معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقة تعــريف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع   خزانات الموقـع صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلاما

 

سعيدي المولودي

" ديموقراطية في سبيل الله "

وحكايات أخرى

 

ذكر ما جاء في باب التفويت

قالت " الحكومة " للقطاع الخاص: اضرب القطاع العام. قال القطاع الخاص:أنا ضاربه. قالت الحكومة: اضربه الضرب المبرح. قال القطاع الخاص: إني سأمثل به تمثيلا، سأفترسه افتراسا

قالت الحكومة: طوبى لك. أنت المخصوص بسلاسل المحبة والتأييد وموائد الدعم. فاشدد قبضك، يا فولاذ امتدادنا، وانحر تاريخا يشدنا لقطاع يعمينا عن المدى وشهوة الافتراس.

وخرج القطاع الخاص في رحلة الصيف والشتاء، يلوح بالهوى العتيق، وبيعة هذه الدروب الساقطة في حمى الدولار. أسرج رغوته ومضى في نجواه يقطف الجذور اليانعة.

قالت" الحكومة": أنا عاشقة هذا القطاع الخاص، يفتنني الماء الدافق من بين الضرائب، ورسوم الفواجع الكالحة. فتحت بابها، الأحضان، وأعطاف النوافذ، وقواديس الحريق، صدرها المشرع لريح الشماتات ( يا صدرها القائظ، فضاء الموبقات ). كان قد جاءها هذا القطاع الخاص، أكل مخها، واصطادها كغيمة دخان...أطلقت ضفائرها البلورية، وغطت مرا فيء الرحيل والإقلاع، سكن روع القطاع الخاص، أو انتشى، أطلق ريح الهراوات في غابات الربح، استثار لعاب غبار الطرقات والمسارب، وأجراس المدائن الهاربة، الهادئة...

قالت الحكومة: حبيبي العاتي، أنت البدء، عليك توكلت، وإليك الرجعى، إني الوله الصائح، فلا تكن السراب... هذه طريقي ممدودة، فاركب شتاتي وخطوي في السراة. إني من هواك أكون أو لا أكون. فكن الشجرة التي تحجب هذه الغابات الزاحفة.

اصطفق الهديل في سرو القطاع الخاص، بسط خطوه الرهيب، مشدودا لخصر الحكومة البض، ربت على أردافها الملغومة، مسح دموعها الطينية، وهوت بهما السيرة في مدارج اللحام. قال وهو يكفكف لبالب الفرحة الندية عن كأس الاشتهاء: إني عبدك الشقي. أرضعتني هواك، يا ظلي الوارف، من خدرك أصعد، يا رباب الغرة. نابك إذا ضاقت بي الحال. ضعي مفاتيح الشمع في شفتي.أنا آكل هذه المرار، أبني الرغبة في جرف الرغبة، وأصنع الرهبة في قلب الرهبة، وأحمي غمرات الربح في مسعاك. ونضجت بحار صغيرة من الشرار في جسد الحكومة الذابل، عانقت خوذة القطاع الخاص.وسارا معا على شاطيء الغزو، يداها في يديه ، قدماها في قدميه، يضحك فتضحك حتى سقوف الوهم، تفرش صدره بالولادات ورمل القوادم، وتملأ قلبه ثلوجا، ثلوجا بيضاء تتأجج في أغوار السماء...

سنون قاضمة كالإعياء، والحكومة تملأ شيح راحتيها بذرات من الهوس، والأمل القارس، تدفع بالتي كانت أهول، تعري الأشجار من أوراقها، ومن خضرتها، وتنتف ريش العصافير من ربيعها.أطبقت في سيرتها قبضة القوي على الضعيف كالجفن، وارتدت أطباق الغلاء المترسب في مرايا الحاجات، واندلقت صحراء الضوء في صحون الكبار. غسلت الحكومة يديها من كل شأن، واشتعلت فينا حروب الكساد، ومفازات البطالات وعوادي البطانات. رقد التاريخ مهلوكا، ونام رجع الحكومة على انطفاء السواعد القابلة. استحال الغيث في دوالينا عيثا، وتولت الأعناق نحو جحيم تتوجس الأنهار طوفانه. لم يبق في امتداد القامات غير صقيع اللي، والكي والشي... من حجر الأخمص لثمرة الرأس تعرونا جوارح البلاء، نتساقط في مخالبها كمطايا الجراد، حصادا ينزف الدم المهدور، والعشب الأعزل..تمتصنا هوادة الأسعار النافذة لأقطار السماوات، وشرفات الضرائب الصفيقة، والقيم المضافة لرأس مال الزحافات التي تفرخ في لهب الساعات وأعشاش الرغبات. في كل خطوة فأس يحفر ضريبة. كل دمعة قذيفة يأس. في كل بيت موج عاطل، وفي طلقة كل صباح عصا نذيرة بالرحيل، تكر على الجدران وأصابع قوة الشراء، حطب البلدان، تغرينا النار في وريف الهواء، تحت نير الإخطبوط الصاغر الراقد في تجاويف العادات، يقرض الطرقات القرض الغادر...دم الأفق المراق على شجر الظهيرة ترميه دواب الربح المعصوب، السارح وراء جريد الفقراء، يصد في مائهم كالمعجزات ترشح أملا وإحصاء لنباتات الأنفاس، كما تفعل دورات الماء السائح للشرب. في الظل والهواء تنتابنا السطوة، وتهتز أباريق المعاناة، وفي كل رجع الأصداء توقظ الحكومة زلازل الرنين وكلام الفضة، والوعود المدفونة في زئير القرن الواحد والعشرين. ماذا فعلت في العشرين؟ وما عساها أن تفعل في الواحد بعدها؟ هكذا يبدأ الحلم: الصحة لكل الأبواب، والحليب لكل الجائعين.. والعتمات للجميع.. والجميع للجميع.. من لا يملك شهوة القبض على جمر الراهن فليركب وطأة الآتي... في قيعان العجز لا تهون سوى لغة الحلم، والعاجز أبدا لايمكن أن يكون إلا حالما.. هذا أوان الشد، فطوبى لكل أحصنة الحروب...

قالت الحكومة: ألا في سبيل الوجد ما أنا فاعلة...رجت في صديدي أفواه الجفاف وصلصال السنوات العجاف، ومات في أحوال الطقس صرير الغيث، وارتفعت أعواد الدولار في سوق الأنقاض والبورصات الحائضة.. لا يقر قرار هذا المارد المولع بالأتون وغبار البطولات، كل قطرة دم تحتمي بالدولار، أبانا لاتطفء الكوة التي تشدنا إليك...هربت من نبعنا وشوشات النفط مفاتيح الرغد ودعة الأحجار، فشدوا الأنفاس حتى عناد الموت. إنما قدر الرايات أن ترتفع إذا الدولار ارتفع، وإذا النفط انهمر.فليس للفقراء غير هذه الكآبات القديمة التي تثمر وتزهر في يقطينها جيوب الوسطاء الساحقة، وبطون سماسرة النزيف الزاحف...

قال القطاع الخاص: إني الباري، البريء، تذرفني عزة الأرض المورقة، على غير عجلة، كلما انغلق نجم الريح، قلت للربح يأتيني، فأقتلع من فجره رماد هذا الوقت، كل مرمى يفتح لي مدائن المسيل.. أحمي الشجرة والهواء الراقص، والبقرة، والطفل والقبرة، والصدر والقفا والمقبرة، صمام هذه الأزمنة الواقي، وبدر هذه العشايا الحالكة. أقطع دابر الوقت الضاج، وأرسم تاريخ الظفر، حامي السلة، والقلة، والعلة، باب التخمة، وقلعة الكنوز، أسترق نوارس الصباحات من توابيت اليقظة، كلما أمسكت برأس الخيط تمادت البشرى في الضفاف، وارتجت غمرات الانبهار..أبني عروة المحال في خلة اليباب، إني البدء - النهاية، أمشي أماما، وكل غبار الغايات يبرر زبد الوسيلة..

قالت الحكومة: طوبى لك أيها البدر. أنا اصطفيتك. بايعتك على البلوى حتى مطلع الخزي. قد أوقعني طريقي في طوافات الزيغ، انفلت الصبر من حديدي. أنا من كان بيتي زجاجا، ورميت الناس بالأحجار، وقف شيخي والحمار في نسيج العقبة.أنت القطاع، القاطع، لك أن تقطع صلتي الآن بكل عباب الأوزار، وأن أستظل هبوبك... لك الخلف والأمام، والفوق والتحت، والما بين، لك السماء وبرود الأرض، حريتك تبدأ من طلوع الفجر، ولا تغرب بغروب الشمس، فافتح جذوة ذراعيك، والأبواب على المصاريع. هذه فرصة العمر، أخليت لك كل الساحات، والأجواء، فاملأني فيضا ودلالا، كل المخططات تتهاوى من قبضتي، كحفيف الحرب، فامدد شظاياك، قد تموت في ربيعي كومات الأرقام... آه. لكم أورثني هذا القطاع العام بذور الهوان...

قالت الحكومة: أتدري ما القطاع العام؟ القطاع الآكل، الجامد، المتجمد، الميت، العابث، السافل، الراشح بقلة النفس، أوردني مر المنتظر، وانقطع خيره من ثلاث: مزيدا من العناء، ومزيدا من البلوى، ومزيدا من الأعباء. آمره فلا يأتمر، آخذه فلا يأخذني، ابدأه فيبدأني، يا ما أهرقت ودي في لظاه، هو البارد القلب، يوليني الأدبار، ويكبح جماح الجرعة في عزائي.ضاقت به الرأس وأعطاف النفس...فأطلق عنان الهواتف، أنت وحدك الساعد الأسعد...لما قضينا منه الوطر، فوتناه لك، كي لا يكون علينا حرج.

قال القطاع الخاص: على رسلك أيتها الحكومة الدائلة، الحبلى بالأقدار، أنا عبدك الطائع، فحل الينابيع الهرمة، سأدك رايات هذا القطاع العام دكا، وأعلمه لهيب الرماية، وأثأر من سنين اليباب، أنا من لا يبقي ولا يذر، المخصوص ببراري الحظوة، المسكون بجيوش الرغبة الجارفة:حق الميت أن نتولى مدفنه، وحق الساري أن نقطع عليه عناء الطريق، وحق المريض أن نعلمه فرط السقام، وحق العاطل أن نشغله عن الشغل، وحق العامل أن يسرح مع دخان المصانع، وحق الفلاح علينا أن نفلحه، وحق المأجور أن نهجره، وحق المواطن أن نستوطنه، وحق الحقوق أن نفتح خزائن التخمة، فمن ليس قاطع طريق ليس منا...

وقالت الأطباء:

التفويت ذو فعالية كبيرة ضد الآفات الاقتصادية، له مفعول أكيد كمقو، وكمساعد على هضم شتى الحقوق، مضاد للتضخم، جالب للربح والراحة، وله مفعول مهديء في جميع حالات النوبات الاقتصادية، وقدرته على حل مشاكل التقهقر الاجتماعي معروفة، منشط ومقو عام لحالات الضعف والانحطاط السياسي والاقتصادي بشكل خاص، مقو للمبادرات الحرة، ومنشط معروف للقدرات الشرائية، فهو ينشط الصادرات ويطرد زوائد الواردات، وينقي شرايين التجارة الخارجية، ويعيد للمجتمع العافية كمضاد لانحلال طبقاته، وهو نافع لعلاج تقرحات البطالة، ودمامل قلة الشغل، وانعدام المرافق، فاتح لشهية المرابين، والمضاربين، وإذا احتملته الحكومة في ضيقها منع الأزمة، وينصح أن يكون في الظل حتى لا يفقد فعاليته، كما يجب التنبيه إلى أن التفويت لا يكون إلا من القطاع العام إلى القطاع الخاص، والعكس قد تنجم عنه مضاعفات خطيرة، وبسبب مفعوله الفريد فإن الحكومات تنصح باستعماله وقت الحيض. هذا، وثمة طرق عديدة لتمرير عمليات التفويت، ترجى فيها الدقة واستشارة أخصائيي صندوق النقد الدولي عند الاقتضاء، لكي يكون مستحضر التفويت أفضل في العلاج..

قالت الحكومة:الحق ما شهدت به الأطباء.

1988.

 

باب الفتنة

زعموا أنه حدث منذ زمن بعيد انقلاب ما في دائرة لوقت، فارتجت الساعات، وخرج الفقراء، واهتاجت الأرض، أغلقت مواعدها، اشتاق العصف للعصف، والناب للناب، واحتدت الغابات كلوعة الصبايا، كالمدائن العارمة، أورقت التحايا كالعناقيد، تمر من وهجها الليالي المصفحة، تذيب عرصاتها، والتقت الأقدام بالأقدام، النعال بالنعال، اشتعلت مياه النار بالنار. قالت الخسارات للمسافات: هيت لك. والصهيل للغارات تكلمي... كان الرجال والنساء والنوق والأطفال، ودوائر القتل تنشر صريرها، تفلت من غدوة العائدين القادمين، تأكل أوطارهم فوضى هادئة تمسح دموع الحقل، وتعتلي هوة السرير. الشامات للشامات, والأوراس للأوراس، والصعيد للصعيد، والصحراء للصحراء، صرخة مملوءة تنفرج عن الزلزال، وتسرق ومض الغزاة الآكلين عبء البلاد... وخرج الفقراء، أغرابا، أسرابا، تغويهم عين شمس تلبس غلالا بديعة، وأمنيات غريرة تبسطها في سرة الكبرياء...

قالت الريح- لا شرقية، ولا غربية -: حان حين الوقت، وانتهت مواسم الضرع. وقال العبد لله: هذا موعد الغروب. والقلب للقلب: هذا مهب الخروج. ارتج الرحيل في عتبات القيامة. أكل الدهر، شرب، وجاءت رطبه، واستوت هجيرة الركض.. انكسر الوقت. وجاءت الشهوات جارفة كأنما تغرس أقدارها في المجزرة...

كانت السماء متوردة تداعب ضفائرها المتهدلة، والأرض تلهو بموانيء الأعناق، دربا فدربا، غربا فغربا، وشرقا فشرقا، تأكل بوارق الفقراء ذعرها الشامخ، وتوقد موجها، كالحراب القديمة، تدك غموضها دكا، وتقول ليومها: أهلا يا كوكب هذا العشب المغمور...

من أقصاها للأقصى، تتناسل الصحراء كالنسيان، جاءت قبائل"المرينيين"الرحالة، والطبول، وذرية المرابطين، والملثمون، والحرائق المعلقة، والموحدون، وحداة الرواسي، جاؤوا غداة جاء الرحيل يلتقط خيمات حريق رغيد، يلعب بالخوف، ويهرب لاشتعال النصر: الحائط للحائط، الموت للموت، والندامات القديمة للا قرار تهدي وحشتها للقريب والبعيد... وتلك الأسياف تمضي سادرة في مجاري من رهبة تصطلي قباب الأدارسة، السائبة، وهي تعرف علامات اضطراب الملك...

كانت الحارات تخفق كالمنارات، تطل من بيتها لجاراتها، تلتقط سواحل الرعد المتوحد، وتجلس في القامات، ثغورا تفتح وجدها لله، وللعصافير البليلة.. ولما كان الفقر سيدها، كانت تغرس صرختها في فناء الدار وتطل من ثقبها لتراه في عريه الخالص كالكبريت، وتشتهي لوعة الهدير الراخص يضع الرجل على الرجل، كالسهر العابر، أضرمت شغبها، واجتباها النهر.. عزاء وحيد كان يمنحها الهواء، وتخضوضر المدن عائمة في صدرها... هكذا يكون الزهو الصقيل... وللمرة الصاخبة تستطيل أثوابها تبصق في نهارها المستتر كالخوف المقصوص. قالت لترابها: يلبسني حيضك. واختزلت أنقاضها.

في الواجهات الرابطة بين " المرينيين" والمراعي الهاتفة، تألفها الأهواء، كان الخيط عباءة الملائكة القادمين، يلبسون صنادل الأحواز، أو الغرباء يطرقون الثكنات، وضيعات الهوى، وماشية المهاد الأثير، جنازة للجنازة، ورؤوس الأقفال تتهدم كسوق المشائين بالقهر. أكلت السفائن غرقها، الأعداء وحدهم وقفوا كالأرمدة، تقتل بياضها القارات الشائكة، إذ يتآخى المد بالمد، والقد بالقد، وتستطيل المئذنة..

كان الجند، كانت الشرطة في السر والجهر، نزف الدم، فار الحلم، وألقت سماء العصيان عصاها السحرية، ونجومها الزاهرة. تشبه اللحظة أكناف المجزرة. أوقدت ربوها طواجين الأدارسة، وأبواب المحاور والمسامير، والجلود المدبوغة، والطوالع الصغرى الخجولة.. يا لكبرها. وأعشاش الفتوح. خوخة تنام في بابها وتغسل أسمالها. جاءها الرصاص، الرصاص الناطق باسم الأمن، والعساكر اللقيطة...دس الأعداء موتهم في مرايا الفقراء، ومضى الجند، واستبيحت الأشجار، والياسمين الطليق، تسافر في رائحته قلائد البراءة العنيدة..

المرابطون، الموحدون، المتشددون، الباعة المتجولون، الخوارج، المتطرفون، المتقلبون، الانقلابيون، المتعددون، المتوددون... كان اللون واحدا يرسم عرائسه في أشتات الصباح، ويلبس متاريس البحر، فيه تدب أعتاب الطلقات، الطلقات حتى مطلع الفجر... يبنون حرمة النهر، وحنين البدايات في طين هذه الأطلال الهمجية، تمنحهماالطاعة والأغلال.. أيتها المدينة القارسة استيقظي... كان القتل لالون له، تلتاع من عوده الترائب، وبوارج العادات في بناء السطوح، والنقش على الزليج، الجسد الوحيد العاري الملتف برنين الأسماء الحسنى، وجبال النسيان اليمنى، تتعب في موادها أقراص المصفحات، والمماليك الراقدة على السفاح... هكذا الأسرار كانت تمشي تقطر منها خيول الثأر، وأساطير الخوف، والغزارات الواقفة في سواء المخافر والأحذية العسكرية... لا تلد المدية غير المدية، والمدينة غير المدينة... الثلج هذا البياض هو الموت الطريق إليه.... وفي كل مرة يموت الفقراء تأتي المدائن وتقول لسمادها: أيتها الفجوة. ملتقى الأوزار. إنا أخطأنا في حق الأنبياء..

كانت المدينة ساقية، جاء النعي من كل الجهات، واشتد الشد، كان الوقت باكرا.. وجاء الملائكة فقالوا إن الآلهة غير مسئولة عن ذلك.

1990.

 

باب التدشين

زعموا أنه لما خلق الله الأشياء والأكوان، والأوان والهواء، قال للتدشين: كن فكان.وصارت منذ ذلك الوقت سيرة تدشين المشاريع، وما يجري مجراها، صار كل شيء يمشي بغرة التدشين، وعم ذلك كل ما في الأرض، وما في السماء، وما بينهما، وما في الصدور وما في القبور، لأن إرادة الله شاءت تسمية الأشياء بأسمائها فوضعت زينة التدشين، وكان رمز الميلاد في كل الأرجاء.

وكان قوم قد أفرطوا في التدشين، فصار عندهم الديدن، والوسيلة والغاية، والجسر والنهر، والمهر والفرس، والظاهر والباطن، وبالغوا في احتكار مراسمه والتشديد على معالمه حتى أضحى جزءا من طقوسهم، لا تكاد عادة من عاداتهم تخلو من آثارها...وقال الفقهاء في شأنه إنه موصول إليه بالشرع والسنة، وقال الآخرون إنما هو موصول إليه بالعقل، وإن الملة سارت على غير هديه، وليس يلزم ما قيل من أنه لم يقم في عهد الأمراء الصادقين، والسلف الأول الضارب يديه في مدارك الشرع ومسالكه... وقال البعض الآخر إنه يجسد الإرادة الإلهية، فلا خير في شيء لم يذكر اسم الله عليه، والتدشين يفسح المجال لذلك، فليس في ذلك من حرج في أن يكون واجبا، وأن أي شيء لم يدشن يحرم على المرء استعماله لما خلق له، لما في ذلك من جرم عظيم، يعكس التحدي الصارخ للقدرة الإلهية، وهو ما يحل دم كل من استعمل الأشياء قبل أن يقطع عليها شريط التدشين، وتسمى بأسمائها، وقال البعض إنما حكمه حكم المرتد...

وكان في بلاد المغرب أن برعت الحكومات في طرائق التدشين، ومع ارتكاس السنين والأعوام، جندت في ما جندت وزراء ورجالا ونساء وأشباه الرجال والنساء، كان شغلهم الشاغل التدشين في التدشين، حتى ولو لم تكن هناك ضرورات تحمل عليه، ولما كانت الحكومات في هذه البلاد تعرف الصغيرة والكبيرة، ولو في أقاصي أي صقع من البلاد، كانت أقوى لتصل يدها بالتدشين لكل الأنحاء، وتضع رموزه في كل مكان، ورافق ذلك عادة أن تتجند الأقوام، النساء والأطفال والشيوخ والعجزة وقدماء الحواريين والأنصار، وذيول العامة والخاصة في الأمصار والمداشر، والمدن الصغيرة منها والكبيرة، ويحضر الطبالون والغياطون، والشيخات البارزة، يهتفون وينفخون أهازيج الفتح المبين، أو ينشرونها على الطرقات.. وتهدر بالمناسبة دماء الأكل والشراب على الأرصفة والممرات، ويستوي الليل بالنهار، وتقام ولائم خرافية، تتدفق منها كل ألوان وأصناف الطعوم...وكان المدشنون يركبون في آلاف الناس خيلا منهم، أو هم راجلون يمشون على الأرض هولا... تضج الساعات، وتعتمر الساحات، وتمتليء الحناجر لسواحلها، وتلون الأشجار والطيور، وتلبس كل الأشياء زينتها التي ليست لها، كأن الطيب يخرج من الأنفاس والأنفاق، والمزابل والمقابر... ولهم في ذلك أسرار وشؤون بما زين لهم الشيطان، وأساطير في مدى اتصال الأجسام السماوية بحقيقة الكون والمشاريع في هذه لحياة الدنيا...

وكانوا يدشنون المطر والزرع، والحصاد والسحاب، والأنخاب، والمراقص، والمقاصف، والمراحيض والريح والزبد والملح... وكل ساكن أو متحرك، ومتصل أو منفصل، ووضعوا لذلك طقوسا غريبة، قد تستمر الليالي والسنين، ولم يكونوا يتناكرون أن يقولوا: دشنا الماء والهواء... وكانت عاداتهم الصغيرة في ذلك أن يتسلحوا بالمقص، ويبنون حاجزا موهوما من خيط أو من قماش أو كتان، يتهيب الوزير منهم أو شبهه، ويتقدم نحوه، فيتكلم بأنواع من الكلام لا تكاد تسمع، فيقطع الحبل، وقد يبتر مرتين إذا كان ثمة أكثر من وزير واحد أو شبهه، ويكون التدشين في مثل هذه الصورة مزدوجا، ويقف السدنة على الجنبات، يهللون للتو وتتعالى التصفيقات وتجري الأصوات والهتافات مجراها... وعلة ذلك كما ذهب حكماؤهم أن الأشياء في برية هذا الكون إما أن تكون لها البداية أو النهاية، وإما أن لاتكون لها البداية أو النهاية، ولما وجب لها في الحقيقة والواقع البداية والنهاية، وانتقض وهم المتوهم أن الأشياء بلا نهاية وأن لا ابتداء لها، وأن لابد لها من محدث، ولابد لها بالضرورة من التدشين.. وأقاموا في ذلك آراء شتى جعلت الأصل في التدشين لما عجزت أن تهتدي إلى الحل... ورسموا لذلك فوائد، تتعلق الفائدة الأولى بالصورة، فالتدشين عندهم تتولى أجهزتهم تصويره وينشر في صحفهم وأخبارهم، وطالما يعيدون ذلك بمناسبة وغير مناسبة، وهو لذلك موجب لضرورات الحواس إذ أنه يصرفها عن السوء، وما لا بدء له ولا انتهاء. والفائدة الثانية تتعلق بالعقل لأن التدشين علته الأولى العقل. ومن نتائج ذلك أن عقل الحكومة أعقل العقول، ولاعقل يجاريها أو يضاهيها، والفائدة الثالثة روحية لأن التدشين روح حدوث الأشياء... وفوائد أخرى ذكروا فيها ضروبا من المنافع، فحق أن يكون التدشين عندهم الأصل لكل حي أو ميت، ويكون الشرط الأول لوجود الأشياء.

1991.

 

باب " عبس وتولى"

زعموا أنه ظهر في آخر الزمان، في بلاد من بلاد الله الراكدة، دجال اسمه " عبس وتولى هذا المدني". وأعلن في الملأ أنه سيد الثقلين، وبرزخ الأمان، وأمين الأسرار الإلهية، وخضرة الأغصان، والطريق إليها..رأس مستطيل كبطيخة مغربية، وأنف سافر كوحيد القرن، ووجه مكابر كالثور، تأكل سواقيه بداوة متوحشة، وتظلله لحية مسبلة كالتيوس الأطلسية، تنقش تضاريس القتل في شقائق القلب، وتتعهد المواجع الراسبة في مهاويه. جثة من قش جوفاء، كالأكياس البلدية، وشاشية يهودية على الرأس بيضاء تحجب سواد القلب الطائف بكل الأضلاع..

قيل إن أطرافه كانت من أظلاف، وقيل إن نصف جسده السفلي كان أقرب إلى البعير أو فرس البحر، وقيل أشبه بدابة آخر الساعة، وقيل العكس كأنما هو من فصيلة الأغوال..

خرج " عبس وتولى هذا المدني" في الناس يحرق لمدائن والمزارع المسكونة بالرياح، وحشد الجيوش والكلاب، والبغال والنساء، والعبيد والسباع والضباع.. ويفسد في الأرض، يبني خيمة من الأساطير الرثة القديمة. فنظر إليه الناس، فقالوا: سلاما.

قال: إنما أوتيت هذا الكفر، يطلع منه هذا النور الأكمل، فيستضيء الشرق والغرب، والقبر والمهد..فتحير الناس. قالوا: لم كساك الله هذا السعار؟.

قال: لا يعنيكم هذا الأوان، سأرسو على المشاريع، والمزارع، أحرق أفياءها المرتوية، ولو قاربت السماء، سأهدم هذا العمران المتطاول وحشة هذه الأزمنة السوداء، أنا سيد هذه البريئة، وسلطانها الأول، اصطفاني الرب لأحرس هذا المحراب، وقت السعادات ومفتاح الفرج، سأفتل هذه الجزائر فتلا، وأصنع منها الدرع الواقي من الهبوب، وأغتال فيها نشوتها الأزلية...أوفد لكل الأمصار الزبانية، والعيون والمرتزقة الأنصار الموشحين بالدم، ورحلوا صوب الشرق والغرب والشمال والجنوب، وأطلقوا خيول الرعب في البيوتات، واستعاروا أزمنة الغزوات الهمجية، والثارات القديمة، قتلوا، انتهبوا. .قالوا: نور الآلهة يبدأ الآن رحلته، لنا المد، السلاح، الموت، والحوريات الملاح... الجنة تحت أقدام هذه الوحشية، تغتال بياض الأزهار، وتعمي الوردة واللون.. عاندوا كالخنازير ترفل في أثواب الكناس، قالوا للناس:كونوا في حل مما كنتم...أضرموا النيران في أشباهكم، لنا هذه الأجنحة تطير بها رغوة الأعداء. صدق الناس ولم يصدقوا، هربوا للقبور والأسنان المكشرة...

قال " عبس وتولى هذا المدني": الريح مركبي، البحر من خزائني، والجزائر ملكي، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أشرارا...

كان قد مضى الصيف، وولى الشتاء، انتشر جراد الله الآكل في كل الممرات، أشهر موته الجهول، أغلق النوافذ والأبواب والمقامات والأحباب، والحانات والأنهار، أحرق السفائن والأشجار والدواب والأنعام... تعربد الأجلاف في الطرقات باسم الله، وزرعوا الأشواك وتنادوا للردى، التلة الهاربة من قبض السماء، تداعت الأفنان، تصاعد القمل في الرواسي، وطاف الطائفون القتلة، الراجفون، وأمروا الوعول بالطاعات، دمروا المساجد وافتتنوا بالمواجد، ومنعوا الهواء والماء والبحر، والنوم والعوم، أضحت الحدائق يبابا والمقاهي خرابا، وعاد الناس يعبدون الأصنام، ويهرولون في الشوارع من الصيحة العظيمة، ذهب العز والنعمة، وضاعت أسارير الأمن وصودرت الأحوال والأقوال والأموات، من جاءه الحر فليمت بقيظه، من جاءه القر فليقنع بصيده، ومن كان مؤمنا فليهرب من جلده ويلعن هذا العصر الساقط. البداوة. البداوة. البداوة...

وجاءت الفلول المدججة بالجفوة والعمى والانغلاق وسياط الافتراس، فتكت بالأماني وبالصبايا، والولدان، وضعوا المتاريس في أرحام النساء، وحرموا الأمل والغسل والفرحة والبسمة ومنابت البهجة في الأرض والسماء، وارتعبت تلك الجزائر، صار الناس في الممرات تطاردهم سيوف الجهامة ورماح الجهالة، وسكاكين التخلف والوراء، أهين الناس في عقر ديارهم، أو قتلوا أوفتنوا، وانقطعت لذة المطعم والمشرب، وامحت غياض الرحب...إن الجهل يهلك هذا العصر سفينة الجبابرة، من ركبها فقد غرق...

كان " عبس وتولى هذا المدني" تجتمع إليه الناس فينفخ فيهم، فيقول: إنما الديموقراطيات رجس من عمل الشيطان، إنما هذه المدارس والمعالم بدعة البدع، والحضارات ضلال في ضلال، والصناعات والولع بالتقنيات غواية وأي غواية.. إنما أنشأ الله هذا الكون على البساطة، لقد جاء آدم الأرض عاريا، جائعا، وتوسد الأرض والأحجار، وشقها بالساعدين، فمن يقدر على أمر الله، أو يخالفه، إن آدم لم يستحم في شاطيء، ولم يشرب بيرة، ولم يأكل طيرا، ولا خيرا، ولا تقاضى أجرا، عاش الزمان على العفاف والكفاف، وحواء لم تتبرج على الإطلاق، ولم يلامسها الهواء، كانت تقبع في العريش، تأكل وتشرب نعيم الضياع، تحبس عنها الشمس السنين بأيامها ولياليها... وجميع ما على الأرض متاع الغرور، وسراب هذه الدنيا... الجبال والعصيان، إنما الطوفان يناديني، سأغرق هذه العادات في طيش من الدماء..

وزعموا أنه كان في الساحة رجل مسكون بالحلم، يتيه في الطرقات، والأسواق، ومر به " عبس وتولى هذا المدني"، وعلى رأسه عمامة استطالت نتوءاتها كالقرون، فتعلق به الرجل يناديه ويصرخ به: يا ذا القرنين.. وتبعه أولاد الحارات في ذلك ينادونه، ويرمونه بالحجارة...فصار الناس يتعجبون من أمره.

1992

 

باب التلقيح

زعموا أنه في قديم الزمان، حدث أن انخسفت الأرض، وأطلقت وشاحها، وارتجت منها ألوية الأعماق. انكسر منها الهواء والمعدن والحجر، وهرب الموتى من ظلمة القبور، عادت الروح للانكباب تغري الأجساد، وانفلتت من ظمأ البعث والنشور، واختلطت أظفار الموتى والأحياء، والمراثي بالأمداح، والممالك بالممالك، والصعاليك بالصعاليك، وانتشر خلق الله في حزون الأرض، وهم لا يلوون على شيء...

وخرج " إيبوقراط الحزين" تائها، فانتصبت به بادية مشبوبة من بوادي المغرب. سار الأيام والليالي، قبل أن يشتعل اسمه في هامات البلاد، وكان أن أقيمت رمال المواسم، وصدرت المراسيم والظهائر، وحفر " إيبوقراط الحزين " اسمه في ذاكرة بلاد، أغراه الهواء منها ونسائم الرحيل... وكم كانت البلاد أثخن بأثواب الفرحة والحصاد، إذ كان حظها أن تستيقظ روح " إيبوقراط" في سواقيها وتنتعل فضاءها الطائف...وسرعان ما اندمج " إيبوقراط الحزين"، وانحل في هوى البلاد، صار علما من الأعلام، ولهبا من الأسماء، واقتضت الإرادات العليا بسبب من ذلك أن يعين مستشارا في شؤون الملة والصحة، وما جرى مجراهما بحكم الاختصاص..

وطالت السنون، واستدارت باحات البلاد بأنسها، وقال أهل الحل والعقد، احتدمت هذه السوءات، وكان أن دبرت مواسم للتلقيح سنوات متتالية، وكان " إيبوقراط" في دواخله كأنما يستشعر دما أو ألما، وتختبيء فيه رغبة من عناد، تخاتل ردهة هذه المواسم. رأى بأم عينيه الهزج والمزج، وكيف تتآلف نشوة الدقات والعيطات، وهوادج الشيخات مع موج التلقيح، كان يبدو له أن التهريج أخطر وسيلة معاصرة اهتدى الإنسان إليها، تهتز لها أجساد الحكومات وأبواقها، وأن الطب مهنته القديمة، انقلبت انقلابا، جاءها الأعداء والأدعياء من كل الجهات، تمنى لو عاد للأرض سيرته الأولى...

قال " إيبوقراط الحزين ": إنما الغرض بالتلقيح في تدبير الأجسام، حفظ الصحة الموجودة في البدن الصحيح، في المجتمع الصحيح، في السياسات الصحيحة، والأيادي الصحيحة. وينبغي أن يكون كل شيء في هذه المواسم مقدرا، وأن يقترب الناس من فرصة الهواء، لأن الهواء معدن الصحة، والهواء تدبير الله ليس إلا هواء الإمرة، والحقيقة السياسية، وما لها في الاجتماع والاقتصاد والعمران على وجه العموم، بعدد أجزائها وعللها وما عليها..

قال: فأما علة هذا التلقيح فاستكمال العفة والخفة على الوجه الأغلب، وما انتظم فيهما من طبائع الخلق وعجائب الصحة، إذ العلل الموبوءة تأخذ أسنانها في قتل سلطان السلامة، والأجسام والعقول السليمة...

قال: فأما الصحة فهي الكل - ذكر ذلك كل الحكماء- لا يتجزأ ولا يتذرر. ولا يستقيم هذا الكل إلا بما توافق من الأجزاء التي تكون له. والصحة لها أجناس، الجسم والسياسات والاقتصاد الناطق وغير الناطق، والشغل النابت والتعليم الحجري والمعدني... وسوى ذلك مما لم نتعرض لإيراده في هذا المضمار وإن كان متصلا بالكلام...

قال " إيبوقراط الحزين": والآن وقد كثر المتطببون، وباعة الأنساب والأعشاب، فإن ذلك في الحق تابع لمزاجات الحكومات، ومزاجات الحكومات تابعة لمزاجات الأنظمة... ولايمكن لفائدة التلقيح أن تستوي ويتسق تنظيمها إلا بجوامع هذه التلقيحات:

1 - "التلقيح ضد التزوير الديكي":

قال " إيبوقراط": أما التزوير فوباء الديموقراطيات الجوفاء، وأحد بروجها، ويكثر باكتماله في البلدان التي من طبيعتها الحرارة، والقهر والمرارة، والمجاعات، والسطوة، وبه تقوى الأغلبيات الميتة، وتشل حركة العباد، ولا تستوي أقدارها، وستجد أن هذه الأغلبيات في هذه البلدان تكثر شحومها، وتمتليء جيوبها، ويكون ضعف الحريات، فالديموقراطيات ليست إلا 99، 99 في المائة من أرباع الكون لصالح هذه الأغلبيات وتشابه صورها وأهوائها، ولطالما أفسد هذا الوباء أهوية البلدان وأضاع مآلها، وأضحت ملاذا تنتصب فيها أغلبيات من الأدياك كلما صاح فيها ديك، تصايحت له الأدياك من كل الحدب والصوب، وكلما غاب ديك حل مكانه ديك جديد...

2 - " التلقيح ضد حصبة البطالة":

قال: فأما وباء البطالة، فمنبتها البلدان المنحدرة نحو حضارات النهب والليبرالية الغاصبة، وإذا هبت في بلاد من البلدان أغرقته في صهد الويلات، فإنها تذيب الهواء، وتسخن البحار والأنهار والأدمغة، وتغير الأشياء، وعادات حالاتها، وهي ترخي الأوضاع، والأبدان، وتورث الكسل والخمول وتحدث في العباد الثقل في الأسماع، والغشاوات في البصر وتؤثر في سوادهم وتجعلهم أكثر قابلية للانفجار، وتغير حاجات الورد والفرد، تتناثر في حماها الأوراق ويسخن الماء والحديث، وتسترخي العادات الاجتماعية وتتكدر الأجواء...

3 - "التلقيح ضد كزاز الطرد والتسريح":

قال: فأما الطرد فهو وجهان. الأول: الطرد من المدارس والجامعات وغيرهما، والثاني الطرد من الوظائف المتوفرة لمنع الأرزاق... وطبيعة الوجه الأول تكون في البلدان التي يرتقي فيها طبع التعليم للنخبة، وتضيع أعراض المدارس بأنجال الفقراء، وتسكن الرغبة لسد المنافذ، ومطاوعة بواعث الجهالات، والسعي لإشاعة وزرع ألوانها...إن الوعي يقلب الناس من حال لحال. أما طبيعة الوجه الثاني فعلتها أن الحكومات أو المشغلين في مراحل تدبيرهما تضيق ذرعا بحقوق العاملين والمكتسبات وما لهم في تكون عيشهم واستيفاء حاجيات الوجود...قال: فأما التسريح كذلك فهو شيء من ذلك، إذ أن أرباب المعامل النهابين بالقوة والقوانين المعدة لذلك سلفا، يغلقون الأبواب والمنافذ بدعوى من الدعاوى المعروفة عند هذه الطائفة من الطوائف، فيصير العمال والمستخدمون بسبب من ذلك في حل من لحمة الأرزاق وما تسد به الأرماق...

4 ـ التلقيح ضد" دفتيريا"الغلاء:

قال " إيبوقراط الحزين": لما كان إحدى أغراض التلقيح معرفة أحوال الأبدان، والأعضاء، ومعرفة الأهواء واختلافها، ومعرفة الأعمال والصنائع والعادات والأطعمة والأشربة والأسفار... فقد يحدث أن يستعر وباء الغلاء، ويتفشى في هذه الحاجات الأخيرة، فترتفع أسعار الأطعمة والأشربة والأسفار وما إلى ذلك... ويجد الفقراء أنفسهم أغنياء بالقناعة من فرط الجوع، وتفتح أبواب المضاربات السامات، والأرباح وفوائض القيمات المشروعة وغير المشروعة، ويكون الدثور بالمال وعرق المستضعفين ودماء المغلوبين... وفي بعض البلدان يقوم ( كومبرادور ) نهاب الطبع، ربيب التبعية، كثير أعشاب الرأسمال وأطماعه ذاهبة في السماء، وتطاوله عظيم، لا يترك وحشا ولا قشا إلا ويأكله، بل إنه يسحت الشجر والحجر والخيرات ويرمي الناس بسهامه، ويفسد عليهم معيشتهم، ويأكل زرعهم، وطالما يقصده الناس فلا يبيع للفقراء حتى يسجدوا له... ويخصب في هذه البلدان أو يفسد فيها فيصير وجهها قفاها، وقفاها وجهها، كذلك يقول منطق النهب اللبيرالي الثاقب، إنه الغلاء كان منذ الزمن الأول درعا من أحصن الدروع، له مخالب ومناقير ينقر بها أعين الفقراء...

5 - "التلقيح ضد شلل الأجور":

قال إيبوقراط الحزين: فأما شلل الأجور، فوباء يكثر في البلدان التي يأتيها النهب من كل الجهات، والقهر والجشع والطمع... وتقوم الحكومات فيها على تسخير المأجورين والحرث عليهم بأبخس الأثمان، بسب ما تقدم من طبائع تلك البلدان، حيث تفتح أبواب الإثراء والارتشاء في وجه السماسرة وقطاع الطرق والمضاربين ومهربي العملات ممن استطاع إلى ذلك سبيلا.. ويكون الأجير أسفل السوافل تكتنز على ظهره الجيوب الصغيرة والكبيرة على مثال لصوص العامة والخاصة.. قال: وقد ثبت أن تغير حالات الأجر هو الذي يغير حالات الناس مرة إلى الغضب، ومرة إلى السكون، وإلى الحزن والكآبة، وإلى السرور، ومتى استوت الأجور استوت أحوال الناس وأخلاقهم...

وكان في يوم من الأيام أن استضاف أحد أهالي تلك البادية " إيبوقراط الحزين"، وذبح له ديكا على عادات البدو وأكرمه، ووجدها " إيبوقراط" فرصة للحديث عن منافع الديك ودوره التاريخي عبر توالي الأزمنة والعصور.

1991.

 

باب العداوة

زعموا أنه لما خلق الله معدن الرايات، وبرد الأكوان، واستوى على شفة العرش، فطر الأرض اغتباطا، ورمى بها من الأعالي، وتدحرجت لقعر هاوية من خلاء.. ولما شاء لها الرسو، قال لها: لك القرار. واستقرت كالحميم. وكان أن نفخ فيها من روح الماء، ووضع وبنى الهواء والأحجار، وشق الطرق والمسالك، فكانت الممالك، ووضع في أقصى دنياها امرأتين افتضت الأولى منهما فضة الشرق إذ الشرق شرق. وتذهبت الثانية ذهب الغرب، إذ الغرب غرب. وسمى الأولى " روسيا "، والثانية " أمريكا". وقال لهما بعضكما لبعض عدو إلى يوم تحين رغبتي، وتشاء رحمتي..

أطلق الله عرين الوقت، واستقامت أحوال الدنيا تحت إمرتهما. كانت " روسيا" امرأة فاتنة، غيداء، تملأ صرخاتها عباب القارات، إذ تهتف بريش الفقراء والسواعد المكتوية، يظل مداها النجوم، وخطوات الحفاة العائدين، العريقين في غابات الممرات البعيدة، تهذي بأسمائها سفائن المحبة البيضاء والحمراء، وترتوي طيور الهجرة اليابسة. تمر الشهوة من بابها لتسطع في طينة الغيم والعواصف المسقوفة... كانت العزاء للموتى، يغمرهم أرقها القارس، وتملأ بطولاتهم بسواحل من هباء.. كان لها الشرق. لما قالت الآلهة للجهات كوني فكانت. إذ الشرق يفتح هوة الكبريت للشمس تجلس في مراياه..

وكانت " أمريكا" امرأة عيناء، مشدودة القوام، شرانية، صقر الغرب إذ هي خيمات الشمس يلبسها جسد الغروب، تستغرق الأعماق والجزائر المكتوفة، تشرب عرقها، وهبوب المعاقل العزلاء، وقوافل الغرباء الذاهبين لغبطة اللون، اللون ذي الخضرة المذعورة يقتلع السنديانة الراكضة، كأنما تأكل دمار الحمى، هذه الغلة، غله الأرباح والخسارات...

كانت الممالك تصغي لقرة الكون، وتتملى إرادة الله السائبة، تلعب في انفلات المجرات، وكانت كل منهما تملأ مواعد الأرض، تمسك بروعها بجام اليدين وسلاسل القبض. تباهي أو تشاكس وترسم وجهها في كل تين. وكان أن جاءت الحروب سجالا، قاتلت كل منهما في حزمة السر والجهر، واشتعلت نكهة العناد من أخمص الرماد لعترة النجوم. تقول الواحدة: هذا الأبيض. تقول الثانية عنادا: هو الأسود. تسود الأعمدة بينهما. وتتساقط أجيال من أجراس، وجبال، وحدود، وأصداء تطير كمآثر المخاض... وسارت بسيرهما الهمم، والقبائل المشتبكة، والأمم. وكان الحواريون والأنصار، والعملاء والأتباع، والجواسيس والمرتزقة الأعوان...

كانت" أمريكا" تصعد لجبال من الثأر، وتنادي في العالمين: " روسيا " المرأة الساقطة النبت، الفاجرة، ترضع ريعانها القتل والقهر، وأحساؤها تملأ نخيل الدنيا فسادا، الجاحدة تسرق لبنها من بينها، وتحارب مراسي الآلهة، وتذبح الصلوات، وتهدر صهيل الديموقراطيات، الديموقراطيات المعروضة في الطرقات الغربية يأكل طيبها العادي والبادي، وتنام على هدهدتها المستوطنات والمزارع المخصوصبة، والمستعمرات المقمرة... وكان ذلك يغيظ المرأة " روسيا" فتسرج قوسها للاعتداد، وترسم حدائق الوصل والهجر، توصد باب الوحش والرغبة والريح، وتحاصر لهوها في عقيرة البهو. الغرفة الآهلة بالتبجيل والحروب العابرة، وتنام على رمادها...

وكانت " روسيا" تهتف في سواد البرية: " أمريكا" المرأة السافلة، الزانية، الطاعون، لا يأتيها الأمان من الجهات، تضاجع المال، وريش الهوان، وتشيد بلورها على الغدر والإغراء، الآكلة خزف الدنيا. لها الموت. في كل ربوة تغرس أظفارها.كل العهر هي معينه ومرتعه، أصل كل بلاء، لها الويلات، الفناء لها ولكل الغروب...

كانت " روسيا " تبني قوارب، ومدنا وقرى، وأنظمة من الألوان تتعب في المقامات المريرة، تقول: إني يمامة تتسول سقوف السلم، أتسقط مداه، في شروقي تجري هذه المحبة متعة الصبايا في الأرصفة والجسور... تقول لها " أمريكا": أنا العقاب. لهذه الأرض اهتراؤها.من كان للحرب هو أهل لها.... تطبق الواحدة منهما ستائرها، تختلي بنفسها، وتعود لاعتلاء الأسواق، وتقول: بعض من الحرب، لن تأكل غفلة السلم. السلم هذه الجنازة المفردة..

كانت " روسيا" تعتصم بحبال من ماء، تفتح رخامها للعساكر المارقة، والفقراء اللقطاء، والثعابين الزاحفة، تقطع خريرها الفاصل بينها وبين القطاف، ضاجعها كل قاطعي طريق، وأضرمت الشهوات في الماء الواعد، لكن الغواية كانت تسرق خطوها، تأكل النوى وترمي القشور دون انتهاء. نسيت أنها امرأة العبور، فارتوت من الوهن، وسقط من أعطافها البريق... وكانت " أمريكا" تصعد لسطح بيتها، وتعيرها بقلة ذات اليد، ومتاع الدنيا، بالقش، والفقر، والليالي الباردة... وكان ذلك سببا في نشوب كثير من الحروب، وذهاب الكثير من الموتى..

وزعموا أنه بعد ملايين من السنين ضاقت إرادة الله، غضب الله، وقال لدابة القحط: اهبطي لهذه الممالك، وائتيني برأس هذا الشرق، " روسيا "، هذه المرأة الماردة تغري الجواري بالقصور، والحمائم بالنسور، والعبيد بالأحرار.. ولا ترهب شوكتي. فنزلت دابة القحط، أكلت المدائن والأمصار، والدول والأبراج، والأنظمة... ويبست أغصان الشرق. وجاءت " روسيا" وقوافل الشبق الدفينة. وقفت بباب " أمريكا " تستجدي، وكأنها تطلب صفحها، وتمجد عهدها...يومها قال الرب:

ـ لتنقرض هذه العداوات، إنها تؤلمني.

1991.

 

مثل الدجاجتين

زعموا أنه كانت في جزيرة من جزائر الله الشاسعة تعيش دجاجتان، تنعمان بالأمن وجدران الأمان، وأطياف الدعة، وفتائل الوداعة المعهودة في فصيلة الدجاج. كانت الجزيرة أفضل أرباع أرض الله الواطئة، فيها الشجر، والماء، والحجر، وطابت فيها مواسم العيش، تطلع فيها الشمس شروقا ولا تغيب، وتسرح فيها العين ولا تنوب، جنة الله على الأرض. ..

ونعمت الدجاجتان بظلال الرخاء في خلوات الجزيرة، وبالمودة والترف والمتعة الوارفة...تسيران سير عادات أهل الجزيرة الشرر المتناثر كأنفاس النهار، وترامت سواحل حياتهما الداجنة في سعة المد والرحب، وطال بهما المقام على ذلك دهرا طويلا... وتوطدت بينهما ومن وما في الجزيرة أواصر المودة، وخلجان المحبة...غير أن الدجاجتين كما شاع ي رمال الجزيرة، وسارت بذكره الخيل والطير، كانتا مغرورتين، يقطر ريشهما الصلف والجلف، والكبرياء والأنفة، وكان ذلك مدعاة ليتلافى أهل الجزيرة عشرتهما، ويغلقوا أبواب الصداقات في وجههما، وما بينهما في الوقت نفسه كانت الواحدة منهما لا تفتأ تباهي الأخرى، وتزعم أن بيضها الأوفر، الأضخم من بيض صاحبتها، وأنها السيدة الأولى، طالت أياديها البيضاء سفائن الغدو والرواح، ومع ذلك طمت أنهار الصداقة، واشتدت أواصر اللقاء والتواد بينهما، على الرغم من عادات المباهاة التي تتملكهما...

ودار الزمان دورته، وكاد اللحام أن يتصدع، وتنقطع حبال الود بينهما من جراء المناوشات والمناورات والمنافسات التي كانت تقرض حبال صداقتهما، وكانت المعضلة كما شهد بذلك أهل الجزيرة أن الدجاجتين لا تبيضان على الإطلاق.

قد لا يعرف بالدقة المطلوبة عمرهما في تلك الجزيرة، ولكنما كما وصفهما شهود عيان من أهال الجزيرة، أميل معا إلى البدانة، إلا قليلا، تتشح إحداهما بلوثة من سواد يكاد يكون القاتم، الفاحم كالطرقات، وتعتري الثانية فسحة احمرار يتراءى من خلاها ريشها كبرية من صلصال... وكبر في خوفهما مركب البيض إذ هما لا تبيضان، واستفحل الأمر حتى إن الواحدة منهما تتوهم أنها أنجبت ذريات لا تحصى من الدجاج، وتتخيل شعوبا وقبائل من الدجاج تسبح بحمدها، وتقدم مراسم البيعة آناء الليل وأطراف النهار... وادعت كل منهما أن كل دجاج الله في الجزيرة سليل بيضها، وبليل فيضها، وأن بيضها الأول والآخر، لا يأتيه الفساد من بين يديه ولا من قشرته...وكان ذلك يعز على أهل الجزيرة يأسون لحال ومآل الدجاجتين...

كان كل دجاج الجزيرة يكن لهما التقدير، ويفسح لهما مجال الادعاء والتعالي، ويجاري طواف أوهامهما، ويظهر لهما قرابين السمع والطاعة، والإقرار بالفضل، ولطالما دافعت عنهما أسراب الدجاج في منتديات الطير التي كانت تغشاها، وعملت جاهدة لأن تظل طيور الجزيرة بمنأى عن صدم الدجاجتين بحقيقة ادعاءاتهما الزائفة، لأن ذلك ستنجم عنه عواقب وخيمة على أوضاع الجزيرة، وتلاحم صفوف طيرها ووحشها، وعلى نفسية الدجاجتين بالضرورة والاحتمال. وقد زاد ذلك من حدة اتساع مجرى ادعاءات الدجاجتين، وتأجج غرورهما، وصارتا تتدخلان في كل صغيرة وكبيرة، وكل شاردة وواردة، من شؤون أهل الجزيرة، أعلنتا أبوتهما لكل من هب ودب في كل أرجاء لجزيرة، وهو ما كان يثير مع مرور الوقت غيظ الأهالي جميعا...

قالت السوداء:أنا لي كل هذا السواد، الليل إذا ادلهم، وأديم السماء، كل سوداء تفور في برية الجزيرة هي مني، ما من سواد إلا وله السجود، تاريخ من الصمغ أنا، من فحم التاريخ ولدت، لي الغربان وكل السباع، وكل الطير، وما أكلت السباع... إني المغارة الحبلى بكل التاريخ، وكل من يحمل بشارة من سواد هو نجلي وحفيدي وبعض عبيدي...

قالت الشهباء: إني لون هذا الشفق، أنا من سويت هذه الأمواج، كل ذرة حمراء من جلدي، اكتويت بحر التاريخ وجمر المعاناة الكبرى، لا أحد بمقدوره أن يسلبني لوني، ويفطم عني نسلي، في كل عر صات الجزيرة تتناثر قشور بيضي، ويتطاير ريش فراخي، إني الأم الكبرى، ملأت أعشاش الدنيا طيرا، كل سوام الجزيرة وهوامها مني، إنه حيضي وبيضي.

وسارت بأوهام الدجاجتين قوافل الركبان، في كل ربوع الجزيرة وأنحائها، ولم يعد من المجدي مجاراة مزاعمهما، وأيقن جميع أهالي الجزيرة أن لامناص من مواجهة المعضلة، ووضع حد لمزاعم الدجاجتين ومطامعهما، لما لذلك من آثار سيئة على أمن الجزيرة وطمأنينتها، وكان خبرهما قد بلغ بلاط حاكم الجزيرة، واستطارت سدرة الغضب منه، أرغى وأزبد، ولكنه أشفق لحال الدجاجتين، ودعا كل الأعوان وأولي الأمر من الأهالي لأخذ الأمر مأخذ الجد، وأصدر أوامره للضرب على يد كل من تسول له نفسه اغتيال مسك التاريخ، أو تزييف إرادته، وتشويه سمعة الجزيرة... وتعبأ كل من وما في الجزيرة، واهتزت أوصال المنتديات، وتوالت المؤتمرات، قال كل أهل الجزيرة تحال المسألة لمجمع دجاج الجزيرة، فأهل مكة أدرى بدجاجهم.

وعقد دجاج الجزيرة منتداهم، حضرت الدجاجتان مسلحتين بمزيد من الثقة بالنفس، والعتاد وعدة الظفر، وتوالى على منبر الخطابة كل الدجاج، وضعوا المشكلة في حدودها الحقيقية والفعلية، ولكن الدجاجتين رغم أن المنتدى تلافى إطلاق النار اتجاههما جهارا، تمادتا في الادعاء، زاعمتين أن كل دجاج المنتدى من نسلهم، وأن على الجزيرة أن تقر لهما بهذا الفضل، وبما قدمتاه من بر عميم لتاريخ الجزيرة. وكانت الفرصة ليعلن دجاج الجزيرة عن الغلو في ما تزعمه الدجاجتان، واحتدم الجدال، الرد والأخذ، الأخذ والرد، وأعلن من برج المنتدى كل ديكة الجزيرة أن أحدا لم يسبق له أن سافح إحدى الدجاجتين أو كليهما، فكيف لهما ادعاء أنهما لتاريخ طويل وفرتا الاكتفاء الذاتي للجزيرة من البيض، وأنى لهما أن يبيضا دون سفاح...كان الموقف على حافة الحرج، ولم يكن بوسع الدجاجتين إثبات أي واقعة في هذا الباب، وقر القرار على أن تتوليا إحضار عينات من بيضهما، أمام لجنة انبثقت عن المنتدى، لتقف على الحقيقة. وبدأت المشكلة تزداد تعقيدا. قالت السوداء للشهباء: أي الطرق الآن تجدينا؟ قالت الشهباء: أن نتعلم لغة الهجوم، أن نبيض بيض المستحيل، ليس للتاريخ إلا أن يسير بسيرنا، نحن من خلقناه، ومن سويناه. قالت السوداء: وأي الجسور تؤوينا؟ قالت الحمراء: ليس بالإمكان فعل أفضل مما كان، ليكن أملنا في عرض المسألة على المنتدى العام لكل أهالي الجزيرة طيرها ووحيشها.

وعادت المسألة لتعرض على المنتدى العام لوحيش الجزيرة الذي ضم كل ذي جناح، وكاسر، وكل ذي ناب وجارح، ولم يكن أمام الدجاجتين غير الهروب إلى الأمام وكاد المنتدى ينفض على مبدأ إدانة افتراءات الدجاجتين على تاريخ الجزيرة، غير أنه لم يخل من بعض المناصرين، فقد كان ثمة خنزير بري، ودب قطبي، وديك رومي، دافعوا من أجل ألا تعامل الدجاجتان بالشدة، ورغم أن الخنزير البري حاول أن يوهم المنتدى أنه طالما رأى تلك الدجاجتين وكأنما تحضنان بيضا، وذلك ما أكده الدب القطبي على طريقته، وأكده الديك الرومي إذ زعم أن الدجاجتين طالما راودتاه، وتنزه عن أن يواقع من أهل الجزيرة من ليس من بني جنسه، غير أن كل هذا لم يغير من توجه المنتدى، حيث اقتنع كل وحوش الجزيرة وطيرها أن مزاعم الدجاجتين ليست إلا سلة أوهام..

وذاع في كل أرجاء الجزيرة خبر الدجاجتين وما جرى، ومنذ ذلك الحين وأهالي الجزيرة يتلافون لقاءهما، ومن عزلتهما في الجزيرة هزلتا، وصر لون السوداء منهما باهتا كلون الأشباح الإفريقية، والشهباء غبراء كآنية خزف يأكلها الصدأ..

حاشية بيزنطية:

أنا هذا البيزنطي المجعد، أحمل أبراجا من التعب، ومدائن الأقحوان، تسكنني الهوادة جبين هذه المسافات الزائفة. أعرق كالصيحات، الرائحة انقرضت. وكل الذين يأتون يمضون في عجالة الظل.

لما وقفت بمرفأ الكف، جاءني رنين البداوة، يسألني: أيها الطفل المهجور كالعتاد، أيهما أسبق في الوجود: البيضة أم الدجاجة، الدجاجة أم البيضة، الأصل أم الفرع، السوط أم الصمت، الجلاد أم الضحية، الحبيب أم المحبوب، الحبل أم الحابل، الليل أم النهار، السيف أم الغمد، الماء أم السماء، الحرب أما السلم، الطريق الطريق أم خطو الرفيق... فأيهما أسبق القلب أم المقلوب..

كم ورقة تستطيع الصمود في وجه الريح.

كم يدا تمتد للقطاف. كم ظلا يؤوي الهارب( الهارب أنت من الشيء فتلقاه).

لا طريق, هذه الطرقات المأهولة بالغدر والمكائد، تمشي، ماذا لو انكسرت. يأتيها البدو الأجلاف من كل الجهات، والراقصون على الحبال، واللصوص، والمتمردون، والمتملقون، والمخادعون، والخونة لمتربصون، والمتخاذلون، والمنافقون، والأدعياء الجبناء... حيث الأصدقاء يلبسون جلد الأعداء، والأعداء يسرقون أجراس الصداقة... طالت أظافر هذا الليل، فأيهما أسبق: الطريق قبل خطو الرفيق، أم الرفيق قبل الطريق، ونحن في زمن يغرس فأسه فينا، حيث لا طريق ولا رفيق.

1991.

 

باب انقلاب الحال

 

 

" أزعم " أني صعدت ذلك الصباح، الصباح البارد كقلوبنا، باكرا إلى الحافلة الراقدة في حضن المدينة. المدينة كانت هادئة، وبردها كان القارس، تأكل قساوته الوجوه الدكناء، والأجساد المترامية التي كانت تتوغل في أنف الزحام، يرتطم البعض منها بالبعض، ويشتعل كلام سوقي يتصاعد لهيبه، ويتلاشى في عز الفضاء... راودت التذكرة، جواز الهروب، وجاءني الرقم مقعدي، صعدت السلم الصغير، وتبوأت مقعدي في تلك النار، وبدأت أتحسس هوامشي، أتهجى ثغرات برد خفيف، حاد كالمسامير، يتسرب من الأرباض، ويغرق أغصاني في ارتعاشات عابرة...

كانت أكواب الحافلة تمتليء، الكوب فالكوب، والأجساد تتهاوى في ثقلها، وتخر قابعة، يغزوها سمت اللغط المتبادل الذاهب في الأجواء كصرير قافلة بدوية... على القارعة الصغيرة التي يجلس فيها كرسي السائق شائخا، كشاهد مقبرة قديمة، يتناوب سيل من الرجال والنساء، والظلال الغريبة، تطلب ما لله، وتدعو بتخوم السلامة وأعشاب العافية للجميع، عليها ندوب عتيقة من كبرياء دفينة...

آخر المرة استبد بالقارعة ظل قاتم أو أقرب من ذلك، تسنده قامة طويلة، وعنيدة تقاوم جبالا من تعب تلاحقها، أطلق مدفع التحية كما نفعل كل الصباح، وبدأت الدائرة تدور: أيها الرفاق، أيها الإخوة المسافرون.. هذا أنا راية منسية في هول الصحراء، لا تاريخ يؤويني، منبوذ كالأجرب.. من ذرية يلفها الجوع، يتيم هذه الأزمنة السوداء.. لا أصل، ولا فرع، لامال ولا بنين، مدرس اللغات في ثانوية هذا القبر- المدينة... أجرتي المثخنة بجراح القهر لا تكفي للموت، فانظروا لحالي...

كان مسكونا برعب طاف، يحاصر ملامحه البرية البدوية الحزينة، ويطوح به في مهبات غريبة، وأودية من لغو متقلب ينمو على حافات من أسرار هائلة أو دامية... تحدث البدايات بلغة داجنة تمضغ عربيات أشبه بالفصيحات، وارتدت القارعة مواعين دهشة بليلة، كأنها لا تبالي، وكأنما أدرك الظل كبوة المكان، قال وهو مأخوذ بتضاريس وسهوب حدة غير مرئية، صدقوني:" أنا رجل تعليم". شابت أوراقي، والجحيم يقترب من معاقلي، أخاف أن تأكلني الغرابة، فارحموا اعترافي.. قال ذلك بلغة فرنسية طليقة, وإنجليزية أنيقة، وعربية أفصح من ذلك الصبح، وبلغة أمازيغية آخر المطاف، وغشيته رغبة عارمة في البكاء، واستوت في عينيه مشارق الدمع ومغاربه...

وأطبقت قبائل من سكون على مداخل الحافلة الراكدة...

دلفت القامة الطويلة بعد ذلك لأبراج القارعة الصغيرة، وامتدت اليد ذات اليمين وذات الشمال... كانت القامة تتهاوى بين الصفوف كشجرة تغالب شهوة الإعصار، تمشي الجيئة والذهاب، والمسافرون يأكلهم ضيق ساخن، يسحق سحناتهم... أحسنت غابة الإحسان، والتقطت القامة أغصانها، شكرت أهل الخير، ودعت بالسلامة للأهل وملة الأحباب، وماتت مراسم الطواف، وتسللت من الباب الخلفي للحافلة، الدارة الصغيرة، الصغيرة كعلبة سردين...

في القارعة الأخرى المقابلة، كان الضياء يغرس أذياله في جلد الأرصفة الملطخة بالصرخات المكتومة، ودماء الأحذية البريئة، ومخاط العابرين، وأكياس الفراغ القاتلة... كان ثمة شخصان رماديان، يأكلان موز الظلام في قفة الانتظار، تماما بالصدفة أو بالميعاد، التفا حول القامة. سارت القامة بينهما، الخطوة الخطوة، الكف بالكف والقدم بالقدم... غاب الثلاثة في الثلاثة، وتلاشت ظلالهم من عيون زجاج الحافلة... الحافلة جاءها الآن قائدها، ارتجفت منها الأعماق، ودار مجراها، واشتعل وراءها دخان شفيف يتشقق في مجرى ذلك الهواء المحروس برعاية العابرين...

أياما بعد ذلك، كانت القامة الطويلة نزيلة مستودع المجانين في مارستان المدينة، وانطوت صفحة إباء صغيرة، انقلبت الحال، سقطت الذاكرة في هوادة المحال، كأنما الليل يمسك بحبل النهار، ويلقي بمفاتيحه في جرة الماء...

1991.

 

باب القران

 

زعموا أنه منذ زمن بعيد، بعيد، تزوج رجل صالح اسمه " النظام"، امرأة صالحة اسمها " الدولة"، واستبد بهما الهوى في الغدو والرواح، مات كل منهما في مرايا الآخر، وفي بهجة الوفاء، واضطرمت أشواق الوجد الآكل ذمتهما، القائم على دعائم الأمن، نكهة كل الأزمنة والمدائن المغرورقة من فرط الألفة وعشق المحار...وعاشا على ذلك زمانا طويلا.

وكان أن حملت المرأة الصالحة من الرجل الصالح، فوضعت أنثى. قالت " الدولة": إني أسميتها " الحكومة". قال " النظام": الرأي ما رأيت. والحكم بما حكمت.لك من القبل ومن البعد.

ترعرعت " الحكومة" في فتنة والديها، ممشوقة بالدلال، لا تكاد ترفع صوتها بالإيماء حتى تأتيها مواعد الأشياء، كبرت، كبر معها سحر الدلال، ومحبة الأجراس، وعنب الأوامر والنواهي، ترى الدنيا من خرصة الغنائم، لكأن كل الناس طرا ئد محمولة....كان أبوها " النظام" يقول:

- هذه لؤلؤة أرضي، بابي المقصوص، سأفرش جموحها الذهب، وأملأ بوقها وردا واستيرادا، سأعلمها ركوب الخيل والأخطار، ومن أين تؤكل الكتف، كتف وقائع هذا الصيد الملوح كالأصنام يتلقف وصلها... هذه صورة أمي سأجعل البر والبحر خوانا لها، جميلة الجميلات انبلجت، سأعلمها كيف تحيا وتسبح بحمدها الأشجار والأحجار...

يلاطفها بمنديله البلوري، يمسح مخاطها الماسي، ويدغدغ أظافرها الصغيرة، كأنما يقول: سلاحك أيتها الصبية، ما حك جلدك مثل هذه العدة..

أمها كانت للمرات تهفو لعناقها، تغازل صولجانها، وتقول:

- عروس هذه الإشراقات والثنايا، سأبني لها العمر سديرا، تطلق جدائلها فتلتئم خزائن الله في السماء والأرض، وتجتمع بين يديها أقطاف الليل، وأثداء النهار، ومعادن الشوق والعبور، سأجعل هذه الأكوان تقوم بقيامها، وتقعد لقعودها، تتملى هدوءها كالزوبعة، تحملها بين يديها، كأنما تعودها على الطيران، ترفرف الأجنحة الصغيرة للحكومة، وتضحك أمها ملء بوحها.. وتقول: آه منك أيتها الغادة الماكرة، إنما تخادعين..

كانت "الحكومة"في صغرها، تخرج للدرب، فيهرب من سطوتها الأطفال، يتسللون أو يختبئون، أو هم من بعيد يطلون من عانات السطوح، كانت طلعتها تثير الرغبة والرهبة، نظرتها الحديدية تقهر عيدان الطفولة، وتجتث حلاوة الريق، كان الجيران دائما يشكون غيها، والنساء يغلقن الشرفات والأبواب في وجه مقدمها، وكانت هي لا تبالي تمضي في كبريائها يملأ عطرها جهات الحارة... تعجب بها أمها، تستدرجها للضحك، ترسم " الحكومة" شمع ابتسامة صفراء على شفتيها السامتين. وأبوها كان يتوعد أبناء الجيران، والدرب، يتوعد المسالك والممرات بالحديد، وينفخ في حلمها، يعض على صرير النواجذ، ويقول:

- إني حامل هذه الراية، ويل لهذه الأشرعة، ويل لهذه الجهات، هذه بذرة من ذريتي، إذ تصعد لكم الطاعة، لها الصاع، وأن تبدأ المجرى، وتغرس ضفافها في قوس المجد والنهب، إياكم وخضراءها، وردتها المقفرة كالوباء...

وكبرت " الحكومة"، كبر غرورها وريعانها، واعتادت السير على مدار العناد، فكان لها ما شاءت، جاءتها الفاكهة، وقميص السلالات، والمصارف، والخلاخل، وبحيرات الأهواء، فاهتزت لمواويل المجد، أضرمت نيران الضرائب، في كل شبر من قامة العمر تنتصب ضريبة، الضريبة على البحر وعلى الهواء، وعلى البر وعلى الخواء، أغرقت المواقع والمدائن في بركة الغلاء، واكتوت الأنفاس برمضائها، أضحت الحياة جزءا من ضريبة، والموت ضريبة... وجف حلق الحكومة، ضربت في فم كل المسافات خيام الجباة الآكلين أرزاق العامة والخاصة... أغلقت المدارس، وخرج الأطفال للبراري يغتسلون بوسخ التاريخ، أغلقت دير الجماجم والمواقع، وفتحت نوافذها لبردة الضياع. سقطت الجهات وارتدت الأجيال باتجاه الحريق، كانت هي تشيد عنفوانها، وتقتل بذرة الكلام في حرارة العابرين، ترحل في عليائها، وتلقم الأرض رقصة الفناء، السواد الأعظم: مهلك أيتها الفاتنة. من أعطاك صلابة الحقل.

قالت:

هذه الأعشاب السامة تمر جهة القلب. الويل للراكضين، إنما تعبهم لا يعنيني، ظلت ترجم وصلها، تأخذ بيمناها واليسرى، تقتل بيارق الأحلام، وتقطع الطرقات، تهدم الشرق للمغيب، وتهدم المغيب لغرفة المشيب، مدت أفواهها الجارفة لجيوب الصباح، وأغلقت مفاتيح المرور، للموت بابه، للثراء عبيده، وللأرض سادتها، ولهذه المتعة حماتها... كذلك كانت تقول.

وهرب الشعب للكهوف، ليختبيء في مآسيه.

وكان أن كبرت البنت، وبلغت فقدان رشدها، وشاع هولها في كل الأسواق... فقالت لها الأم الصالحة: يا قمر الأزمان، وزينة الأقداس، كبر الآن مقتك... وأنا أهفو ليوم السعد في لياليك... ولقد جاءنا هذا الفتى الفارس، يخطب الود منك، ويطلب اليدين، فهل ترضين به زوجا. ... وكان أن رضيت الفتاة. وتزوجت " الحكومة" منذ ذلك الوقت على سنة القبض والغلاء، عدوا اسمه ( صندوق النقد الدولي).

1990.

 

" ديموقراطية في سبيل الله"

 

زعموا أنه في غابر الأزمان، وفد حكيم على بلاد كان اسمها المغرب قديما، وكان قد انتهى إلى سمعه، ما بلغته من رخاء، وما حققته من أسباب التقدم وأخشاب الازدهار، فعزم وتوكل على أن ينعم بظلال تلك البلاد ويستزيد فاكهة العرفان، ويتقرب من أعشاش الحلم... رحل الحكيم هو وفسحة من الأصحاب الأربعة أو الثلاثة كانوا، اجتازوا البحار والبراري، وفي قسوة الطريق فقد الحكيم أصحابه، وحزن لذلك الحزن الكبير، وقف واستوقف، وبكى بلل الفراق والضنى، وكاد يعود الأدراج ويسكب أمله في أحواض الخيبة، ولكنه آخر اللحظة، استنفر قائظة العهد والكشف، قال:

ـ إني لهذه البلاد، السائر، سأصلي في مائها. وعد الحر سيف عليه. وفاء على الأقل لرغبة الأحباب...

وسار الحكيم مذهولا حتى بلغ أرض المغارب، وقال شرقها لا يعنيني، نزل أول ما نزل قرية ميتة يتعب فيا زبد الفقراء، عنيدة تشاكس الفراغ، وذباب المسافات الطويلة... وشاع بين سواد الليل و بياض النهار أن الحكيم وضع الرحل على مشارفها، كانت ثمة ربوة تطل على سمائها، وجدها الحكيم أعذب وأطيب، وحط رماله. وارتج النبأ في أوساط الصغار والكبار. قال الفتيان من أهل القرية:

ـ هذا الطائر الميمون المرتقب.قطب زمانه، ومدفأة الأمان..

وتنا فسوا في عوائد الجلوس في حضرته، وكان الحكيم عن قرب يلامس بهجة العين والقلب، ويقول لداخله:

ـ لمثل هذه القرة، تؤكل أشواك الحكمة، وباكورها...

ومضت الأيام، واستعاد الحكيم غسيل المودة، فقرر فتيان القرية الصغار والكبار أن يستلذوا بشمعة الحضور، ويأخذوا الحكمة من فم رجلها، فصعدوا الربوة رغبة في اللقاء، واستقبلهم الحكيم برحابة متقدة، قال كبيرهم:

ـ نحن أحبابك يا مولانا، الحواريين والأنصار، جئناك نلتمس القرب والعرفان، والطريق لساقية الإشراق..

اعتدل الحكيم في جلسته قليلا، قال:

ـ الأهل والسهل، يا ذرية الأحباب، إنما أنا حبيب مثلكم، مسكون به بوهج الأماني يغتالها الأعداء كل صباح... لقد هالني بالأمس وأنا الجائل بأرض البلاد، وقرص الجهات، بلادكم المدمنة على الهبوط، فغمرني بأس الحماس، قلت في نفسي سأرسم في وجه هذه البلاد الحقيقة الراقصة، حيثما تعتريني...

قاطعه الفتيان، وعمت ممالك الفوضى، وعصف الأصوات، هتفوا به، صمت الحكيم برهة، قال:

ـ رويدكم يا ذرية الأحباب..

قالوا بصوت واحد:

ـ وما قول مولانا في باب " الغولف " وما يكون منه...

فأطرق الحكيم هنيهة، ضرب الأرض بعصاه ضربات خفيفة، قال: يا ذرية الأصحاب، إنما أنا عبدكم المأمور،و" الغولف" من آفات هذا العصر المحشو بالنار والعار،وقد بليت به بلادكم، ولن أخفي عنكم جرة الأسرار، إذ قبل ساعات فقط كنت أتوزع في قراءة مخطوط نادر من نوادركم، وقفت فيه على أن " الغولف" في تقدير السلف القائح، هو ميراث عظيم مما خلفه الأجداد من تلة الألعاب، وفنون الرياضات وضروبها، وهو من النفائس التي لا يفرط فيها إلا الجاهلون الذين لا يقدرونها حق مقدارها، ولا يدركون عظيم نفعها، فيفوتون بتفريطهم على أنفسهم وعلى من عداهم حق الاستمتاع والانتفاع بهذا الكنز الذي لا يفنى، وإنه لمما تبتلى به الشعوب والأمم أن يرث رياضاتها أبناء جهلة ألداء، لا يقيمون وزنا لمجدهم، وما ورثوا، فتنفلت جادة تلك الألعاب والرياضات من بين أيديهم، ومن خلفهم، وهم لا يعلمون عظيم الجرم الذي يقترفونه بسوء صنيعهم ، وفساد تدبيرهم، وهذا ويم الله من الأسباب القارسة التي تذبل بها جنان الحضارات،وتموت أغصانها..

و" الغولف " أيها الأحباب، جسر روحاني فريد، يربط الماضي والحاضر، والسهل والمنحدر، وهو أعظم العبادات التي تحفزنا نحو الصفاء والسماء...وقد اعتبره البعض رياضة بالية لاتغني ولا تسمن، ولا تؤخر ولا تقدم، ومن كان نهجه كذلك فإنما يسفه نفسه، ويزدري آدميته المجبولة على حب " الغولف"وشعائره، ولا يفعل ذلك إلا جاحد ومكابر عنيد، وإنه لمما يقاس به تقدم الأمم والشعوب اليوم، ارتباطها العضوي المتين برياضة " الغولف " وفضاءاتها المولوية الزاهية، وعمق نظرتها إليها وسموها، وقد غدا هذا الأمر بدهيا، وأجلى مظاهر التقدم والمجد التالد والعز والسؤدد... وإن أنت شئت أن تحكم على أمة أو شعب فانظر إلى مدى صلته ب" الغولف"، فإن ألفيته مشدودا إليه بقوة لا تقهر، فاعلم أنه شعب يضع قدمه الثابتة على مشارف مستقبل وارف سعيد، وغد مشرق رغيد، وإن وجدت أسباب الوصل منقطعة، فاعلم أنه شعب يسير نحو الحضيض، ومآله حتما إلى الاضمحلال والزوال...

والشعب الذي لايبني فلسفة عملية، ومنهاجا صارخا للانغماس بله الإدمان على " الغولف "، هو شعب لا يزال يحيا في سهوب الغفلة، وعلى هامش التاريخ الذي لا يموت، ويخال الأمور وكأنها تسير كيفما اتفق، بلا ضوابط أو حدود. وإنه لمن الحماقات أن تنفق الأمم والشعوب من خزائنها الأموال الطائرة، الطائلة، المستطيلة من أجل تشييد المدائن، والمدارس، والمستشفيات، والقناطر والطرقات، وما إلى ذلك، ولا تكاد تنفق عشر معشار هذا من أجل تشييد ميادين وملاعب " الغولف" والتشجيع علها، بما ييسر لطقوسه الربانية سبل الانتشار، ليقل بذلك الإنفاق ويكثر الانتفاع...

وكانت رياضة " الغولف" منذ الأزل يا ذرية الأحباب، مدخلا كبيرا لسائر الرياضات والمعارف الكبرى، وسميت بأم المعارف، تقديرا لجلالها، وتنبيها لأثرها الجلل على مختلف أوجه حياة بني البشر.ولهذا غدا محتما على بلادكم يا ذرية الأحباب، بكل قواها الوطنية وغير الوطنية، أن تفكر مليا، وأن تقدم على إحداث ما يجب من تغييرات جذرية في عقلية سواد الأمة، وفي طرق عملهم وسلوكهم اليومي، ليكونوا أكثر اقترابا، وانفتاحا على عادات " الغولف " وطقوسه وارتياد مسالكه، ف"الغولف" رياضة روحانية ، برانية وجوانية شاملة، وهو عنوان الرخاء الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، ومحرر الشعوب من كل شوائب التخلف، وباب الديموقراطية الفضلى... فله المجد أيها الأحباب، ولكل من سار على مسالكه الخضراء أو الحمراء أو الزرقاء...

وفي هبوب اللحظة دبت أنامل التعب في ألوية الفتيان، قالوا: ليمهلنا مولانا، سرير العرفان...

قال الحكيم: لكم أعشاب الراحة. وضرب لهم موعدا ليوم ثان.

* * * * * *

وكان اليوم الثاني. شمس مشرقة تنشر سيبها على السطوح، والصخور، والقرية هادئة تماما كمقبرة عتيقة. استيقظ الحكيم صباحها باكرا، قضى أوطاره الصغيرة، وطفق واحد يتصفح وريقات كان ينتزعها الحين بعد الحين من كيسه الذي رافقه الحياة كحزام أو حبيب يمضغ منه الأسرار. انفتحت أكواب الفرحة في ثناياه، وبدأ يفكر في قسوة الانتظار، إذ سيلتف حوله الفتيان، ويعب في أن تقهرهم الحكمة، والخوف حجة لهم. كان الحكيم قد هده الشوق، تذكر يباب الأصحاب والأحباب، والذكريات الصغيرة، وبينما هو غارق في قمصان النسيان التي كانت تراوده، تراءت لعينيه صور وأطياف وجلبات وصخب، كأنها السيل يقترب من عطره، لم يتمالك فرفع رأسه، وغمرته ظلال الفتيان، قالوا: عمت صباحا، مولانا. هانحن جئناك الأتباع فما يقول مولانا..

اعتدل الحكيم كالعادة في بهو جلسته، قال: بت الليلة صاعقا يا معشر الأحباب، واحدا أصارع النجوم، والحكمة القديمة، والليل كله لم أتحر شبرا من جيشان يذرع فراشي ولا يهزني قدر ما يستطير..

كانت أسراب صمت عابر كالموت تتساقط على رؤوس الفتيان، والقرية تتراءى ككوكب منطفيء، يصل هواؤها مهدودا، وخشي الفتيان أن تتيه بصدورهم أمواج الحكيم، وقال كبيرهم:

ـ وعدك بالأمس مولانا..فما قولك في " الديموقراطية" وماكان لها، مولانا..

تململ الحكيم رافعا عينيه للسماء، كأنما يتفقد شيئا، نقل عصاه في هدوء وأناة، وضعها في موازاة مع قامته بحيث تسند رأسها للأطراف السفلى من الكيس، القارب الشاخص بالمحاذاة منه، وهو يعب بعض سائل لعله الدواء، كان في الآنية بالقرب منه، مسح أدغال لحيته الكثة من البقايا المتناثرة، وعيون الفتيان تأكل حركاته الصغيرة الثقيلة، تنحنح وقال:

ـ حسنا، يا ذرية الأحباب...إن المسافات تمضي بنا، وثمة حكمة قديمة تحضرني الآن، لا أذكر صاحبها، هي " الديموقراطية هي حكم الشعب لنفسه بنفسه «، وهي وجه لسلطة خضوع الشعب لإرادته كما ترون، ولكن مع ضرورات أن تكون في هذا الشعب " نفس " وألا يبيع " نفسه " في سوق النخاسين، المرابين، النهابين الذين يتزيأون أزياء الديموقراطيات، ويتشدقون بألوانها، وهم في حقيقتهم أعداؤها الألداء.وأنتم غير بعيدين من هذه الموبقات والكبائر التي تزرع بذور وأشرعة الديموقراطيات من كل لون، مشيعة بأساليب فيها الغلو في التهييج، والإفراط في التهريج، يكون المر من قبل ومن بعد ذرا للرماد، والرمد في العيون..

وكنت زمانا، أيام العز والشباب، قد حضرت في أي من بلاد الله الضيقة، مناظرة عابرة، ودار بيني وبين بعض حكمائها الأدعياء جدال ولجاج عميق...

قال: يا هذا لون الديموقراطية أبيض، كأسنان الحليب، أو ندف الثلج، أو الملح، أو الكفن، أو الجير الذي تطلى به الواجهات والأرصفة والحارات، حيث الزينة الخادعة تشيع الرهبة، وتطلق عناد جندها...

قلت: لعله الأحمر...

قال: كالشفق الغادر، أو حب الرمان، أو شقائق النعمان، أو الدم المراق، أو الرايات التي ترفرف في المتاهات، تتطاول في المهب، وتضج بظلالها الممرات الموءودة، ترقرق فيها دماء غير مرئية...

قال: بل أصفر، كأوراق الخريف النائمة على الشتات، أو التبن البليل، أو الرعب، أو المجاعات التي لا تنتهي، أو النقابات أو القهقهات، أو لحقول اليانعة...

قلت: لعله أزرق. قال: كالبحر، أم السماء...قال: بل أسود، كالحداد، أو ظلام القبر، أو كالغراب، أو السوق، فلا تجعل اللهم فيها المراد..

قلت: بل أخضر. قال: كالحناء، أو خضراء الدمن، أو الدعة الحرى، أو الأعشاب السامة...

قال: بل، لا لون لها، كالماء والهواء والسراب واليباب والخراب والذهاب والعباب والعذاب... تمسي على حال، وتصبح على حال، من كان أعمى فقد كفانا شر الإشارة، ومن كان ظامئا فليرتو بدمعه، ومن كان فقيرا فليتهدم، فهو ملك بؤسه، ومن جاءه الغنى ضاعفنا من فرص غناه، من صلب الديموقراطية أن يأتي الموت صاحبه، والقبر بين يديه، وأن يخرج المرء من بيته فلا يأمن الرجوع إليه، وأن تراوده فتنة الأحلام فلا يأمن الشرطة البارزة والمستترة أن ترده إلى الصواب، وأن يستيقظ من نومه فيحمد الله أن لم تكن نومته الأخيرة، وإن ضاقت به شجون الحياة الدنيا، قال هذا ما جنيت به على نفسي، فلا سامع لشكواه، ومن النباهة أن يتعلق عادة دخول سوق رأسه، ولا تطيف به الظنون، كي لا يكون مطلوبا..

قال صاحبي، وكان أن خرج الشعب عن بكرة أبيه، يولول في كل الطرقات، يتسول الأمان، ويمد يديه متوسلا:

ـ ديموقراطية في سبيل الله...

ومرت الحكومات، بالشدة كعادتها، مر السحاب، وهي تقول:

ـ الله يسهل..

وفي إيوان اللحظة، كان شيخ القرية يسير في اتجاه مجلس الحكيم، بصر به الفتيان من بعيد يلملم قامته الكليلة، وقد طال الوقت، فقال الفتيان:

ـ ليعدنا مولانا..

قال الحكيم: وهو كذلك. فافرنقع الملأ.

* * * * * *

وكان اليوم الثالث. هب الفتيان من ظلال القرية، وتنادوا بحبوب المودة، أو تواصوا بزجاج الصبر، قال كبيرهم: لقد طال الأمد، ونحن نستظل هوى الحكيم. فماذا لو احتفينا به. وقالوا جميعا: هكذا، تكون الهمة. وساروا في ركبهم محملين بالذبائح والقرابين والبخور...كان الصحو يفترس أنداء لقرية، وهم يمشون، كأنما الربوة تبتعد، لم يكن ثمة أمارات ترفع نحو طلعة الحكيم، راودت الشكوك بعضهم، قالوا: هل يهرب الحكيم؟ قال الآخرون: قد يكون ضايقه الشيخ والمقدم في وحشة الليل. ولكن مع اقتراب الخطوات كان ثمة شيء ما ينبيء بالعكس، وتبددت الرهبة في قلوب الفتيان لما أيقنوا أن الحكيم مال على شفا الحياة.

كان( الحكيم ) لم يستيقظ بعد من نومه، واقتربوا منه، فوجدوه غارقا في بركة نومه، مبللا بالعرق كأنما خرج لتوه من قعر الجب، كانت معالم سعادة خفية تشرئب من سحنته، عيناه الغامضتان تشعان البداءة وأغلال البراءة، ويداه المتهدلتان كعناقيد من عنب، وعصاه الممدودة تلتمع كعروات البروق...كل ذلك زاد من غبطة الفتيان ارتباطا.. وعلى المهل أيقظ الفتيان حكيمهم، فرك عينيه ورأى ما رأى، وابتسم مليا، فقال: يا ذرية الأحباب، إنما جئت هذه البلاد لأنعم ببعض الأمان، أكان هذا مجرد وهم انتابني أيها الأحفاد..وما لبث أن راعه مشهد الاحتفال الذي يتهيب له الفتيان، ورأوا في وجهه بعض الغضب، قال:

ـ ردوا متاعكم يا معشر الأحباب، فمواعد الفرحة لم تحن بعد، ردوا بضائعكم، فقد أستعيد نومي، وأواصل طريق الحلم.

قال الفتيان:

ـ لا ترجيء دموع فرحتنا، يا أبانا..

كان الحكيم قد تناول شذرات من فطوره المعتاد، واستوى في قعدته الخافقة، قال: عذرا، يا أحبتي...

فتهافت إليه جمع الفتيان، قالوا: ما قول مولانا..فقد شاع بينا في هذه الأزمنة السوداء، فزع اسمه " العولمة "، يهتف به الصغير والكبير، وتفتح باسمه أبواب الجنة والنار...

قال الحكيم مبتسما: إني فعلا سامع هذه الغرائب. ولا خوف عليكم أيها الأحفاد، فإرادة الآلهة ترعاكم. إنما الأفراد والشيع عبيد ظروفهم، ولقد بلغني أمر هذه " العولمة " وما فعلت بالعقول والنقول، والأمم والشعوب، والحكومات، حتى إن أي حديث في هذه الأزمنة عن الشجون الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، الصغيرة والكبيرة منها، الحقيقية منها والزائفة، لا يصفو، ولا يتحقق خارج التذلل أو التمسح بتلابيب هذه " العولمة "، والتماس طيبها، وبركتها الموصولة، ونفعها الدائم، وتأكيد دورها الثاقب المشبع بالنعم والخيرات في مجرى النهوض بشؤون الكون، وافتضاض أسراره، ومعرفة خباياه، ما يسيء منها وما يسر، وما ينفع وما يضر.. والحقيقة يا ذرية الأحباب أن « العولمة " وباء استشرى منذ عقود جراء انحدار الدول القديمة، المسماة في ذلك العهد بالدول الاشتراكية أو الشيوعية، التي كانت جارية بحقائق الأشياء، ذات النجوم الزاهرة، والأحلام الطائرة، بعد سقوط جدار جليدها المعروف، الذي كان سندها، وأصبح متلطخا ببلواها، إذ على أنقاضه غدا الكون أسير قبضة نظام قارس، أركانه الثابتة الرعب والرهبة الخانقة، وقسوة الافتراس، والبحث الماجن عن المغنم في الأرض والسماء وما بينهما...

وهذا النظام السافل يا أحفادي، هو النظام الرأسمالي، الذي تكون وسائله وغاياته الثابتة، الدائمة، النهب والسلب والغزو، والاستثمار الجارف من أجل أكداس الربح، الربح من أجل الربح، لا يراعي للحق حرمة ولا للسواد حدودا، وقد وجد الفرصة سانحة له لما استتب شأن الاعتراف به، وبوحدانيته وهيمنته الحسنى، واختص بأبشع الطباع، وافتراس السباع، فأغرق الكون في سقمه، وعدواه.

ويطمح هذا النظام يا ذرية الأحباب، لأن يجعل العالم تحت إمرته وسطوته، وخاتما في إصبعه الكاسر، ليدكه دكا، ويخلق منه سوقه الرحيبة، ورحبته التي يعرض فيها ويلاته، بلا حسيب ولا رقيب، ليخضع بخزائنه الملأى كل الرقاب، وكل الأنظمة، والممالك، وتسير بهديه المشارق والمغارب، وبالصورة التي يراها أجدى لأن يأتمر له كل شيء، ويستفيد هو من كل شيء....

والحق، يا ذرية الأحباب، فإن هذا النهج إنما يكرس الجور والطغيان، والمقاذر، والخسران، ويضل الرأي، ويرفع من شأن كل جبار عنيد، ليقف وسع الكون عند حدود مشيئته، لكي لا يكون للضعيف منه منجاة، ويجد فسه أبدا في صيد المخافات بعد المخافات، ولا يملك عن رضاه فكاكا.. وباختصار أيها الأحباب فإن " العولمة " هي أعلى مراحل الرأسمالية المتوحشة الهوجاء التي لا تبقي ولا تذر، وهي مايلي " الإمبريالية " التي وصفها أسلافنا، ونددوا بمهاناتها تنديدا..

وكأنما اشتد حنق الحكيم، وضاقت به سلاسل القول، وظهر أساه، فقال متحسرا:

وأنا لا أملك يا أحبتي في الختام غير أن أقول: لعن الله في السر والجهر، الاكتشافات الجغرافية، والمكتشفين، والرحالات المغامرين، والقراصنة الأنبياء، والبحار وما وسعت، والجوابين آفاق البرية، وكولومبوس، وفاسكو دي كاما، وأولئك الذين اكتشفوا دابة هذه " العولمة " وطاعونها " أمريكا "، التي أشهرت حقدها الدائر في الظواهر والبواطن، وكشرت عن أنياب عداواتها لتفترس فسحة هذا الكون، وتجعل منه أشلاء، أشلاء...

ولاحظ الفتيان مواقيت التعب على محيا الحكيم، قالوا:

ـ ليسترح مولانا...

وتنفس الحكيم صعداء صمت وارف، قال:

كأني بجبال الصبر قد ذبلت أيها الأحباب...

كانت الشمس تشق طريقها في بادية لمغيب، هادئة، وكأنما رحل الفتيان، وتوزعتهم الريح كالصدى في عدوة الأنحاء.

 
 
 

 

 
 

ضيوف الموقـع

سعيدي المولودي

 

دراســات

 

 

 

 

   

     

 

نصوص إبداعية

 

  

   

     

معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقة تعــريف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع   خزانات الموقـع صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

موقع سعيد بنگراد - تاريخ الإنشاء: نونبر 2003