهدنة، بين القرب وشتات النهر..كأنما أغريك، في قلبي الجنان، أجلس بين كفيك كقبرات الخيل، أبايعك، أو أملكك، أضع منتهى الخرائط على ضاحية السيف، وأنام.أسالك الرغوة الميتة، والمزارع وبردة الحقول، وأستطيل على حرف الجسد، أطلق موات الريع في سدة البحر...

هل أنا مجنون الصحو.

قلما تأتيني الفورة، أمشي في ثراها. تلك المجازر أعلاقي، يهددني طعم التاريخ، وأسرح في لسع الغربة، أشكل لغزات الأرض حانات الرسو وأروقة السؤال...

من جوع أطعمتني المشارق،

من جوع أطعمتني المغارب،

من جوع أطعمتني اللغات، أتصبب غرقا في زرقة الصحراء، وأتنفس انقراض الصلصال، من جوعها التقمتني المسافات، أتكلم المرافيء وسقوف الأحجار...

مرت الغرابات تطفح ببكاء الليل، كانت الفلوات تجرجرني، قائما مقام الدفلى، تسود المرارة في أسبابي، انتهيت أو ابتدأت، إني حائط القربان، أتوكل على انكسار الدم وفصول الذهول..

وأنت... تعرفين، كيف يتساقط الريح في وجدي، أفكر في المطافات، في الليالي القادمة، كالرماح النائمة على سرير الشرق. لو هذا المحو يقترب من كتف المودة...

آه. يا جدتي.

لو تكبر السنبلة.

في فمي جبة الخوف، أرقد كالمسمار. قرأت لك الأبواب المفتوحة للقهر، ارتحلت كالغبار المشاكس، أتفقد رائحة الثلج، حقائب الغناء المصطفق، لعلها الشبابيك تمسي، أقف على ضحوة الأقفاص، وأكتب بردك على عتبات الوشم..أستحضر دمك والأعناق..

لهضبات الأرض مدار الغفوة، تنام في طيها الأقدام، يا ساحرها الجالس في سوق القبة، إذ يتمدد السيل، يقذفني الزيت في انفعال الهول، أنزل الأٍرصفة العذراء، وأناديك:

أيها العصر الحجري، أعطنا الحجارات، كيما نبدأ سرة العناق...

وأنت... تعرفين كيف تسرج الخيوط في مكة الأسفار، أحج إلى قبر الوصول، مسلوق كبيض الله، أشرب عيون القسوة، وعشب الجند. من تاريخي أستوقف الشارات، أسال عن بضع حبات من القمح، أرسم رغيفا على سطح المهل، أتشمس على البريد، تاريخا من العي بالت عليه كلاب الطريق...

آه. يا جدتي.

إني المرة، وأنت تعرفين، أمتاح الصدر من كل الحر، أصل إلى بيت النار، أجلس كالمدامة..يامن ترزقني، أقول لك الآن:

ولت أدراجها غابات الرقص،

بعد كل هذه البداوات،

أقترح أن أنام قليلا،

أيها الرب المكلل، يامن توقظني،

إني أغني كالصدع أصل مثواك...

أفاتحك في الجهر... في المساءات المتدلية كالأحراش، علي أنزع صبوتي، وأبني دواخل الذروة في باكورة الصيف، أقف على شهود الحدة، ما بعد موات الشدة، أنحدر نحو هتافات الممرات الغريبة، إني أصل من سفر عقيم، أتكلم سوق الأربعاء...

يامن يشيدني على الريق،

هات يدي أعبر مداك لحريق النهر، ولا تمهلني، واعتق رقبة هذا الحلم. إن الغايات تغزوني، أسترفد غابات الكتم. هي محبتي أتملى رداها، وأخطو في عيثها، أنحل في عرف الفضة، وأسير على صراط يستقيم كالسيف... فلا تهجرني، أيها الغثاء يا سيد العبوة، إني أقترب من شدق العنوة، أكاد أو أموت في شدوك. تتعثر رواتبي في غلة الأسماء، من تاريخها أصلب كأسلاك الصمت، أمشي على حرف القارات ميتا يبحث عن قاتل، أو غريب يتوسد الحفر، وينام على مسام الغروب...

أفاتحك في الجهر..

أيتها الدمعة الموغلة في الدمع.

آه. يا جدتي.

أتكيء على هوادة الروح، لا تروح اللذة، هي التي تغتدي، خرجت من باب القش، أتعشى طيور الليل، تنحرني الهضبات أمسح وجهي من عبئها.. وارتقيت الآن في بؤرة الصلوات، أمتح الحمد مما لا تحمد عقباه. أيتها العقبة القائمة في دم الفقراء، وامتداد الغرباء...

واشتراني ريح البوح. دخلت من حيث تدخل الأرحام، أغلقتني الحروب في الأكتاف، جريحا مازال تاريخي يذبح كالطير يرفرف على المضض، ويجلس في برودة الحذاء.

من يملكني؟

بيع الماء، وعروة الإناء، ومن أجل أن أغتسل الآن من شجر الحرمات، أشد رقبتي لطيء أصاهر عذرهم، أما بقي في الطينة طائي يضرم يديه في قافلة البكاء، ويرفع صدره لحرات الكروم...

أفاتحك في الجهر.

آه. يا جدتي..

في الشتاء يهطل الأصدقاء، وفي عز الصيف يصطاف الأعداء.

هربت القامات من القامات،

هربت خيل التاريخ، وأنا من يفاتحك أسهر تحت سقف السيف، أفتح بابي على خوذات الخوف، وأتوسد غربة القضبان...

لاصلة تعبر بيني ويني،

هاجرت الأنواء ماءها، وأنا الخارج من برج الضياع، أرسم الحقول في مجرى الشفتين..، أناديك:

آه. يا جدتي. اقتربي.

1985.

 

مروج الذهاب

بشكل الظل أرتعش.. أشكو إليك مغبة الضوء..

أنا الثاكل تنبو أرجائي في رشق الطريق، ما جاءني الود إلا جاءني يتوغل في سرايا الليل، يرضعني اضطرام القرابات، ووحشة الأجنحة الزرقاء تبتلع عروة الكف، وتختفي في راحة الميناء أو لجة الفراغ..

كأني الشاكل، أقدس هيكل الأتعاب، أقف على بلل الصوت، شاهدا على مكتم الصوت، من حلمة القوس، لقبضة الشمس، الشمس الغموس، أصعد أنقاض الشرب، على حافات البرد اللامتناهي، تقاتلني أفخاذ السوط، مابين الصديد وسماء من حديد الحديد، كأنما قيثارة الرعب تستوزرني، أو تستأجرني..

هذا الوعد هاجري، أو مرة حاجري.

أحمدك هذه المرات.أشتهي نبضك الجريد، الآكل خف الإشراق، وجنائن الصدع، وفضاء المهجة والتلاقي..كيف لي أستريح من ملء الغفوة، وأعلن شأفة البياض، أيهذا الخارج من غرة الذهاب..

لا أوقظك.إني النائم أصاهر فيك خلخال الحلم الدابر. تلك خاصرة الأغصان، من وجدها لغضها تختال، لذاك أخلصت لبد القدمين، لبلابل القادمين من قامة الغيظ، أكتم فيهم سوادي، وأسرح أغلالي في هوى المروج...فلأين تذهب الروح؟

في بريد هذه الأزمنة المغلقة، لا تحنو على أشجارها الريح، توصد الأسماء في حلة الحريق، وتؤكل الكتف في ظهيرة الرمح...كأنما تحتد ساق الذهاب، فأرني هوة الرقص يا خريف الأحذية الراقية...

قائم أنا على الوهن،

طريح العقد الشاغر،

أتوغل في تباريح الخيط، ولا أصل إلا عبر أعطاب القسوة، مغسولا بتكة النسيان: من الحد الأدنى للأجور، للمدى الصاعد، الساعد، للمثانات الشاهقة، لأبراج الرعب السميك،، أتدولب، تصطك في نوبتي أسنان الإمارة والبهار.

هي" الربطة" تورف حتى سالفة الأوداج، كم أنا على السدة، تريحني أعقاب الشدة، أختلي بعناق الصحراء، واسأل بلا رجعة:

من لغربة المكان، حين يجفل الزمان. ومن لحلة الزمان، حين يهرب المكان.؟

بشكل الهوة أرتعش.

تجلس النفس في قارعة الأنف.أنا مأجور الدخلاء، العملاء، أصهل في عقل الرغوة، غريق المخالب السبع. تعبت يداي من عاصفة الأسلاف، وعلى الرغم الذهبي أتوشح باحة اللهفة، وأخدود العتق، أتربع الطريق إلى النجم..لا هدوء للصدر.. في الساعات التي لا تضيق، أفترش نايات الأوثان، أدرج لسافلة الأحداق، أركض في طيبها.أمتاح مشرق الأوبة لمروج الذهاب التغرق أنفالي في ملة الهواء... أحمدها، أحمدك، أصل من بدء المشوار، تقف سعتي في جفوة المحراب، وأصلي لريح السواعد الطائلة، ونكهة الوجود التالدة:

أعطونا مودة،

لا تذروا هذه الفصول العمياء تغرينا،

يحتطبنا البأس كريش الفور.

أعطونا مهلة، أو لحظة اقتراب عارم من ذمة الأشياء.

تستحلبني الطاعات، مابين الفاقة والفاقة، ومابين الفأس والكأس، ينام تاريخي كالدم المهدور. ماذا أفعل بالربوة، حين تؤذن في أسمائي، وتغروني حوافر البين...

هكذا سواد العين: أتقدم إلى الشدة العالية، أولي وجهي صدرها العنيد، وحين يحاورني الدفء اللائط، أتمسح شق الجبين، وأفني طاعتي في حمى الموج، أنحني لمحار الأنواء، وأمشي في غائلة العبور..

سبحانك يا ضفيرة، تكون غابتي.

أخبيء فيها أسئلة العرق الكبير.

... وحين يتعب الندم في نعل الليل، أحزم بطولاتي كالمدى، وأقف على برج العذراء الفصيحة، أراود صفوة الجفون.

هي الحال تشتهي لو تتوشح كعب الغزال. فسبحانك يا غزالا، يزل التاريخ بين عشية القسوة ورحاها.

بشكل الغابة أرتعش.

تبحر فجاج الملح بين أظافري.أنا باق على المودة بقدر عناقيد الدم، أسكن هذه الجزر الرخيمة، وأرقب عبق الأقدام.. ومن أجل ليلة زائرة، أساوي بين الزند والقيد، أبتني عدة الأرحام، وأشق جيب الرمل. ومرة يا منجم الأعماق، سأقسو وأعيد ترتيب الأحجار:

الهدم بالهدم،

والدم بالدم

والأشجار لكل الغابة.

1986.

 

مدونة الأهواء الشخصية

 

1 ـ

كنت في المهب، في غرقي إليك أيها الصحو المسروق، قريبا أو بعيدا، تهيجني أنساغ

ذاكرة مخبوءة في سفر الغمد.. قادم من جزيرة مورقة، يصعدها الليل ويكتم خاتمها جند النهار..أحمل جرح حقائبي كالطائر المذعور. سنون طويلة وأنا اشد الصحراء في دمي، أتساقط على فتنة الأغصان، مولعا بلبن المعز، وأقداح الضرع والزرع، ودويلات البداوة القانية. ليلة الخامس من العشر الأواخر، خلوت بأرض السماء، اعتنقت صبوتي، بلغت بي الحال، وخرجت أستجدي هذا الوطن، أنقش حوافري على الشوق الذي ضافني. ركبت خلعي، وأنا الآن يأكلني الطريق وجها لوجه.

تركني أبي صغيرا، وبي غصة الورد، لم اجلس في الإمارة..يسيرا باعني الأهل للقيد، حاصرت أشتاتي على البئر المثلوم، على باب مسجد يؤذن فيه الحنين.. أقام الهدم في صغري، تقادم السوط في أطرافي. بحرا ميتا كان أبي، وأنا أستوحيه، أنام في شهوة الملح...

خرجت لمكة الشذا معتمرا، ينام الحفر في كتفي، يسكنني رعب الزمان، من ورقة لرقة، كانت رقاعي تمسح، وأرض الله تضيق.. تضيق. قتل أبي في صيف جميل، كذلك تموت الأشجار، قاتلت في سراحي، اشتهيت أن أغلق متاريسي على الفضاء، أهرقت طريقي في غابة العين، وصليت على باب الغربة، ألف ألف عام وأنا أحصد النسيان، أشد قافية البكاء، مااستنقع شيبي، بات الخراج أمري.

كانت أمي تبيع اللبن والماء، وتين الفخذين، مخصية العمر تنقش عينيها في غربال الهم، وتعجن فطيرتها بمشاعل الدمع..افترشها كل الأعراب، الركبان، حبلى هي، تتعرى حطاما أو تتغن، وتكتب لونها على شوق مرفوع...

تخجل الدالية. لما أنخت، ابتل عمري بشظايا الدم كفقاعات من ريح...أوفدني الفقر لمجلس هذا الحر، أنا الآن أقدد معاصم الجزيرة على صدري، أسكن لشادية الإعصار، مرسوم على لوحة السراب، وسيفي المسلول على مصرعي، آخذ بهذا الخلاء: من أين تؤكل الكتف؟ وتؤكل الرطب في أغصاني، وعلى نار الطوى تقف أعذاري.

ظهيرة اليوم ظفروا بي، جرروني حافيا، مكشوف الرأس، ما علي إلا قميص من أحزاني، مملوكا بأعتاب القيد، والناس تتقطع جلودهم، والجند على الأبواب يهتفون: هذا مسبب الفتنة.فيا أيها الوطن، إذا أنت مشنقة، فهذه عنقي.

2 ـ

هذه كف الطريق، من عل الضالة تساقط أغصاني، أرتل أنواء الجس على حرف العين، تجلس دمعة الرحيل على قلبي، وليلة ظمأى تكتب انقراضي.أي ذكرى ترتب مراسيم الغروب، أتداعى جنازة بتراء، تمتح هواها الغربان.. عمر، عمران، ينهار جدار الصبح، يحمي دفاتر العشب في أصلابي، فأرقص في سندس العبور. لا طريق ترضع سيفي. أضع خطوي على درع الشوق يؤاكلني، حبة، حبة، تنزلني سلاسل العود، ما برحت هذا القد. العين ترابط في شط القبر، وأنا مملوك هذا العوم، احتطبوني كورق الليل على جلد الرصيف.. من يأتيني الآن بشادية الثأر، أصهل في قربه، وأملي قدمي على سمة الفور، أو ألقي معاولي على خيط الرأس...

تهب جاريتي، يا جارتي من بهو المدار، أو تنيف على مقل النار، ترقص، نرقص: يا طيب الليالي الحمراء المخضبة بدم الفقراء، مابيني وبيني تدخل سم الإبرة أركان الجند، تضعني في مرا فيء العتق أحداقي، وأسافر في الأشياء كما تفعل السنون.. من درب لدرب، من بدر لبدر أستقل صلصال لشرق، زلزال الوعد. أفحين أنت يا غراب البين..

لا تأتي حضرتي. في غمدها الآن تؤكل الأشياء، تبقر الأسماء.أي تحصيل حاصل بيننا، يردينا ثم يلوينا متاعا، شاخت منا قوافل الأظفار، فاضت مواقد الأوقاف، حططنا الرحال على هذه الجنازة القارسة، سعينا بين القفا والهراوة، أكل الأخضر منا اليابس، اليابس الأخضر، فأرينا وحشك أيتها الغاب النائمة، لعل الحرب الآن تأتينا على جناح الرحب...

هذه كف الطريق.

"مايذيتاكمن أظار أذيك أنزار". ( من يستسقي القدم لتكون الغيث)

أستأصل برج رصاصي موالا يسنده الفراغ. خلافا لك أيها الحبو، أنا أمتد لعذري، كل البداءة في غلة اليم، ضاق الدرع مني، ضاق الصبر، أفتؤويني أيها الصدر، أم أبسط جداري على إكليل الصوم، وأفتل خارطتي على بارقة الإفطار..

من شاد هذا النقع بيننا، أضاع الصيف ولبن الأحبة، أغلق الوجه في الوجه، الحرف في الحرف. ما بين دجلة والرفات، وما بين درعة والذراع وارثون هذا الحزن، نشرب ظله أمسا فأمس، نركب لعلعة الحلم، ورقة، ورقة، ونحرث حفاء الشوق. شكل القسوة واحد، لا فالت بيننا.

ها أنا آتيك، أيها الطرف الآخر مني، ونوق الجسد تعانق الرماد، لا لغة الآن تحكي رميمي، يزدردني الغوث، لاجيء إلى عصمتي، أقلب سفن الإحراق، ارق الكلمات لا يغنيني، فما أكتب إليك يا قبرة العين. أخشى أن أكتمك فيأتيني البوح، أشتهيك فيشتهيني الغيب...

تتعب الطفولات على كتفي،

وارث سر هاتيك الجدائل،

أركض الليل والنهار،

وهذه كف الطريق، وأنا وخطوي دمعتان في قعر من صحراء..

سيدي القادم، النهر المتورد، العارف بهجرة الأسرار: لا تعاتبني، لم تلدني سماوات القهر، لم أك، أنا الطائر العائد من سبق الإصرار.أنا العتبة، فانتعل مداي. يامن تلد البحر، لا تولد، أمطرني جنون الكف، واحفر قامتي على جدار الهواء، لأتطاول على عباب الصيف كلوعة من غبار..

أنا الريح يا سيدي تساقط أوراقي على سغب الخريف، يقف الماء في نتوء الركبة، يخرج الغواء من شجر ة النجم.. وطني الأجير في مناجم الرعب، يمشي على أنقاض لوعة تركب الغرق على صهوة البر، فسافر في أغلالي، احتضن عناقيدي، تقدم من شهادتي، ولاتكن أثري. فلا شيء يعود الآن مقبرة الهواء.

هي السن بالسن،

الأرض بالأرض،

فمن يلغيني، يكيلني الرحيل ارتحالا، وأنتهي لحالك أيها الرصيف.

أنا يا سيدي، اللون الموشوم، تجدني مناسك العود، أشرح صدري لصحراء الفتنة، وأتدرع صليل الأرض... مشرع كنافذة تبكي عاشقها في صيحة الحلم، كخيمة يمحوها البرد. من يسمع قول التي تجادلني، وترسو على قارعتي.. من أين يفلت الغوص لأقدامي، أفتتن بطلقات الشهوة، وربيع الحناء.. أنت تعلمني بدر الغزوة، فكن عبوة العصف، لم يبق مني غير أوتار تمشي على حفيف القتل، وكمان ينخر خليج الليل.

سر الغمة واحد،

سر الرهبة واحد، ولا شيء يمحو عرق الدرب.

1983.

" العين بالعين"

1 ـ " عين الدفالي"

سيفي الآن، وقبضة الدفلى النائمة في ظهيرة الصدر... خوفي الآن، والضفة الهاربة من قرن الشفتين، في حانات الشمس، لكل أحضان الطين تمشي راقمتي على حافر السطح، وتفرش خاصرتها للقيظ، تنوح تحت أسنان الليل، وحجل السقوط..

هذا الدم غزير، يا أبتي،

والريح تغمرني كالأرق،

لعلها الآن تستيقظ الغابات من مدها. أبلل ينابيعي اللاهثة، وأبني مزار الحقل المفتون بغرة الصباح.

آه. يا أبتي.كم هي ترعبني هذه الشجرة، الشجرة الميتة على حافة الوقت، الوقت الزرق المثقل بالأغطية، والعملات الصعبة، وركض الأجساد المغتابة في حضرة النعناع الجبلي، المتدلي من ريق السواعد...

عبثا أقاتل امتداد المرايا. عبثا نمت على جنبي الأيمن، تولى الدمع انفطارا، وأغلقت الضاحية باكرا.

بعيدا نمت كالقوقعة، ومن باب الصدفة أتحسس يدا من باس الحديد تكسر عظام الخريف، وأقترب من رائحة النعش...

سيفي الآن.آن الأوان. تتقدمني أسراب الحجارات. من فوق هذا المدى الخاثر، أكره مضض الظلال، وصورة الغمد المثقوب، وأطفال الرغبة الذليلة..

ليلة واحدة لا تكفي.

صدمة واحدة لا تكفي.

حين لاتخرج النار من بيتها، تأتيني شأفة البثور، تفرخ في انقلاب المسام، وتصعدني جبال الحرات القانية...

يا آنية الهواء، لو أقول لك اتساعا... ففي جلدي تنطفيء الشرفات، ولا يصل ماء العرش، وفي داخلي ترقد أفنان القعقعة الدامية.

أأقول:

كم أنت جميل أيها العرعار المدلل. وهي الجديلة تمتد من عنقي للطاولة، أم أضع قدمي على معدن الباع وأقول:

لا محبة الآن تطفو بلا دماء.

(.. في غابة هاتيك الأشياء الموصدة كالدرب، أمعن في احتمال السواد، وأرتطم بالغبطة الشاردة.)

أيتها الدفلى المتشحة بنوئي، إني أتهجى مبهاك، وألهث وراء مساء موشى، تقرأه جنازة الانحدار. في رأسي أقراط سيدة تأتزر مسيل الوشم، وضعت كفها على شعر الذهاب، حتى إذا التقت النوق بالنوق، وحميت السوق، باضت برد الأعماق، وأسرجت ذاكرة الأملاح... وأنا مرهق هذه الغدائر المسخرة، من طفولة المكان أحمل غموض الدفلى، أراود حتف هذه القارات المخبوءة تحت أضلاع الغوايات، ما اكتملت عقيرة الأمومة:

هذه الصرخة تبددني،

ليس لنا غير هذه الدفلى.

ليس لنا غير هذا الهبوط،

فأي هاوية تجلس في مجرانا.

2 ـ " عين حرودة"

أقيس هواك الآن في منتهى الصعود، كأنما تهرقني المودة في الساحل الغربي، أركب الظهيرة وأرقص على زبد العين، أدقق الصمت في بلاط الأسماء، وأصل لشدق العبور.زمان آخر مني، تذرفه تخوم الليل، يستهلكني في بدء الذراع...هكذا يشتمني كل الجدار، الجدار ذاته الساقط في بئر الحبو. ما انغلقت صهوة الذهاب. لذاك أهمس في خوائك الليلة:

أيها المراد المصطفق،

سلاما،

أيها المكان الطازج:إلهي

أيها الغاضب

من يكون هذا الرماد.

جالس في زريبة الكون، حقيبة مسكونة بالهجر. لا أحد يتفيأ الظل، مذ هربت من وقوفي جلبة الأقواس، وضعت طفولة السدر على عروض الشفتين:

لا أنجد هذا السور.

في كل قامة حب مسقوف. إني أرى قافلة اللوعة تنطفيء بين الإصبع والعتبة:

أيها المغرب المعقود،

علمني سر الخيط المائل،

كي أغتسل من شائعة السراب.

أيها الواقف جلدي،

إن هذا الصوان يلجمني، ويشرحني لبرية الهواء، وأنا أتدلى. كيما أرسم في قيد هذه الأنملة عبق النهار، وارق الصحراء.

قالت لي الصحراء: ( أوا ثكافيد حرودة أوا ) " أقبلت حرودة".

ورأيت في ما يرى كل النائل، خلاخل تعبر قساوة القلب، وغيثا ناشرا يولول على عناقيد تتوارى بين الفينة والفينة، بين الفئة والفئات، وأجراس الإمارة تكسر وزن الرحيل.

أنا من لا يرحل،

ترتديني أعمدة الغيم،

هاتوا بداوتي، كي اذرع قشها القديم، وأبني فيها خيمة الأظافر، وأطلق فراغي في جثة الريح:

إني لا أبشر بالتداعي،

دمعة واحدة تكفيني، كي أغرق العالم، وأمسح عنه نكهة الدمن.

مائلة هذه السنون الجرداء، مثلما تتنحى القبائل المتهدلة. كل شهوة اليوم تلبسني ثياب الخوف، ونفايات أليفة تتعب في قارعة الدم..

هو ذا فوق ندى الرأس،

كي لا تقولوا: عم الرخاء.

أنا ألقي بقابض العرق، وأنفخ فيكم هذه الفوضى الناشفة، عم الفساد في يرقات البر، مثلما تنتض الأيدي في الشرفات العذراء، أناشدكم:

قولوا لهذا البر،

أين تنام أسرار البحر؟

ولهذا البحر

من يوقظ طاقية البر؟

خلف الجدار الطاعن يشدن الغبار الدامي. عين قافلة عطشى تنوء تحت البطء، بالسلاح نفسه، بكل أعقاب البنادق، يركع هذا الهارب، ولا ترتفع صومعته للدخان.

أمام الأمام، باب مغلق المسافات، تحدق فيه سلاسل العيون، وأرصفة الغروب. مائة بالمائة هذي الظنون تحفر نوبة الحزام. الطعم كله. اللون كله.هذا كفيل بالصدر.

لو أكلوا التفاحة، كنا أكثر اقترابا من سواد الأهل:

أنت،

أيها السواد الأعظم

أين تبدد رغوة البياض،

وتسرج كبوة الأعماق.

3 ـ " عين عرمة"

على هذه الآنية تفيق من كبريت الوقت، أو تسمع طقطقة الرغبة في الأسنان. لو كان السر هاهنا. ارتطم بهلع الوعد.

أيها العارم، يا وجدي،

أي راع منك يرعاني.

فحين يؤوب المدى لخريف الأضلاع، أمشي في غموض التين الهندي تقتلني أوتار الطول ولا يرتخي قوس هذا الحبل.

سماء ميتة في بردة الخلاء، تحفر الظلال نجما، وفجوة الغيث تحرك دفة الأسماء. ما نسيت أن أصب فتنتي في جفن النافذة، وأرفع تاريخي كالمطرقة.

( ما ضر لو تأكل الصرخة هذه الضفدعة )

داخل رأس الغمة الثقيل يؤثثني صخب الهدوء، تشتريني دالية منسوجة في خلوة المشي. لو خرج العشب من قفص النهر، قال:

إن الساعات تموت ظمأ.

لو رقرق الدم في أرمدة الخيل قال:

لا ترجئوا الحروب،

لتمض هذه الخسارة،

لتمض هذه الأرض المبددة،

لقد تآكل اقتراب المحطات، ولا أحد في ريش اللوح يرف لحظه للعناء، كل الأدراج تنحني، ويد اليد في منتهى الإعياء. لتدعني هذه العهارة. لتستعد هذه الأرض امتدادها المكفن في اللهيب.

هكذا أطل على ساحات الغوص، أتسقط ذهول النبض، فوق عبوري يتكيء القاهر الأيمن، يتعلم كيف ينحر قدح الصمت.بنفس الدوي يتهالك دود الطريق على جسد الاضطرام، وتيبس أعمدة الريق في زرقة النهار...

الطاعة، السمع، البصر... أيها الشارد في ثلج الصحراء المدببة، يأكل الوقت، يا غصة الوقت، أشتهي أن أنام في حشو الثمالة وأوغل في يقظة الصدمة. فقل لي: ما اسمك الثاقب، لأتقدم نحو سماوة البدء، وألمح فيك جلد الشساعة، وأحضان المودة المغلقة.

انهض أيها الشارد المتدلي من تاريخ المذلات، إني أرقب ارتخاء الحراب، وتابوت الروح، ومرايا تخضوضر، وتغتسل تحت إيوان الدمع، تتقدم نحو صفائح العين، فابدأ احتراقك الشاخص في لحمة هذه الأزمنة البلقاء، لا وطن في مداك يلقاك، إلا ذراع الوحدة الشهباء..إرثك الوحيد اليوم أن تقف واحدا وسط الهاجرة، وتفتح هوة هذا الجسد المخيط برشاش الانفجار، المولع أبدا بذبح الكمان..

4 ـ " عين الحنوش"

شريدا، أترقب جني الأحجار، وطاولة من فوضى تشرب ليالي، تنقر نافذة السماء الراكدة. الراقدة هذه اللوعة على سرير مثقل بالذهول. يينع الصوت. تينع الأسماء، فتعلن الطبول بياض الغربة.

صار الهتاف وجبة اغتسال، يتكيء على صدري كأسه السائق عربة اليأس.إنها دابة الدائرة تدور. ما ذرفت العمر إلا دمعة تثقب سرايا الرأس، وها أنا أرشق سيبة الفحم، تثاقل أهوائي في حمل العصا...لو نام احتمالي في درهم الطفلة، انحنيت قليلا، استبيح ذمة الزبد. كأنما يزحف مني تاريخي المضلع، وينطفيء في وداعة الثعبان.

خيرا إن شاء الولع. إني أتفرس لهب الرمال، وأبني صدأ الولدان في بادية العقم، أرسم حقيبة الصوت في جفوني، وأتناسى الليلة استطالة الجمر في نهاية الجسر.

السر المقعر، الجارح هنا في دومة الجيب، وطلقات الجوع تشاكس قابلة الروح، لم تقم قائمتي بعد.. في ضباب الحقيقة أطرق باب الرذاذ، تغمسني الكعوب الزائفة، ألتصق بالمبنى المعاد في باحة المكان، كي أضرب عنق هذا الصيف، واصل إلى فوره.أقول:

سأموت من جرائي،

يادملوج الرحيل،

إني ذاهب إلى وجهتي

أعتصم بحبل الغرباء0

العود ثقيل.

ثقيل ماء القعر.

تولى الطعم، الدهر كله، أغرق في أثناء المهلة، أحد لا يمهل شفة الخطو.لو دك هذا الصحو عظام الجبال، استرحت على منشفة الصباح، كي أستمتع بصفير الآلهة... لكن موقد الموج يملأ سعف الطين. وأنا أتولى زمانا تنضجه نوق العياء، ووعول الشتاء..

في معرض انحناءاتها، تدخلني المحطات، تودعني أعناب المسافات، على امتداد الأغصان، تستيقظ الشقوق في كل أشلائي.أعد موت الأصابع المواظب...

هذا الدم بعيد، يلهث في ملح الماء، وأنا أسير من بطن لبطن، وبالداخل مني، الضالع في قارة العروق، يترقب قيلولتي حنش الماء..

( حتى لو عضت سرك الآن كل ثعابين العصر، فلا تضع مودة الحبال).

5 ـ " عين الله"

لك الرايات.

في سراياها تحميني أحجار اللذة، غذ الطلقات سكينتها ترقل، يأكلها رشح البيوتات البيضاء، أطبقت على الرود ظلالها الصابئة...

إنما هذه الذروة تفلت من برأتها. فلا تمض.

لك الخوذات، واحتلام اللغات، في سوسن الهبوب، ونشيد القوقعة الشاخصة، تورق في وشاحها صبوة الرعاة، ورقصة الباع في خلاء الغابات...

لك الثارات...

فلا تمض.

أنت ترى وجهي في الماء، وانسداد الإناء.

6 ـ " عين عائشة"

أروم خابية الظمأ، جادة الحميم.أمتد في لف الكحل عرين الدمعة الأزرق، شاهد الشتات... لما دارت الريح العقيم، تناهى للسمع مغل الطفولات، ترشح تحت هضبة السندان، تطويها الظهيرة وعلق الباعات...أخاف قوادمها.هي ذاتها رائحة العتبة في منتهى الفلوات...

تجري الدمعة للمستقر.

يجري السيف للمستقر. هذا الذي تصلى ببدئه، تخور المدفأة. غشيت الصدر مرعاه. أقفل الرب هواه، واستوت النقمة على الجودي.

في الأقاصي هذه القرة. تعبث بضوئها الأسماء.لا بالنبض أغرق، أنام على أريج السلاسل، ولهيب الضفة، في حضرتك الآن انقر صيحة الرحم الشاهق في ارتعاشة الثأر...

إني مؤيدك بالأطواد.

أبدا مفتوح الضيق.

أطلق ضجيج الوقت: هذه الذكرى الزائفة. ينكسر ضوضائي على امتداد الرقى. جدران تملأني الفور، وتجرفني بيعة الأرجوان.

أصمك كالشمع.

يستهويني انهمار الظل الأعزل. أكون في الجملة والتقسيط. دمي الريع.

فداك أيها النائل، كن دليلي. ورصيف العويل...( كالخيط انطفأ خرير القبيلة. مابات في القدمين غير نخيل الرفاق، الحائط الأمرد، وجراب السبي القديمة تهدم الأغصان كطلقة الخريف.)

يا مجيء الشهوة.

هذه أرضنا تراق على دين الخيبة.

ترحل الذروة.

( اشتدادا أقول: إذا وصلتك بشارتي هذه فاقطع رأس ناعيها.)

تلك المعاقل تأكل خطانا، وتشيد صحنها على رق المحطات.

بعض أعطيات لا تغني،

عض الأمنيات لا يشفي.

ما يحفظ الأعمدة غير عودها، هكذا تولد العودة، يا طين الخلخال، فأين قبيل انتظاري.؟

هذه أرضنا تستحم على صرير الهدم. قديمة أعراض هذا الحاجب الساري في غيبة المولى يناديه..أنا من ناديته: الأرضة في مائي.

يغرس الغرق نبعه في انكفاء الفصول، مداها أنا الكوكب المتدلي من شرفة المكان، أحمل عراقة السوط، وكبرياء "الند".

( ما لغة السلم إلا غباوة قديمة.)

وأنت أيها الحاجب الصاقل حجر المنفى، قل: هذا زاد القرب. دالت في ظله عوائد الحريق. ما كان للحرب هو للحرب.أنوب في علب الضراعة إليك. هب أني مجنح يرشم تهاويم السورة، واحتضار التنور والمحبرة. إنما محجتي لهاث أسود، يعنيني الوصل، يا همزة تقطع لذة الأكتاف:

( ديخذ آشم لاماخ أوريذ آشم آغولخ.) ( جئت لأعاتبك، لا، لأعود إليك)

أطلق جسدي في طرة العشايا، عليها استراح الشفق الخافق، أبكيها. سنون تلد وجهها غروبا، كأن المدى لا يمشي. يوشيها الصدى...

أرمل هذا التاريخ.

لو لم تأته العفة، أطبق على الترائب كبادية البخار. أما تفصلني عن ظلي يا سائر الريش المسدد، كالنملة الشعثاء... نهار يأتيني له في كل حجر بصمة حوراء. أيها الطائر المبارك: لا تلقني، إنما ألقني في يمها...

قالت عائشة:

من أين يرميني هذا المتحرك؟

وأنت أيها المطوق، ترسمني جنود العامة، متى لا ترتعد الأرض، لا تلقني. إنما ألقني في عدها.

مواعد باردة تريني، بارد جموح الرغبات، في عمقها وضعتني، يا أغصانها الدانية تستبقيني، تلك أرضي، تغريني كلألأة الريال، يغرس صرخته في هلع "البديع"، اختلجت ينابيعها، ما تزال كرومها الوكثاء، تحدوني، الراقدة في مشتهى المشط، تهبط أعراق الكلأ المصلوب على خلة البدء، تعطيني مراعي اللحظات، كأنما تأكلني أنامل الشتاء... لوعة باردة، تعروني، كالبراري المغمضة...أهلا إذا الرصيف ملاذ العثرة، يرن صلدها كالصومعة.( إنما بعثت هذه الشدة لتمم مكارم الإخفاق.)

هذا، التعب.

حسيرا يسهر الرمق.

آه. يا جدائل " أغمات" الساقطة، تداعى إلينا السواد. مطمورة هذه المسافات. بابها لا يوقد.

... في انتظارك المتودد، يحملني وجد المشارف. آه. ماذا أفعل. يا"عائشة"أم القادمات، حين تتساوى الجهات، وتركض الأوزار في عارض الأنقاض، ولا وطن يلبس اعتذاري.

ماتت الخيل. بلل المغاور تغدوه النكباء، بورا، فبورا، يغشاها المنحنى الصاعد، تغزوه أغماد الرضاع. أرضعتني " سجلماسة" دويها المتسلق أغاريد الغبار، ونقيق الواحات الدفينة في اغتباط النخيل، وأودية العناق.

ممعنا في الظرف يدلف المكان، يرتع في تباريح الشراع، تناوح في حرمة المرافق... قد تبطيء السيوف حتى إذا اقتدت الحناجر، نهضت ألواح الحادين في اصطفاق العيس، ترقص قبالة الهذر..

لها اللغات المشردة في فراغ الرحل، تغزلها الصوارد المسروجة، لها الفتنة حين تستيقظ، ( بارك الله في حطبها المشرع، حتى لاينام) وريث السماوات المهجورة في ضاحية السنين، يرقم صببها الحمام...

هاهي تغشانا الأرض.

أصفقت لها أغصان الذكرى. فوق جلاجل الساعات، ونادينا. هبت العصافير تنقر موانيء القفر المهتاج، تصاعد منها وريقات الصيد المعشاب. يتكسر التطواف. بعض هذا الوقت الغائم، يا من يأتينا على البطء.. في بينها كانت " عائشة" تيمم باشتعال الخطو، تستنفر ممرات الصحو لرفيف الحرب...

لديها البيان لو أفصحت، وانغلق خيط هاتيك المساءات المبثوثة في هبوط الدم، وشجر القابلة.تلك صحرائي الخالدة، أرقبها، مرة تأتيني، فتفتح ريها على شقوق النبض.إني وجدت فيها ريح هذه القيامة القادمة.

7 ـ " عين اللوح"

...غيثها الذابل على الشفتين، أسير المطايا الصافنات، تورد في عرق الأجراس، وطنين اللذة...

صيف مغلق يأتيها.

أمي الآبدة تشكوني. ذاك رباطها المدلج، وجهها الصامت كالعري، تتمدد على رفيف الدهشة وقشور الذكرى. آه. أشياؤها المنحدرة، وغابات الميلاد المعصوف تذروني.

هاهي تنهض من ضفيرتها، وتقطر الهواء، وتخلي صمتها المتجرد لردة العشاق الآكلين إجاص الوقت. ما اسمها هذه الرعشة، الآهلة تخبو في غسق الجماح، وتسدل أغصانها على الطين:

نهارها: طفل يتوسد الهاجرة.

وليلها: خوف يأكل عقب الجدران.

فاح العطش، قتلى الآن متكأ النور، تسربل الدفء المطروق. وصلت ريحها تحدق في سفر جديب ينبو. أهي رصيفه الآمن. كمين النشوة في خراج الضفاف. تعلوها السواعد. هطلت. خطوها المسدود. هناك آرامها الساحرة وطيوف الله الساحرة.

لوحت...

في كل المفترق، ظهيرة نحاس، تلبس فتوة الجذور. دعني أجلوها في شفير البوح، سرها، بابها مضجع العراء. يغشاني صبيبها. إني أحب كفنها، جارفا، إذ يتعب الظل، أصرخ فيها:

كوني لوح النهايات،

أسألك بالرواسي، وآلهات الشتات،

ضارعا إلى الصدأ، يأرق قبالة الغصن. كيف أبدا ساعة القبض، مرشوقا ألوح بيدي، تحت مرارة النداء..

يا للقسوة. إذا الوادي يأتيها، تعبث بخطوه الأصفر، يكتب هواها ويمضي، تمسكه الغابات. كأنما يغمرها ضوء الحلول..

في كل الطرقات تستيقظ الخطايا. لاح بدؤها. تاريخ الدموع بابها المشرع. أثمرت القلادة، ونادت ربها، فاغتصبها اليباب..

ليس هذا ما أبصرت.

في الدارات القديمة، تهتف أن انظر إلى السماء ترتديني، يخاصرها الملح، ويغمس جفن التضاريس في الفقدان... بقايا من شذاها اليابس في بطء الزمان. هي الأرض الواحدة المشاءة بالأعماق، تطلق هديرها، وتناوش حريق الأوردة، والقدر الجليد، النائم على أرائك الذهول...

ليس هذا ما أبصرت.

( ما يزال ثلجها المفتوح، ظامئا، تخون شهوته الليالي )

من أل خطوة باردة، تشرب السنون دمي. فيها إذ النهار بهار يتوكأ على المراجل، وقطاف التداعي أضاءت عبقها خارطة اليد. في خصرها تهبط مقبرة خضراء، تلملم عثار السهو. ما للأنقاض إذ تتوجه صوب الأعشاب، تأتيني راقيها، وتقفل نواقيس الرغبة في كتف الرصاص..

أين أخبيء، يا رمق الجسر بذور الأوبة،

وسنابل الزوبعة.

وما لهذه النيات الكاسرة وقت.

إنما تلجمني الحارات أن أركض في سيبها، وأوشي رداها بالغوغاء الصغيرة.ليس هذا الروح إلا عولي، يرشقني غسيلها الفارغ، إنما صدري رقاص الهجرة، يهرب أنف ناقتي في سكينة الغرقى:

حنين ناهد على المعابر،

جاءني ملء الرحابة،

يسرق كعبها العاطل، وينقش في الجهات عوائد الأثقال.

لوحت..

ومن بعيد كان يلتقط رملها دجاج السريرة.

وقوفا بها..

تلك قوافل الخيمات السوداء، ترقص في ماء الرعاة القادمين من شقوق الترحال، تؤرق مرمى الرواح.. من يمسك بغيضها، أثخنت ثلوج الدق أوتارها. تلك آلهتي، يفر مجراها، لاحقتني في غور الحناء المرابط في وشم الصبايا ينقرن عتبات الضجر الغائم، وأصداف الحقول الرخوة المتهدلة كلبدة السيف، تقضم نوبة القلب..

السماء باب قلبي.

مازال في بهوه متسع للطبول، والمرافيء الخضراء، إذ ترويني...

هذا ما أبصرت.

هذا ما أبصرت.

8 ـ عين "كرمة"

 

حقائب ميتة، تساقط في خطوي.

أطلق هذه المسافات كالمرايا، تخبيء وجهها، حتى أكون بادية الإسراء ( خواء السواقي، والدلاء الفاغرة).

من رتاج لرتاج، أشق جيب التحايا، وأرجوحات الغمام..

واحدا يجيء الجمر، ترتديه كف الذكريات..

مثل الخطايا تلملم دمائي صوفها، لتتلبد بالهزائم، وتتوارى خلف طقطوقة النسيان..

عنب الهوادة جالس في رخاوة الظل،

وأنا، خوف الكرمةيشبهني.

9 ـ " عين السبع"

... ولما ارتوت الذراع، خرجت من طامة العذر، انحر صفائح الأولياء... على ضوء الهاوية جاءني بسورته، بالسترة الدكناء كالعطش، أوقف اللظى في زيه، وانفض الحصى. لا فض فوك أيها الطول المدمس بلوعة الكسور، إني عابر السبيل إلى غنم، لا تغريني المناسم ورطب الولائم الزائفة...

أصحو على وهج الدوح.

يا نوح العتمات أدلج. أنت قضمت سفائن الأواب والبداءة الهاربة من جسد الماء، فاسترح قليلا من برد اللهفة...

هونا على الطريق المعاثر، غنما الليلة نبضنا، ترتوي من دمنا، محمول البذل الآتي، من شيمة الفتح أن تفتح الساقين على ريح الصهوة.. سلاما، أيها النديم في انتظاري، تتذرركالمزاج اللاهب، وتهدهد غيبي كدفء السارحة.

... منذ زبد السنين الفارعة، أملأ آنية الصلاة، يقظان وأنا في حال الحال أرسم الشبه وجها يستطيل في رماد الرعب، لتكون أنت المسلول على الشقائق، وأراني ذات صباح، أركض في السر والجهر، وأنقر صرعاك، وأتفرس نجواك..

لمداك النافلة الجموح، وركعة البوح...( يا مرعاها السائل في لبدة الإضرام.)

... في أرخبيل اللغة ذاتها أتعثر كالغريق، ترضعني العاصفة لقوها، أمد جندول الشكوى عبر النافذة، وتسقط مياه السياج كالمساء الصلب، حين يذروه ناب الفناء..

ما أثقل دمع العبور.

مثلما العائد أسند الراية للغاية. وتلبسني جذوة الأبواب.

أنام في خفيك، كحبال الصوت، سيد الأصوات أنت، وطنا يسرقني، كظل شاغر ينهض من قلعة السواد، ويغلق شجرة الحرب..

ليقترب سيدي من عبده العاني. إني تحت رحمة العراء، أخلع خوذات الليل قريبا من نسيج الأغماد. أمشي كغمامة من البنيان..

ليقترب سيدي،

من دخل الغابة فهو آمن.

وكن سيد السباع، وافترس مآمني.

... سواقيك، يا خوان الدروع. ما أكلت إلا لينجع الصليل من صلبي، أكان الصدى يعرفني، أم يطرقني، تخوم الرغوة آسر هذا المضاء على ألفة الرمل...

استفق مرة، لا، لترى، أنت الرائي، الرابيء، تثاءب من رهبة الحتوف. يا ألق الرغبة المتسلل عبر انجراف التوبة والأتراب، تختزن ماء الرقبة، واشتعال الصائر. هل أصل من عصا الزناد إلا عاشقا،

آه، يا عبق الآلهة لو تسمعني.

خلف الذهول، تتصدع وردة الذهاب. أنا من خوفي، يرميني خوفها. لها ود الحمى المتثاقل. إن كان الطريق هوائي، سأنهض من ضجيج الوحشة، ناقما كالرحى( من لها بدوي الرقرقة).

كم مرة استدار هذا الذهاب، يحفر الدم لكل الدم زرقة القبر فلا يقع. هذا زمانك المقلوب كقبضة المعتوه، تسهد في قيافة الثأر، والشظايا الشاخصة في حدقة الأصداف:

" ضربت الحبل"،

ضربت الحبل يا حادي السويداء، تستدر الصخر لبنا في خيمة الصيف، وتخرج لهواها المعقود الأقران، كالمغارات القديمة. ليتك تغرس حلمك في لجة القتاد، وترسم قلق الأساور في دومة الرنين:

يا رنين المحبة السائل،

المتهدم، الذي أحبه،

تعال، يا صدأ المدينة.

ما أعطاك الوفر يا سيد السباع؟.توثق الجلد في قارة العياء. بات الويل تكملة. تكلمني الطباع. علام ضحكة الباهت؟.قل ما انتشيت. يا هذا، إن الثور يقول لك: إنه حامل الصخرة، فلا تسخر.

... أشهدتك الآن على جرد المواثيق، فامنحني زئيرك الزائغ..

... ولما ارتوت الذراع، دارت الربوة أن تسير، رفرف الإناء في هوة السكر. قلت:

ليقترب سيدي من طريدته..

..ربما أيقظتني الصحراء في هدأة المحاق، أو غمرني شكل العصمة في حمى الغور..أطلب السبع المهاوي، فتندلق الصبوات...هل أنا فائض القمة العارية؟، تسيخ خطوي في سهم النير كريش الغبار، أمسك بذوائب الحال، ليقترب سيدي من حرمة الإغلاق. الصرخة الخارج منها. أنت. المائل هذا المستقيم. أنت.

.. تتسلقني القواصم رحيلا في جفوة الحدود، كأنما تأتيني فصيلا: كل الديموقراطيات للريح.. ليقترب سيدي من فيئه، ليقترب من عبده المغلول. لو لم يغزلني النفير قلت:

أنا سوام هذه الأزمنة،

ليس لي غير قصعة المسافات، ولجلجة البراري السانحات،

فكن سيد السباع، وكل طريقي.

 

10ـ " عين العودة "

أوقعني في الشرك،

قال: لا تعد تكلمني.

أوصدت نوافذ الدمع، ونمت في جريد السرو.

قلت:

أي اللغات تقفوني( جابيها الواقف خلف الباب، يهددني كالحصار)..

وضعت حقيبتي على برج الرحيل. وفاضت.

وزعتني الرساتيق كاللون. واستراحت الأرض من طلحها( الساقطة في مجرى الهواء، يأكل رمانها السلف الصائح.)

أطفأت شباك القناديل، أوشكني جمرها. قال:

لا تعد تكلمني.

خزف الأمنيات لايعنيني.

... ولما رآني، على أرق التوت. ساقني للتو. قال:

بايع قلاع الجند.

قلت: أبدأ بارتهان القبر. وواصلت الطريق.

 

11 ـ " عين القرية"

الدمعة قارسة.

والقرية نائمة.

ولا أحد يملأ شرفة اليوم.

 

12 ـ " عين الكدح"

شقوا صدر هذه التفاحة.

لكم نصفها،

ولنا النصف

لنا التعب،

لكم الأنطاع والبرود،

ولنا الهواء..

1986 ـ 1989.

 

 
 
 

 

 
 

ضيوف الموقـع

سعيدي المولودي

 

دراســات

 

 

 

 

   

     

 

نصوص 1

 الذكريات والحجارة

  تلخيص جراح قديمة   

 " ديموقراطية في سبيل الله "

     

معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقة تعــريف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع   خزانات الموقـع صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

موقع سعيد بنگراد - تاريخ الإنشاء: نونبر 2003