معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقة تعــريف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع   خزانات الموقـع صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلاما

 

سعيدي المولودي

تلخيص جراح قديمة   

( نصوص سردية )

 

    فصول المودة العتيدة

مساء ذلك العام، كان الأفق داكنا، كالقلوب المفجوعة، تتعب في هواه السحب الراجفة التي تشد الوهاد والعتبات،

وتتناثر على سطوح المدينة الخافقة، النائمة كبئرمن الحرمان، يغزوها الصمت والحلم الأبيض، الأبيض المسافر في ردهة الأوان.مكسورا كان يتبدى الوجه القادم، القائم ، ترقبه الشوارع وتلبس غرابته الدنيا.أطفال من الغابات يسرقون الذكريات، وتاريخ مهجور يسير وئيدا على حاقة الدمع، والسماء قريبة من كرة الأرض، والصبابة العمياء تغلف وهم الغبار، حيث ترابط أحزان صغيرة ترسم موانيء العودة، وبثور الساعات الآكلة التي تمر كالحريق تلتهم شتات الطريق. لاتمضي تلك السحابة.

كأنما ترسو على شفة المدينة، تذ يب صدرها، وترمم أوزارها.خيط من الأعلى لحدود الدارة يملأ الحضرة خوفا واتساعا، وبوابات الحر توشوش في هلع ن يحنو الصغارعلى رصيفها، ويتقلب صريرها على ملكوت الأفق الذاهب في الرغبة...

يقترب المساء صورة لوباء قاتل، يتصدع كالبكاء، يتعالى الصوت أو هكذا يتخيل المارة، وتبدأ ندف من السسواد الأسود تهبط الأعماق. ألف شاردة تنتاب الأضلاع، وفتات البرد يواصل دورته، بينما دخان الضايات يتساقط على السواعد المكتوفة يرحل فيها التعب كالنملة أو كالهيجاء...

على السفوح الجرداء المصطفقة، تتبعثر خطى الضياء المشنوق، وتتعانق موائد الحقول كالأتراب، معطرة بدماء المغمورين، تتراشق في نداهاطيورغريبة تحلق في غفوة، كأنما عروش الزمان تمتد لتملأ العمر هوادة وتغري سفن الحنين بالاحتراق... ظلال هاجعة تتوارى خلف المدينة، وصبايا في عمر الحجارات يجارين الغروب، ويتمسحن أركان الأصيل الذي بدأ يمتزج بلظى الهاوية...يقول الحائط للحائط:

ـ كن رفيقي، وازرع مودتك في صلب الذراع.

على الطرف الآخر تتبدى القرى المجهضة حطاما، وبقايا حرب طاحنة يمضغها الأسى الناصل الذي يرتق مغارات الأنفاس ويغمر الساحات ودقات الأقدام.

ما الذي كان يفعله هذا الوقت الواقف ؟ الواقف في غرة الباب، لم يسألني.ولما سألته أرعبني، وبدأت أتحسس دمه في الظلام، وملامحه في هدوء المدينة المغتصب. أقول له:

ـ أين تقع جزيرة المودة ؟

ويغلق أزراري كجزار متمرس. يقول:

ـ ها أنت تبتغي تعبك. لاتعد المرة إلى معالمي.

أشعر باهتزاز غريب يخض قوادمي. وأرتدي حالي.

كم هي ميتة هذه الأسوار المرصعة ببول الفقراء. السحب الكسيحة ذاتها تحبو نحو عنق المدينة، وجحيم المدارس المرة يقطر ماء فماء، يلتف ا لشارع بضيق الكتف، وتتوزع المجاري خطوات مجهولة ترفرف في الساحات الغامضة المجبولة على السراب: تخرج الروح، تيبس النافذة، وذباب المدينة يركب الصبوة. يخرج الطفل، وتبكي المدفأة...

ضاعت الطاعات في سم القبر .ولاأحد يرفع سبابته الآن ليسأل: من أسس قلعة المودة ؟.

كان العشاء مبللا كالخريف . يغرق في الطاولة زند محبة عتيقة، وتبادر الباب طلقة الليل. أفصح القلب. عيني على هذا الدفء أسرق نبعه. وأمشي مكللا بالدموع. تقول القادمة : إنما الراسخ عمر الغرباء بين الحد والسيف . آه. إنك توصد غرفة الملء، وتوشح قلقي بغصة العصيان.

لم يسمع الطفل صليل التاريخ المدمى.خرجت المدينة من المدينة. مات كلام الأوردة. أرخى الشغف عبوره وانتشت القرى برغوة الصدى.بات ما أصبح.والمدينة شاهدة.

الصخرة واجمة.والمدينة كانت نائمة.

أيقظت الريح سيلها، ورحل البدء دبيبا في الرموس، غنت الطفلة هولها. وترنحت المسالك وأعشاش العائدين. رائحة شيء ما ترتج ، وثياب المدينة ترقرق. والصغار من الأسفل يطلون. ( يامن ترون أسفلها. ‍‍‌(،مدت الساقية ساقها، لعل الهواء يرأف بها. قال الشخص الواقف:

ـ إنهم يأتون من البر. فأغلقوا كأس الصحراء.عيونهم المدوية تصرخ في رقابنا.وإذا لم يكن من البر بد. فاقطعوا خرير المودة.من أحب الحجر رميناه بالحجارات. ومن تعلق ركض المناجل استحصدناه بالمناجل. ومن تيمته نايات الحقول أتينا حرثه أنى نشاء.النيات بالنيات. وكل امريء نأتيه من جنس ما نوى.

التوت أغصان الذاكرة. وقف الماء في خلوته. دلف العشب لغلوائه، واهتدى الطفل لبردة الصغر، يشيد في شقائقه جنة الحال والمآل. والسفر الثقيل يجرجر صواريه، ويروح مثلما يغتدي.يهد بنيان الحضرة. شيمته أن يغرز أطيافه في صروف الطريق ويفتح قفل الإغراء.

(تغريني السماء بزرقتها، والزرقة بسمائها.).

صعدت الزقاق أبراج هادرة. ونامت السماء، ولم يبق غير نافذة يتساقط ريشها وتفتر عن داخل محشو بصمت المآتم البكماء، تتسلل عبرها أوراق شاطيء يمتد ويستوي في ظل الليلة. تتهاوى كحضارة قديمة ( تقتلني الحضارة كما تقتل البدوية قملها ).

كسر الطفل زجاجة السؤال. كم هو بارد دم هذه الأشياء. ولكن لامفر من أن تضغط علىا لطريق مرات، مرات، وتخيط الساعات بملح الحضور وتبدأ هواك من حيث تسري رعشة الموت في خوابي الأعداء.

* * * * * *

كان الرحيل ميتا. يتدلى في خلوة الأدغال الرحبة، ويجلل عمران " القشلة " ببطء المهازل، يندفق فيها الملأ مختوما كصك قديم. متاهات غريبة تتطاول كاليباب. تهدهد المدى، وتنشر أغصانها على الانتشار، تتراقص في امتداد الرعب..مطر خفيف يرش الغابة الصغيرة، وينهال على رواسيها مشبوبا، تتوالد في رهبته زنابق الروح الآهلة بالغضب، الموشحة بجمر النوى، وشؤون البيوتات الكئيبة، تتقاطع أشلاؤها كقوس الله، يتلاشى في قارعة المساء..

تمشي المدينة وحدها. وذاكرة الليل تغلي. تحفر نداها في الساقين، وفي الشارات المتئدة، بينما تتكيء الأصوات على الجدران الصابئة، والأسماء تقرأ جلبتهافي وميض الأرض الكاسف. ريح الشمال إذ تدنو، تخلد للعراء، وتتخلل ضفائر الصبايا يرشقن الشارع وشبابيك المدرسة المركزية، وأحواض العنوان التي تركب ظهور الأمهات. لوحة المراتع القديمة، تتورد في الضفاف، ونجوم مبتلة تتداعى حول " القيسارية"، إذ تتآزر سعف الليالي الرابضة على فوهة القداس...

ماكان يغريني أن أترقب هذا الشبح حتى يداهم أسري. خيمة جامدة في برد " الزاض" تملأني هياجا وتنسيني أعباء الحدود. ما للطير لاتغدو هذا المساء لوكناتها، يغطي موجها صدأ الليل والافتراس، ولغات الحذاء العسكري القادم من رعب " إيفران" يتسلق مهاوي الكلام وأسلاك النور...

ما لهذه المدينة تأنف عن البراء ؟

وحدها. أمي في هاتيك الليلة كالعادات نشرت غسيلها على السطح. لتنام على حلم عريق ينثر مداريه علىقبة الصباح. قالت لي قبل أن تغمض دفتي العباب :

ـ ما لهذه المدائن تخبو. ويرتج نداؤها. ثم تنقبض الساعات في يديها.

سألتني الدائرة إذ تدور... وقلت لذلك الواقف:

ـ يا متكأ الأوضاع. ماعلمتني إلا أن أدق هذه الأبواب. وأنفخ في وجوههم ريح القلب والمزارع المخبوءة...

أرخت المدينة جدائلها النحاسية ونام الهواء. مامن خفقة إلا تمزق عبر عبير الرايات. ترفرف على الصدور،وتحطني في معبد الذكريات . أصلي لها. تحملني أوابد الغربة، وزوابع الأطلال، الشارع وحده يومي، أعيد فيه ترتيب الأسماء وسوانح الأحلام، وجسور الضحك الجالس في ترائبي يحلق في نشيد غريب يذروني ويقتل مداد الخواء في أنف البعاد...

" عقبة الزبيب " أنسي.

وحدها المدينة كانت الشاهدة. ترتب عناد الأشياء وتكتب ردة الأسماء، وتسرح في خوف الغابات الآبقة تؤثث الكلل.

ـ هل بدأت الحرب ؟

أي غريق يلفه الهواء؟ أي السلاح يضمد الجراح، أو يملأ الثارات وهجا؟ لا يولد في سرها غير السؤال. كذلك طفقت الشوارع تتصدع في صمتها كالخبز اليابس، وتتوغل في دمها كماء المودة...

* * * * * *

أطرق الصحو في قش تلك الليلة في المقهى ذاتها تجلس المدينة. يحطني السيل كالعصا، متدثرا بالعياء، أشق الرقم وسمع المناضد، كأنما هواجسي تسكنها المقبرة. من يصدق هذه الساحات. من يبكيها. والدائرة إذ تدور، ومواقيت الإلجام، ونقاد الحدائق والأوراق، كان صدري الخشبي يهبط كمقعد مدرسي. يلفني الصبار وأعواد الحنين مرتطما باللغات الهاربة...

المحطات واقفة. وأنا المثقوب تناوئني حمى الأرصفة، أشهر عرقي في مدى العين ( أرأيت كيف كانت برودة الحال، وكنا أبرد من الحال ). غمائم سوداء ترتقي في ربوة السماء، تغزو الدروب في حنوها وتتصاعد في وجهي كغبار الحرب . قلت للمقهى: سلاما. كانت الأركان فارغة. كساؤها الخلاء، تعشوشب فيها أوراق حداد يصبغ المدارات وممرات الرصيف. انتظرت قليلا، كيما يغزلني الظل ،وأتوكأ على سوق ذكريات منهوبة تفتت على أطرافي كذرات الرماد، تغرقني في لجة المحبة، وتنفلت من إبطي قوافل من الحيرة ، ترفع عهودي ، ويستطيل المدى بيني وبين الطاولة، وتتسع دورة الانحدار. ها هنا المقهى تلتقي بالمقهى. تغلي دواخلي بأصوات مرذولة تكسر عبوة الأسماء واللغو، وهتاف من غناء ذي نكهة قارسة يشتمني، وتتناوب على سريري قعقعات الرؤوس وكؤوس الغربة الفارغة...

كان الخيط يشد صاحبي البعيد. أسأله بيني وبيني وتجيبني حرائق النفايات، وأوزار العابرين، يمقتني الغطاء، وأحس بدوي دكاكة تسحق قبيلة العظام، وتدخلني خرائط السهو، ليقتلعني الرجل الجنوبي السائق لتاريخ ضيق، أسأله الأمان، ويسألني، ويصطف الكلام في الشارع العابر، تنثال عبر مهاويه دموع زرقاء لاتصل مدمعا، أكلنا هدير الزوبعة، إذ الطير تيبس في أجنحتها الرفرفة، وتضيق شهوة الأفق وتتهاوى كالشمعة تماما مدارج الصومعة.

أحدق في الخارج ويتشابه في دمي بقر المارة وعنز الصبايا الطالعات الهابطات في رباطة الضياء، أتوقع " عبقادر" بنفس حقيبته الجلدية هاربا في تيه العقبة، ليركب سفائن " طارق بن زياد "، وتحتلني الرغبة العاصفة لنداء الفراغ، لكن الرجل الجنوبي يوقظ جراري، كأنما راعه الأمر، ليقتل في ذاكرتي طين الأوهام. قال:

ـ ... لقد أخذوه من هنا.

وأرخى أعواد جبينه المعروق، وضع الكيس الأسطوني في صدري، جرجرت دورة الرأس عساني أكون أجبت، وتوغل الصدى في نجوعي. أتذكره. ذلك الجندي السامق، ولهجته الشرقية، وجغرافية " تافوغالت " الحزينة، ويدخلني الرجل الجنوبي، يقرأ سيرة الأيام في وجهي، ويعلن غموض الاحترق. أقول له :

ـ بابها طقس الغياب، يا أيها الرجل.

يتأملني كالصحراء، ويرتد في ظاهري، ليقول كلاما غريبا، ويرثيني. تسكنني المقهى كالفتنة، أتدرع برتابة الأمل، وأغلق نشيد البدايات. في ذات المقهى، مرات، كنا نستلقي كالحروب تماما، يهزنا الشغف الضارب، وحجارات المدينة وسنون من الهوس، تملأنا عنفوانا، فتشتعل قارات الإيمان في أقدامنا، قال الرجل الجنوبي: يعاودني الزمان المراق، كأنما لغات المدينة انهارت. انطفأت أعمارنا..ما بقي غير ضجيج الحارات، يلقينا في الهوى، ويلغي أرجوحات الذكر. تسعنا القرة ولا تسعنا المودة.

كانت مداشر الصدر تنتفخ، أتحسس رجات القلب من بعيد، فأسمع وجيبه كقطار هائم، أراود الرجل الجنوبي، ويخلو بي في لوثة الذكرى، يوقظ أبراج العنف في جيوبي، وترحل مواقيتي في دروب قديمة، أصمت، فيداهمني غضبه الصامت، ويصمت فتتراءى في عينيه معادن الوغى.

تمر اللحظات كالمسامير الحامية، يطول الانتظار كأني على حافة الغرق، وتودعني صحراء المقهى، بحثا عن زمان يؤويني، أشرح فيه صدري للحروب، وأعلن طاعتي لهذا الضياع الذي يشد أزري، أخرج كالمغارة في جوانحي صفارات الهذر والبشرى...أدلف هذه المرة إلى " الصباب " علني أقف على رأس الخيط ، وأحفظ خرائط البيع والشراء وعناوين الردع، يطرقني الباب أم أطرقه، وفي انتظاري تتملكني قشعريرة طازجة، ويخنقني ضباب هادر. يفتح البدر الصغير قامة الباب، فيفتح خوفي ونتداعى في الدار القديمة. أتملى صور أبيه القديمة وبقايا عمره في فناء الدار. يعلقني بالسؤال. أساله، يحدثني في براءة السنديان، ويبدأ قائمة النسيان، وحواشي الطفولة، وانقلاب المجرات وعقم المسافات. كان يحفروهج الذكريات في مرجلي...

آه يازمن الغدر. تبا لهذه الأزمنة. تبا لهذه ألأمكنة. وتبت يدا كل هذه الليالي التي تجعل منا أيتاما قبل الأوان.

كان علينا أن نعيد ترتيب الدار وحارة الأوراق، وأن ننكش الرحاب ونهرب كل المسودات والمستندات، فهم لايرحمون، وبين الليلة والليلة تقترب خطواتهم الشائكة من الأسرار، لتزرع الرعب والأهوال. كان البدر الصغير حازما يغريني بغابات الأوراق والوثائق، ويرفع عني شوكة التعب الذي كان يغلفني. يبحر في الأهواء كأنما يسألني أفتح له نوافذي كالشجرة، وأتأمل ملامحه الصغيرة، وكلماته الصغيرة، وهي تتلكأ في رأرأته العبقة، ويستعرضني حديقة الأسماء، ورتابة الغياب الشهباء، يفضحني لعدة الإياب، ويزرع أحلامي في حقول حالمة تنثر خلاخلهاعلى سماء القلب. أقول له: اعتصم بهذا الحبل أيها الجبل الصغير. فكأنما كان يقول لي: ضاع الحبل منا ياهذا.

كذلك بدأت أقدام الليلة تضرب أنفاسنا، وتساقط السماوات كقطرات ندى، يكتب عهده في وجهي، وأظل مشدوداإلى صغره كالأبله، يعيد في خيالي سيرة الدروب فأتظاهر بالحيرة والكساد، ولكنه لايتردد، يستوقفني في عناد متألق ليمسح ارتباكي. ربما قال لي أشياء صغيرة أو كبيرة، فأخبيء في سري ابتسامة عزلاء، ويهرع في صغره إلي يسألني:(هذا الكتاب خطير )، أقول له: ليس تماما، يكاد لايصدقني ويحدق في ريحي، كأنما يشاكسني...

أخرج من الدارة مخسوفا. أسند الرأس لفراغ الأزمنة، أتلوى من حر الكلمات، تأكلني كالجرب، ألف صدري على الطريق وأمضي كالشبح، تتهافت في داخلي قوافل المدينة الشاخصة، أعيد شريط الغمرات، وصقور الهجيرة، كأن ظلا ما كان يراقبني، أحس بخطواتي المتآكلة تتراكم في حلقي، وأغرز صبري في نفق اللذة الهاوية كغابة شاردة. أرهقتني مودات ذابلة تلوح بعيدا، وتلقيني على غمرة الصياح، تموج خشخشة الأيام الميتة في قواديسي، وأتهجى سورة الأسماء، الواحد، الواحد، يا أسماء هذه الشجرة الوارفة.

* * * * * *

ذلك الصباح الميت، كانت تتضاعف في جلدي أسنام الانتظار.استفقت على حواشي غريبة تهمز أضلاعي، وتتناثر في مهب الريح الشاحبة التي كانت تملأني... كان علي أن أقطع المدينة طويلا على الأقدام حتى أتكيء على جدران القصر: الأسوار الشائخة، الشامخة، والعيون الشاخصة المنصوبة، وممرات الغي كأنما كانت تهدمني... أصل على الرغم من التعب الصاعق، تمضغني أسئلة قاتمة، وبياض من الذكريات يحرث مفاصلي. أسكن باب القصر. هكذا يسكنني، محمولا على سلة الخوف الجاثم على هامات الأشجار، الآخذ بخناق البوابات الصغيرة النائمة التي كانت تتراءى حزينة كالنساء الجنوبيات...

جماعات كنا، نتوارد كالضباب، يعرف بعضنا البعض، وقد لايعرف ذلك البعض بعضنا، لكن القصر كان يجلبنا، يلفنا، ويحشرنا في جسر واحد، يفترض أن تنشب على الأقل أواصر ما تشد البعض للبعض، ولو من بعيد.... ولطول الانتظار الشامت ينفتح القصر، ونندفع كالكاسحات في اقتراب من باب الجحيم، لكن السوط كان ينهرنا كالدواب، والقوات العمومية الطليقة تصدنا كالأعداء، وبالمرارة ذاتها التي كانت تكتنف الأعماق، كان علينا أن نتلقى أدوات الخبط، وأن نماليء شرارة الساعات لموسم الحضور...

في ردهة القصر الرهيب، كانت الأشياء تقطر عداوة، الخشب المصطف كامتداد الليالي، والجدران العاتية القائمة، والوجوه الكالحة، القارسة، القاسية التي تحدق في الصفوف كأنما النار لحظها، تغرق القصر في رهبة عنيدة، حتى ليتبدى حطبا تضطرم فيه أفنان الثأر.

من عنق المشقة خرجت، دخلت لأسقط في نير الحظيرة، وكان حظي أن أقعد بالقرب من شخص، قد لايعرفني، ولكنه مد قامته الفظة، ليغلق الرحابة أمام رغبتي في الجلوس، وأطلق شتائمه في وجهي، كأنما يغريني بالتورط، وعرجت ناقما، أتقي شره وأبحث عن مأمن. قال لي رفيقي فيما بعد: إنه من شرطة الخفاء. وأدركت لماذا كان يخنقني.

النهار وما طال. تربعنا هذا الكابوس الجاثم، ومن حين للحين تأكلنا الآهات كالجراد، يقترب السقف من رؤو سنا اليانعة كالمطارق، وتتراشق الهمسات في أعماقنا كالغربان. ويطل المساء . يبدأ السيل. يقف الريق في أعمارنا، ويداخلنا الأمل الهارب في رجة الغيب، يسائلني المدى، وتخترق تابوت القصر شارات النصر، ساطعة كالشساعة تملأ ردهاته انتظارا وانتشاء... شهور وهذه الغيبة تجمعنا وتقتل فينا دوحة اللقاء، ويدري وحده هذا الواقف في صدر القبة كم سيمتد عمر هذا الغياب.

بين الحواجز البشرية، كنا نسترق النظر والسمع، تشتعل الوجوه دما، واختصارا لكل ليالي البرودة التي كانت تحاك في خيطها قارورة الأسرار. جنون خفي كان يأكلني، ويطلق أفراخه في دمي، يصعدني عرق قديم يغمرني، وأفكر في خروج الروح من عودها.( آه. أيتها المودة القائمة على عجل، كم بيننا وهذا الصراخ البعيد في الأعماق )..

خرج القصر من صمته الكبير، واصطف الأعداء الواحد الواحد ، ونودي على الأسماء كأنما أجسادنا تستحم في جحيم غير مرئي، تشربنا الغصة جملة وتفصيلا. أحدق في القافلة وبهرج الأسماء، وترتد عقارب الأسئلة في أكمامي كشلال جارف... يقول رفيقي:

ـ أحس بألسنة نار سرية تأكل مني الأوردة.

أقول له:

ـ ذلك نصيبنا من حر المودة والهجيرة القادمة.

ويجلس الصمت بيننا.

في ذلك الصباح الموالي، كانت المدينة تلهث، تزحف في صمت غريب، وكان القصر يجذبنا كالعادة، كالنمل في الموعد الأسود. ومرة أخرى تغزونا القوات العمومية، ونغالب خوفنا لنستقر على الرغم في عش الأعدء، في انتظار طلقات النطق بالأحكام. وبالسرعة المقدرة ينطق الحجر، ويطوي أوراقه على عجل مثير، يبهرنا الصدى. وتسقط شجرة الأمل في البئر....

تموج فسحات القصر بالضجيج والحجيج، وتلتف سواعد القوات العمومية العمياء من جديد لتطهر بيت الأعداء من براءة الصراخ وعويل الذكريات المرة، ونخرج موتى للخارج الميت، يسند بعضنا البعض كقصب الجنان، والقوات العمومية توالي العصف والمطاردة، تكنس الساحات من ظلالنا الشاحبة، كأنما كنا جيشا غازيا. كانت الأمهات كالربوات يندبن التاريخ والأعوام، يولولن كالمدائن المقهورة، أو يزغردن على سبيل التحدي. وارتدت المرارة منافذ القصر اللدود المسكونة بإشعاعات شمس مكسوفة تغرس أضواءها في أرجاء مبهمة، تغور في البعيد البعيد.( آه. ياطلقة الأعداء التي لاتخطيء الأكباد ).

في لحظات مرت سوداء، زرقاء، خضراء، حمراء، تستطيع القوات العمومية أن تمنع في هوانا البكاء، أن تصول فينا وتجول، وتدحرنا بعيدا في زحام المدينة، لتغلق مداخل القصر حيث يستريح الأعداء ويتنفسون هواء خوف مريب، ملطخ بدماء الأبرياء.يهز جلودهم الشائكة.

كانت تغريني الهيجاء، وتبحر في أوداجي بخور الدمار. أمشي ولاتمشي الرغبة، والمدينة الصماء...توزعنا المقام كالأشلاء، من بطء لبطء كنا نحترق، ويسرق لهب الفضاء منا شآبيب اللوعة والوداعة، بعضنا في ا لعلن أوفي السر يشتم هذا التاريخ الأجوف الضاحك علينا. كطيور الليل تلقفتنا أيادي الرعب، وافترقنا على حافة الجمر. وحده خيط أمل غارب كان يؤوينا، أن نعود مرة إلى هذا القصر ليرفع عنا غمامة العدوان.

من قصر إلى قصر، ومن عداوة لعداوة أشد منها افتراسا، كان موعدنا أكثر حرارة في تلك المرة. القصرأقصر، أرحب، وأعمق، وأعرق في العداوة، والشؤون أقوى وأعسر، علىمشارفه تتناثر في فوضى توابل هذه الحضارة الزائفة التي تغلق على المدينة بهاءها. مداخل القصر هذه المرة فاخرة، وفي الجوف منها تترامى جدائل خضراء، والقبة الموبوءة أعرق نقاهة، وأوفر لراحة الأعداء، والعادات الدائمة قائمة: القوات العمومية على أهبة الاشتباك في كل لحظة وحين، منذ تلابيب الصباح وهي ترقب سفح النهار، والشوارع القريبة من القصر تعمدوا إفراغها من مرارة المارة. وكان عليناكالعادةأيضا أن نسرق بأسها، وأن نتكيف مع رهبتهم، ونستأنس بلغوهم وركضهم، وأن نمضغ على مضض تلويحات ودقات الهراوات المتطاولة المتدلية من تاريخ الخوف.( أول من اهتدى للهراوة جبان ).

ولم يطل المقام. قال رفيقي:

ـ ثمة بذرة أمل طريد يحدوني. لكن شيئا ما يوقد دموع الخوف في باحة القلب.

قليلا أو كثيرا كان انتظارنا. وتعج مدارج القصر بالأنواء، العرق والأنفاس المتعانقة، ورائحة الأخفاف والجوارب العطرة، تمتد الأسئلة داخل وخارج القصر كالأخطبوط، وتغمرنا خوالج المودة الهاربة، وأسراب من معادن الظنون، تدخلنا الريح من كل مكان، وتغلق الجهات، ( من لي بهذا المكان أمكنه من لوعة المكان )، وعيوننا الحيرى مشدودة إلى عمق القصر، وإلى هامة ذلك الطاووس المتجبر، النابت كالشرار، ملامحه تقطر عداوة حيث من المفترص أن تسود العدالة. كنا نتأكد من ذلك بين الفينة والفينات، وتعرونا مشاعر رهبة دفينة تغلق امتداد الصمت فينا.

يطول المقام، ويدور النهار، ويبدأ الليل خطوه في الأعماق، ويبدأ الطريق. خمس سنوات قادمة، نافذة، سيكون عمر هذه المودة. قامت القيامة، واندلع الغضب الدافق خارج القصر، بينما كانت شارات النصر، تخترق زجاج حاصدات الأمن التي كانت تسرع في الاتجاه المعاكس، تتعثر الأصداء الحزينة في صدأ الحديقة المغلولة، وكأنما الحرب اشتعل أوارها من جديد، امرأة كانت شبه عارية، تعول كقرية منسية، تسب التاريخ، والأوطان، وتلعن القضاء والحاكمين والسياسة والأحزاب ودين الملة والدولة، تلطم أرخبيل جسدها، فتنتفض مدامعها كالفتنة. وسرعان ما يلتئم صدع الأمهات، ليكتنف القصرفيض من السباب والبصاق والشتم البذيء...

لاتهدأ العاصفة، يخرج من فيئه نوار العقل. يستدرجني رفيقي أو أستدرجه، ونمضي في هوادة الاحتمال، تملأنا بحار من القيظ، وسهوب من القرف، والقلق، تتعاثر خطانا، كأنما نسير في بئر مغلقة، يخنقنا ضباب لامرئي يحط على ذروة الرقاب. قال رفيقي:

ـ هكذا هي أسنان العداوة . إنما لاخوف، فالطريق لعين الشمس ليس أقصر.

أقول له:

ـ خذ بيدي ولتكن المودة أبدا ماءنا.

1988.

 

العربة

في الصمت الحسير، تهبط الدمعة على جذوع الساحة القديمة، تزرع بردها في الأنفاس، وتقسو... ثمة عربة متآكلة تأكل طريقها، وتفرغ فراغها الحمولة في ساحة القلب، الدمعة لاترسو، والعربة تتقدم في خوفهاالنابت في امتداد الشارع المسكون بظلال حروب لامرئية صغيرة. ثمة رجل وامرأة، أو كلاهما معا، يتبادلان فصول الأمن المرابط بينهما.

قالت المرأة( لها):

ـ من يفترسني؟ يفطر على عشبي، ويمسح يديه على تكة الصدر...

قال الرجل( له ):

ـ أنا غريق هذه الصحراء الباسقة، من يسكن دمي؟.

في العربة نفسها لاشيء يمت بصلة للصلة، عربون كابوس عريق يشد أضلاع العجلات، ويسري هواؤه نحو قامة الرجل الذي كانت يداه ترتعدان كشمعدان عتيق، حتى حينما فكر في أن يشعل سيجارة أحس بثقل جبال تمشي على ذراعيه، وتستقر علىحافة الشفتين...ومضت لحظات خافتة بطيئة، ولهذه المرة الأولى يحول عبوة البصر صوب المرأة التي تجلس بالمحاذاة منه، وأحيانا كان يحس وكأنها تجلس عليه. تأمل عرصاتها جيدا، هذه المرة فقط، واستعرض ظلال ذكريات تهاطلت على جدار وحدته، ونام لحظة أو لحظتين، ثم استفاق، أخرج بالقوة صندوق الدخان وأضرم فيه النار، وبدأ يحصي كبوة الأنفاس، وأذيال الدخان، السراب المتناثر في سمائه. كانت المرأة تتضايق من خيمة الدخان، وضعت سلة يديها على الوجه، وهربت بدفتيه نحو ربعة الفراغ، وارتفع في داخلها برج الاختناق...

قالت المرأة ( لها ):

ـ إيخ...خ...خ. كأنما هذا الخليج جيفة، أو هذا المحيط ميتة... من يحفر هذا القبر في وجهي؟.

في عز اللحظة أخرجت من جوف حقيبتها منديلا أبيض تماما، وطفقت تشوش به على مسارب الدخان وتقتل ذرات السراب...

وكان الرجل صخرة، لايبالي، أتى على قضيب الدخان، وبقايا النار فيه، نفث من برج الصدر آخر النفثات، وأحدث قعقعة باردة، تنفست المرأة إثرها ريح الصعداء. وصعد الكلام بينهما.

قال الرجل لها:

ـ وقفت في حلقي غصة الهروب. هاهي المرات تقفوني، أصل إلى قعر الليلة، وأنام على صفيحة النهار، من زمان وأنا أغرس خطوي في لجة العربات، أمشي بين كفة الأسرار، كاظم الغيظ، ولا أصل إلى ملتقى الضوء، من خواء الشوارع والمسافات. أقول:

"هذا أوان الشد". ما لهذه العربات تخون سيرها. تلهث الساعات ورائي، وأنا ألهث على السهل المقوس، أتقوس، وأشد رحالي نحو سواحل الضياع. آواه. ياقبرتي. اقتلعتني أودية الحضور، وها أنا ذا الخارج ـ الداخل في درب الحيازة، التصقت أكثر بخلاخل العمر، هكذا كانت تدكني حوافر الرغبة، أفرغ جسدي في فقيع العشب وأنام على مزرعة من حرائق تشد أغصاني، وأنا أقرع الطبول، الطبول. ما لهذه العربات تخون سيرها .

إني أتمسح خيل الموج، كانت الرغبة وحدها في أسناني تصطك، تتمسك بخرير الأعماق، وتظلل قدي كجناحي غراب صريع. صدقيني هذه المرة، فأنا أحبك، لا أحبك، أو أحبك. وقبل هذا الوقت وقفت أمام المرآة، كانت المرآة في غرة الجدار، والجدار يمتد امتدادا، ويطاول الجغرافية الشائكة بين المحيط والخليج، فلا المرآة كانت ولا الجداركان...

آواه.يا قبرتي. إني أضرب سيفي في عشق التاريخ فينبو... ما لهذه العربات تخون سيرها.

سأسند بالمرة راياتي لهذا الكوكب المضيء، وأنتظر لحظة تحديق كبرى على شأفة السفر الدائم نحو المدى، والصوت الذي يلوح بالشارات والأغصان، وينام على شط بندقية عذراء...

آواه ياقبرتي. إني مثل الأسى ألبس نخيل الذكرى، وأمسح عباب الساحات لمنتهى الفرح، لبوابات الوعد، يطلق الخوف مهاويه على الصدر، يرتد النيرللقلب، ومدار الرحى يطول، يطول... من فرط الحلم تأسرني القارعة، ومامن نكبة إلا وأنا صيحتها.

قالت المرأة له:

ـ آواه ".ياخطي". كأنما أحط دمي على الجدار، وأسند رأسي للغبار، وحيدة أشق المسافات البيضاء، هكذا تقتلني الخطوط الدائرة. مشيت على حر الجمر، وتمليت بهاء الغابات الشديدة، وأكاليل الذراع الممتد نحو فتنة الفراغ. أصب الكأس في منتهى الكأس، ولاأصل... ما لهذه العربة تخون سيرها.

حقائبي تتراكم على الرصيف والذكريات تمر مر السهاد، والحنين إلى دفاتر الليل يشاكسني. وأنا أعبر النهر مرتين. في انتظار أن يسقط الجدار. لماذا يظل الوقت صامتا هكذا.

أواه. " ياخطي "... تتعب الكلمات في غربة المدى، وتنهار العربات على حافات هذه الساحات. فأعطني فرصة، سأصرخ في وجهك قليلا، وصدقني فأنا لاأحبك بالمرة والمرات، لكم أبغض هذا الهدوء، وموت الطيور بنفس الهدوء. ها أنت تسافر، قد تعود، أو لاتعود، لكنني سأشد الأرض إلى دورتها وأغرس حلمي في جلدها. فلا تبتعد. كأنما أسمع وقع أقدام يلاحقني أو يناديني، فاقترب: ما لهذه العربات تخون سيرها.

أواه." ياخطي". إني أشد حزامي على ضفاف القهر، كأن شيئا ما يهزني، أقترف هذه الغربة، وأعانق الوهج في تعب المساءات، استهواني القارب إلى هذه المدينة، تتحلق الأوصاب في بدء الغرفة. هاهي سيرة العيث: هذا الوقت من دمي ، زرقاء كالمسافات،أعشش في برودة الأرض، مخارج الريح آسرتي ، تجري خلف الأمام، أضع يدي في هبوط الفيء. فما لهذه العربات تخون سيرها.

صدقني هذه المرة " ياخطي"، بالأمس فقط زارتني عمتي الغريرة، ذرعت بصبرها الجنة النائمة في وجهي، واقتعدنا سويا على مائدة العشاء، حدثتني عن قمرها القديم وهواها الهارب لمجد النسيان، كانت تضع يديها على فخذيها المفتوحين، وتضغط على صكوك الأحداث، قالت لي عن " خطها". كيف كانت تمشط الأيام والليالي تحت قدميه، يعبدها، تعبده. وانقضى زمان ن تطاول فيه الليل على النهار، وافترق" الخطان"، بكت عمتي كسحابة محمولة بالمزن والريح. قالت:

ـ أي واقع لايقتلني ليس مني.

لاأنكرك " يا خطي" أننا قضينا الليلة والليلة معا، كأني بعمتي تعرفني للمرة الأولى، كان حديثها يندى في ثنايا الليل ويهدهدني كمفاتيح صغيرة.حتى نامت.نام التاريخ في صدرها. وظللت أنا أفكر في موت الذي لايموت..

ودعتها صباح اليوم التالي ـ ياخطي ـ وقفنا مليا قبل طقوس الوداع بمحاذاة الشارع الذي كان يشدني للجزار، وهو يتأملنا، تسافر عيناه في قامتينا كأشعة شمس خريف نافذة، تصلنا قاسية كالخوف، حطت العربة، وافترقنا أنا وعمتي، وكانت نظراته تعشوشب في انكسار على خطواتي التي كانت ترتعش في اتجاه الباب. آواه. ياخطي. أو تدري، كم أنا أبغض كل جزار عنيد. فما لهذه العربة تخون سيرها.

قال الرجل لها: هذا خوفي، منك، عليك، لاشيء يبقى من ملكوت هذا الحلم، كأني أقترب منك، تترقبني أعراف كاسدة. الإصابة وحدها في شباك العمر، فإلى أين يهرب الصحابة؟.

قالت المرأة له: تحدوني الرغبة في الكلام، فهل تكون الصدى الذي يملأني.

وساد صمت عابر بينهما. وسرعان ما انتفض الرجل أو المرأة أو كلاهما معا، قالت المرأة: من يضع هذه العربة قبل الحصان. قال الرجل: أنا الحصان فهل تكونين العربة ؟ قالت المرأة: أنا طروادة فهل تكون الحصان ؟ . 1985.

 

تلخيص جراح قديمة

 

مدينة غامضة تأكل أحداقها، وتجلس في سفر قاحل يمتد من الخيط لرأسه، وتصرخ في مداه، تعانق الليالي الهاربة نحو الغروب، ولا تأتي من غيابها، وتنسج خطاها كالصبايا الغريرات، يجرجرن أذيالهن في العراء. هكذا تبدو، ترتعش وتغرق انيابها في الطريق الموحل، الداكن، القادم من سنين الانكشار.. أكان لها صيفها، أم جاءها المخاض ؟ لاشيء في العمق يذرو عنها غبار الصمت الدائم، أو يستنفر أغلالها، ويغلق أذيالها. هي هكذا تحيا وتموت، و تشرب جرحها العريق...

قال الحائط القديم:

أيتها الفوضى الغامضة، السماء المخضوضرة، إني أترقب عهود الألغام. من برودة الصمت لبريته أخرج، أضع أثقالي على الصدر، وأستسلم لهذه الرغبة الكاسحة للانهيار واعتناق الرحيل. إني أشد باطني لغابات الطين، أتحرك إليك، من أجل أن أنام أو أغرق في سبحة السرير، ياامرأة قادمة تنتابني.. أنا من تعاتبه السنان الذاهبة في عمق الأطراف ( لا أطراف ). إني ولاريب كوة العالم نحو الفناء، أبكي هذا الحنين الساقط يشرب نخبه على شاطيء قدميك ويضحك على الشفق الذي لايفيق.. من زمان قررت أن أتعب، وأضع حافري حتى بطن الأرض، وأواسيك بالمرة يا خليجا من القبور، يتنفس صدع الغبار ويمضغ هوادته بلا رجعة. تماما كأني أحبك أو أبوح بسر الألفة، أبيح صوتك للريح وأنا أرقب سوطك...

قالت الريح:

كالعادة تستيقظ المرأة القادمة من ضحاها، تفتح نوافذهاالصغيرة، وتلملم فستانها الشفاف الغريب، تفرك قبر عينيها، ثم تتمسح أفنانها، تستعين بالمشط، تفكرفي البعيد، البعيد، بينما تتجه ضفائرها نحو عبور النافذة، تحدق في الدرب العتيق، وتملأها الدهشة، تضع ذراعيها البضين على الحافات الخشبية وهي تتأمله، بينما يولول داخلها، ويعاكس مدارات الشمس التي تتكوكب على مرمى الشرفات الممدودة كالخواء... تدمع عيناها من فرط الهواء، تمسح ندف الدمع، وتتيمم عجيزتها بكلتا يديها، ثم تغيب في غمد بيتها، حيث الفراغ يعشوشب كالغابة... إلى أين ترحل يا سيدي العشب ؟.

قالت الغابة:

ها أنا أقف عارية، تمتد ذراعي لريح قادمة تنشر أجنحتها على الرصيف، أندب حرارة الطريق. كان الدرب صغيرا، يتدحرج على أفق من النار، ويسير بخطى صاخبة أو هائلة نحو شجرة تتلألأ على مدارات جرح يفتر دما، يتوالد في حواشيه الصديد كوجوهنا تماما، ومابيني وبين الشجرة ألف ألف عام من حبال الود والمطارق، والرافعات، الخافضات تتداول الجرف وتشيد أسوارا من الحنين يشدني إلى نسغ الشجرة، و يشد الشجرة إلى نشوة الأغصان، والأغصان لبراءة الثمر. من يلعب ضد من ؟

في الدرب، جرح مغلق يتطاول فيه الغموض. امرأة غريبة تلبس تاريخا من الكوابيس، تستقر فيه لواعج حائضة، تنبت على مصراعيها كأوراق التين، بينما تتساقط على شفتيها أعراق خريف مثخن بالريح. تنفض المرأة الغريبة الغبار عن سقف ملامحها، وتخطو نحو رحبة الدرب الممتد حتى نهاية الأعناق ، تتحرك في صمتها الغريب ، يسقط ثوب التاريخ من أعلاها، ينسدل بعض شعرها، تهز كتفيها، يولول الشعر، تمتد ذراعاها نحو الفراغ الأعلى، تخرج فوهة الحزن العريق من صلبها ،وترتد الأشياء، تتصدع الجدران كأروقة الذهول، بينما الشجرة كانت ترتعش من خوذة البرد المنسكب كالظلام في عانة السماء ..في أقصى الدرب يظهر طفل يوقظ المجهول، قدماه البنيتان ترتفعان نحو الخطو والعناق، مثلما طائر كانت جناحاه ترفرفان، وتنتفضان، يهرب أو ينهار، ثم ينهض من صغره، يضرب تلك الكرة بقدمه اللينة، ترتفع الكرة في السماء، و تبتعد قدماه في استنفار تترقب فرصة القذف المضاعفة...يذرع الدرب قليلا، تتراءى له المرأة الغريبة، يقف علىمشارف قمامة تعانق الدرب، وتسقط الكرة في تلك الأثناء في بهو الجيران، يسمع وقعها، فيقفز من تابوت براءته مذعورا، يحدق في الصدى المتلاشي الذي كان يحاوره...

قالت الشجرة:

كنت نائمة كتاريخ الفقراء، سقطت تلك الكرة كقطرة من مسام البرودة في رحبة الجيران، خرجت للتو من غموضهم المرأة القادمة، وهي تشتعل غضبا، كأنما تحرك ثارات حرب قديمة، وحين سمع الطفل صرصرة الباب الغامض، هرب بجلده، ودلف إلى رأس الدرب حيث غابت عيناه عن الالتقاط، ومرات كان رأسه الصغير يطل من الزاوية في حذر كبير، يسمع ويضحك داخله كأنما الخوف يساوره.

شمخت المرأة القادمة في هواء الدرب الفارغ، حدقت ذات اليمين وذات الشمال، ولم تقع عيناها إلا على المرأة الغريبة، حيث كانت تتأمل في عناء خواء الدرب، أرغت المرأة كالسيل، أزبدت، أطلقت شتائمها ذات الشرق، وذات الغرب، والمرأة الغريبة تسمع أو ترى ولا تحرك إلا سواكن أنفاسها، التي تتصاعد كالبخار... وكان الطفل جاثما، يصله الصدى الكبير في هدوء... تعبت المرأة القادمة، ظلت صيحتها كأنما هي في الوادي، تقدمت قليلا أو كثيرا، بخطى عاتية، اقتربت من حدود المرأة الغريبة، صرخت في وجههافجأة أرعدت كالزلزال:

ـ أنت..أيتها القذارة. تكلمي، أيتها ألأفعى، أيتها الأتان، من علمك اللعب بالكرات، ياجيفة خالدة تمشي على قدميها...

بصقت في وجهها، قالت لولا الحياء فعلت فيها الكثير.

صمدت المرأة الغريبة أمام العداوة، كانت أنفاسها تتماوج صعودا وهبوطا، وعيناها كأنما جاحظتان، أحست بدبيب الغربة يسري في مفاصلها المتعبة، ويركض على حافات نبضها، ولكنها تجملت، تأملت ملامح المرأة القادمة، ودون أن تكلف نفسها وسع الكلام، قالت في داخلها: أيها الغراب الأسود من تكون ؟

قال الغراب:

خرجت من المحطة، محطة ثانية تسير على القدمين، مسحت عن عيني بعض الضباب الذي راودهافي برج الزحام، ودلفت لأول شارع يمتد من المحطة يسارا، في اتجاه لا أعرفه. اعتدلت كالعادة في سيري، حتى تتوازى ريح القامة مع دقات الحذاء المثقوب الذي يحملني، وبدأت أتوغل في جلد الشارع الذي أخذتني جاذبيته بعناد. لم أكن أفكر قي شيء محدد تماما كجغرافية البلد المجاور مثلا، لكن مثانة الدماغ كانت تنتفخ، وأحسست وكأنها امتلأت، تتواجه فيها قبائل وشعوب، وتجوبها قوافل رائحة غادية من الأسماء والأحداث تؤرقني وتتآكل مثلما الملح يباغته الماء....

كان الشارع الغامض يمتد، وكأنما أخطو للوراء، الواجهات المسمرة علىشفتيه لم تستهوني لدرجة كبيرة، كنت أسرق اللمح أحيانا إلى الزجاج المسخر للإغراء، ولا أتبين ما بداخله، أتماسك من ضيقي، وألامس الأفق الغائب من ثقب البنايات أتنفس عبره زرقة السماء، وعبير هواء يمتزج برائحة العطور وخريف الأجساد المعصورة، وندى الأقدام المتهالكة التي كانت تدك أسنان الرصيف..

كان التعب يلفني كالرضيع، يتصاعد في غابة الأعراق، من آخر أصبع في خابية الحذاء لآخر شعرة نافرة تداعبها ريح العابرين، أتمالك أو أحتمل، لكن الانهيار يعصرني، يأخذ باختناقي كدخان شتوي هجين...

ماذا يفعل النهر حين يربوه التعب؟

وقفت حينها أسندت رأسي لشجرة حائط، تتدلى في عنق الشارع، ركبني دوار غامض، وداهمتني الرغبة في القيء، وضعت إصبعي في مغارة الفم، وتقيأت كناشا قديما، وبقايا ممحاة، ودروسا ميتة من تاريخ قديم، ودما بدا لونه كلون أحجار النفط الجميل، ثم استأنفني الخطو، أخرجت منديلا ومسحت دموعا تهالكت على مرعاها، وأشلاء لعاب ظل يخاتل شفتين ثم خالجتني أنسام يقظة مشربة... اندلعت كبالون صغير لأول زقاق يحاذيني، اتكأت من جديد على سدة الحائط، واسترجعت فلول الاحتمال للجسد المهلوك، وخطوت...

على رأس الزقاق استهوتني الحانة القديمة، وسرت نحوها بنفس الثبات الهارب، كانت على عكس الخارج تطفح باللغات، بورصة ساخنة، تتقاذفني فيها ألوان العتاب والسباب، والكلام المحظور. اتكأت على الحاجز، وأعلنت حجة الشراب، واختمرت القليل أو الكثير. تنبهت إلى دورة الزمن، فرأيت أن طقوس الليل بدأت تباشر سلطتها في المدينة، وقررت أن أواصل غيابي حتى آخر الرمق، مرات كنت أتسلل إلى المرحاض، أتقيأ الكثير من عقيق الزيتون الرث الذي التهمته، أعود متماسكا كالقصبة، أفتل خيط الشراب.

من يملك هذ الغابة التي تقلني؟

زمانا، بدأت كتائب البورصة تندحر اندحارا، وأنا أدرك أن ساعتي آتية لاريب فيها، لذلك باغتتني الجشاعة، والظمأ التالد، وبدأت أجد متعجلا في متعة الاستهلاك، أساهم في اقتصاد البلاد..

قالت سيدة الضفة الأخرى، وبيننا الحاجز:

ـ أنت بئر قديم...

قلت لها:

أنا من ذرية صحراء مهتوكة...

حدقت في تقاسيمي المبتورة، حدقت فيها كالسائل المحروم، ثم انصرفت، بطلا في وزن الريشة أميل حيثما تميل الريح...

آه من جوعك يا وطنا أدمى قدمي.

مسالك مخبوءة، عدت أتدردف فيها، كورق الخريف، حانة ثانية خرجت من الحانة، وتمسحت الدروب ككلاب آخر الليل، لاداخل يرحمني، ولاخارج يعرفني، قواي خائرة كالهواء، ومع ذلك كانت الدروب تسرقني، أثقب صمتها كذبابة طائشة تستريح على صدر الظلمات... في ذلك الدرب، أحسست بغموض مفاجيء يأكلني، يضغط على صدري كحمار الليل، حاولت المقاومة جاهدا، لكن جبالا يائسة كانت تهبط على كتفي..( بئس شراب يبدأ بالجوع وينتهي للجوع ).

في الطرف الآخر من ذلك الدرب، تتحرك أصوات غريبة، تتداخل كشجر الغاب، ركام بشري غامض ينصهر في ريح من سعار، أو مغبة الجنون: النساء والأطفال، والكلاب والقطط الصغيرة... رذاذ من الأنفاس والدمع، والغضب يتطاير، ويمسح كل الوجوه والممرات والأبواب المتقابلة... وقفت كهيكل عتيق، أشتم رائحة البذور المشاكسة، تناثرت الكلمات كأسواق الهجاء.. امرأة، امرأتان، رجل، رجلان.. قبضات تعانق الهواء، انهمار الجموع للهنا والهناك، وحرائق الكلام كانت تشتد، وأنا أغمض عيني التارة، والتارة أفتح أبوابها على مقالع الهجوم، والبكاء، وأشتات العويل، كانت الأسئلة تعبر الأفق كصدى حرب مغولية:

ـ هي التي كانت تلعب. من كان يلعب. الكرة... تلك الكرة... تفو.

ـ أولاد الحرام.. أولاد الكلاب... أولاد الزنا... من كان يلعب.

كان الجمع حامي الوطيس، وحين بدا أنه اقترب من الانفضاض، سرحت في ساحة الدرب سيارة للشرطة، وداهم الذهول كل الأجساد الشاخصة. انقضت السيارة على الجمع، وتراجعت الكلمات النابية، عدا ما كان ينشره رجال الشرطة من رعب مصاحب بأشتات من السباب، وكانوا قد هبطواعلى حين الغرة، وعاثوا في الجمع حصادا، وظل الغموض وحده طليقا يذرع الدرب شرقا وغربا، والطيور على الأشباه تقع...

قالت الجارة الغريبة:

كنا دخلنا هذه المقبرة القديمة، جلوسا كنا، النساء المحجبات، الأطفال، الحجارات.. عيون مسمرة على السقف الثاقب، ووجوه بيضاء، تسود دفعة، وتحمر من فرط السكون الذي كان يتهادى بين الأجساد، وأغصان العرق المخنوق في درة الأعناق. كانت الأقدام تتداخل كأشواك السدر أو تتشابك، والصفوف الولهى تطفح برائحة الغوث. في الجهة المقابلة كانوا ( هم ) يجلسون، أو مفروض أن يجلسوا، المقاعد الوثيرة خاوية على عروشها، تحدق في فراغها، وتنسج ظلالا لهم، حيث من حين للآخر سيصعدون، كأنما من باطن الأرض، وتتصاعد في حواشينا أنهار من الرعب والخوف الثقيل...

كان الظل الخشبي، على حائط الأهبة، وسرعان ما دوى صراخه الوثني، في قاع المقبرة:

ـ محكمة...

وبدأ الأربعة يدخلون كالطواويس، وقفنا كالأوثان، استراحوا على هواهم، وعادت أجسادنا المنهوكة تفترس ملامحهم، وتداري بقايا جرح قديم يسكن مداها.

قال الطفل:

ياليتني كنت الخراب.

1989.

 

ولاء

 

قال الرجل الأزرق:

يحدث شيء ما في مسالك القلب الجريح فلا يتحرك. أعرف الآن أن الحرية لموجة السكون، من غابات جريحة لايكتمل خطونا، وكل الأسفار القديمة تجلس في رحبة الدم، سماوات الأهل، وظلال الأحبة الغائمة، وتباشير المتاع المغمور في لجة النبض، وأشياء قديمة... يومها قالوا: ادخلوا مساكنكم أيها النمل المهزوم... دخلنا. قلنا: نحن لا نملك شمسا قريبة نؤويها أو تؤوينا، وأن لاتملكوا تلك هي القاعدة.والاستثناء لاحكم له...

أنا لا أتوعد. ما زلت أتمسك بحبل السرة الممدود ـ المقصور الذي يفصلني عن حلمة الأرض، من زمان هي قدماي افتقدت عادة الخطو، وأنا أترقب هدوء العاصفة، ولا عاصفة، ألوذ بالسكون قبل سكونها، وأسأل متاهات الخوف الطويل: من يحرك في وجهي فوضى هذا الغبار الفصيح؟

هي يداي من زمان افتقدتا نوبة الصعود والهبوط، كأنما انقبضتا. أنام طويلا تحت ظل مشنقة قادمة، فبأي لغة أفتح كمائن هذه الخيمة المشدودة للصدأ المنسي، هذا الحجر الأسود المخلوع كقرينة... أقف طويلا في قارة هذا الصف الطويل، الطويل كعمود دخان سامق، شهورا وأنا ثابت كالطلل البالي، لايتحرك الصف قيد أنملة، لاأتحرك، تتقاذفني مرارات من سكون، كأنما تلك الشارات، المكاتب، الإشارات، والأسوار الشاخصة لاتتحرك. هكذا توهمت. لكن جاري العمودي قال:

ـ بأم عيني رأيتهم يتحركون، يتحركون في أي اتجاه، لذلك لايصل خطوهم هوانا، ويمضي في ركض يخطف مرايا الانتظار، أو يجمع المسافات ويطفو فوق احتمالاتها...

قال الجار الأفقي:

كنت الغريب أحمل متاع العمر، كطائر مهاجر، أستيقظ على شهوة الأرض تدور، تدور، أحس بأثدائها الرخوة تهتز، وأقول لها: طوبى للأغصان إذ تخضها الغيوم، وللجذور إذ توقظها الريح... أضع يدي على جمر الشرفات، تسقيني هاوية السكون، كأنما تجرفني، أسألها امتداد الرحيل، وأوبة المروج. ..هكذا نحن أبدا نغرس أهواءنا في مملكة تاء التأنيث الساكنة..ننهض في سغب الصمت. جمد قداس الدم في العروق. أحس أني الساكن الذي لايتحرك، أشهر سيفي مغلولا، وأغوص في غيس هذه الكينونة. وأحتفي بخساراتي. وحده هذا النزيف المشترك بيننا يتحرك...

قال الجار العمودي:

كنت كاتما للصوت أكتب أسراري في حانة عاقر، تسكنها قبائل من رصاص، ودمع غارق، وزعموا يومها أنه في جزيرة ما، تقع في كل المهب، بابها الظل والبكاء، أكل فيها القوي حلم الضعيف، والمستأجرلون المأجور، والآمر لحم المأمور، كأنما تنتشي في تضاريسهالغات الأنياب، وكان يعيش فيها قوم تحسبهم موات العباد، نام الفجر على مشارفهم، و ختم الله على قلوبهم، وأصبحوا بحمده ساكنين. كانت تاء التأنيث الساكنة أميرتهم، الأمارة بالخوف، ترمي أمامهم الكوارث، حتى بلغ السيل بهم زباهم، ومع ذلك تحملوا وظلوا ساكنين... وحدث أن خرج من قهرهم أحدهم قاصدا بلادا كانت تحكمها الأميرة الرمادية التاء المتحركة ـ وكان قد سمع عن صلاتها بالسماء ـ ولما بلغها، رأى ما لاعين رأت، وسمع ما لا أذن سمعت، وتميز قلبه من الغيظ، وعز عليه ما ترك عليه أبناء قومه من هوادات في بلاد الله الساكنة، وقرر أن يشكو الحال والمآل لسيدة الأوان الأميرة التاء المتحركة. وتوجه إلى مرساها، رغبة في لقائها، متوسلا ذهولها. فكان له ما أراد، ورضيت باستقباله بعد سور امتناع وأخذ ورد، فقص عليها ما وصلت إليه أمور البلاد والعباد في مملكة تاء التأنيث الساكنة، واستبكى عطفها. فوعدته خيرا، وقالت: والله لأحركن فصول هذه البلاد الساكنة. وأرفع عنها فجيعتها لتصير إلى الذبول.

وكان أن أمرت التاء المتحركة، بجيش عظيم دججته بالبروق، والتوابل والعطور، والزلازل المعاقرة للهزائم والحروب. وألقت فيه خطبة من طوفان:

ـ أيها الندامى. إنا قد عزمنا أيها النشامى على الزحف بعون الله على مملكة تاء التأنيث الساكنة، وما ذلك رغبة منا في اجتلاب المغانم، ولا طمعا في المال والخراج، ولكن رحمة بعبادها الساكنين، ورأفة بأحوالهم، وأنتم تعلمون أنهم قوم لايفقهون، فكونوا كما عهدناكم، أشداء على القهر، وبئس مصير تاء التأنيث الساكنة...

وفي ذلك اليوم المشهود، تحرك الندامى وتقدموا نحو الثغور، واحتلوا الدساكر والأمصار، واستيقظ أهل المملكة الساكنة على وقع الجيوش الندامى، وسرعان ما امتلأت الشوارع، وارتجت الصوامع، وشاع بين الأهالي خبر نهاية تاء التأنيث الساكنة، وخرج الناس عن بكرة الأجداد يهتفون:

نحن فداك، أيتها التاء المتحركة، سيدة الزمان والأوان.....

واستتب لها الأمر، وكان الفتح، وكان الضم، وكان الكسر... حدث ذلك في جزيرة ما، في زمان ما، فلا تسألوني عن المزيد....

قال الرجل الأزرق:

تماما... قد يحدث ذلك ولو مرة على رأس مائة عام. أذكر ذلك، وأنا مازلت صغيرا، آه. كم هي هذه الذاكرة تخون. ولكن كنا نتفرج جميعا في يوم شديد الانحدار على ضفاف القبور الساكنة في الجهة الغربية على ساحل قريتنا الجريحة، كان جدي يلبس جبته كقصبة، وكأنه يحس بدنو أجله، وأبي على ما يبدو كان متماسكا بعض الشيء، وأنا على العكس منهما كنت متأرجحا بين طرفي الإقدام والإحجام، لست متأكدا تماما، ولكن المعجزة حدثت. آه كم هي مدهشة.انفتحت ممالك القبور، وخرج الموتى واحدا واحدا، أنا مازلت أحفظ كل الأسماء. قال جدي إن ملامحهم، هي هي، ولكن شيئا ما غريبا، كان يراوده، ويحمل على التردد.، والتربص... اقترب جدي أكثر من باحة القبور، وبدأ الموتى ـ كالأشباح تماما ـ يمهلونه ولا يستمهلونه، ولكن فارق المكان كان كافيا لأن يفحص أبي بدوره ملامحهم الغريبة، وثبت أنهم ـ قال لي ذلك بعد ـ استنجدوا بكل خبرات الصباغين، وتواشي الصائغين ونحاتي المدائن، كي يهربوا من صورتهم الحقيقية، ولكن ذلك لم يمنحهم فرصة التخفي، الشمس كانت أقوى من الحجب، وتحركوا في اتجاه القرية، و أهل القرية كلهم نائمون. ومع الصباح استطاعوا أن يقفوا على الحقيقة، وافتضح أمر كل الموتى الذين تحركوا ـ وما تحركوا ولكن شبه لهم ـ ولذلك لم يحرك أحد ساكنا على الرغم من أن الموتى برعوا في الاستخفاء، وكانوا يتحدثون لغات كان أهل القرية يجهلونها...

ما زال الصف طويلا.قال الجار الأفقي: عام وأنا أتردد على حافات هذا الصف، وأنا متيقن من أن لاشيء يتحرك، هذا الفراغ الهائل، القاتل، وحده أحسه يملأ أعماقي، ويتحرك بلا حدود.

عادت شمس الأصيل، ملتمعة، ـ وللتذكير فقط فإن الشمس لاتتحرك ـ وأغلقت النار أبوابها، وانفض خاتم الصف، وتحركنا في كل اتجاه، وضاعت منا الآثار في مهب الخطو، ومشينا، نحن الذين لانحسن المشي إلا على أقدامنا. وحين اختلى الجار العمودي بالجار الأفقي، همس في لوعته:

ـ من لي بتاء متحركة، تضمني لصدرها، وتفتح لي أبدية ذراعيها، وتضعني في برج الأمام ذاهبا في عمق الصف.

قال الجار الأفقي:

ـ ليس هناك أبعد من هذا السكون.

وافترقاعلى غير موعد.

ذلك المساء دخل الرجل الأزرق منهكا إلى بيته، وحدثه الأولاد أن التاء المتحركة غزت البلاد في حفظ الله ورعايته، وأطبقت منها على السماء والهواء، وكاد يحمد الله في سره، أطلق سراح خوفه، ونام ذبيحا على أمل أن الصف سيتحرك غدا، ويفتح الله أبواب الجنة المهجورة. ومع تباشير الصباح، خرج من الخواء الذي دثره الليل كله. والتقينا في ساحة الصف، ساعات، استبقنا هذه الدمى الماكرة التي تتفسخ على المكاتب. واعتصمنا بالصف طوال الصف، وهو لايتحرك كالعادةالواسعة. قال بعضنا:

ـ من يسوق أسوارنا إلى هذه الخديعة، ويجعلنا في المهب قلعة ماء تترقب مجراها السائب...

ظل الصف ثابتا كالسماء، والأفق يرتدي غمامات بيضاء كالضمادات، وعاد الرجل الأزرق هادئا، نام كالغوطة تتقاذفه أحلام كسيرة، تتهاطل على سواحله، وتحول بينه وبين الغفوة، وهو على مدار الوقت الموحل يدرك أن لاشيء يتحرك. قالت له زوجته:

ـ في السكون يجلس قلبي.

قال لها:

ـ أنا سعيد لأني ما زلت قادرا على أن أقف في الصف. طيلة هذا السواد.( وفي سره كان يعلن ولاءه للجذور، ولتاء التأنيث الساكنة ).

1984.

الضاحية

في الضاحية تصطفق الأيدي وحدها. وعيون هاربة ترفل في المرعى وبرية الماء، تغرورق بالدفء أو الغبار، من سيرتها الغابات الآهلة، كالفطر في هجير الربع، هاجرتها السنون، لاتملك هذه الغربان غير دائهان حجر الخلواتإذ تومض مرافيء حزينة كالمساجد المهجورة، تلملم أظفارها صحاري مختومة بالصبر، لايوازي الصبر حبة قبر من هذا المدى...

الضاحية: الشرق أو الغرب، البحر أو النهر، اليمين أو اليسار، الحر أو القر، ترقص أعاليها بيوتات ميتة، عارية كالسواقي، حافية كالروابي تسرقها الشمس صباحا، ويرعى الليل فيها نجمه، والنجم إذا سقط في هواها أو ارتداها، مستوحدا يمضي لذراها... تمضي الضاحية في جبة خوفها، في سقف من الغربة، تتربع نبضها رائحة الموت القديم، إذ تتصاعد من جراب الراجلين... في قبضته ساروت ذهبي، مرصع، يعطر أوزارها. خصوبة الذراع والباع، ماءت الشتاء في حضنها، طاحت الأنصاب، وهفت في جلدها حبال من هروب، وحياض من بارود النسيان، يطلق لغته في حائط السماء المغلق، وترتد الأصداء في ندى الأنواء، رباطا للخيل أو الغيم يلبس طاقية النسيان...

الضاحية: رجال غرباءفي أرض لاميعاد لها. السود أو الأسود، السامون أو الحامون، يأكلهم زاد من شذرات محترقة ترحم بؤسهم الطالق لشعر لوعته، تستطيل في أيديهم وفي الساحة الغارقة في الهوس، تصرخ في عودها وتتعب في الحبو، إذ خطوها يشتد في غيس العشق، عاشقون تلتوي أعناقهم في رحبة الله، يخرج الميت منهم من نساء الحي، والحي من عقر الدار. لما رأتهم الرابية خرت ساجدة، ركض ماؤها، جاءهم ثلجها، وقال لهم: أنا الجريان. وارتداهم سحر المجيء، فجاؤوا، وضربوا رحيلهم على المشارف وسجدوا، ومرت الأقدام طباقا، جاؤوا ولما استوت ريحهم، جاءت الخيل، والعيون، والحواريون، والأصدقاء، والأعداء... وقفوا بدوحة الباب . ضاعت الضربة القاضية في ذهاب اليدين...

لاظلال تنهض في صيف الضاحية.

سماؤها السامقة المثقلة كليالي الفقراء، المجذوعة كالأنسام البليلة. أطبقت. فإلى أين تأوي هذه الصبوات، والمياه الكليلة، يفترسها أو يفترشها الصدأ القادم الضالع في القلب...

لها أن تضيق وأن تسند عياءها على جريد البكاء. إكليلها المصطف كتاريخ الحفاء، يختبيء في كبوة الصدى، بابها الصمت والدم الكسير، وعتبات ملفوفة كالخراج القديم، اليم سندهاأو عيدها، هكذا كانت البيداء.

قال لها مرة:

ـ أنا بعلك.

قالت:

ـ سيدي المائل كالظل.

إني أتعب في انتظاري.

رحل وهج الأصدقاء، ولم يبق غير هذي الجراح، تذروها سفائن الهجير.

كانت تحكي عن صوتها الحريري، عن الطلقات كالجدائل، تقول له: أين تنام أوبتي؟... أين تجلس دمائي، أو ترتعد معاولي... فيهرع من عشبه عظيما، وتكون له من الشاكرين. طرقت بابها الأسماء. كنت أراها مستلقية على الصدر تداعب أنفاس الحقيبة، والمعارف القديمة. واحدا، واحدا يصطادها الرجال المغمورون الخارجون من فوهة القرف، وجليد السنين، كأنما نضجت الجلود، وجاءت الآلهة لتلتذ بالكلأ الفضي، سعت إليها هذه الأعناق، وخرجت إلى بريتها تصرخ في الرماد:

في عرض هذه السموات الصدئة،

تذبحني أواصر غريبة،

وتضاهيني المهزلة.

كانت تحكي عن جنونها، ولا تتسع لهذه المديتة المهترئة كالنعال العتيقة، تلبس أوثانها وأتعابها الرملية... تحكي عن شوارع ومزارع، وجزائر من التيه تتراءى في امتداد الموتى الجميل.

حين أفيق في ذهول العادة، أرقب منجم الضاحية، وأعود مراسها وميراث هذه المدائن العزلاء المكدسة كبخار القارات، ولما تسألني العنوة أستدرج مخاطها، وأستنشق دماءها للكوعين، تمضي عناقيد الود إليها، لاتولد أحزانها إلا على كفي. وكفى بالعين والفلب جراحا. هذا اعتبار مخل بشروط الهوادة: سيوف مغلولة تشتد في اللين، وتلين في الشد.

في الضاحية لا تنحني الجبال، تأتي العساكر لتدفن أشلاءها، الشعراء ليبكوا قيامتهم، والصبايا ليغزلن صوف الحرائق التي تلهبها أعواد اللهفة. هناك إذ تتناسل رفات عباد الله الفارين من قبضة الديون الخارجية، يذرعون الحارات السائلة ليلا ونهارا، حيث تمضي دبابات الضوء والماء سريعا، وتدك رأس الرجاء الصالح. والمنازل المخضوضرة تعاند الفراغ المستديم، الآكل بكلتا يديه الشرفات المنسية، تستيقظ وتلبس غموضها، تجلس في عنق الهامة، وتندب حظها. يا حظنا: الكلاب الجائعة التي تثأر من نباحها، وتجلس القرفصاء في باب المذلات، ترتقب رأس الشهر، والزيادات الموعودة، والترقيات، والتعويضات القديمة، والسلاليم، ورائحة العيش النتنة...

بعيدا تنتصب هذه المتعة الميتة. سمعت أن الشمس لما غربت، اشتهت الضاحية أن تنام، لكن الصيحة جاءت من بعيد، ذهبت القبائل والسواحل، والقنابل، في كأس الرعب، جاء الرعاة يسرقون خطو الفجر، وينسجون قارعات البهو الدفين. وأغربت النار، وهاهي البيارق السوداء تلبس المهابة، والسلف الهائج يجنح للقتل، تكاد تسيل الدماء في الممرات، وتملأ الأرض، ويتصاعد منها ما يشبه الدخان.

ولما تعب الغروب من الوطء، بادرنا بالرغبة، تسري في معادن الخروج، خرجت الضاحية للمرة الأولى، ولبت نداء هواها الوخز الصغير الذي يبني أعشاشها. وجاء الأطفال عبر حصون الليل، فتحوا النوافذ المغلقة في وجه الريح، وامتلأت الأرض ببردها، كان الأطفال يهتفون في الشوارع العميقة كالآبار، ولاطير تقع، المرة الواحدة التي يسافر فيها الأطفال بعيدا، وتهتز الضاحية قبل أن يأخذ الموت وقته للراحة، ويسأل الجار عن الجار، وتورق الديموقراطيات الجوفاء، ويبيع الواحد منا صوته في المزاد.

في لبلاب الأفق، بعيدا يتراءى قوس القبض أو الفيض، وأولياء الله المبشرون بالجنة، يستلقون على الشواطيء، ورمال الفقراء، كالأنعام يضحكون ويشربون، ويسبحون بحمد الليبيراليات والملكيات الخاصة، وهضم حقوق الإنسان، تتدلى أكياس النعمة والكرامات من أدبارهم، وتحشو عراء رقابهم الرخوة، كل الأولياء بلا استثناء يصعدون كالقمل، يصفقون، ويكذبون، وينهبون، ويبتاعون الأصوات، ويمشون في الأرض هولا. ووراء كل ولي صالح امرأة أو عمارة، أو إمرة، أو مطمورة، هناك حيث يزاحم أولئك الباعة المتجولين باسم أكل العيش الذي لايبين في الظلام، ويأكل أموال الرقيق والعبيد الذين لايعرفون حضارة اليوم. وقالوا للشعراء: قاتلوا ريثما يأتي الرجال، وقالوا للرجال: إنما الشعراء يتبعهم الحاقدون...

حضرتني الغمرة، وارتجت مني الأنحاء، ومنها أطلقت ساقي لريح الأمام، للوراء، لم يتبعني أي الكلاب، تكالبت في الطريق أسنان السفك، وموقفي الصفو في دارة الكدر، التقفت أشلائي، سارت بها الركبان، والرهبان، الصلاة المقصورة ظلت شاهدة على القبر، القبر انساح في بطن الساحات، والساعات، كأنماتسافر في قرارته أغلال الكبرياء، كأنما لونه من دمي. يا لسواد هذه القمة.

كانت الضاحية أهلا.

الأهل: جذورها اللاهثة تتعب في ثنايا الليل، وأعطاف النهار، ليلها تابوت مغلق كالمحيط تبيض فيه الوحشة، مهاوي البلوى، وجراحا متدلية ترفع دويها في وجه الهواء، تلفحها البرودة الصامتة، تتفسخ كالنمل، تتوالد وتجر أذيالها في مسام الجسد العنيدة، شجرة الأهل في كبد السماوات جذورها، وفي هذي الأرض الرخوة كعجين الأمهات فروعها، حين تسمق، تمتليء أحداق العناق بنورها، يتلألأ كالسحر في خوابيها، يتسع أحيانا كشغاف القلب، ويضيق، يضيق أحيانا كالمسغبة... يوم جاؤوها كالكواسر، والجوارح، وطافت بها فلول البأس ورجال الحال، رثوا لحالها، كانت الشجرة تلبس خضرتها وتعاند البزوغ، فتبارك الآلهة عنفوانها، وتضطرم النار، يجيئونها، يطوفون بها، وينشدون مزامير عهود هذه الورطة، تعنيهم إلا من أتى الله بقلب سليم...

الأهل آهلون بالجراح...

في الصباحات يلبسون هواهم، يغدون نفيرا أوزفيرا، من عاداتهم أن يتبعوا وتساقط الأجساد منهم في برية الذهول، لايقرأون ولا يكتبون، والأيام وحدها توقد في عمقهم، منهم الهارب والشارب، والقارب والغارب، واللاهب والناهب، والمحارب، والغريب والقريب، والحبيب والنسيب، والقتيل والفتيل، والشريد والطريد، والسافل والحافل، والكادح، والصالح والمادح الصادح... بابهم الموت، يرسمون بريد الطرقات، كانوا يأمرونهم فيأتمرون، ويقال إن الساعات كانت تتقدم فيهم، يأكل بعضهم البعض، ومازالت الموائد تصطف في قناعاتهم، وبقايا من حروب قديمة، تنشر ألويتها بين ظهرانيهم، وكلما ارتوى منهم الدم انتفض الدم.. لاتسألني الآن من تكون هذه السفينة المحملة بالزور والزيف، والاقتراع العائم، والمجالس اللقيطة، والجماعات المجاعات، والديموقراطيات الملفوفة، المشاعة كالتبن....ومن كل زوج اثنين. هم الأهل أدرى بشعابها، أولى برغابها، ذاقوا حلاوتها. ( ياحلاوة السيبة والبندقية...).

حين جئت الأهل، جمد الماء في الركبتين، ورأيت الواحد منا يهرب من دمه، أو يسرق أو يأكل شحم أخيه، أو يحفر الحفرة لأخيه، أو يقتل أخاه فيتزوج حليلته، أو يصطاد عرضه، أو يكويه لأقرب مركز للشرطة، أو يشهد عليه افتراء....فيرجم ويعلن في الناس: هذا قتيل العناد فلا تعاندوا.

لا تتعب الضاحية.

قوافل اللذة القادمة، قامات الأهل العاشقة، والأرض لاترتوي من ماء الأعداء... تتأبط الخيام الظمأى عناءهم كالجواري هدتها السنون، وتنقرها الشارات المخبوءة في الطلقات، لما تلتئم الفاقات بزبدها أو طوبها، يستيقظ ريح الدمع والكف والشهادة، تلبس الضحية لباسها وتمضي في عز صيفها. السفر لها، تغريني يداه المبسوطتان، المقبوضتان قبض الريح، جاءني ليثه يعيرني صفيحة الغريق، أغرقتني ومضت منه القدمان، أبلاهما صرف الجديدين... جثوت على جبل من نار أصرخ. يومها تصاعدت ظلالي، برجها المراقب كالحروب، وتداعى الحمل بين اليدين. قلت: أيتها الآلهة لاأطيق الصمت. سأرقب هذه المقبرة . إنها تلدني. وبسطت كفي لمنتهى الدموع. ..

أذهلتني الهضاب النازفة، قيلا، تنام تحت حائط الضاحية كالريش، قلت: ياإلهي، أيها المعبود، المتعدد، المعادل، ألقني في دوامك، لعلي أصل يمك وأتيمم هدير المراسي المفردة... لتدفعني ثمنا لقوتك...

وجاءها الوحم نخيلا: العدة والعتاد، والشدة والقتاد، والقلة والشتات، والعلة والفتات، والحاقة واالفاقة، والمنال... وسارت به، امتلكها بريق الأهواء، يستطيل في الصلب والمغارب والمشارق... هلا اقتربت.

لاترحم هذه الدوامة، أو خلوة الاشتعال. قلت لها: الطريق إليك اختصارا. يا لغرة هذه الأفلاك، من سعدي أن أطأ هروبها، وحطام الشمس في تعبها، إني أجري لمستقر لها، من حقي أن ألعن هذه النقمة، وأبصق في وجه هذا التاريخ الذي يلوي أعناقنا كالمجزرة...

قالت لي الضاحية:

يا أيها الآكل مخاض الغواية. يا مسافرا في تلة الريح، هذه الجفوة خطوة في قبضات القرب. هذه الربوة أنسك، فانصب ولا ترفع خوفك في وجه الأهل...واستفقت من ضيقي، غاصت بي خيوط المحبة.... كانت الضاحية مملكة تتوهج فيها سواقي الورد، كانت الأغاريد والهوام، والوحوش، والضواري، والغانيات والنجوم السيارات، تتلألأ ويذهب صداها في صلصال الأرض... هكذا نجد الضاحية ولا تجدنا.

1986.

 

الولد " عديشان ".

 

( م. عديشان.

تاريخ صغير من الذكريات الآسرة، خرج من صمت المدينة، لكل المدينة... منذ عام ـ فقط ـ كان يرسم طفولته البريئة في السنة الرابعة من الثانوي، وجاء انتقاله فجأة إلى السنوات الخمس سجنا نافذة أو بابا... في جزيرته الصغيرة الآن بمدينة إيفران، ما زال يكتب عن الفرح القادم، تتصاعد طفولته كالبور نحو سعة القضبان، ويملأ برجه العائد ارتقابا أو اقترابا...فإليه... وإلى كل الأسماء معه.)

كانت سماء المدينة تغمرني، أقف على فاسوخها، وأغرس قدمي في جنون صغير يمتد عبر النافذة، يشتعل في مداها، ويتلألأ مثلما دمالج الصبايا في قاطبة النهار. لامدينة. يحاذيني هزيع الحزن، كالصخر يراودني سيفه. وأنا أنحدر من هديل الفقر، أتوكا على سلالة دفاتر عشيبة، تصلني بيني وبيني، أجلس في ظلها مرفوعا بحضرة الأطفال، طائرا من الفرح المغتال على خرائب الأرباض...

ذلك الباب كان لبيتنا الدامي، تلك الخيمة الذابلة في السواد تعرفني ، أنا من ذبابها الصغير، أعبر سعتها كالنيزك، تغريني شمس هواها، فأرسم في مرفئها حدائق الأسفار، وأغني للياليها العذراء:

من يشنقني، أيهاالآن المنهار.

أنا المتعب،

أجر محاصيلي كغبار كئيب.

فإلى أين تسير هذه الأوبة؟

أسير على الطريق، وأغلق زهو السؤال في خليج الحقد، مابيننا، أعرف تلك القامات الطويلة القارسة التي ترعبني، أو تذلني... في الطريق على ذؤابات الشوق أسرح بصغري في أودية متآكلة، تنأى أو تقترب، يشدني الحنين إلى هوائها، وأستريح على وعد تلك السواعد التي علمتني أن أشتاق.

منذ ذلك الصباح العابر وأنا أخرج من كأس الخيمة، أتربع عرش زماني الصغير، وأسلافي الغرباء، وأتدحرج نحو مدرسة طين تأكلنا كالبراغيث، نتمرغ في داراتها أجسادا مخلوعة، أجر مملكة من الجوع والفقر المبين، وسوء التغذية، وأدخل من بوابة الحرف: باب، ناب، غابة، دابة، وأعرف أن كل الأبواب موصدة في وجهي، وأن الغابة رهيبة، وأصل على الرغم أطرق حنينها، وأن كل الأنياب تقتات من ضايات دمي، وأنا لاأطيق قد أتكسر في خلوتي. قلت يومها لكل السانحات: إني مرهق كتاريخ العبدان، مثخن ككل هذه البثور الوجيعة. وافترقنا. كانت النار تكبر بصدري. أسكن لكل الشظايا، وأولد من تحت كل الأنهار، من تحت كل الرماد، وأجيء...

جئت ككل المرات، ما زالت الكلمات المدرسية الجوفاء تقتلعني، وفي صدري الصغير يتمادى حبي الكبير ويتعالى، ويتعاظم، أمتشق سيفي، واتدرع جوعنا والتاريخ الحافي، وأتلصص كالخوف على بيوتات الشمس (أيها التي لو أحرقتني).قالت لي أمي ذلك المساء:

ـ إني أترقب سماء لاتسعها الأحزان. كي نقترب من صولجانها أيها الولد، هذا فرحنا نبنيه خيمة، ونسير سيرنا.

طما الموج في جلدي، حدقت في زيتون أمي ـ ذلك المساء ـ كان وشمها الأطلسي، ينشطر انشطار البركان، يتناسخ ، ويسيح ، قلت لها:

ـ أنا جندي هذا الفرح. أصل من بعده فمن يفنيني.

بكت حرارتها كشتاء خريفي، وعانقتني قيامة صغيرة، أقسمت في كل الدواخل والخوارج أن أتوغل في سكون الغابة، وأرغم هيبتها على الحضور، ضحكت أمي من بؤرة الأعماق. قالت: .

ـ أنت من تحفر التاريخ في دمي أيها الولد.

ومنذ ذلك الحين حملت فأسي. وما زلت أعبر اشتعال الشهوة، أشيد ناطحات الغضب على سطح كل هذه المدينة: ( آه، أيتها الذرية المفجوعة، لامدينة تأتيني. أسند لها أحلامي.)

في عمري تداخلت فجوات الأسماء من الفقراء لكل الفقراء، من الحرب لكل الحرب، وقف الدم في مجرى هذه السنين البيداء، لكن صبري يتقد أشتاتا، ويعانق نسيم الغابات، كليلة صيف هارب. يصيبني البرود، هكذا أنا الولد المسافر المملوء بأغوار السغب، ودقات الموت البطيء، البطيء، كطريق الإبرة في جلد النعل... يومها دخلت غمار الرحيل، قلت لأمي:

ـ إني أضع قدمي على نبوة قادمة. أنا الولد السندباد الأزلي، أرحل عبر متاريس الشد، مرة سأضع إصبعي على برزخ الفرح وأنام على خرائط النبع الآتي...

حملت الزاد، وخرجت الخروج، ودعت النواميس الميتة في أضلاعي، توسطني عرف المحبة، وها أنا أدرج مر السحاب، لاماضي يغنيني، أنا الولد المسافر، ورقة تاريخ يتكيء على سواعد الفقراء: أيها الأقارب القادمون.

هي البداية. كنت أعود لخيمتنا كمالك حزين، أتوسد الدفاتر البليلة، وأضع بندقيتي تحت قدمي، كمحارب طليق. قالت أمي ( ذلك المساء )

ـ واها بو ثايري، إيتابع ووال... ( يا سيد هوى يقفوه الشغب...)

قلت لها:

ـ ثيط أوغايسادان، آوايتيصنون...( عين لاتبصر، من لي باقتلاعها..)

وحينما كانت تتأملني بصدقها الوارف، كانت تتورد في أوصالي رجة عاتية، تهزني من الأعماق. وأتمالك أن أركع في وجه ذكريات عفنة تبني عمري وتنعق على صداه كغربان الجزيرة... ومرة واحدة قرأت عن النفط. آه .كم أنت مبسوطة الأعماق أيتها الجزيرة. أعطينا نفطا، إنا قريبا نمتلك مفاتيح الأرض، أغرقينا في هوادة النفط قليلا، أيتها الجزيرة أعفينا من الهواء... فكرت تلك المرة في بيوتات وخلاخل من ذهب، وأسارير اللون والمدى... يومها كان رفاقي يرحلون الواحد تلو الآخر، يعانقون الصمت في ظلمات الليالي البكماء، ويكتبون تاريخ الأظفار، وجئت، وجاؤوا( هم ) كالعادة يفتحون باب التنقيب عن النفط في دماغي. قلت لهم: ما أنا بالجزيرة. لكن إصرارهم، احتد ، وضعوا مضخاتهم على القلب ، وثريات الجسد وبدأوا يتوغلون في منتهى القساوة : بئر، بئران، حقول ، خلجان....صرخت في سحناتهم الباردة متبرئا:

ـ هذا أنا الولد العاري كنخيل الخراب، لانفط يكسوني، أنا قاع هذه الأزمنة الزيتية، أبحث عن فرحة تحميني، أو تملأ خطوي..

قالوا:

ـ أيها الولد الجاحد لنعمات الله... واقتصوا من دمي، اكتويت برعبهم، كنت ألعن الجزيرة والنفط والنطفة....

كانت المساءات الطويلة، تحاصرني، أتنسم رائحة الطريق، ورفاق الحريق، الواحد الواحد، فأنام على حفيف المدائن المنورة.. وفي مغارات الغربة، أسأل عن المسافات والسطوح، والشوارع الحمراء، والقبور القادمة، فتخفق مني الجناحان، أطير كالطير…هكذا يدخلني الغرق أماما، أنا الولد الموصول بجذع شجرة، ما هم لو كان التاريخ سوطا يؤويني...

وذلك الصباح استيقظت، مشيت طويلا في تلة الزقاق، لا طيور تحدوني، أغمضت عيني على الريح، وسرت أهش على فأسي، وبدأت أعانق الغابات، وقيامة المسافات، وقفت على مضارب خيمتنا الشاهدة، وناديت من صمتها كل الأبواب:

هذا أنا الولد المسافر،

تتعب الطريق من ركضي،

وأنا لا أتعب.

1985.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سبعة ( رجال ).

سبعة ( رجال ) هن.

آهات في طفولات راقدة على الرصيف، ترحل بين الأمسيات، وتتدحرج على أقفال العودة...أطلال كسيحة، وهوادة لارجعة فيها تتسلق هذا الحائط المنهار... الرحلة هكذا تبدأ وتنتهي: الغزو على القدم والساق، القتل الجميل، والليل الطويل، وفرحة هاربة تفرغ شحنتها على الصدور ولا تكون... السكون المتفاقم لا يضاهي النهر، وثمة سحابة ظمأى تزحف ببطء، تملأ الأفق ارتعاشا، وجنون طليق يتواطأ مع المنافذ والأغصان، ويطرق الباب، وغرفة من اللهو تتشكل بانتظام... الزمن الشائك، يزايل الأفق، ويحترق، ينز متأرجحا، وتصدأ منه الأحيان بظلال الوحشة، واغتراب البعض في البعض. والسفينة المفترض أنها تزحف نحو الصباح، تتدحرج منذ أعوام بين مناكب الضياع، والأجساد مثقلة بالمسافات، تتآكل في صورة اللون، وتنضج في احتمال المشانق، وعبوات الرقص تأكل الأرجاء: صمت جميل أنت ياهذا اللون المتربع منصة الأصداء...

ها ( هي ) الآن ترحل...

تنتفض، وتذرع الساحة القديمة على أطراف أصابع القدمين، كأنما فرشت بجبال من زجاج: قامة عابرة، ووجه زيتوني يطرز ظلالا خافتة على الأرض التي تترنح على متعة مقلوبة، والعيون السوقية تتجرجر نحوها، تمتد فيها حتى مرمى الشبهات، بينما هي تتهادى، تعبر الخط الرخامي السائل، وردفاها يرتفعان، يرتفعان وقد يجتمعان، فتستلقي على الساحل الآخر باردة، عاصبة صدغيها بخيط من رماد، تتلألأ على تضاريسها الليلية حمى جاذبة: يداها على دورة البطن حمامتان، وخاتمتها المتراكمة، ماثلة كقفة من القش، وهي تتواطأ مع انحدار النوبة، وقارورة الليل الحمراء تعكس بريق إغراءاتها بلطف هاديء... الضحك المتناثر، المتهالك، عادة يتصاعد أجوف في صمت المسافات، فتصطك الجدران المائلة الماثلة، ويتقد شغبه في بادية العثور...

( هي).لاتضحك، ينغرس في جبينها تاريخ طريف، وتلبس ابتسامة سائبة، تسقط على ملامحها البرية، وتتدلى كالرعشة في سمائها، ويورق ماء الغناء...

تقول الواحدة: المقت من ذهب.

والكأس ـ الكوكب الدائر يتهالك على الاستسقاء، وقامة القارورة تنسحب رويدا، رويدا، ويدخلها الفراغ على سنة الله، من جسد لجسد يتدفق هذا الحصن، يتمادى، ويستطيل في اللذة والانتشار...

تقول الثالثة: كاد السكر أن يكون رجلا.

مجرد عشاء من الثواب يسير، ثم تستيقظ النافذة، بينما ( هو ) يتلوى، مثقوب كمنامة صبي يتوعده شريط آخر من ذكريات يلقي بعضها فوق بعضها، ويتوسد هموما صغيرة في داخله، ويرشق المشهد بحنين مهادن، تتردى فيه أباريق وديعة، ويكتشف سر الصابئة المتوحدة فيه. جالس على ناقة الغيب. دخان قارس يتصاعد من غفوته، وستائر شبه بيضاء تغلف مدامعه الدانية. وعيناه الضبابيتان كانتا ترسوان على صدر الكأس المهاجر كأنما يفكر في بداوة قادمة...

في المهلة العابرة بينهما، تتفسح ( هي ) على مراثي غريبة، غلالتها ـ الصحراء الوارفة، تفتك بقرى الصمت الذي يراودها، ساقاها الصفصفاوان المشوبان بكبرياء النعومة، يباركان قيدها الواحد على الواحد، وتحت الغلالة غابات ليس بها سر مخبوء: منابت الشعر، مهاوي الرغبة، آبار الشدة... سلالات جرداء، تتنهد، وتستدير نحو وقوف ثقيل، تتكيء بساعديها على الرف العنيد، ثم تطمو في برج الحضرة، ويكتمل الدوار، وأتون الغناء يفور:

قاتل، كاليباب.

أنا من هواك أتيت،

أمشي على ريث من مداك،

فأرني وشك البوح فيك.

تقول السابعة: يا أيهذا السبع متى لقانا.

تمر نسخة من هواء بارد، تمسح حذاء الضباب المسافر في الأعماق، وتنعش دورة النوم الصاعد، ولكن لاأحد استطاع أن يفيق على تلك البرودة الجاهزة. ( هو ) كان يتحامل علىجدواه، ويتجه نحو الركن الغارق في طاقية سوداء، يعبر زيزفون الأجساد، وتكاد العثرة تسأله، لكنه يتمالك، يأخذ بجذع الجدارحتى شجرة الركن حيث يجلس المرحاض النبيل: أنبوب الذكريات المعهودة. يرخي خلفه الحاضر، ويفتح كناش معداته الغائبة... على أرباضه ثمة رائحة تقترب من الدم الخاثر، ومناديل مرقشة تلفحها قشرة من رغوة صابون معلوم، الرائحة الشهيدة اقتلعت كعباته، وأظلمت فيه أشياء الأمعاء، فانهار انقباضه، وتقيأ سفر البطولات، وحجر البهو المشتعل يناوئه:

( برادي، برادي

برادي د المعدن،

والمحبة بالخاطر

ماشي في يد المخزن )

يتوكأ على الجدار، ويتنفس قرآن الصعداء، وحين يموت ( هو ) في الزاوية المحاذية، يخرج الضحك الأصفر من بطن الحوت، فيسافر فيه لغو حاقد...

تقول السادسة: أنا المسدس الخائن الطلقات.

وأزرارها ( هي ) تنفلت على الغرة، وتكتب صمتها على حجاب الكلام، يسري حفيف حركات في جحيم الساحة ويرتطم الحلم بالحلم، اليد باليد، القاع بالقاع... والدولاب ـ الكأس الدائر يتعرى فتكسوه أصفاد النبيذ... المغارة تزداد انقلابا، يتدثر البعض بالبعض، وخيط بهيم من الدخان يشاكس الكأس الدائر، ويملأ محطاته، والأشياء تهرب إلى الوراء، ودموع متعبة تغلق شاطئها، ترحل في البياض، وتتوغل في ساقية المكان...

تقول الخامسة: ياأيها الكلأ تول أمري.

ها ( هو ) الآن يشتغل. ينزف حقولا من الغمام، وألف ألف سماء من الحزن، تتجدول في داخله واحات مهترئة، تتشكل برزخا ميتا يتنفس في مجراه رسالة صماء وصلته ذلك الصباح، ويسبح في غرف من عين الرحى تداهمه، ويغمره دبيب رعشة تحفر فيه نخوة الشراب حتى الهاويةن ويتقلب على لذة انتظاربلا لغة: مجرد أمسيات ذابلة، وبنادق ظمأى، وطقس حاف يلملم الهتاف نحو جيد المحو...

تقول الرابعة: أيها المربع تربع دمي.

ها ( هي ) الآن تستريح.ينفض ربيع الرقص في وطأتها، وتتهاوى على القارعة سنبلة هاربة من الجذع، تشرب دورتها، وتعانق الكأس بارتطام، فتهبط القطرات الحمراء في جوفها كما تغوص الحصاة في جلد الماء، تأخذها حمى فرح غامض، ويعود الكأس منها فارغا، وتغرق في صلاة جارفة، يلفحها خشوع هزيل يتنهد على مشاربها... وتمر كتيبة من الصمت تمسح المكان، وتتبدى الأجساد مهروقة نحو حبل الموت، تنحل الحركة، ويستشري هجوم خفيف على الأطباق الطائرة في الصدور، ومع ذلك ظل الكأس يستنفر الأحداق ويخرج رقاب الموتى من بالوعة الانهيار...

تقول الثانية: سراحا، سراحا لهذا السجين.

وظل الأفق على الرغم متوردا، يفجر الضياء، ويدخل يثرب الصلوات، وحصاد المواقيت، ويعلو في مداه النداء:

السابعة: جلس القبر.

السادسة: جاء القهر.

الخامسة: هرب النهر.

الرابعة: بكى البر.

الثالثة: خرج الفقر.

الثانية: طلع البدر.

الواحدة: أذن الفجر.

سبعة ( رجال ) هن. والكلب ( الثامن ) ظل وحده جالسا على تابوت من وفاء. ماذا لو ـ على الأقل ـ كنا كلابا.

1984.

 

حالة غير خاصة.

قالت لك ( ميمونة):

ـ هذه الأرض ربوة من تعب.

فاقترب قليلا،

قل لعقرب هذه الساعة أن يلدغني.

كي تكون أنت، سأجلس أنا في جب الصحراء.

...لما قابلتك آخر مرة على قبة البيدر، والنهر الصغير في متنها، وبراد شاي يحتضنها، وأنت منسغب، غاضب إلا قليلا، تزاحمك الهوة بينك وبين ريح " الغربي" الذي رحل عن جبهتك. اشرأبت فانتفض شهريار في برزخك، عانقت كتلة الطفل كقلعة " مكونة"، وانهال الصيف في رحابك، تكلمت يداه، قدماه، وحدق في شيء غريب أنت لا تدركه...

قالت: مساء الخير. وغمغمت في خابيتك التحية، طلعت عيناك قامتها، ولم يطل مقامها، انبريت:

ـ ما الذي أخرك لبهو هذا الأوان...

صوبت البراد المعدني نحو الأرض، وانتشرت عيناها المكيتان في سحنتك الغبراء التي لفحتها شمس اليوم الخانقة، وأردتك موجة سافلة، ود رديا شاهدا. وضعت البراد في أناة واهتزت، وقفت سيول الحوار في شفتيك، انتقلت أشتاتك في غيبوبة ما، ومرت جنازة الكلام بينكما... أنزلت خبزة الشعير الدافئة من فوق ردفيها الملففة في خرقة طاهرة أو تبدو، كانت جزءا من إزارها القديم، نزعت تلا فيفها، ثم سألتك في حياء أبدي، بدوي عن " الغراف"، أشرت بسبابتك للطرف الآخر من البيدر، أشرفت بنفسها على جثة " الغراف"، وجدتها مغموسة بالذر، ونفايات التبن، ثم همهمت فتات كلام مخبوء ضاع في أدراج الأعالي...

اعتدلت في ارتمائك وتعلقك بالأرض... دلفت إلى عرفات البراد، وضعت أنبوبه في علو على شاطيء شفتيك ثم جرعت جرعات، وقرص الشعير يتآكل بفعل افتراسك تقضمه، يقضمك، وهو في تدن وانتقاص... بينما كان الطفل يتأمل البراد العاكس لأشعة الشمس في برودة خالدة، وأنت كنت لا تبالي...

«ميمونة" التحقت باهتمام مرفوع، تكنس أطراف البيدر، وتردد مقاطع غير واضحة من أغنيات هاربة، طاف طائفها على حبات القمح المتناثرة على محيط البيدر، وانتهى جوع أكلك، وقفت، والصبي يتابع ظلك، حركاتك، وعيناه تنجحران في قامتك، وأنت لم تبال... مسحت زبدة تعبك عن سرير وجهك، وانتفضت، ثم خطوت، مشيت... في مأمن من العين، التفت الميمنة والميسرة، لا أحد يراك، فتحت تكة سروالك المغربي، تناثرت حولك سحب من ذرات التبن، وبقايا الأعشاب، أطللت على لحية بطنك، نفضت عن شعرها فقاعات التبن، ومسحت قضيبك بالمناسبة، ثم استويت، وجلست القرفصاء تخرج الخبيث... وهي، نكشت صدر البراد، رمت بنفايات النعناع بعيدا، لوته في" الخرقة"، حملت الصبي تداعبه، ويضحك في طموحها، كفتنة قادمة...

يومان. وأنت وحل في هذا البيدر، وتنتظر جناح " الغربي" لتذرو هذا العجين.. بالأمس بت على هذه الذكرى، واليوم على ما يبدو سيكون لك المصير نفسه. و" ميمونة" وحدها تظل تذكرك، تعودك من حين لحين...

نمت الليلة، ثانية على هامش الزرع، يلعب بي نسيم الصيف الدافق، افترشت غرارة يفوقها طولي وعرضي، ألقيت على جثتي برذعة أدهمي حماري، واغتربت داخلي، توهمت أني نائم، نام قدري، تضايقت من أشواك البرذعة، ولكن لم يكن بد من أن أخضع وأتجمل... اختطفتني كتائب نوم صديء، يفك أدغال التعب في جسدي، رأسي الملغوم يتوسد حذائي البدوي القائظ، عاريا، قدماي معقوفتان على قد البرذعة كمنجل مغربي، وجثتي كانت تغرف دموع القهر..لا أملك قوة، هل خادعتني الرهبة، أم أني صائد حلم يتبخر ببطء كبير ، ويصدأ على قارعة الليل... أيقظني فجأة دبيب حافر يقترب، يقترب، ويتوغل في أطرافي صوت ليلي يتقدم خفيا، وسرعان ما انفتحت عيناي، توقفت أنفاسي على حافة الخوف. رفعت البرذعة عني في ذعر رهيب، ارتفع النصف الأعلى مني...ولمحت شبح بغل كان يقترب من البيدر، نهضت للتو، أنأيته عن كومة الزرع، وعن خوفي... كان القمر شامخا في بطن السماء، لكن مشهده لا يبهرني... أحسست بتعب مولوي يخنق أوتادي، بقليل من الجوع يتفسح في ضاحية بطني. لقد تأخرت " ميمونة"، وأنا مرهق كعلبة كبريت بليلة..

استأنفت قبري الجميل، لكن ريح الجوع كانت تغوص في منابتي بشكل بشع، تقلبت، انقلبت بصعوبة، والبردعة تثقل حافاتي... طويلا، أو قليلا، صعدتني خشخشة تمزق صوت الكون. الحركة تزداد ثقلا، واقترابا، وجذوع السنابل تلعلع، تهيجني، داخلني شوب من الفزع، وتجلدت حين وقفت الخطوات على ساحل رأسي، وأمهلني صوت "ميمونة":

ـ أنائم أنت ؟ .

واستيقظت أشجاري، ناهضت عيائي، تعشينا أنا و"ميمونة" ذلك المساء على ضوء القمر، حدثتني عن جحيم اليوم وقبور القبيلة... وددت لحظتها مداعبة الطفل، لكنه كان نائما على ظهرها تبقره الأحزان من حيث لا يدري. أتينا على الخبزة بالفص، والبراد بالنص، مصصت أذيال النعناع في الأخير، تجشأت بعض الشيء تعبي وأرقي، بينما الصبي المقتول في عمري ضربته اليقظة، ومد قدميه الغريرتين، وطلع بكاؤه يملأ صمتنا.. استقلته " ميمونة"، عرت صخر ثدييها، وهب متعلقا بحلمتها يجتر حليبها، وسرعان ما أكله النوم من جديد... وقتها كانت "ميمونة" تعكس صورة القمر، فتبدو حورية مسكونة بالجلال، تنزل فيها الملائكة والأنفال، حدقت فيها كشاعر غربته الزهراء، قرأت في دمي ريح الوغى، قرأت فيها باكورة الفتنة والإغراء، فارتدت من مقعدها، تدلت يداها على عنقي كجناحي طائر، ثم تعلقت بحزامها، وانهدمت قامتانا في ثوان...

وافترقنا. هي حملت في احتذار الصبي، ولته عرشها، وأنا كنت أرتب مراسيم قبري من جديد...

قالت لي بصوتها الحدائقي:

مملكة من الخيط في نبضي،

تمشي.

أنا دودة القز.

ما كانت تنتظر جوابا. قلت:

في الحلم أخفي وجهي.

وفيما أخذت صهوة الطريق نحو الخيمة، كانت جفوني قد انغلقت كدفتي كتاب صغير...

1983.

 

الشجرة

 

1 ـ

الشجرة، وحدها في الطريق. تعيش على ملكوت الانتظار. السماء مقبرة هادئة، لاهثة، تتأمل غربة الطريق. والطريق طويلة، متهاوية، تقاتل فرسان الريح.. والرجل وحده، يمشي، والطريق تمشي، والريح تمشي، والسماء، والشجرة لا تمشي.

الرجل يكابر، يترنح، يكسر قدميه على جوانب الطريق، ظله المتآكل لا يراوحه، يضايقه، يبتعد عنه قليلا أو يقترب، يتشكل ألوانا، ويلعب بصورته الصغيرة، والرأس المستدير، يستطيل مرات، يتضاءل مرات حتى حجم تينة.

قال الرجل في نفسه: ربما أخطأتني الطريق، الأفق يمتد في وجهي، يمتد في العمق، ما أنا إلا ضليل. فكر في المراجعة. وقف على حافر الرصيف، تأمل نصف الطريق، أو بعضه المطوي بخطواته، صعدت نظراته في بهو السماء، ألقى مناسمه على الجهات الأربعة، عرف الشمال من بعض الشرق، وضاع بين جنوبه والغرب، كان يحس وكأنه مغروس في بئر عميقة ولا يستبين الآفاق. صب أنفاسه ولم يستطع أن يتجاوز نفسه، أمسك ناصية الطريق، والشجرة وحدها كانت تراقبه.

تمنى لو أن أحدا يصدمه، فيعفيه من بركان الشكوك القائم فيه، داخلته بومة الوحشة والانكسار، لكن دقات قلبه كانت تحافظ على الحد الأدنى من الثبات، فكر بجنون، قال جنونه: إلى أين يسير ؟ وتسامى السؤال فيه حتى حدود الانصهار، لكن قدماه كانتا تأكلان الطريق بإصرار، والسؤال يتناسل في ارتداد، يكبر، يصير شجرة. .. من أي البدايات يعود، ومن أي النهايات يبدأ. التفت، لم تأخذه رحمة عابر، لم يسكن روعه الطويل، وقرر أن يقف، فما جدوى الآن أن يفتح السير على مصراعيه، والليل يدخله كبهيمة صماء. اعتراه سراب أحلام ملغومة، وأحس بعجز دابر يفترس شؤونه وقصب المفاصل، فاحتد غضبه وقرر أن ينام تحت الشجرة، قبل أن يقترب من الفجر الآتي، ويفتح أحراش الطريق...

2 ـ

الطفل ورقة بيضاء، مرسومة على جناح خريف، وديعا كان يبدو، جميلا، على رحاله أحلام صغيرة، تأكل نبوته، طارئا على صغره كحمى مستنقعات هذا العصر. منذ نعومة أظفاره المتكلسة، حفظ زاد الوضوء، وأركان الإسلام، والصلوات الخمس، وبعض عجين محفوظات أقحمت في قارورة دماغه.. يجلس في الصف الأول من الفصل الأول، هادئا، تأكله أدواته الصغيرة: قلم رصاص، ممحاة، أنصاف دائرة، وأقلام تتبادلها الألوان، السبورة السوداء، السوداء تسرق عينيه، تنبت عيناه على السبورة، على مهرج يحاذيها، ويتمسح أصداءها، يلعب بالقواعد، والأحكام والأفكار، ينسخها، يملأ الستارة السوداء بكلمات عجفاء، متناثرة، خطوطه المكسورة تتعانق في فضائها، تتلاحم، تتراكم، تتواثب، تمتد، وتتشابك لتشكل شجرة... يأتي المهرج على الساحة السوداء بالتمام، يشده الطفل بعينيه، يبهره رعب الكلمات، حركات الأفلام المدرسية، تأكل المهرج رغبة ومزيد من التخطيط، والعادة أنه يحتاط من أن يعود فيمحو بهتانه عن الساحة السوداء، يقفز الطفل، يأمره، يعتصم بخرقة بلون هذا الزمان، يمسح البياض عن وجه السواد، يبتعد المهرج قليلا يفتح النافذة، يهرب من ذرات الطباشير المتناثرة في أفق الفصل، ينفض أعتاب بذلته، ويغزو الفصل هدوء ونسيم يتسرب عبر فرج النافذة، تسكن حرب الذرات، يبدأ المهرج حلقته، والطفل يكون قد تسلق الساحة السوداء، وأعاد لها بهرجها الأسود، ترتج أضلاع الفصل بهموم صغيرة، بخشخشات أجساد صغيرة، وأسئلة كبيرة تتجه نحو ضابط الحركات، وبرزخ المعلومات...

تفرغ المدرسة حمولتها، تتقيأ معادنها، يخرج الطفل مسفوعا، يحترق في جوف محفظته البدوية الخشنة، يتشتت الصبيان والصبايا شذرات مذرات، ويظل الطفل المغلوب وحده مصلوبا بأعلى الفراغ... تحتك معدته بلبنات الجوع، فيهرب للضفة الأخرى يستند إلى الشجرة، يفتح دواته، يقضم الخبز اليابس فيها غذاء يأتي عليه في دقائق، يتكيء بقواه على عنفوان الشجرة، ويقرأ محاريث دروس المساء، قبل أن يزحف لباب المدرسة، ويشعل فيه شغبه الصغير... هكذا كان يهاجر من البيت صباحا، ويفني عمره في أوج الفضاء... مابين كل صباح ومساء، يتمزق، يتدحرج كورقة بيضاء على رصيف...

المدرسة قاهرة، جميلة، كان يغرق في حبها، يحل فيها، وينحل فيها كعيساوي صغير، يحفظ الدروس العفنة ظهرا عن بطن، وبطنا عن ظهر، ويحسده الصغار حين يصمد أمام بارجة الاستظهار، وهو يطرق مسمار الاجترار، بقامته الشريدة، بهيئته النتنة، وقوامه العتيق الفاغر فاه لأزمنة محدقة... ومع ذلك كانت عين المهرج الكبير تبغضه، تتجاهله لأن وجهه يقوم فصيحا أكثر من لغة قريش، والأسئلة الغريرة تقفز عليه، وتركبه أياما وشهورا، على الرغم من أن سبابته الصغيرة كانت تسمو في فضاء الفصل، تعنف، وتكاد تفقأ عين المهرج الحاذق...

وسنة تمضي، كان الطفل ينام تحت الشجرة، يفترش دفاتر السنة الماضية، يتدثر بها، ويكتب الضياع بالقراءات السبعين. كانت الشجرة تحبه.

3 ـ

كنت أجلس في المكتب، خنزيرا ظريفا، كل صباح أحلق حانة لحيتي، أنضد ظواهري، ومظاهري، يستقبلني الحارس الوديع في المدخل الرئيسي براية التحية: صباح الخير، سيدي. أحييه في شموخ بليل، وأنشر خطاي في اتجاه مكتبي الكبير. أنهار على المقعد، أصفف أوراق الأمس، قبل أن أستضيف أوراقا جديدة، وملفات غامضة، أستعين بها، لأستوقف وأستبكي، وأبرر عجزي أو تماطلي... أشعل السيجارة، أوشح فضاء المكتب، بوسام دخاني الأول، وأنفخ بعض صداعي إليه.

يدخل البشري الأول، يلطخني بالمهمات: عقد ازدياد، شهادة عوز، حالة مدنية.. ورقة.... وتشتبك في ذاكرتي شجرة الأسماء، أحتاط أن أدفع الصغير والكبير بالتي هي أحسن، بعد يوم، أسبوع، أسبوعين، ..أيام... يزدحم العابرون في بابي كمستوصف مغربي، وأضطر للتدخل كمكتبي ماهر يحفظ القانون بندا فبندا، أتحرك من مقعدي، لأرفع في وجههم بداوتهم، أهجوهم وروح القدس معي، وأنفخ فيهم روح النظام والانضباط، وآمر " المخزني" أن يضرب على يد كل من تسول له نفسه أن يتعدى الحدود أو عتبات الاحترام والإذعان..

أعود لمكتبي، أفتت الأوراق أمامي، وأطأطيء كياني، منهمك في يقظة من أحلام، وأضحك في داخلي على الرغم الذي أبنيه.. تقترب الساعة الصفر، أستريح على الدقائق، وأمسح مهانتي في الآخرين: إلى المساء... ومساء أعود للمكتب مخفوضا، مهلوكا، وأعود لمقعدي أتراخى على دفئه، كعجلة مطاط يائسة،..يكبر عدد الموعودين في وجهي، ومع ذلك أصرفهم صرفا، أعود لفصول القانون القائمة، وألعنهم واحدا، واحدا، بمقتضى هذا الفصل أو ذاك، وأغلق نافذة اللقاء للغد، وتحين ساعة الصفر، وأفلت من المكتب مكتبا يسير على قدمين...

في أغلال المدينة الصغيرة، كان كل ذي حاجة، يستنفرني، يبكي على أطلالي، هذا يشفع بدرهمين، والآخر بعشر، والثالث بخمس، والرابع بعشرين... وأعدهم أن أكون في خدمتهم، وحين لا أقنع بالمقابل الفاتن أضغط على بنود القانون، أفتح فصولا جديدة، وأداول القضايا في سلم الخطورة، ويأبى الضحايا إلا ارتفاع المقابل، فأتظاهر بالقبول على المضض، وتواضعي، وحيائي المغربي...

كنت بالمناسبة، آخر موظف حقير يلحق هذه المؤسسة العتيقة، وشهورا قضيتها في البحث عن مسكن بسيط، لكني فشلت كانقلاب غير مضبوط، وكان ملحا أن يتداولني أصدقائي الجدد كضيف ثقيل، ليال، رغم أنهم بخبرتهم العتيقة كانوا يهربون من شموع الحقيقة... وذات مساء انزلقت من المكتب، واعترضتني طامة أحد الزبناء، وظللني كتابعة، جرني للحانة الصغيرة في المدينة، شربنا معا، ووعدته خيرا بقضيته، ثم انصرف، وودعني وصدره يغلي فرحة. وأنا وقف السؤال في حلقي أين أبيت الليلة؟. فلم يكن جائزا أن أعاود الأصدقاء، وأنا في حالة سكر. مشيت دون اتجاه، طاوعتني بعض قدمي، ادلهم صمت الليل، وأحسست برغبة ثابتة في القيء.. فعلت لكن وعيي ازداد غيابا... الفندق الفاخر الوحيد في المدينة، احتجزه رجل خليجي، فكرت آنذاك في نسفه، لكن لم يكن معي من المتفجرات إلا قلبي....فجر اليوم الموالي، استفقت، وأدركت أني قضيت الليل نائما تحت الشجرة.

4 ـ

من يستطيع أن يسرق النهر من منبعه؟ أن يفتح لذة الحرب على مصا ريعها، وأن يعلن لحظة الميلاد.. الليلة ليلة. الكأس الدافقة على الطاولة حافية، والحاضرون، المدعوون، منقبضون، معممون، والنوافذ مشرعة على دينهم... لا طريق في رأس الذكرى، القافلة تنبح، والكلاب تسير.. تسير. الحرس الشداد يملأ ون الفراغ، والفراغ يتجدد بين اللحظة واللحظة، يكتب اسمه بأحرف من نار.. يحيا فينا أو نحيا فيه. تلك قيمة ظرفية.

الأشياء كلها تتحرك: الجدران، والستائر، والنوافذ، والطاولات، والأزرار.. والمدعوون جامدون، صامتون، عيونهم في عيونهم، وأوطارهم في هبوب، أو اشتعال...حافة الكأس، تتشقق، تتكسر ببطء شديد، وشظايا الزجاج تتلألأ، تتصدع.. الوليمة تبدأ عادة بموسيقى جنائزية قاتمة، الجو ق الموسيقي المعلب، يبدأ العزف، وأنغام نفطية تتدفق، تتدفق، وتمسح ظلال التعب عن المدعووين... هي. لا تنتهي الخطب النشوى، الصاعدة، ولا صدى لها تماما، كواد في صيحة، أو غبار يتلاشى على مدارك الأسماع، الأنخاب تتعانق، دمي رأيته يشرب لصحة الغائبين. الموسيقى تحتد، الرقص يتأجج، والأجساد المعجونة لاتقوى على الانهيار. تهدأ الموسيقى الدائبة، أو تكاد، تلتف الأجساد بالأجساد، تكاد القلعة تختنق، بدل العرق والملح، كانت الأجساد تقطر نفطا، والخبراء برروا ذلك بأنه فتح من الله ورضوان.

احتد مشاع الليل أو تترامى، وكانت الأنوار تنطفيء في رعب جميل، والحرس يكررون العرق قبل تصديره، والحاضرون نام كبرياؤهم على رائحة الدولار العطرة التي كانت تفتح الشهوة على الذبح.. أكل الحاضرون أو شربوا. ادعى النبوة من ادعى. والحرس شهود عيان، ونساء ضعيفات العقول، كتمن الجهر خشية إغراق.. القلعة مطوقة بحصن من الجنون، والبنادق مرفوعة على صحة الغائبين.. ظلت الكأس فارغة، ودم الفقراء يروي الأرض، والحرس يتبركون به نفطا... وحين جف دم الفقراء، جفت آبار النفط، ونبتت على الفور شجرة..

5 ـ

القرية نائمة على مقبرة. جاءها الليل سلطانا، فدوخ البلاد والعباد، قلنا: تبارك الذي بيده الهواء.

الصبية الهمجية تخرج من دهليز الكلام، تغرقها الشمس في فوضى من الفرحة الممنوعة، والمزارع المشنوقة يفترشها الصبيان وفلاحو السهوب الخضراء.. لم تفكر الصبية في رقابة مقص، كانت تتوشح باللقاء، وعرشها يستوي على مقربة من الفيض.. هي جميلة يتقاسم نورها قمر صيفي، وبقرة وحشية.. على صفحة الأرض ترسخ آثارها القبلية والبعدية، وتتشكل طللا فارعا، قلبها بركان صغير، يدق، يدق فتهتز جذوع نهديها، كمدينة يضربها زلزال خفيف. يطلع الدفء في كهف إبطيها، تتقد نار مشبوبة في مغاوره، فتتساقط من حين لآخر قطرات عرق حلو على جدران جسدها... تجتاز العقبة، تعبر النهر، تتعب، تجلس لحظات، تنفخ فيها دأب الحنين، قبل أن تنهض وتملأ الأفق فيضا من جلال ومن بهاء...

القرية مجذومة، تتآكل مفاصلها كنقطة حلوى، والصبية تسير على رحلة مغموسة بالنسيان... من الجبل الخامد تتوارد لغات طيور عصيبة تدغدغ الصمت، فيشتعل اللحن في أقدام الفلاحين، ونساء الغابة... وتقفل الشمس راجعة من مغربها، تشرق من مغربها، ووجه الصبية يتوهج، وتتبدد عليه المعلقات العشر والعشرون... سور من الحنين توشيه، يوشيها، ويتورد الجسد المعاند تحت إزارها، يتشوك، تطفح على ظاهره حبيبات صغيرة فتتدفق فيها كعبات من عبرات...

لم تنم القرية، محروسة هي بجند الزمان، يصل الليل منتهاها، ويزرع فيها الجهل، والجوع الوثني، فيتنادى الرعاة، والقصر والمد، على صدرها بأوسمة العصر والقهر ينعمون... الصبية مازال عشها يتورد، تلعب بها أسئلة كهر بائية، لكنها تقف فيها رعدة بداوة مقبولة تسبح على روعة السفح، تصعد الوادي، والحافة المقابلة، وتصل لربعة الجبل الصغير، حيث كان الموعد يسرقها من الوجود.. شدت مفاتيح غيثها، وضعت رحالها، أوزارها، أفرغت أحلامها، كأنما وصلت متأخرة، ولكنها كانت رائعة وهي تعانق فارسها وتسند كتفيها على صدره تحت الشجرة.

1983.

 

 

النفس غير المطمئنة

جسدها منطفيء. منطفيء جسدها. صخرة هامدة تتدحرج على فتنة من حصير، وهي على العكس نار موقدة، تتقاذفها أمواج لا مرئية قارسة. البيت بدوره منطفيء، إلا من دموع شمعة تظلل أفقه الخاثر، وتفتح كوة صغيرة على طاولة ميتة، وكتب معجونة، وأحزان طليقة تداعب خيوط الدخان الهرم الذي يسافر في خلايا الجسد، ومرآة الحائط المهمشة التي تجادلها... الليلة في الحقيقة داكنة، وداخلها قاتم، والبيت في خاتمة المطاف، يشدها في خليجها هدوء غريب، وتملأها عزلة خضراء تنهش منها الأضلاع، وتهلل لانتجاع الليل، وقيام ساعة الشمعة الوحيدة التي تتخللها، وتتوحد معها في وحشة مهجورة.

لليلة الثالثة تنام النفس غير المطمئنة، وتفيق على الطوى، تقلب أشتاتها في فراغ رهيب يملأها بأشواط غريبة... قبلها كانت قد مسحت أكوام البيت من بقايا الخبز اليابس، وشظايا البصل الجريح، وأعقاب الطماطم التافهة، التهمت الطيب والخبيث، وأتت على كل صالح لعادة الأكل. قلة النفس أو كثرتها، أو هو الحياء، أو الرياء، يعوقها أن تتدرج إلى جارتها، وتبثها الرغبة في عتق الروح، لذلك قررت المقاومة، فأربعون يوما على الأقل يستطيع المرء أن يحياها دون طعام.

صباح الأمس وفد وكيل هذه الأسلاك الكهربائية، لعن الله فيها العشرة، وقطع التيار عن مجالها، حاولت جهدها أن تزرع في لينه شغاف الرحمة والاعتذار، لكنه كان عصبيا، وتظاهر بالنزاهة والصرامة، وصرف كل ضمائر المهنة البارزة والمستترة، وكانت تتأمله وهو يضحك على سذاجتها وبساطتها. ولم تجد بديلا عن أن تستعير بليل هذه الشمعة، يغرد على أطلالها، وتستعين به لتتفقد أحوال أعضائها التي تمازجها الجدران...

قليل من الاحتمال مازال يترعرع في صدرها، تتقلب بين الفينة والأخرى القادمة، فيتخلخل حطامها ككثبان القصب، وتتشابك فرقعات المفاصل وقعقعة الأجواف. تتملى وضعها في أسى جارف، وتقول: هذه النهاية الكبرى، تدنو..

واستدار الليل، تسللت أهواله في محيطاتها، واستنفرتها قوات جوع رادعة، حاولت صدها بقدح ماء، لكن الصولة كانت تفتح أمصارا وثغورا، فكرت في أن تضرب دورة يائسة في الدرب لتتفقد أحوال القمامات، ولكن رهبة ما تشاكسها، فتعتصم بحبلها، وتفتح ذراعيها لمزيد من الذعر والارتكاس..

كانت الرغبة في النوم تبتعد عنها، مثلما تبتعد الأثمان عن أشيائها، تتهالك مهدودة، تقلب الطرف في برية الخواء، وتنحر لوعة الشمعة الوحيدة، مرات تعود فتبني نورها، وتحفر عينيها في صمت كاسر تقرأ في جلده قرابين الجوع... يستطيل الليل ما طال، يستدير ما استدار، ترتد الشمعة لبرد الانطفاء، ينطفيء جهاز الظلام على مشارف الفجر، فيداعبها نسيم من صباح أليم. فتخرج عاصبة أمعاءها على الفراغ، تنقش خطواتها على هذه الشوارع البكماء. تسألها الطاولة المريبة، أقلام الحبر الجافة، الشمعة الميتة، الدمعة الجيفة: إلى أين؟. تقول: أنا ذاهبة لأزور قبر يومي.

*** * *******

الوجه ( وجهها ) الشاحب يترقب عراء النافذة الهاربة من عمقها، يشتعل، ينتقل في شبه دائرة مهزوزة، فتحمل النافذة صورته الضبابية من بعيد، ولا يعلق الوضوح بملامحه المهدورة... الأفق المتكلس، المتجبر، المهيمن، يتعب فيه، والفضاء شجرة خوخ طالعة في غير سماء، تلفح ذكريات نصف الجسد السفلي المحمل بأتعاب مجدولة... قلما تنفتح هذه الطاقة على شيء غرير، والوجه طالما اعتلى نزوتها، والعين منه اكتنزت في جلود سديمية لا رائحة ولا لون لها، بينما يظل هو غارقا حتى حدود الانهيار.. تقول لها المدامة العائدة أدراجها من سياق المحنة:

ـ عمي مساء. أيها الطلل البالي. أو تدرين لم خيل الله تكبو على الشرفات؟ أو تدرين لم شمس الله تخبو وتموت على دوي الفصول؟

يتوزع ( وجهها ) أعقاب مرايا على الزجاج المتخلل فسحة النافذة، فتمتد يد طولى تزرع دموعا قارية على تضاريسه، تتأرجح، وتتعلق ظلالها بطن النافذة كخطوات لاعقب لها...وعيناها تتعثران في دمالج اللحظة، ولا شيء يتواتر في الأفق سوى أنين متصاعد، يلدغ ضيق المجال، ويتسع، يعلو حتى يرخي أشواكه على مسام القامة، تقشعر المفاصل المبعثرة، يسكن خليج الخوف حطام النافذة، وتجلس النفس غير المطمئنة على كريات البهو الفارغ، المغمور، تقول في دواخلها:

أي لغة تتكلم هذه الفجوة بيني وبيني؟ من يوقف أبد هذه الصحراء في قيدي؟

ينغرز الوجه من جديد في مجرى النافذة، يعانقها، لاهي النافذة تنهار ولا هو يمضي لحال انتهائه. انفرط الشكل في الشكل، اغترب الآخر عن الآخر. ذكرى صغيرة ـ فقط ـ داكنة تحرك الساكن في مبيض الهوة القائمة، والوجه يتلوى مرات، لتركبه ابتسامة غاربة تدغدغ قليلا مرعى الشفتين، ترتطم العين بالسور الأفقي الشائك، وتتبدى أنواء هزيلة، مثل نجيمات قطبية تسري في عراقة اليأس، يتضايق جدار الأفق، وتندلع أوتار شتوية دافئة، تلعلع الطلقات في الحوض منه، تمتد اليد أو العين أو العصا أو السيف، وتعود سيرة الأشياء لهوة الصدع بينما النفس غير المطمئنة ترسو على خيط من عماء، وهي تردد:

أي وداعة تنطلي على هذا السكون الهارب، من ريح الحلم، لغابة هذه المحجة السوداء. أي زمان يفيق الآن من مهده ويعتريني؟.

تسود الستائر المصبوبة على إكليل العتبات، ويتصاعد في حافاتها دخان رغبة ما تلهب الشماتة بين الأوراق المتدلية، يسود الوجه ( وجهها )، بينما حواشي النافذة تورق على فراغ دام تحرسه فيالق من ذباب جميل... ثمة غربة يتيمة تحمي صدأ الغرفة من الانكسار، وصديد تاريخ مشلول يتفسح في خزائن الذاكرة، وينشر غسيله على المناكب، تتعنكب الصور المجهضة في الرفوف، على المائدة المقلوبة، والبهو المسطح، وتبدأ أقدام نار لا مرئية تضع رحلها على سحنات الوجه ( وجهها )، فيسيخ وتنبت على معالمه حقول هذيان بليل... وموج صغير من إجاص الكآبة يفتح طفولته على الأفق، تلتحي الصومعة فيه وأقواس النصر... تخرج المعاقل إلى عقلها، ولا شيء يمشي بين هاتيك القبور، على سطح هذه الدوامة. يتراكم عجاج من الوقت على الوجه، فتنغلق أساريره، وتصرخ النفس غير المطمئنة في وجه القلق الصاعد:

إلى أين أيها الليل المشتبك، المتلبس بالرهبة والإغراق...

تفكر مليا، تقف جامدة أمام النافذة، والنافذة تلبس لونها، وتقول مع زجاجها:

أيها الوقت الينقرني، تعال.. تعال.. افكك رغبتي، وشيد باطن هذه الحرب على الظاهر.

* * * * * *

السدرة الغريبة، القريبة، مسمرة على كابوس من نور، وهودج مكسور، ودوامة من الجوارح، ظلالها لا تشعر بالغرابة، تلك الممتدة بين القارعة وماء السماء. بين السدرة والطريق رأسمال من الأجساد تتحطم على دوي حجارات عظيمة... والنفس غير المطمئنة تقترب من حرف السدرة، تغلق كوعيها على خامات الحقول المتقدمة في بلور العنفوان، وتمشي...حين تورق السدرة، تجلس النفس غير المطمئنة في خوفها.

في ظروف كهذه مختومة بالشمع، سوداء كقلوبنا، تستطيع النفس غير المطمئنة، أن ترحل بقدر الرحيل، أن تشرب ما شاء الله، أن تصطاد زبناءها العابرين، وأن توقع على الدفتر الذهبي، وأن تنام حتى انقلاب النهار، لكن أحدا لا يستطيع أن يراهن على مقامها غدا أو بعد غد..

على طول الطريق كانت النفس غير المطمئنة، كأنما تتقدم على شظايا مرآت متكسرة، تصوغ الدم من قدميها وتغزل حروفا صخرية تتكوم في كروم الفقراء... تتجرد من غلوائها ورقة في مهب التاريخ، وتستلقي على شفير معاملات صعبة، وترسو في النهاية على ضفاف السدرة تغازل خيطا باروديا من حناء الشرق، وتبني سورا من الخطوات...

على المرأى، كان الفقراء واحدا واحدا يمشون على حفيف الموت، وزغاريد مبثوثة تتلوهم، عن بكرة زمانهم المحروق تصدعوا، وانتشروا، فأناخوا على الصاعقة... صوت بعيد، بعيد، كان ينادي وحشتهم: تزودوا بالدم، والجوع ولا يبتعد بعضكم عن بعض...

آخر مرة شاهدت فيها النفس غير المطمئنة، أو أول مرة كانت في بيتها، كان بيتا متواضعا تواضع البحر: سرير من دم مخيط، لوحة مقلوبة على الجدار، صورة طفل معمود، عينان على الباب، بند قية عتيقة، ومتاع ضال يقاوم في الظلام، ومقبرة شاغرة...فتحت في وجهي صدرها الشائك، وودعتني على شهوة السدرة الغريبة، القريبة، لم تعدني بلقاء، وارتحلت. ولما ارتحلت قابلها الليل، واغرورقت ثناياها برعب كبير، استلقت على رصيف الينابيع، وقوة خفية تطاردها... تطاردها، والطريق إلى السدرة يهدهدها وهي تغني:

لو بات عندي قمري، أهرقت فيه كأس العمر.

ألا، فاقترب من خلوتي أيها الوقت.

1983.

 

الخوف.

خرج من البيت المضطرم محمولا على قدميه كسفينة تجر الصحراء، تتورد في جيوبه أحلام بيضاء، وشكوك غريبة تقتلع منه قرارة الأمان، وفي الداخل منه تغازله مرايا إسفنجية، وخيوط ريح عاتية تنسكب بلطف وتملأ أضلاعه هواء وكبرياء صفق وراءه الباب بأناة، أحكم سدة الإغلاق، تأكد من العادة، تفقد جيبه العمودي، ثبت الثبوت الشرعي أن المفاتيح السبع تنام في خوابيه، واطمأنت الهاجرة، ثم حين كان يهبط الدرج إلى أسفل المعمورة، مسح شعره المستطيل قليلا بكفه بعد أن صنع منه مشطا، فتخللت أصابعه الخشنة خصلات الشعر، وأحس بارتياح منصوب، وسرعان ما تنسم عبق الفضاء الرحب فتناسى جزيرة الظلال التي اعتقلت ذاكرته.

رائحة الشارع المغلوب كانت تستطيل، في مجاري الشرق والغرب، وكل اتجاه، لونها لا لون على الإطلاق، لكن كابوسا كثيفا كالمدية يضغط على كيميائه، يحس بدوار، برائحة براز بري تنطفيء في قرارته.( هذه المدينة الأتان لا ترحم الرحيل)، أدرك أن ثمة شيئا ما يقض جلده ويمسحه كغبار الزيادات في الأجور، هذا الهبوط لا يضر ولا ينفع، واجتمعت في عينيه ظلال أمسيات عرجاء.

في حزامه العسكري يرسخ مسدس ما، نائم كطفل إفريقي، جائع كالدوامة، حين استلقت اليد ضاحيته أحس بجبال من الزهو، وانتفخت فيه مشاعل النقمة، عاود لمسه بالحذر الشديد وهو يقول: آه... أيها الصديق العتيق الموثوق منه، حامي الملة والقلة، أنت سيدي.

لا يبالي المسدس. يغلق غرفته ولا يسمعه.

بعيدا عن شرار البيت، أفنى دروبا طويلة، ودب في سواري قدميه عياء أثقل مسالك الدم فيه. شعر بالضيق يقضمه، ويغزو مقاتله، حيث كانت غصة من أمل تثني عزيمته، وتزرع في فنائه أسلاكا شائكة من الغربة، حيث يخنقه السؤال: متى ينتهي هذا السفر المجهول، وتسقط أعتاب المهمة.

في مهاوي حارة شعبية مقلوبة ككومة من القش، التفت من الصدفة إلى الوراء، ولم يكن من العادة. كانت الحارة خليجا ممسوحا ولوحا محموما، تطير من روابيها المرارة، لمح شخصا آخر بالمحاذاة منه تماما، يشبهه، لا يشبهه. حدق في الشخص، حدق الشخص فيه. تأمل كل منهما الآخر جيدا، طفت على بقاع وجهه أشباح ابتسامة، أدار الوجه، دارت في رأسه دوائر هروب عصي، فكر في أن يتوقف عن المسير، أن يبادل الشخص المحاذي التحية المعهودة، تمنى أن تأخذه العثرة، ويفسح له خيمة العبور. أن يسأله الطريق. أن يشهر في وجهه المسدس النائم في حزامه، ويفرغ فيه غضب رصاصة ما، وينتهي المشهد انتهاء.

عدل عن جادة الأفكار السوداء، واستدار في زقاق منفرج ليفلت من ضده الشبيه، ويبتعد عن مجاله البري، ويكفيه شر الكلام والسلام.خطوات جارحة خطاها كالبرق تقذفه الأنواء، ولكن الشخص كان يلاحقه كالهواء، يخطو في عصمته، يقابله مرة، مرتين، يتفرس ملامحه بالقسوة، يكاد يحفظ صلابة الوجه، الأنف المستقيم، الجبهة المستطيلة، والأحلام الدفينة التي ترفرف في شبابيك ذاكرته.

داهمته سيوف من الذعر، وارتعدت المرافيء في شفتيه والرئتين، والقدمين، فكر في أن يبدأ الخطيئة قبل الأوان لكنه استفاق على دوي الأوامر القاتلة، ينفخ فيها ذخيرة الاحتمال. انتابه بوراق الكلمات الصارمة لرئيسه:

ـ كلامك يا... سيضيع الفرصة علينا. كن حكيما. قد اخترناك لهذه المهمة، أنت صاحبها، فلا تخيب الظن فيك.

انسابت في تجاعيده التعليمات. اغتاظ القليل أو الكثير، لكن ذئاب القوة كنت تبلل فيه بركانا يناويء تيجان القناعة. حينئذ كان قد انتهى لساحة تعج بالصخب والشغب، تتساقط فيها مدائن الشهوة وحجر الأقحوان، وتعاند الأرض فيها سماءها، والشمس خباءها. دارت به التعاليم العسكرية، واهتزت مراعيه من حزمة خوف يداعب فرائصه. وضع اليد على المسدس. كان المسدس نائما. أخرج المسدس، أطلق من صلبه النار في وجه هواء يشق الساحة محمولا على السواعد، سقطت السواعد، واشتعلت في السماء غمامة سوداء...

باءت ا لساحة بالخراب، سقطت العصافير أسرابا أسرابا، وعاد ذلك المساء إلى بيته آمنا إلا قليلا، فوجد الشخص ذاته في انتظاره. فغاظه الأمر. قال في نفسه:

ـ ليس لهذا الخوف وجه واحد.

1991.

 

تكوين.

كانت الصحراء تأكل امتداده كالصمت، وكان الليل يسكن جلد النهار...

قالت السماء( رصاصها العاتي، الساقط في قبر الذراعين ): ما أقرب هذه الدار، كادت الجسور أن تموت من التعب، والتلال أن تهرب من مفاتن الريح. شربت هاتيك الأرض دمها الشاسع، الموحل كالبياض، واستلقى نهارها على طاولة الشفق السحيق.

قال الهواء: مازالت تنام في بداوتي أقراص المسافات، أيها الغيث المخنوق باللوعة، إني أراك تمتد لقاع الأسماء، الأسماء الشائكة كأسنان الكهف، فلا تؤاخذني.

قالت الأرض: إني أغور من النار.

قال الرب: للنفط كن فكان، وللخليج اختلاجا فاختلج، وللعمامة التواء، وللتبن، وللرهبة، وللرغبة، وللبداوة، وللغباوة، وللعراء... أخصبت الأرض، اشتعل منها الخطو والباب، وارتدت لها عناقيد الجري... نام البور في قرته، واستكانت شهوة الحروب، وبكى الماء خلوته الصغيرة... ولما رأى الرب ذلك قال: لك البحار. فاسكن أنت مداها.

وكانت الصدمة.

اختلى الهواء بضجيج البراري، قالت ستائرها الطائشة: ما أصلب هاتيك العوادي..، قال الرب: للقسوة أبوابها. وصارت في العباد عادات القسوة ( لمن يغني هذا الجدار الآكل تضاريس الأصدقاء) بها تموت جدائل الكون وتسقط أغصان الهوادة... قيل إن القسوة ولدت أول ما ولدت في برية الخوف. يومها خرج إبليس هاربا من قبضة الآلهة، وخرير الجنة، نزل بأرض الله الخانقة، قال: ما أعرق هذه البواكير الطليقة، وأقفر هذه المواسم الزائفة. ضاقت به أفواه المجرات، والحكايات الغريبة كأسواق البدو. قال: أي قارعة تؤويني، مرة أيها التعب الطازج أين تخبيء جنازتي؟ إنك تطرق يقظة الوجد. ومد عنقه لسائر البلاد، والأمصار، والطرائد المتكئة على كرسي القرى المدججة بالرعب، وبؤس الغوايات، فالتوت كعناقيد من هدم.

قال الرب: إنك زئيرها. لك ولائمها الشاردة، وأنيابها المهجورة كالقلاع. .. أشرقت الخرائب في عينيه، ونزيف الشهوة القارس، نكح نفسه بنفسه، باض بيضات، رماها في كل الجهات، واستوى على الحطام....قال الرب: إنا أعطيناك شوكة الثأر، فاقرع نوا بض الأجراس...

كانت الشمس القديمة تصعد من مشرقها، وكان النفط يرفل في فزع الدهشة، يمتد امتداد العين والقلب، وزاغت بريحه ظهيرة الأهواء، كان الوقت ينهد كالسرير، والشمس تلبس يومها وتمضي، بابها النفط، ( النفط دابة هذه الأزمنة الملأى بمضارب الكآبات، ورصيف المقاهي المليئة بثرثرة الرعاة، الحفاة، العراة، الأجلاف، مصاصي الرقاب، البراميل المكتنزة كأكياس الصقيع...) وشكت الأرض إلى ربها فقال للصدمة كوني قيدها، فكانت خوذة الغروب. دبت الأغصان في خصر الأرض، واستوى العشب في خوابيها، يسند بعضه البعض. قال النفط: أنا الموكل بطوق المغيب، تروح الشمس أو تغتدي، لها أسري. قيل: ما أنت إلا معدن البلوى. قال: أنا بئر الصدمة، ركضها، وسالف الختم. تجيء هذه( القرينة الكحلاء) ذات الكوفيات والعقال، فتركب الصحراء ويخرج من عودها مجنون الهوام..

كان الشرق يستطيل كقوارب الرغبة، تنعم بنداه أسوار الفجيعة، تنفث صهيلها المرابط في هامة الأحقاد، والآبار المحفورة كالأضداد، يعاقر في أماسيه الدم دمه والأنس أنسه، والغجر مواقيت الفجور، ( لافرق بين عربي وعربي، السافل أيهما كنت) وكانت الصدمة. كان الشرق يرشق كأس القيظ وينام على حاسة الخراب، وتعب السطوح في شغب الطرقات، ورأى في ما رأى، أفعى كرأس البيداء تراوده الليالي كحلمة الظل. فسأل أهل الحال. قالوا: سلاما. واختنق صدى الشهوة في مرعاه. فشكا الرب وطأة العذاب. قال الرب: عدو يلقاك فبأي آياتنا تلقاه...

قيل لما كان مولد الحجاج( الساقط، الصائل في ألق العتبات)، مادت الأرض تحت الأركان، وسمع الناس جلجلة تشق غبار السماء، وتمضي في الأعالي بعيدا يأكل رمادها الأصداء، هرب الطير من وكناته، وارتجت الأنفاس في ريق المدائن، وأطلقت الآلهة عنان الرمل. أغمضت الظلمات شغف الأسواق، وابتلت الطرقات بفوضى من أهوال، وتهادت الجهات كأنما القيامة تدق أوتارها. كانت الشياطين تشرب أنخابها، وترقص ليلتها حتى مطلع الفجر، وسعت مخالبها شجر الكون...قال الرب: ليكن للشياطين بياضها. خرجت الأسود من عرينها، ولوحت حبال الشمس تسيخ في موانيء من شتات. قال الرب: لتكن هذه الجزيرة خرقة من النار. إني جاعل فيها من ينقر أحراشها ويغلق هواها، ويفسد فيها، ويطلق يد اليباب، ويغرق أهلها في الدماء... أطرقت الكائنات، وقالت: أنت الرب. الجلل ما أنت رأيت. لك انقباض الموج وانغلاق الساق.

كانت الجزيرة أعرق في الويلات، تنفطر لياليها كالأصفاد، وترتج السنون جثثا، جيلا فجيلا تساقط الأحقاد، وتملأ طواحين البوح، جاءها السيف من مغازل الجهات، بعثر القهر أرزاقها، ونام الرعب على مفاتنها، يسرق منها الكلأ والهواء. كان الناس لا يتنادون إلا بالإشارة، قبورا تمشي على ضفاف الحياة. مات الفرح في غرة الصبايا وتداعت بهجة الدوالي من خطاها، أينعت الرؤوس، وكانت الأقدام، كانت الشرطة، كانت الميليشيات، كان المغول والتتار، وكان البعث وكان النشور.. هربت الأنهار من مجراها وغيضت أحجار الذكريات. وقال الرب: لتهبط هذه الأرض للأسفل العظيم...

قيل لما وضعت أم الحجاج حجاجها، أجهش بالقتل، واعتراها الذعر، وكانت لشدة الوضع تصرخ فتهتز لصراخها أرجاء فارس والروم وجهات المعمور... ليلتها أغلقت الآلهة أبواب السماء، ومحت التوبة من سجلاتها، ولم يبق في الأعالي غير غضب الآلهة يستنفر عرق العداوات، وأسراب البوم المرابطة في مضارب الجزيرة...وولد مشوها: عينان غائرتان كالخنزير، ورأس كرأس الثور، وقرون كقرون الكبش، وذنب كذنب الإبل، وقوائم كقوائم البعير، وملامح قارسة كملامح الأعداء، قيل وكان قد أبى أن يقبل ثدي أمه أو غيرها، فجاء الشيطان أهله في صفة طائر أسود فوقع في فناء الدار، ولما رآه الأهل، فر الطائر من الفناء، فإذا قطرة دم تدفقت مكانه على الأرض، وفي اللحظة وقع في سمعهم دوي صوت يجلجل: إنه خيط من ذريتي...وفي تلك الليلة رأى الجابر الصباح في ما يرى النائم شعره ( المستعار) يتساقط تساقط الثلوج. كانت عيناه مطفأتي القرار، يطل من زجاج نافذته الواقي من الرصاص، فيرى غسيل فناء يتصبب كالعرق... قال العارفون: لا يرعى الذئب الشاة. سلطان كان قد مر، ومال تالد يفنى، قد قرب زوال هذا الملك...

وكان أن صارت الجزيرة حطب نار موقدة، صال فيها السيف، وكبر الجرح، حتى إن الحي يمر على الميت فيقول: ليتني كنت ترابا. وكان العباد تأخذهم الرهبة من ظلالهم، فاض الدم، واستفاض القتل...قال الرب: لا تذهب دماء عبادي هدرا. فقال للنفط جارها. فجاراها النفط.

1990

 

الثلاثة

كنا ثلاثة نعبر انحدار الليل، أطلال صداقات ميتة، وغسيل ذكريات تمعن في جريد القلب. الليلة هادئة كالأنقاض، ليلة شتاء مقلوب تطاول في خليجها أشلاء دوار قطبي يتمسح الجدران ويأكل أعماقها، وكانت في الأفق سحائب عمياء تخترق فوضى الرحيل. ساعتها ارتد رذاذ أوسع لمراكب الوجد، واستوت شارات الليل بذاكرة النهار. قال الثالث: لعلها ارتوت غابات المشي. تسير هذه الأرض الهوينى. تعرف طريقها ولا تلتفت للوراء.

وسرنا الثلاثة. كانت المدينة غارقة في سفينة عومها، خرير نومها المتثاقل يدب في الخلاء دبيبها، والصمت القائظ يأكل ظلالها. الدروب الساقطة المتوردة هتفت بها أسواق طفولات تلعب في رأس الدرب، وأطفال تتعب في لغتهم الصغيرة فتنة الأحجار.لا طريق غير طريق الحانات. في هذا المعبد القديم تغسل الأيام صوفها، وتفتح اللذة كوتها لاشتباك النهر.ألا إن الحانات لله. الصرخة المدوية في أطراف المدينة يحاصرنا صهيلها العانس، وفي الطريق الصغير كان المدى يطوى طي البكاء، تتهاوى منا الخطوات مهرولة في وشاحه، تستطيل الميمنة أو الميسرة، كل ارتقاء الغايات كان يبرر الخوف، ويرعى نخلة الهروب، ومشينا، الطريق البعيدة أقرب من القرب والصمت، كان البرهة البرهة يرتوي من ضيقنا، والأسرار المذعورة التي كانت تترقرق في حواشينا فاتها وجه الزحام المتآكل، ونباح الأحذية المباغت إذ ترتطم أسنانها بجلد الرصيف...

كان المساء يلبس خوابيه، ويمضي في هدوئه الداكن كالجواري. وصل الثلاثة انتظارهم بعض الوقت، أضرموا عنان الحرب، وبدأ باب الترصيع. كانوا يهربون، كأنما كتائب تتعقب قطافهم، وتحفر التاريخ نحو أمانهم، بالقوة والانكسار، كانوا يعاقرون خواء اللحظات البورية، هذه التي تتسلل من أبراج الوقت المشوي كالأحلام الكبيرة. كانوا يشربون كالبدو، وتتساقط الزجاجات الفارغة كضحايا حرب قديمة، تتناثر الخوذات وحطامها كرماد الأسواق، والحديث المصطخب يجري، وشوكة الاشتهاء بلا وعد، كان يراود كل الأبواب المختومةـ حرية الشارب أوسع ـ. طالت ذوائب الليلة استطالت أمواج الطقوس، وتوارت أعصاب الكلام في غموض تلك السماء القاتمة التي كانت تشد الأركان.

أغلقت الحانة مصراعها في سراب الليل، وخرج الثلاثة للساحل الأقصى، واحدا واحدا تعتريهم شموس انكسار رهيب، تخفق منه الأرجاء وأغصان الضباب الأليم الذي كان يجلل حبال الطريق.

في الطريق كنا نميل كالعناقيد المترهلة، ومن كل مكان كانت أحجار الكلام ترتج، قتلنا هدوء هذه المدينة في السر والجهر. سار الثلاثة توزعهم مدائن من بخور ومن رعب دفين. شوارع المدينة بدت مقفرة كالمساجد خارج مواقيت الصلاة.بعض كلاب ضالة كانت تتراءى بعيدا، سرعان ما تغيب في زحمة الجدران، الشظايا الميتة التي لاترحم هوانا، والرغبة في الفرح الشاخص حتى الرمق الأخير، أمنيات شفيفة كانت تسري بين الأغصان وتتوكأ على الرمال المستلقية هنا أو هناك. كان الخوف منا ينام على سرير البعاد والصراخ المغري يذهب بعيدا في المدى، يرش غبار مخاض ينام في الأعماق..

في المنعطف الأجرد على جناح الفجأة هبت مناكب الريح، خرج من كومة الطريق الشرطي المسعور، ورجل القوات المساعدة الأخضر، وانفرجت بيننا قباب صمت غريب، وقفا على التو، ضاق الأفق كالثوب الضيق، وارتسمت على الشرطي وهو يقترب منا قبائل من خيلاء، وأسارير من لذة الاصطياد. قال: افتحوا غربة الطريق... فتحنا له القلب، وأسوار الصمت المغلوب، ولكنه كان يزداد غيظا، ويتهيأ للنزال. كانت البطاقات الوطنية بالنسبة إليه غير مقنعة تماما، لذلك اضطرمت في دواخله شهوة القتل التي كانت على وشك الخروج من عينيه. صرخ في وجوهنا:

ـ أيها الأعداء، الكلاب، السفلة، ما أغراكم بقميص هذا الليل..أيها الأجلاف.. كان يكيل الشتائم بالجملة والتقسيط، ويبصق في وجوهنا... لعن الله دين أرض تؤويكم، دولة تعزكم، أيها الخنازير... الأنذال... الأشرار. ونفد رصيد الكلمات النابية، لكن عود الغضب منه لم يرتو، وهاجت فيه جذور من عداوات عريقة، صفع ذات اليمين وذات الشمال، أوغل في شتم الآباء والأمهات، وفي ضروب الركل والرفس.

كنا الثلاثة نقول: هل هو الموعد، ما بال هذه الحرب بدأت قبل الأوان، نفكر في رصيد هذه الليلة البيداء. وكان رجل القوات المساعدة الأخضر جامدا كالصارية، لا يبوح بما كان يموج داخله. مرات كانت رغبة ما تدفعه أن يوقف إعصار الشرطي، ويفتعل ضحكا أصفر، ولا يقرأ وجوهنا المكتوية كالصحراء، لكن الشرطي كان الأحيان يتحسس مسدسه كأنما يهدده، فيتنسم الرجل هواء الله في غضب كبير.

وحين هدأت بعض عاصفة الشرطي، قال رجل القوات المساعدة الأخضر:

ـ أي ثأر بينكم ؟ من يكون هذا الشرطي الأجاج ؟ هل تعرفون هذا الضلع الأعوج الناتيء في مرارة الليل..

أوصانا بسعة الصدر. كان وحده يتكلم كأن لايد له على الإطلاق في ما جرى. وتعالى فينا صوته البدوي، بينما كان الشرطي مازال متماديا، ويذهب المذاهب في ألوان السباب، يتحدى أعمدة الدولة ورموزها..

كان مع الثلاثة بعض أرغفة من نبيذ، فتح الشرطي هواه للهدم، أهرق الزجاج في عين الرصيف وضحك حتى أعماقه السوداء...اتقىالله فينا ـ كما قال ـ وأسلمنا للهواء والليل..وانصرفنا. كلام ما كان رجل القوات المساعدة يردده وتصلنا أصداؤه كمهرجان قديم..

في تلك الليلة ذاتها، اهتاج الشرطي مزهوا، وكان أن استوقف سيارة سوداء في عرض الطريق، طلب من صاحبها الأوراق. قال الصاحب: لا أوراق. اشتعل الشرطي غضبا، بصق في وجه الصاحب على العادة. بينما ظل هو باردا كالمكان.سأ له الشرطي من أي البلاد هو، لكنه لم يجب، وازداد سعاره. وقرر اقتياده للمركز.

وسار الثلاثة، ورجل القوات المساعدة الأخضر كأنما لا يبالي. وحينما حلوا بالمركز، أدرك الشرطي أنه أخطأ الطريدة، فبكى، وشكا الحال والعيال، قال: إنه تراب الرجلين، العبد الذلول، الفقير إلى رحمة العابرين. قبل الأيدي، والأحذية السفلى اللامعة، وخر على الأرض ساجدا، يستجدي متضرعا... ولكن ذلك كله لم يحل دون أن يسلم لرئيسه الأوراق، أوراقه وسموم المهنة، ويخرج من المركز في تلك الليلة عاريا كالهواء... وظل رجل القوات المساعدة الأخضر وحده يقلب سيرة اللحظات ويتنفس هدوءه المخزني...

1991.

 

لقاء

 

...والتقيا...

هي: في صغرها المهجور كانت تنمو كالنبتة البرية، خارج تاريخ اللآليء المنحدرة، أرض واحدة تؤويها أو تغريها، تملأ منها خيام العين والقلب، وتمسح عنها ضفاف الغربة المعصوبة. الشيء فالشيء كانت تكبر وتفتض العمر كالشرفة، وتنسى ذعر البدايات المقرورة، وخيبة الحروب المشتعلة في مدن النسيان، والبراري العزلاء.

هو: كان يخرج من ظمأ الحقول، كالبأس حاقدا على الشمس. يلبس بداوته القرمدية. عيناه الأرجوحتان تسرقان ألق الأرض، وعرق السنين، يقاوم في عزلته كالماء، وينشر حبه الملائكي ليغمر الظلال والأغوار... وكانت هي ترقب في دفئها طلعته، وهو يبني أعشاش الفحولة، يسرق ضجيج الأبوة والأرض العاقر التي لا تثمر غير رايات التعب الرقراقة.

التعب هواؤهما.كانت تقول له والصخور الصماء شاهدة:

ـ ليت مزرعة هذا المجهول تكلمت. تعال أيها العشب المصارع، إني أحس بالجلبة تحاصر أعلا قي. أموت فيك كالجنازة المشدوهة، فاغرس يديك في طست هذه الأنغام المتدلية من الأعتاب. أرى فيك هذه الأرض البيضاء، وقافلة رعب تدك صدر الأعداء، الأعداء القاطنين في برج المراقبة يقتلون ريح الطريق، ويبنون أنهارهم على مصا ريع الجراحات التي تأكلنا.

تلمه اللم كله، وتنظر بعيدا إذ تتراءى أشجار سامقة، تكاد تقترب من حافة السماء.

يقول لها:

ـ أنت برزخ من حلم.

تقول:

ـ لا. إني رأيت هذه الكواكب تندك على قلبي، فافتح بهاءك كي أنام حتى بحر اليقظة.

يقول لها:

ـ نخلة هذه القساوة أنت. أتسلق أسلافك لأصنع فلكا، من كهوف قديمة تصعد نجمة تقع في كفي، أسألها الأمان. فتعطيني أجراس المحبة في هذه القارعة... يتملكني الرعب إذ تتلوني آيات ذكرك. الصيحة بابك. سأصيح في المرات، في الضراوات. إني أقدس فيك شبه العاصفة. تعصفين بملكوت الأعداء. من فرط الشراسة أنا في الحب عدوك.

كانت عمرها ترقبه كالمحجة. في كل المساء تنهض هاربة من جذلها، تزحف حافية الأقدام تطوي المزارع، يملأها هذا العمران اللطيف، تجلس في أحضانه طلقة واحدة، وتحكي له عن التوابيت والحوانيت والتلال، ومجاري اللوعة في جسد الليالي، تتورد في عينيها الأنواء. تقول له:

ـ لو قلت أنا الرب. هل تعبدني.

يقول لها:

ـ سأسجد صريعا، سأغرق من صلاتي، وأحج إليك بلا وداع.

تقول له:

ـ النار لي.

يقول:

ـ أنا حطبها.

وكل عام كان الحلم يتطاول كالركبان، سارت بغبطته الأرجاء، يكبر الحلم، ويكبر سعة الدنيا. يقول لها:

ـ لو أملك ضروع الدنيا، أبني ضفافا، تجلسين في ضفتي، وأجلس في ضفتك، ونفترش خرائط هذه الأقاصي. هل تسمعين في الأقاصي البعيدة، يأتي على رأس كل عام طائر أبيض، أبيض كحليب الحوريات، يصيح في الأرض:

ـ هذه مائدة الفقراء...

تضحك كالخلاء، طليقة كالعماء، وتظهر ثناياها كساحل من عاج. يقول:

ـ هل تصدقين؟.

تقول:

ـ آمنت.

في خريف ما هاديء، سكنت إليه ذات ظهيرة. كانت السماء ظلهما. وضعت يدها الساحرة على رأسه، أحس بأبراج من قشعريرة تدب في عيدانه كالمنايا، و يصعد تيار هوائي دافيء يسري بينهما. قالت له:

ـ أنا الهاوية.

قال:

ـ وأنا شوكتها.

وكان أن ترامت الأطراف، أصبح فم الوقت أرحب من القبض، خرج من وجد قعره، خرجت من صمتها، قال:

ـ تولد في معصمي تراتيل من نجوم..

قالت:

ـ لا تبال. إني مدججة بكل الأرض سلاحا.

نامت على العهد، وكبر العهد، وأورقت منه الخلجان. ولطول الوقت هوت به الظروف. صار جنديا. دخلته الرهبة، وذهبت به ريح الأقدار مذاهبها، ارتوت بدمه الأحذية الهوجاء، صار منسيا، كأنما هرب من سطح الأرض لباطنها، وأعواما بعد ذلك جاءها كالشفق، كدلو من طفولة هرمة، يهش على غيم ذكريات صغيرة، نام هذه المرة في حضنها كسلة من عشق. قال لها:

ـ سأركض في هول دمك، حتى دمعة الخصب. أكلني رماد البعاد. أنا جنديك، لك خزائن القلب، وأسلمت أمري، أشهد أن هذا اللون ربي.

قالت:

ـ أشركت.

قال:

ـ بل أشرقت. كل هذا العناد أنسي.

قالت:

ـ البداوة العليا خير من البداوة السفلى..

قال:

ـ أميرة الظل إني مبايعك...

ولما همت به، قال:

ـ إنما الأحباب حرب عليكم.

قالت:

ـ غنمت الحرب...

 

* * * * * *

والتقيا...

هو: بعد أن ذهبت قدماه في حراب الأرض، وأبحر في مدائن من عبور، ضاع في صداها، وانقلب خطوه احتراقا، خلف زجاج السنين...

هي: بعد أن ارتداها طقس النسيان، وضلت عن حقل الطريق، وعادت إلى حيث ابتدأت..

قال لها: خير ما في هذه البلاد نبيذها.

وعرجا نحو السوق القديم، استسقى نبيذها الزجاجي، واصطفت في عينيه ظلال غيبوبة لا مرئية، تسفك فيه براري الحلم المتداعي.. وعادا للبيت، حيث يلتقي خواء الجهات.

كان يشرب، وتشرب، تطاردهما أطياف جراح متوردة من أزمنة الصحو، وهما يطاردان مقابض الغياب... قال لها:

ـ لو صرت النقيض، كنت نقيض الصحو.

قالت:

ـ لو كنت بابا كنت باب السكر... لو كنت الشمس كنت قرص الإغماء..

كانت تتأمله ببراءة معتقة، تشرب لهفى، وحديثه المتناثر، المبلل، يرن في مسامعها كشرارة تقترب من جادة الانطفاء. كانت تستهويه أنقاض ذكريات، تتراءى أشلاء تنحني على نبضه وتسكن وحدته، قال لها: أتذكرين؟ من زمن بعيد ، كانت المسافات تنام في خطونا، وأحلامنا مشرعة للعاصفة... دخلت مرة هذه القبة الرقطاء، أقعدني سيدها مقعد الأريكة الحمراء، جذبني من جهات الحديث، قال لي: ما حملت معك؟ لم يكن في جيبي غير درهم واحد، سلبه مني، واستنفر غروره، ومضيت خلف ضباب هذه السنين البالية.

ضحكت هي وتداعت منها حافات الجسد، كادت تموت من فرط الدهشة والاستغراب والحيرة، ماذا لو لم يكن معه ذلك الدرهم؟، تغرق في زيغ القهقهة، وتنفرط منها غيمة دموع وشيكة، سرعان ما تنحدر، وكأنها ليست لها... كانت تحكي عن زوجها السابق، تضحك الآن من برودته، من موت قلبه، لا يشرب، لا يدخن، أمانة من أمانات الله المختومة، تستعرض مساوئه الجميلة، وتشتعل أنفاسها المكسورة كأنما جبال الندم قد تعصمها من هزائم الماضي. تمر لحظات من الهدوء جارحة بينهما، وتجهش بالبكاء، تندب حظها المثقوب. يتهاوى محشوا بالحسرة، ويفتح غموض صحرائه الضائعة، يحكي عن زوجته القديمة، عن فتنتها، عن جنونها، وعجيزتها، وسيقانها الشقراء... يتحرك بصعوبة من مكانه، يكاد يبسط يديه، لكنه لا يقوى. وتلتف بهما أغصان ذكريات تملأ جليد البيت. تستلقي نحوه، أو تزحف كشبح من الرغبة العاتية، وتوقظ فيه تاريخ العواصف والشهوات، يواصلان الشراب، ويواصل الكأس الجارف دورته.

كان من العادة أن تشرب للصباح، ومن العادة أن يفطر على الشراب كل صباح. كأنما يهرعان نحو ذروة الغياب، وكل مرة يبدو وكأنه مرغم على البكاء، يستعيد عبره تاريخا منه مسكونا بالأسرار، يتبرأ من مضائقه، أحيانا يتملكه الغضب، يكاد يصرخ في وجهها، أو يعود بها إلى نقطة البدء... يقول لها:

ـ أنا المأكول كالفريسة. تولد في سمائي تضاريس من أحزان، ورمال مجهولة حين أتلمسها تمسي سرابا... تتعثر الصحراء في قلبي...كأنها تعرف الصحراء، تسأله عن قامتها، عن ضفائرها، والحلي والحلل... يحدثها عن النخيل فتشتهي طوله، عن الماء فتشتهي انسيابه، عن الواحات فتشهي ظمأها الغافي...

في خلوتهما كانت تدور أفلاك من خطايا، لا هو يقوى على النسيان، ولا هي تحتمل السلوى، تشتبك في دمه رفرفات من ذكريات زوجته القديمة، يقول لها: هل أصبح الصبح...، تقول:

ـ يا هذا المسكون، النار المسافرة في عتباتي، كأني بالأرض تضيق، فسبح بحمد هذه الشهقات، ولا تولني يومك المهزوم...

وتمر بينهما لحظات صمت شائكة، هرمة، يذهب بعيدا في صلواته، ويفكر في خوفه، هل خانته زوجته أم هو خائنها؟ ، وتراودها الفكرة ذاتها، هل خذلت زوجها أم هو خاذلها... ولم يكن من عزاء لهما غير الكؤوس المصطفقة تملأ الأنفاس مرارة، وتحاول ما في وسعها أن تصد خطو الصباح...

1991.

 

االقيامة ، تقريبا

 

الشارع مغلق كالهدوء، وباب الرغبة كليل كالبرهة العارية. يتكيء القلب على زجاج مقبرة منسية في الأقاصي، نجومها تحدق في المدى، وأشياؤها الحرى تجلس على حافة من فراغ تغلق مدارات الهواء، وأسراب قيامات تمضي بعيدا حيث تساقط ذكريات بلورية بيضاء ككلاب صغيرة تدق صخب ليل مغمور. كانت القارات نائمة، وحدها أغصان الهواء ترفرف في الأعماق كقهقهة قديمة، تطن في ذلك الخلاء المأكول كعشب الندامى، وترسم خطواتها الذائبة في خيط الانتظار...قال في نفسه( وقل من بقيت فيه شذرة نفس ): ما أضيق عباب هذه السفوح الورقاء.هاتيك السطوح الرمادية المتحدة بالخرائب، المغمورة بالضرائب المتشحة بسواد الدماء الحبلى بالدمار.

لا وقت لهذا التعب.

في الشارع رجل باهت يتفسح، محموما أو يكاد، لا ظل له تماما كأحلام الصبابة، تأكل المسافات قدميه، كأنما يمشي في المرايا والدروب المرمرية، مشية الخوف المليء بكل فتات الحروب، يتهيأ للموت بين الخطوة والأخرى، قدماه تأكلان صفيح الوقت، الوقت الأرقط المغروز في مجازر المدينة ( المدينة مجزرة، وفي كل صباح يجد المرء نفسه مذبوحا باسم الأعراف ).

قال في داخله: لماذا تركوني لفجوة هذه الريح، تقسو علي الممرات، وسائر الغبار المطعم بالآلام، يشرب الوعيد الأنخاب في دمي، وحيد قرن هذه الصخور، تمر الريح، ويمضي اشتهاؤها، يلبس الشارع كالحذاء، الحذاء العسكري الرهيب، والمارة يستغيثون، قوارب من هباء تلوح في البعيد، لكنها لا تبالي، تتعب الأصداء في طينها، ويهرب الطريق إلى ضالة ضلاله الراسخ في جلد المدينة، ينام الرجل في الشارع كالعادة وببطء غريب تتقد حواشيه كالكمين، ينفجر دفعة واحدة، والشارع مختبيء فيه، يرمقه من شرفته، كي لا ينأى بصدره عن تفاصيل برد الساحة، وتناهى إلى برج الخوف، وبدأ يفكر في الصراخ.

قالت السماء: تعبت يداي، سأضع حدا لهذه الذكرى، وأهرب بجلدي الأزرق، الأزرق الناضج كاللغو، وهبطت على برية الأرض، وانطبقتا انطباقا، عانقت حرقة الماء أشلاء السماء، ذهب الدوي في دواة الأرجاء، وارتطمت الأفواه بالأفواه، الأنفاق بالأنفاق، الطقس بالطقس، والعسس بخفق الليالي، وضجيج العربات العائمة، وخرج الناس عراة للميادين المهجورة، يقرأ ون فاتحة الغرق، اختلط المائل بالحائل، والسافل بالغافل، والعاقل بالحابل، والهارب بالهارب، والقائم بالقاعد، وانكسرت هوة المسافات، كانت فلول السماء شاحبة تماما، حين خانتها دفة الأقدام، وزلت بها نحو بركة الأرض، ولما صدمتها أطرافها، كانت مسامها تصطك فتخرج بنات النجوم من مدارها، تسافر في فناء الشارع الطلق، وتغلق يقظتها على المعالم الشاخصة كمدافع عتيقة...

رائحة الرعب الموبوء تركب الشارع، الشارع مغمض القبض، وحده الراجل الفالت من الفجوة يلهث، ويتلاشى دبيبه في باحات من فقاعات متوردة تتراءى بعيدا ولا تقترب، لا يصدق أن مسامير الليل تثقب هجيع الشارع ورائحة الجثث الطرية تمل مجاريه كالنسيان. فكر في أن يبتسم، أو يخدع صرخته النائمة، ويخاتل صمته المتثائب، وعض على ذكريات هشة نهرته، يطل منا وجه طوفان غزير أو قلق من العيار الثقيل، واستجمع بقاياه كقبضة الألواح وقال في داخله( الفضاء الوحيد الذي ظل بعيدا عن عيون الداخلية المحيطة بكل الأسرار): إني عنقود هذه القلاقل المغروسة في الكف، المجد لسفائن الفتنة، إنما أضع يدي على رعشة الإسفلت، لتسافر الأطباق وأكون الحطب الميمون... بينما كانت تترجرج المنارات والأسوار، وحدود العاصفة التي تحبو في قبضة الأفق الأليفة.

قالت الأرض: يا عراء هذه الزرقة، من براك أيها القبو الظاميء، إذ تضايقت أفنانها، توسدت ظلالها وترامت، تشتت وريقات، أشواكا، وارتدت أو احتدت، أو امتدت بألوانها، وغمرت خارطتها، وقدت طعمها، خرجت الشمس من صدأ الليل، خرقة من جمره القاسي، وارتدت غفوتها، ضاقت الكائنات منها، كانت الدبابات والمصفحات والمدرعات والغيوم الاستطلاعية، تزحف اشتدادا، والدواب والجوارح والكواسر والمواخير ترتعد من فرق هذا الانقلاب. يستفيق بغتة ويمسح طاولة السكينة، واستيقظ الناس كل ذلك الصباح على شظايا صغيرة من زرقة ندية تذروها الريح وتملأ سحنة الشارع، وأفخاذ الأرض اللزجة كأوراق دفتر منبوذ..

أوصدت الآلهة أبوابها، واندفق الغضب عاليا، وانطفأ ومض العيون الشاهق، وارتدت الصيحات للصيحات، والموج للموج، وهرب الناس للناس، باتساع فوهة الخواء، للمجالس والحانات، والمساجد المحمومة، والملاعب المعشوشبة، والمسالك الخضراء، والمدارس الطافية، والقاعات المغطاة، والخيام المنثورة، والمخافر الثرثارة...فألفوها خرابا تنام فيها صور آسنة ركدت من تجاعيد الركض، ومياه جارفة كالطاعون، وكانوا على الأرجح لا يتقنون فن العوم، فاستنفرت الدولة الظافرة الرجال رجال الإطفاء والإنقاذ، والبيادق والبنادق، والمرتزقة وقوات التدخل السريع، السريع كنظرات الأعداء، ولكن أحدا لم يفلح في وقف أقواس النزيف، أو يضمد أطراف الجرح.. كانت السماء تتلاشى كالرنين في عبوة الأرض، وتتبدد الأرض رويدا رويدا كالدمعة المنفوشة...

كانت الكائنات تصرخ، لكن مهب الإعصار، كان يلف الأشجار، والأحجار، وزريبة العالم، وكان ثمة طيف بخار غير مرئي يتصاعد من حطام السماء المقشرة، كأنما هو رداء يسع الأفق...

كانت الجبال مجللة بثلج اللهيب، أجنحتها الراحلة تمضي في كأس الجرح، وأرداف السماء تتراءى من الداخل كبرميل مثقوب، وهب الناس لمائدة الفراغ العريق يتهافتون على التقاط فتات الزرقة المتناثرة في أعاليها، ويمضون في الأغوار، تنقيبا عن نفط جديد أو حلم قديم، عن اللؤلؤ والمرجان والضرائب المباشرة وغير المباشرة تحدوهم. ولم يفلحوا في لوعة القبض، كانت الجبال يوما عن يوم تتآكل، في زحمتها سيول زرقاء حامية، تهاجر نحو الأسفل وتجرف الشارات والقمامات، والبلديات الخرافية، والمجموعات الحضرية المسمومة، والوصايا الآكلة...

خرجت الشياطين من الأغلال، وباعت الأرض مهادا، عاثت في رمانها فسادا، جاء الكساد من كل الجهات( لهذا الوطن وجهه والقفا، ففي أي الجهات أنت )... وعم الغباء والغلاء، زاغت التيجان عن الهام، وصار الوالد يجحد بنيه، والربع ربعته، والصمغ ضفائره، والعين معماها، واستشرت الغفلة بين البائع والـشاري، وأكل السيف قصعة الرقاب، وقال الإنسان للإنسان في تلك الغداة، لم تف هذه الأرض بوعدها، لتكن كل هذه الجسور في ارتقاب يد تستطيل، لتنفث خيل الروح في غمد المأسدة، أكل هذا ما تحلم به المراكب الملقاة في قلب الزوبعة... ظل مع ذلك السد أسدا، والسراج سراجا، والذئب ذئابا، ولما لم يكن من القتل بد خرج المحاربون الأوغاد من حمم المدن المكسورة سودا وأمعنوا في أودية الدم ودقائق الرعب وبوادي السفاح، كان منهم المجاهد والمرابط، والبوجادي، والمقدم، والوازر، والمستوزر، والشيخ والمريد، والعاشق والحاقد والساقط والدجال، والبوحاطي، والشقي والسعيد... أبطلت يومها السماء شرائع الأرض، واستسلمت في قبضة عين، مات هواؤها، غار ماؤها، وبدأ نورها يكبو بعيدا باتجاه معاول التيه، وانهارت الأنهار، والنهارات، وتحدث الملأ بعد ذلك عن فرسان غرباء يأكلون لحم آدم في حضرة حواء، ويشربون دماء بنيهم، ويتلذذون بعرق قيظهم، عن جنود صناديد، وتجار الأسلحة والأضرحة، وقطاع طرق بزي قطاع خاص أو مضاربين يتناسلون كالأنبياء، تأتيهم حمى الوحي البكرة والأصيل...

شبرا وراء شبر، كانت أجراس القيامة تقترب، الشيء فالشيء، الذروة فالذروة، وبات الأطفال يتهجون تعاويذ الرمل، والصبايا في ارتقاب خلاخل نجوم هاربة، وهلت مواقد الفناء كالمطر المفاجيء، قضمت رغبة السماء حلمات الأرض الضائعة، وتهارج الناس كصديد العاهات، شاءت الأقدار أن ينبت في كل صدر قبر، وفي كل بيت مأتم، وفي كل مأتم دخان، وفي كل دخان غيم، ومن كل غيم كانت تشتعل حروب داخلية صغيرة أو كبيرة تستعجل الدمار.... واستمرت الحال على ذلك وكان الناس يمضون ولا يبالون، أيديهم على رؤوسهم، أسرى شباكها، فقيل: الأرض لمن يمشي عليها، والسواقي لمائها، والماء لمجاريه...

وانشقت السماء( كذلك قالت الأرض لمدارها: أتدري كم يؤلمني هذا النبع، وأنا لا أطيق هذا اليبس... كم عدد هؤلاء الموتى، يمضون من غير وداع، ويشرحون صدرهم للنسيان)، وخرجت دابة الساعة تنادي في خلوة الناس:

ـ إني حامل هذه الأرض على ظهري. هاربة بها من قبضة الجمر، وها أنا أدلكم على صبري. قد تعبت. غضبي لكم...

وارتجت الأرجاء، جداول من خراب تجلجل في برية الكون الكليلة. تقدمت الدابة قليلا. هوت على كرة الأرض، ألقت بها رمادا، بعيدا نفضت ماءها ومرعاها، شقتها الشقين: الشق البارد والشق الحار، وأغلقت منتهاها..

وهناك استيقظ الرجل في لبدة الشارع، وقال بصوته العالي: هذا بيتي. ولما لم تكن هناك حياة، دلف إلى داخله، وارتاد ركنا قصيا فيه، ونام فيه كنبي مهزوم.

1997.

 

 
 
 

 

 
 

ضيوف الموقـع

سعيدي المولودي

 

دراســات

 

 

 

 

   

     

 

نصوص 1

  نصوص 2

   نصوص 3

   

     

معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقة تعــريف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع   خزانات الموقـع صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

موقع سعيد بنگراد - تاريخ الإنشاء: نونبر 2003