1-
لقد استعير مفهوم الإيحاء من اللسانيات، وغزا ميادين كثيرة ولاقى
نجاحا كبيرا إلى الحد الذي جعل من استعماله يطال الأسلوب الصحفي
ذاته. إن هذا النجاح يعد تكريسا باهرا لكلمة تقنية في أصلها.
وعلى الرغم من ذلك، فإن مونان كان على حق حين كتب سنة 1963 قائلا
: > إن كلمة إيحاء تعد من أقدم المصطلحات التي عرفها المنطق
السكولائي شأنها في ذلك شأن كلمة تقرير. وقد ضمتهما اللسانيات
إلى مصطلحيتها الحديثة في آن واحد <. (1) إن هذا النجاح محير
حقا، بل يمكن القول، ونحن نعاين انتشاره الكبير هذا، لو لم تكن
هذه الكلمة موجوده لوجب إيجادها.
ولكن ألا يؤدي الاستعمال
المفرط لهذه الكلمة إلى الإساءة إليها؟ إن هذه الملاحظة تثير
الانتباه والقلق في الوقت ذاته، فلا يسعنا، أمام هذه التعاريف
المتعددة والمختلفة لكلمة إيحاء، إلا أن نشاطر مارتيني رأيه حين
يقول '' ليس من السهل أن نحدد بدقة كل الحقول الدلالية التي
تشملها كلمة إيحاء'' (2).
ويعتبر البحث الذي سنقدمه هنا، محاولة
لإعادة بناء السيرورة التي عرفها تاريخ الإيحاء، تلك السيرورة
التي قادته من الفلسفة السكولائية إلى اللسانيات ثم إلى علم
النفس والأدب. ولعلنا بهذا العمل نستطيع أن نبين أن الغموض الذي
يكتنف هذا المصطلح يكمن في وجود حقائق وقضايا متنوعة تغطيها نفس
الكلمة.
2-
إن كلمة إيحاء تعود إلى الفلسفة السكولائية، فـ > المفاهيم
المجردة، كما يرى ذلك ماريتان، هي دائما مفاهيم مطلقة، بمعنى أن
الشيء الذي تقوم بتمثيله في الذهن هو تمثيل يتم على شكل مادة
(...) (البياض، الانسانية)، أما المفاهيم ''المحسوسة"، فهي إما
مطلقة، إذا كان الشيء الممثل حاضرا في الذهن على شكل مادة (
الانسان، هذه الشجرة)، وإما إيحائية، إذا كان الشيء الممثل حاضرا
في الذهن على شكل حادثة محددة وموحية بموضوع ما بمعنى أنها تعرف
بنفسها وبغيرها في نفس الوقت] ( أبيض، أعمى). إن المفاهيم
الإيحائية تحيل في الذهن أولا وأساسا على نفس الشيء (على شكل أو
على تحديد معين) الذي يمثله المفهوم المجرد الذي يطابقها بشكل
ثانوي، أي الذات (المادة) التي يسمها هذا التحديد أو هذا الشكل
العرضي< (3)
وبنفس المعنى يتم استخدام
مفهوم الإيحاء في النحو العام العقلاني : فالاسم يدل على كل
الوحدات الاسمية القادرة على الاكتفاء بذاتها. والحال أن هناك،
حسب أرنود ولانسلو، أسماء ليس بإمكانها أن تستعمل داخل الخطاب
بشكل معزول على الرغم من أنها تعين وحدات، فهي في حاجة إلى أن
تضاف إلى أسماء أخرى : فـ> ما يجعل الاسم عاجزا على الاكتفاء
بذاته، هو كونه، يحيل في ذات الوقت على دلالته الخاصة، ويحيل على
دلالة أخرى غامضة يمكن أن نطلق عليها إيحاء، ذلك الشيء الذي صيغت
الدلالة الأولى من أجله. وهكذا، فإن الدلالة المميزة '' لأحمر''
هي "الحمرة "، إلا أن أحمر لا يدل على الحمرة إلا من خلال تحديد
الكيان التي تنطبق عليه الحمرة. ومن هنا، فإن "أحمر" لا يمكنه أن
يستمر في الوجود وحده في الخطاب، وذلك لوجوب التعبير، داخل هذا
الخطاب، عن الكلمة التي تدل على هذا الكيان< (4).
وعلى هذا الأساس سيكون للنعت
دلالتين مختلفتين : أولا دلالة الشكل، وهو ما نسميه اليوم
بالتقرير، ثم التعيين الغامض للذات ثانيا، فحين أقول ''الفرس
أبيض''، فإن كلمة " أبيض" هنا توحي بالفرس، بمعنى أنها تشير، من
تلقاء نفسها، إلى الذات التي تعود إليها بشكل لا فكاك منه، ذلك
لأننا لا نستطيع استعمال كلمة ''أبيض'' وحدها داخل جملة.
ومن هنا كان استعمال الإيحاء
مرادفا لمصطلح "المفهومية". فبما أن المفهومية هي مجموع الخصائص
الأساسية لتصور ما، فإنها تقاس، حسب غوبلو، بعدد الجمل الممكنة
التي يشكل المفهوم موضوعها. وعلى هذا الأساس ستقاس "مفهومية"
المفهوم ''إنسان'' (5) انطلاقا من مجموع الجمل المبنية على نموذج
''الإنسان حيوان''، " الإنسان عاقل". والحال أن كل محمول يمتلك،
حسب التحليل السابق، بعدا إيحائيا لأنه يحيل، بشكل غامض، على
الذات. إن إيحاء مفهوم ما -باعتباره مجموع المحمولات التي توحي
به- هو إذن المعادل الدقيق للمفهومية. لقد كتب ماريتان يقول ''
لقد استخدم الكثير من المناطقة المعاصرين، وخاصة الإنجليز منهم،
كلمة تقرير كمرادف للماصدق أما الإيحاء فقد استخدم كمرادف
للمفهومية (6).
ولكن، وكما هو معروف، فإن
المناطقة الإنجليز، أمثال "جان ستيوارت ميل"، أو "كاينز"، لم
يكونوا يتحركون داخل تقليد بعيد عن فلسفة "المفهوم". فعند ج . س
. ميل مثلا، لا وجود لحالات وعي يمكن اعتبارها الوقائع الوحيدة
المؤدية إلى تكوين وعي خاص بالمضمون. فلديه، كما لدى هيوم، ليس
هناك سوى معطيات خاصة، أما الأسماء، باعتبارها صورا مولدة، فهي
نتاج تراكب وتراكم لمعطيات خاصة.
وعليه، فإن المفهومية - أو
الإيحاء - سواء كانت كلية أو نهائية، ضمنية أو ذاتية، حسب
تمييزات ميل، يتم ادراكها دائما انطلاقا من الجمل - حالات الوعي-
المتحققة أوالمحتملة، التي يمكن بناؤها انطلاقا من اسم يمنح
لموضوع.
إن المشكل الرئيس للمنطق يكمن
إذن في التمييز بين المفهومية الدنيا التي تسمح باعطاء تحديد
صحيح لهذا المفهوم، وبين المفهوميات الأخرى الأكثر شمولية والتي
تحتوي المفهوميات السابقة. ووفق هذا التصور يقابل كاينز الإيحاء
بالمفهومية؛ فالمفهومية هي مجموع الخصائص التي يمكن منحها لمفهوم
ما، في حين يشكل الإيحاء مجموع الخصائص التي تستخدم في تحديد
المفهوم. (7) ولكن الإيحاء، كما يلاحظ ذلك ماريتان، ينظر إليه
دائما انطلاقا من جهة نظر إسمانية : إن مقولة الإيحاء، كما حددها
المناطقة الإنجليز، تفترض، في نهاية المطاف، وجوب اختصار المفهوم
فيما نفكر فيه حاليا وبشكل صريح باعتباره مجموعة من الملاحظات أو
الطبائع التي تساعدنا في تحديد مضمونه. (8)
فلن تكون الدلالة الإيحائية
إذن، حسب كاينز، معادلا لتعريف ماهية، ولكنها تشير إلى تعريف
مؤقت فقط. وهو المنظور الذي تبناه غوبلو في تمييزه بين المفهومية،
أو الإيحاء الموضوعي، أي >مفهومية عقل يعرف كل الحقيقة عن موضوع
ما<، وبين الإيحاء الذاتي أي > مجموع الصفات التي ينظر إليها شخص
ما في لحظة ما باعتبارها متضمنة في دلالة هذا الاسم< (9).
لا شيء لحد الآن يشير إلى
الإيحاء كما يتم تعريفه حاليا. فداخل المنطق ذاته سيحدث انزياح
بالغ الأهمية، وهو انزياح سيمكننا من الانتقال إلى التصورات
الحديثة للإيحاء. إن الأمر يتعلق، إذا جازالتعبير، بصراع بين
التأويل المفهومياتي والتأويل الماصدقي للإيحاء. صراع كانت
نتيجته انتصار التأويل الماصدقي. إن مفهوم الإيحاء في التأويل
المفهومياتي للمنطق، ينظر إليه في علاقته بالخصائص التي تميزه،
أما في التأويل الماصدقي فينظر إليه في علاقته بالكيانات التي
ينطبق عليها. ولقد انحاز مناطقة القرن التاسع عشر للتأويل
المفهومياتي >إن الماصدق الخالص لايمثل أي شيء يمكن التفكير فيه
أو تخيله <. (10) إلا أن المنطق الرمزي لا يخفي ميله نحو التأويل
الماصدقي، فداخل هذا المنطق يتم تحليل القضايا بإحالتها على ما
صدقيتها. فجملة من قبيل : "بيير فان" سينظر إليها باعتبارها :
العنصر "أ" ينتمي إلى المجموع " ب".
ولقد تبنى المنطق المعاصر،
استنادا إلى مقترحات ليبنتز، تأويلا ماصدقيا لهذا المفهوم. فما
يسمح بتحديده هو ماصدقيته، أي التقرير حسب المناطقة الإنجليز.
لكن هذا التقرير نفسه، ينظر إليه من زاوية تجريبية : فما تقرره
جملة ما، حسب روسل، هو موضوع محدد. فالجملة التالية : '' الملك
الحالي لانجلترا'' مثلا تقرر شخصا محددا (11) ( وقد لا تعين في
بعض الحالات أي شيء، مثل الجملة التالية : " الملك الحالي
لفرنسا").
إن كل الشروط متوفرة إذن لكي يحدث انزلاق
في زاوية الرؤية، بحيث سيتم استبدال الإيحاء في استعماله المشروع
بمفهوم التقرير : فما هو ''واقعي'' هو الموضوع المقرر، بخصائصه
الأساسية كما أثبتها التقصي العلمي، أو اتفاق العقليات. أما
الإيحاء فسيكون ذلك الجزء الذاتي من التقرير.
3-
ولكن الإيحاء، وقبل أن يتم هذا التحول الجذري تحت تأثير علم
النفس خاصة، حافظ ولمدة طويلة، على جزء من معناه التقليدي. ويبدو
أن بلومفيلد وهلمسليف، استنادا إلى تصورات مختلفة، ظلا وفيين
للتصور المنطقي لهذا المصطلح، وحاولا نقله إلى اللسانيات. فمن
المعروف أن دلالة شكل لساني ما، عند بلومفيلد، تتحدد بكونها
''الوضعية التي يتم استعمال هذا الشكل فيها، والجواب الذي يحدثه
عن المتلقي. (12) لذلك فإن الفرضية الأساس للسانيات - تتميز
مجموعات لغوية بعينها بامتلاك تعابير لسانية متشابهة من حيث
الشكل من حيث الدالة - تقتضي بأن كل شكل لساني يملك دلالة قارة
ونوعية. (13) وتشكل هذه الدلالة الوضعية ( أو قسم من الوضعيات
بتعبير بريتو) الذي يقوم داخلها المتكلم، من خلال هذا الاسم
عمليا، بتعيين الموضوع المتطابق معها.
استنادا إلى هذا، يصرح
بلومفيلد بأن التقرير في الرياضيات محدد بدقة. (14) فكلمة "قلم
الرصاص" تقرر موضوعا داخل وضعية محددة (أو حسب بريتو، قسما من
الموضوعات داخل قسم من الوضعيات).
وعليه فإن التقرير من هذه
الزاوية، لا علاقة له بـ"مفهومية" مفهوم قلم الرصاص. لذا يمكننا
القول بأن الدلالة الوحيدة هي تلك التي يقدمها القاموس. (15) إلا
أن هذه الدلالة ذاتها ليست بسيطة. فمن الضروري تمييزها عن
الدلالة العادية أو المركزية (كلمة رأس تعين رأس جان أو بول) وعن
الدلالة الهامشية والاستعارية التي لا نلجأ إليها إلا إذا رفضت
وضعية محددة الدلالة المركزية، فعندما نقول > العجوز السيد سميث
ثعلب<، سنكون مضطرين لإعطاء تأويل استعاري لكلمة ''ثعلب'' وذلك
لوجود كلمة " سيد".
بالإضافة إلى السبب الأول
المولد للااستقرارية الدلالة، هناك سبب ثان لهذه اللاستقرارية
يسميه يلومفيلد "الإيحاء". ويجب أن نحترس من إعطاء تصور بلومفيلد
للإيحاء تفسيرا سيكولوجيا، وهو التفسير الذي يجعل من هذا التصور
معادلا للمعنى الذي يمنح له راهنا >كل ما تستطيع هذه الكلمة أن
توحي به، أو تشير إليه، أو تستدعيه بطريقة واضحة أو غامضة عند
مستعمليها<. (17) فما الذي يفسر خيانة بلومفيلد لتصوره اللاذهني
؟ ففي الفقرات 9-9 و 9 -10 و 9 - 11 من كتابه حاول بلومفيلد
دراسة ثلاثة أنواع من الإيحاءات :- مستويات اللسان - الطابوهات
اللسانية - درجة كثافة الاشكال اللسانية. ففي الفقرة الأولى يقدم
لنا المستوى الاجتماعي للمتكلم باعتباره منبعا رئيسا للإيحاء،
فهناك أشكال لا تستعملها إلا الطبقات المحظوظة أو مجموعة من
المزارعين. إلا أنه لا ينفي وجود أشكال جهوية وأشكال عتيقة وأخرى
تقنية وبعض الحذلقات اللسانية "المميزة"، والأشكال المستعارة من
اللغات الاجنبية والأشكال السوقية.
وحسب بلومفيلد، فإن كل شكل
له، في نهاية الأمر، نكهته الايحائية الخاصة، فالأمر لا يتعلق
هنا بدلالة كلمة، ولكن يعود إلى قيمة استعمالية لا يدركها إلا
المستمع الذي لا ينتمي إلى المجموعة التي ينتمي إليها المتكلم.
إن ما يدرسه هنا بلومفيلد هو تلك اللغات الخاصة التي سبق
لفوندرياس أن درسها، (18) إلا أن بلومفيلد يقوم بتعميم حقل
تطبيقاها : إن كل شكل داخل مقام محدد، يمكن أن يظهر لمستمع ما
كمالك لهذا الإيحاء أو ذاك.
إن هذه القيم الثانوية المضافة
إلى الدلالة ليست قيما بالمعنى السوسيري، ولكنها قيم استعمالية
إذا جاز التعبير. فقد يحيل شكل ما- بالمعنى التقني للكلمة- عند
مستمع ما، على مستوى معين للسان، أي لسان خاص. فكلمة "cluade"
تملك ، بالإضافة إلى دلالتها الأولية، دلالة أخرى غامضة، توحي
بالاستعمال السوقي عند الطلبة. وإذا أخذنا المثال الذي يقدمه
يلومفيلد بالاعتبار، فإن ''شكلا يستعمله متكلمون سيئوا التربية،
سننظر إليه باعتباره سوقيا وقبيحا وعاميا''. (19)
وفي نفس الإطار يقوم يلومفيلد
(9-10) بدراسة ظواهر أخرى، ويتعلق الأمر يمختلف الطابوهات
اللسانية. فهناك بعض الأشكال أو التعابير التي لا يجب استعمالها.
وعدم تلاؤم هذه الألفاظ يمتد من أبسط التمييزات الاستعمالية، إلى
الحظر الكلي. ولهذا السبب، فإن الإيحاء ليس له علاقة مباشرة مع
الدلالة، فهو يحيل على قسم من المقامات والاستعمالات الاجتماعية
التي يتمتع فيها استعمال هذه الكلمة أوتلك بإيحاء خاص، أي ينتمي
إلى سجل آخر من سجلات اللسان.
وانصب اهتمام بلومفيلد، في
الفقرة الأخيرة من كتابه، على دراسة نوع ثالث من الإيحاءات، وهو
الإيحاء القائم على درجة الكثافة لشكل لساني ما : إن التعجب
والاستفهام والأصوات المحاكية واللعبة الصبيانية أو الأشكال
التحبيبية يمكن تصنيفها ضمن نفس الخانة : ''أبي'' ''أمي'' لهما
إيحاء صبياني، إلا أن الإيحاء، وكما هو واضح من هذا المثال، لا
ينظر إليه انطلاقا من التداعيات الفردية أو الذاتية، وبلومفيلد
نفسه لا يكترث لهذا المظهر من الأشياء. فإذا نطقت أمام مستمع
راشد : ''بابا'' ''ماما''، فإنه سيخمن أن الأمر لا يتعلق بالشكل
المطلوب، إن هذه الكلمة تنتمي إلى اللغة الصبيانية. ويمكن لهذا
المستمع أن يؤول استعمالي لهذه الكلمة وليس لكلمة أخرى. إلا أن
الأمر يتعلق باستعمال معترف به من طرف الأخرين ولا يستدعي أي
مضمون بسيكولوجي أو ذاتي.
لقد كتب بلوموفيلد قائلا
''لكل شكل لساني في نهاية الأمر، نكهته اللسانية الخاصة عند
مستعملي لسان معين، وهذه النكهة يمكن بدورها أن تتغير أو تقصى
عند كل متحدث، وذلك بفعل الإيحاء الذي يلحق شكلا ما من خلال
التجربة الفردية< (20). ولا تمكن، حسب بلومفيلد، دراسة هذه
الإيحاءات لأنها غير محدودة العدد والحجم. والنماذج الإيحائية
التي قام بدراستها بتدقيق تعود إلى ظواهر جماعية. أما الظواهر
الأخرى التي لا تخص سوى الفرد المعزول، فإن بلومفيلد قد أهملها
وذلك استنادا إلى فرضياته اللاذهنية.
ورغم ذلك، وحتى في حالة
الإيحاء الفردي، فإن زاوية النظر ستظل واحدة، فالمستمع عندما
يلتقط كلمة ما، فإنه سيصنفها مباشرة داخل سجل مستويات اللسان
التي تمتد من الأقسام الأكثر شمولية، أي ما يتقاسمه المتكلم مع
المجموعة اللسانية، إلى الاقسام الأشد دقة، أي ما يمكن أن نسميه
بسجله الخطابي الخاص.
ونحن، في الحالة الأخيرة هذه، أقرب إلى
المعنى المعاصر للإيحاء. ومن حقنا أن نتساءل : ألا يكون بلومفيلد
قد سقط، دون أن يدري، في المعنى المبتذل للإيحاء العاطفي؟ وإذا
كان الأمركذلك فإن صعوبة تحليلاته، تعود، دون شك، إلى تضافر
تصورين للإيحاء باعتباره مستوى لساني وباعتباره قيمة ذاتية. ففي
نهاية تعداد أنواع الإيحاءات سنحصل على سلسلة من السجلات
المتنوعة والمتعددة متقاطعه فيما بينها وتغطي، في مجملها، كل
خطابات مجموعة لغوية معينة. وفي هذا الإطارالعام تستطيع
الإيحاءات، منظورا إليها في كليتها، أن تنفصل عن المعنى
التقريري. (21) وهذا ما يؤكد الصعوبات التي تواجه عملية تشكيل
الشبكة التامة لكل السجلات التي تسمح بإبراز كل استعمالات
الكلمات عند مجموعة لغوية معينة.
4- ونعنقد أن الأمر يتعلق بالمشكل ذاته الذي حاول هلمسليف، تحت
تأثير مباشر من بلومفيلد، إيجاد حل له استنادا إلى نفس المقولة.
فالفصل 22 من كتابه : prolégomenes à une théorie du langage،
يصف ما يسميه هلمسليف بسميائيات الإيحاء. إن ما يدعو إلى تأسيس
هذه النظرية هو تنافر النصوص. فغاية اللسانيات تتحدد، من جهة
النظر المنطقية التي يتبناها هلمسليف، في >إيجاد وسيلة تمكننا من
تقديم وصف منسجم وشامل لنص ما. (22) ففي مرحلة أولى من التحليل
سنفترض أن النص كيان منسجم من الناحية اللسانية، وهذا الافتراض
قائم على التمييز السوسيري بين اللسان والكلام، فاللسان ''داخل
مجموع الوقائع المتنافرة للغة "، ذو >طبيعة منسجمة<. (23) وعن
طريق التجريد وحده تم استخراج وبناء هذا المستوى النسقي الذي يعد
وجوده ضمانة لدراسة الظواهر اللسانية دراسة علمية. إن الكلام
فردي، أما اللسان فهو كيان اجتماعي، وهذا ما يفسر كون أن أتباع
سوسير المباشرين توجهوا نحو دراسة الأسلوب، أي دراسة العلاقات
القائمة بين الفكر واللسان، ما يتعلق بدراسة "التعبيرية
الشخصية"، وبكلمة واحدة حاولوا دراسة سيكولوجية اللغة، لأن اللغة
تأخذ في الاعتبار العلاقة بين نسق وفرد. فإذا كانت اللسانيات لا
تتحدد إلا من خلال اللسان، فإن المسألة ستنحصر في فهم لماذا
يتجسد اللسان في متكلمين أفراد. ولن نبالغ إذا قلنا إن أتباع
سوسير سقطوا في النزعة السيكولوجية لأنها كانت الوسيلة الوحيدة
التي تمكنهم من تحديد مكانة ووظيفة للمتكلم الفردي. ولعل هذا
راجع إلى كونهم أعطوا قيمة كبيرة للثنائية السوسيرية "لسان /كلام
.
إن المسألة تطرح بالصيغة
التالية : ألا يوجد هناك شيء آخر يتوسط اللسان وتعددية الكلام
الفردي ؟ إنها العودة من جديد إلى مستوىات اللسان التي يصادفها،
حسب هلمسليف، كل محلل بمجرد تخليه عن فرضية انسجام النص. وكل
الأمثلة التي يقدمها هلمسليف تقود إلى مقولة ''مستويات'' اللسان.
(24) سواء تعلق الأمر بالأشكال الأسلوبية (الشعر/النثر) أو تعلق
الأمر بالأساليب (أسلوب مبدع، أسلوب محاكي) أو تعلق بهرمية
الأساليب (راق، وضيع) أو تعلق بالسند (كلام/كناية) أو تعلق
بالنبر (غاضب، فرح)، أو تعلق بالاصطلاحات اللغوية (من النوع
المحلي، الألسنة الخاصة، اللغات الوطنية، اللغات الجهوية،
فيزيونومية الخطاب فيما يتعلق بالصوت).
إن ما يتم تأكيده هنا لا
يتعلق بتحديد شكلي لهذه المستويات ومحاولة حصرها حصرا شاملا،
وإنما يتعلق بوجود هذه الوقائع ذاتها وتنوعها''. (25) فما يبدو
من خلال تعداد الأنساق المختلفة التي تعايشت داخل نص واحد، هو أن
هذه الأنساق ليست دلالية بالمعنى الحصري للكلمة، فهلمسليف لا
يشير إلى الإيحاء نهائيا عندما يؤكد في مقاله "من أجل دلالة
بنيوية" أن البحث عن دلالة كلمة معينة لا يتم من خلال وصف علمي
للأشياء المثارة وإنما يجب البحث عنه في ''التقديرات التي
تتبناها مجموعة لغوية ما، والانطباعات الجماعية والرأي
الاجتماعي'' (26). إن كلمة ''فرس'' أو ''كلب'' كلمتان غنيتان
بمعاني مختلفة في حضارتين ولسانين مختلفين. إلا أن هذه
الاختلافات تنتمي إلى مدلول الكلمة، وهي لذلك لا تستدعي أي
إيحاء.
وعكس ذلك، فإن الطابو اللساني
-الذي يحرم استعمال كلمة ''كلب'' داخل مجموعة اجتماعية معينة، أو
في إطار ظروف معينة - ينتمي إلى الإيحاء.
استنادا إلى ذلك يمكن القول
بوجود حقل "للدلالة" لا ينتمي إلى الدلالة بالمعنى الحصري
للكلمة، نسميه ''إيحاء''. إن مبدأ الشمولية، حسب هلمسليف، يقتضي
ألا نبقى في حدود الأفق الذي يكون فيه النسق متكونا من سميائية
محددة بالمعنى الهلمسليفي الدقيق لهذه الكلمة، أي > وجود تراتبية
تكون أجزاؤها قابلة لتفكيك لاحق في أقسام محددة من خلال علاقات
متبادلة<( 27) بحيث إن كل عنصر من عناصرالنص المحصل عليه من خلال
تحليل نُظر إليه باعتباره منسجما في مستوى تجريدي أول، يجب ربطه
بمجموع المستويات المحددة سابقا لا بعنصر واحد فقط : إن جملة ما
تنتمي في الآن نفسه إلى أسلوب بعينه وإلى شكل أسلوبي بعينه وإلى
نبرة بعينها الخ. (28)
فكيف نستطيع، ونحن نحلل نصا
معينا، استخراج العناصر الإيحائية، أي الأجزاء الخاصة بكل قسم (
ما سميناه بالمستويات)، والوحدات الناتجة عن تآلفاتها (29)؟ من
الصعب تأويل كتابات هلمسليف، ولا نضمن إعادة بنائها. ويبدو أن
نقطة الانطلاق تكمن في إمكانية ترجمة نص مكتوب بمستوى معين إلى
نص مكتوب بمستوى آخر. >إن كل مشتقات نص (فقرة مثلا) -كيفما كان
شكلها الأسلوبي، أسلوب، نوع، مادة، نبرة لسان محلي وطني أو جهوي-
يمكن ترجمتها إلى أسلوب آخر<. (30)
وتلك هي النتيجة المتولدة عن
الطابع الخاص للسان، الذي يمكن أن نترجم إليه كل اللغات الأخرى،
وكل السميائيات الأخرى<. إن الألسنة وحدها قادرة على أن تعطي
شكلا لأي معنى<. (31) وعلى هذا الأساس لن يكون هناك استبدال بل
تعويض للعلامات باعتبارها مرتبطة بعناصرها الموحية وذلك لأن
الاستبدال يستدعي تطابقا بين مستوى التعبير ومستوى المضمون، وليس
هناك في حالة ترجمة مستوى إلى مستوى أخر تغيير مطابق على مستوى
المضمون، إن الأمر يتعلق حقا باستبدال محدد ''كنقيض للتعاوض".
(32)
إن الموحيات عناصر (أجزاء عند
هلمسليف) موجودة في الوحدات اللسانية : كلمات أو جمل (موظفات)
بحيث إن هذه الوحدات يمكن أن يستعاض عنها بوحدات أخرى ( تعاوض
متبادل) تنتمي إلى مستويات أخرى، أي تترجم إلى هذه الوحدات. وهذا
التعاوض ممكن في حالة استنباط هذه العناصر، أي عندما يتم تحليلها
( وليست مقصاة، كما في النص الفرنسي ص 159) .
ورغم ذلك فإن هذه الخاصية غير
كافية من أجل تحديد الموحيات، فلا بد من إضافة الشروط التي ترتبط
وفقها العناصر المشار إليها بمستوى التعبير ومستوى المضمون.
فنظام الكلمات، وهو نظام خاص في بعض الجمل الثانوية، يتمتع بنفس
الخصائص التي يتمتع بها الموحي -يمكن استبدال الجملة الثانوية
والجملة الرئيسية بعضهما ببعض، باعتبارها جملا، عندما يتم
استنباط نظام الكلمات- إلا أن هذا النظام لا يرتبط إلا بمستوى
واحد للغة وهو مستوى التعبير (33) : إنه إشارة وليس موحى.
وعليه، علينا أن نتحاشى الخلط
بين الأشياء. فإذا كان هناك دليلان لا يختلفان إلا بموحياتهما،
فإنهما لا يشكلان سوى تنويع، ولكن وضع هذا التنويع أي وضع هذه
المتغيرات مختلف عن وضع المتغيرات التي يتم استخراجها من
الأساليب اللسانية المعتادة، ولا يمكن دراستها إلا داخل هذه
الأساليب. (34)
وبصفة عامة، فإن دراسة
الموحيات يجب أن تتم إذن خارج لسانيات التقرير التي أرسى قواعدها
هلمسليف في كتابه السابق الذكر، أي يجب أن يتم في إطار نظرية
أكثر شمولية. إن الموحيات تعد مضمونا يتحقق تعبيره من خلال
اللغات التقريرية، إنها تشكل بذلك مضمونا سميائيا، وليس مضمونا
للسان. ذلك أن مستويي التعبير والمضمون يتطابقان وذلك خلافا لما
هو موجود في اللسان ( أي أن هناك تطابقا بين وحدات التعبير
ووحدات المضمون) (35). وحسب المثال الذي يقدمه هلمسليف، فإن
الترسيمة أو الترسيمات أو الاستعمالات اللسانية التي نسميها
"لسانا فرنسيا" هي التعبير عن كل ما يوحي بالصفة ''فرنسي'' .(36)
وبالفعل بإمكاننا أن نترجم اللغة الفرنسية إلى لغة أخرى، وحينها
يمكن أن نحدد موحيات اللغة الفرنسية عن طريق التعاوض.
لقد كان لهلمسليف الفضل، ويجب
أن نعترف له بذلك، في إرساء قواعد استخراج وتحديد الإيحاء، وهي
قواعد تتسم بالمنطقية وانسجام النظرية. وهذا أمر يبدو من خلال
تمييزه بين الخطاطة والاستعمال اللسانيين، وهو تمييز قائم على
الرغبة في تبني مقاربة محايثة للموحيات.
فلنبدأ أولا بتحليل الخطاطة
اللسانية، أي التراتبية ذات الطبيعة اللسانية التي تكون هذه
الخطاطات ؛ >يجب تحليل الموحيات على أساس وظائفها المتبادلة وليس
على أساس مستوى المعنى المضموني الذي يمنح لها<. (37) ولن نهتم
بالاستعمال الذي تخضع له الموحيات. أي التراتبية الخارج/لسانية،
إلا في مرحلة ثانية. ويبدو أن هذا الطابع الجوهري للأساليب
اللسانية، واستخراج الوحدات عن طريق الاستبدال يمنعنا من القيام
بأي تأويل اجتماعي أو نفسي، على الطريقة البارثية مثلا لنظرية
هلمسليف.
ومع ذلك، هل يمكننا القول إن
هذه النظرية صالحة ولها بمردودية محترمة؟ يجب الاعتراف أولا أن
هلمسليف وأتباعه لم يقدموا أي تحليل للموحيات. فهل هذا مجرد صدفة
؟ إذ انطلقنا من الأسس المقترحة، فإننا لن نصل إلا إلى نتائج شبه
توتولوجية : فمجموع الصيغ التي تميز، ''فرنسية'' مرساي هي
التعبير عن موحى ''فرنسية مرساي''، تماما كما هو الحال مع مجموع
الصيغ التي تميز الأسلوب الراقي والمحددة باعتباره : موحي
''أسلوب راقي''. إن الصعوبة، بالنسبة لنا، مردها الاعتراف بوجود
مستويات مختلفة للسان، إلا أن هذا الاعتراف لا يمكن أن يؤدي،
خوفا من الحصول على نتائج عقيمة، إلى اعتبار اللسان شيئا منسجما
ومنفصلا عن هذه المستويات.
إن تحليل نص منسجم، حسب هلمسليف، يسمح
بالقول بوجود لسانيات مستقلة : لن تكون المستويات سوى ظاهرة
ثانوية وبدون أهمية في واقع الأمر، لأن كل شيء قد قيل حول اللسان
الذي ندرسه، فالموحيات إذن لا تقوم إلا بالتعبير عن الوجود
الثانوي لمستويات لسان في علاقته بلسان آخر. ومن الممكن أن ننظر
إلى الأشياء بمنظار آخر، وأن لا نرى في اللسان سوى شكل مثالي
لتوازن يعد نتاجا تجريديا لهذه المستويات.
5- إن المعنى المنطقي لكلمة إيحاء حاضر في أعمال رتشارد وأوغدن
(معنى المعنى 1923) فهما يعتبران الإيحاء أحد التعريفات الممكنة
للدلالة. > لقد تبنى بعض المناطقة تصور ستيوارت ميل لمصطلح إيحاء
باعتباره يشتمل أساسا على معنيين. ووفق هذين المعنيين يشتغل
الرمز كعنصر دال.
1- إنه يدل على مجموع الأشياء التي تدخل في نطاقه، ويتم تعيين
أو تقرير عناصر هذا المجموع من خلال كلمة. 2 - إنه يدل على
الخصائص المستخدمة في تحديد استعمال رمز : الخصائص التي بموجبها
يكون شيء ما عنصرا داخل مجموع يشكل التقرير. وهذه الخصائص هي
إيحاءات رمز ما وأحيانا دلالته فقط <.(38)
إن أوغدن ورتشارد وآخرون
ينكرون تعريف الدلالة هذا. فالدلالة لا يمكن وصفها إلا انطلاقا
من الوضعية التي يجسدها المثلث المشهور الذي يحتوي على : الرمز،
الفكر أو المرجعية، المرجع. فالكلمات تعد، من زاوية تجريبية،
أدوات، ودلالة هذه الكلمات تستند إلى وظيفتها التمثيلية : فعندما
يستعمل متكلم ما هذه الكلمات، فإنها تشكل بديلا عن موضوع أو
سيرورة. وهذا ما نسميه معني الكلمات. وبعبارة دقيقة معناها
الذهني. وفي هذه الحالة، فإن وظيفتها الاستبدالية تشتمل على
دلالتها. فكلمة ''طاولة'' تحيل في اللغة العلمية مثلا، على موضوع
''طاولة'' ولا تستخدم إلا كسمة لتعيين هذا الموضوع، فالكلمة لا
علاقة لها بالموضوع ''طاولة'' الذي لا يمكن أن يتحدد انطلاقا من
كلمة فهو يتحدد انطلاقا من واقع. إن وظيفة الكلمة وظيفة رمزية
للتمثيل الاستبدالي. إلا أن اللغة العادية لا تختصر في هذه
الوظيفة الوحيدة. وعلى هذا الأساس يميز أوغدن ورتشارد أربعة
وظائف أخرى نضيفها إلى الوظيفة الأولى لكي يتم حرمان " دلالة "
ما من طابعها الأحادي. وتعد هذه الوظائف تعبيرا عن موقف المتكلم
من مستمعيه، وموقفه من المرجع، كما تعد تعبيرا عن نوايا المتكلم
ورغبته في التأثير في غيره، وهي في نهاية الأمر تعبير عن النبرة
التي تميز الفكر الذي يمثل على شكل أحاسيس مرضية أو الصعوبات
التي تصاحبه. (39)
ورغم ذلك فإن التقابل الرئيس
سيظل بين الوظيفة الرمزية الأساسية وبين الوظائف الإربعة الأخرى
التي يمكن تكثيفها في وظيفة واحدة : الوظيفة الانفعالية. (40)
>فالوظيفة الرمزية تتضمن في نفس الوقت ترميز المرجعية وإبلاغها
إلى المستمع، بمعنى خلق مرجعية مشابهة عند المستمع، وتتضمن
الوظيفة الانفعالية في نفس الوقت التعبير عن الانفعالات والسلوك
والحالة الذهنية والنيات الخاصة بالمتكلم، وإبلاغها وإثارتها لدى
المستمع<.
هناك إذن تمييز بين مستويين
للسان : مستوى اللغة العلمية، ومستوى اللغة العادية. إلا أن
التقابل بين وظيفتين للسان، لا يشكل في حد ذاته تمييزا لمستويات.
فإذا كان لكلمة ''طاولة'' أو ''ذرة''، حسب الحالات، إيحاءات من
نوع : ''لغة علمية'' أو ''لغة شعبية''، فلا شيء يسمح بتأويل هذه
الإيحاءات- استنادا إلى معايير لسانية - من خلال لعبة وظيفتين :
رمزية وانفعالية. ذلك أن هاتين الوظيفتين -الرمزية والانفعالية-
لم تستخرجا وتحددا إلا من خلال تدخل معايير علمية ونفسية.
وبالفعل، فمن جهة نستعين، من أجل إبراز الواقع الذي تحيل عليه
الكلمة، بتحديدات منطقية وعلمية : فكلمة "طاولة" هي من خلال
وظيفتها ''سمة'' أو " مؤشر" على موضوع لا تمنحه دلالته الدقيقة
سوى العلوم. ولكننا مضطرون من جهة ثانية، لأن نستنجد بعلم النفس
مرتين : أولا من أجل اختصار الكلمة في خطاطة تقوم بملء جسم
المعارف العلمية، وثانيا من أجل فصل الإشارة الموضوعية عن
التعبير الذاتي الذي لا يمكن، بطبيعة الحال، إظهار مميزاته من
خلال المصادر اللسانية فقط. وتتطابق الوظيفة الانفعالية، من
زواية نظر تجريبية علموية ساذجة، مع كل هذه الانطباعات
والتخمينات والتنويعات الذاتية التي تضاف إلى "الواقع الموضوعي".
إن ما يسمح بتقديم تحديد وظيفي للسان هو التداخل بين الترسيمات
العلمية (العلموية) والسيكولوجية. فالوسائل المنطقية وحدها،
والوسائل السيكولوجية وحدها، لا تستطيعان تحديد هاتين الوظيفتين
وذلك أن التحديدات العلمية توجد خارج اللسان وخارج السيكولوجيا.
فهذه الوظائف لا معنى لها إلا داخل نسق معين من المعارف. ومن جهة
أخرى لا يستطيع التقصي السيكولوجي أن يجد في دلالة الكلمات ذلك
الجزء الذي يجب أن يتطابق مع التعريفات العلمية. فلا تَعَلُّم
اللسان ولا استعماله - كما بين ذلك مارتيني- يسمحان بإظهار هاتين
الوظيفتين اللتين يشير إليهما أوغدن ورتشارد.> فالشروط التي منحت
للغة "العاطفية" هي في واقع الأمر نفس الشروط التي تصدق على
اللغة بصفة عامة <،(41) فكل كلمة تُستوعب، وتُستعمل بطريقة لا
يكون معها تمييز الوظيفة الرمزية عن الوظيفة الانفعالية أمرا
ممكنا. إن الخطأ مصدره، دون شك، كوننا ننتقل، عندما يتعلق الأمر
بموضوعات مخصوصة مثل ''طاولة'' أو ''كرسي''، من الخطاطة، وهي
تعيين بسيط لا تتطابق معه أية دلالة مرتبطة بخصائص الموضوع، إلى
خصائص الموضوع كما هي محددة من خلال المعارف العلمية. وهكذا
فإننا ننتقل من التقرير بالمعنى الحصري للكلمة، أي تعيين واقع
عبر دليل لساني، إلى الخصائص الموضوعية للواقع المعين.
إن هذا الأسلوب في معالجة قضية
الدلالة هو الذي يفسر كيف أن المعنى الأصلي لكلمة ''إيحاء'' قد
ضاع، ليتم استبداله شيئا فشيئا بالمعنى الذي نمنحه إياه اليوم.
ولقد غابت عن علماء النفس واللسانين المنابع والدلالة المنطقية
للإيحاء، وهي أمور لم يكن لا بلومفيلد ولا أوغدنورتشارد ولا
هالمسليف يجهلونها. ففي" language "و "prolégomenes à une
théorie du langage" تم التعامل مع هذه اللفظة من زاوية تجريبية
موضوعية شكلت ومازالت الأساس" الفلسفي " لمجموعة كبيرة من العلوم
الإنسانية. وهكذا فإن الوظيفة الرمزية، أو كيفما كان الاسم الذي
يطلق عليها (إدراكية، عقلية، مرجعية، الخ) التي نعثر عليها عند
أوغدن ورتشارد تضعنا أمام موضوعات ''واقعية'' تقوم العلوم
بدراستها. إن الأمر يتعلق بإضافة إيحاءات ذاتية إلى الدلالة
الموضوعية، وتشكل هذه الإيحاءات عند أي شخص دلالة كل كلمة.
فهل بالإمكان إعطاء كلمة
إيحاء، ونحن نقبل بانزلاق معناها، معنى دقيقا ولسانيا بحتا ؟
(42) لا يبدو أن أي تعريف من التعاريف المقترحة قادر على أن يجيب
عن هذا المقتضى؟ فهذه الصعوبات مردها اختلاط المعايير وتنافر
المقولات. فأحيانا نطلق لفظ "إيحاء" على تغيير بسيط يلحق
الإرسالية، وأحيانا يكون هذا التغيير لاإراديا. ولهذا السبب تم
تناول هذه القضية استنادا إلى نوايا المتكلم. ورغم ذلك، لا وجود
لإجراء لساني يسمح بالتمييز بينهما. فبالإمكان أن نتبنى جهة نظر
المستمع، وحينها سنقوم بحصر '' العلامات الخاصة باستعمال
العلامة'' الذي تحدث عنه شارل موريس : فبما أن اللسانيات الوصفية
لا يمكنها أن تُؤسس على الاستنباط، فمن الواضح، إذن أن هذه
الزاوية ستكون أكثر انسجاما، من الناحية اللسانية. وفي هذه
الحالة سنكون أمام المعيار اللساني الوحيد الذي يسمح بالعودة إلى
التعريف الذي يقدمه هلمسليف وبلومفيلد للإيحاء. فإذا تم تسنين
هذه السمة أو تلك - سمة صوتية معجمية -تركيبية- داخل مجموعة
لغوية معينة، فإننا نستطيع أن نحدد مستوى من مستويات اللسان. وفي
هذه الحالة يمكن القول إن هذه الميزة -سواء كان استعمالها إراديا
أو لاإراديا - تشير إيحائيا إلى مستوى اللسان الذي يتطابق مع هذه
الحالة. ولكن علينا أن نميز بين السنن النسقي، الذي تندرج ضمنه
هذه السمة، عن الاستنباط الذي يمكن أن يستخلصه المستمع من النية
أو الحالة الذهنية للمتكلم. فكلمة ''بابا'' توحي باللغة
الصبيانية، ولكنها لا تسمح من الناحية اللسانية بتفسير أسباب هذا
الاستعمال. إن هذا الاستنباط سيكولوجي محض ولا علاقة له
باللسانيات، إن وعينا باستعمال هذا الموحي لا يهم اللساني إلا
بدرجة ثانوية : فإذا تم تصنيف المستويات أو السجلات وفق درجة
الوعي أو إرادة التعبير، فإن هذا التصنيف ليس له أية خصوصية
لسانية. فمن الممكن إذن إقصاء الإيحاء مما يسميه يلومفيلد
''درجات التكثيف'': التصغير، التضخيم، التحبيب، في حدود أن هذه
الظاهرة لا تشكل مستوى لغويا، ذلك أن استعمال تصغير ما وتلقيه من
طرف مستمع لا يستدعي في شيء شكلا أكثر ''ذاتية'' من الناحية
الدلالية من ذلك الذي يستدعيه استعمال كلمة ''طاولة'' : إن
المعنم ''تصغير'' يعد جزءا من نفس النوع الذي ينتمي إليه معجم
''أريكة'' أو طاولة''. إن درجات التكثيف لا توحي بمستوى لغوي
خاص.
إن الحديث عن إيحاء لساني أمر
ممكن في الحالة التي يسمح فيها التعاوض بخلق تقابل بين هذا اللفط
أو هذا الشكل مع ذاك اللفظ أوذاك الشكل، وهي عناصر تشكل في
مجموعها تراتبية مستويات لسان ما. ولا شيء يسمح لنا بالخروج من
دائرة اللسان واستبطان دواخل المتكلم أو المستمع.
ولكننا نستطيع مع ذلك البقاء
في دائرة السيكولوجيا، لنجعل من الإيحاء كيانا يغطي كل ما ينفلت
- في دلالة كلمة ما- من يد مجموعة المتكلمين : >ويمكن أن نعرف
التقرير أيضا بأنه كل ما يشكل - بالنسبة لقيمة كلمة ما - عنصرا
مشتركا بين مجموع متكلمي لسان ما. وبطبيعة الحال، فإن هذا
التعريف يتلاءم مع ما يشير إليه كل معجم. أما الإيحاءات- حيث
يتقابل جمع الإيحاء مع مفرد التقرير- فستكون هي كل ما يوحي به
هذا اللفظ، أو يستدعيه بشكل دقيق أو فضفاض عند كل مستعمل على
حدة< (43).
إن الصعوبات إذن تكمن في تحديد
هذا القاسم المشترك الكبير لدلالة كلمة ما، وهو قاسم لا يشير
إليه المعجم بالضرورة، فالمعجم يعرف les realia وفق معايير
علمية، (تصنيف نباتي، حيواني، خصائص كميائية...) وهذه المعايير
لا تشكل دلالة مشتركة لهذه الكلمة.
وعلى كل حال، فإن الأبحاث
السيكولوجية وحدها يمكنها أن تستخرج الإيحاءات التي تشكل حينها "
التداعيات" المتنوعة التي يشير إليها لفظ ما. وفي هذا الاتجاه
اقترح أوزگود طرقا لقياس حجم الدلالة : '' إن الدلالة الإيحائية
لكلمة "س1 " عند متكلم ما تكمن، نظريا، في مجموع الأجوبة
الترابطية التي يستطيع الانطباع الدلالي الذي يحدثه لديه هذا
اللفظ وذلك من خلالها ''تسنين'' أو " الوحي بذلك" <. (44) وقد
اقترح أوزگود على مجموعة من الأشخاص تقييم الانطباع الدلالي الذي
تحتويه كلمة ''مهذب'' وفق أبعاد متكونة من نعوث ثنائية ضدية تقدم
سبع درجات (مثلا جميل لحد الانبهار 3 +، جميل جدا 2 +، لا بأس
بجماله 1+، لا جميل ولا قبيح 0، قبيح إلى حد ما 1 -، قبيح جدا2
-، قبيح لدرجة البشاعة 3 - ).
وبهذا يمكن تحديد مظهر
الدلالة الإيحائية لكلمة ما بالنسبة لمجموعة من الأشخاص. ويسمح
أسلوب '' الأختلافات الدلالية'' هذا بقياس التقارب أو التباعد
بين كلمتين من زاوية الدلالة الإيحائية. إن هذا الأسلوب قائم على
فرضية تقول بأن التداعيات اللفظية (مهذب ـــــ جميل جدا مثلا)
تعبر في جزء منها عن السلوك العاطفي للمستمع.
>وبالمقابل، بمكننا، إلى حد ما، اعتبار أن مظهرا جزئيا لدلالة
كلمة ما يعود إلى الانطباع الدلالي الذي يحدثه عند المتكلمين،
ويتطابق هذا الانطباع مع نوع من السلوك العملي أو العاطفي
(استعداد للفعل، أو حالة انفعالية). وبالمقابل فإن العلاقات
الترابطية اللفظية لهذه الكلمة "تسنن" أو " توحي" بجزء من هذا
الانطباع الدلالي على الأقل، وهي بذلك تشكل نوعا من الدلالة
الإيحائية لهذه الكلمة< (45).
إن الاعمال التي أنجزت في هذا
الاتجاه حاولت أن تبين الاستقرار النسبي لهذه التشابهات أو
التباعدات الدلالية عند مجموعات معينة، ومع ذلك سيبقى التأويل
اللساني تأويلا معقدا. وبالفعل فإن ''ثنائيات النعوت الضدية التي
تشكل سلالم مرتبطة بكلمة "مثير" س تلعب دورا غامضا : فهي من جهة
كلمات لها دلالة، وتستخدم من جهة ثانية كمعيار لقياس دلالة كلمات
أخرى.
وعليه، فإن العوامل الثلاثة
الأساس التي يقدمها أوزگود والتي تحتويها سلالم متنوعة : تقويم
(جيد، رديء) قوة ( قوي-ضعيف) نشاط (سريع-بطيء) تبين أن هذا
الترابط موجه بفعل الشروط والنوايا الخاصة بالتجربة، نحو أفق
تحليل دلالي قائم على الترادف : إن ترابط ''مهذب'' مع ''هادئ
جدا'' هو تحليل دلالي قائم على ترادف بعيد واستعاري.
ويمكن أن نتساءل: ألا يمكن أن
يكون هذا المنهج صيغة مهذبة للتحليل القديم الذي قدمه موزي
(Mosier) الذي لا يستعمل إلا سلما واحدا : "مع أو ضد". (46) إن
الأمر يتعلق، على كل حال، بربط ظواهر لسانية بمجموع سلوك المتكلم
باستخدامه اللسان كقياس وكعَرَض، وهذا ما يطرح للساني مشكلة
كبيرة : ألا تكون هذه المسطرة، في جزء ما، مسطرة دائرية.
إن تقنية التداعيات الحرة
هاته التي نطلب من خلالها من شخص ما أن'' يجيب بشكل سريع بالكلمة
الأولى التي تخطر على باله وهو يسمع (أو يشاهد) الكلمة /المثير".
(47) إن مختلف المعالجات الإحصائية التي يمكن أن تخضع لها
النتائج (48)، تسمح باستخراج البنيات التراتبية القارة نسبيا. إن
النتائج ستكون هامة بلا شك للوصول إلى تدقيق سيرورة الدلالة، إلا
أن أمر إبراز الدلالة الإيحائية سيكون صعبا. فلنأخذ، في هذا
الإطار، التداعيات الناتجة عن الكلمة /المثير : "ظمآن" (49).
فحتى في الحالة التي نميز فيها بين الأجوبة الأولية والثانوية
حسب نظام ورود الأجوبة المتناقص، فماذا سيفيدنا التمييز بين
تداعيات" تقريرية" وأخرى "إيحائية" ؟ لقد كانت الأجوبة الأولى
على الشكل التالي : الجوع (23.9 %) الماء (17 % ) الهواء (10.4
)% الشرب (6.2 % ) الخمر (4.1 % ). وبعد ذلك نصادف خليطا من
الأجوبة : حادة، نداء، عربي، فظيع، قحط، جعة، يشرب، جيد، فم،
قنينة، شرب، فرس الخ.
إن التراتبية تبدو قارة
بالنسبة لمجموعة بشرية معينة ولكننا، ومع افتراضنا أن التداعيات
تعكس في بنيتها دلالة الكلمة/مثير، لا نعرف أين ستنتهي الدلالة
التقريرية وأين تبدأ الدلالة الإيحائية. ويمكننا أن نتساءل أيضا
: هل هناك شيء آخر في الدلالة غير الإيحاء، إذا كان التقرير لا
يمكن أن يتولد إلا عن خطاطات خاصة بالكائنات والأشياء، وعن قصد
وصفي وعلمي عندما يتعلق الأمر بتحديد موضوع ما.
ورغم الأهمية السيكلوجية لأبحاث كهاته، فإننا واعون بالصعوبات
التي يطرحها تعريف دقيق للإيحاء، مثلما يطرح ذلك F . Jodelet :
>إن طريقتنا يجب أن تكون حذرة، ذلك أن التأويلات التي تعطي
لمقولة الدلالة من طرف الحس المشترك هي تأويلات مختلفة ومبهمة
وليس في نيتنا هنا أن نوضحها وأن نعطيها تركيبا جديدا، أما
اللسانيون والسيكولوجيون فهمو غامضون في هذا الأمر < (50) .
6- ولن تتوقف تحولات معنى الإيحاء عند هذا الحد : فسيأتي وقت
سيصبح فيه الإيحاء عند بارث هو الركيزة الأساس للسيميولوجيا.
فعندما حاول تعريف الإيحاء في "عناصره السميولوجية ''فإنه فعل
ذلك استنادا إلى التقليد الهالمسلافي : >إن الظواهر الإيحائية لم
تدرس بشكل منهجي بعد (هناك بعض الإشارات في "تمهيد" هالمسلاف)
<(51) .
وسيكون من الأفيد لنا تتبع
المسار التكويني لهذه المقولة عند بارث ورصد المشاكل التي حاول
الإجابة عنها، من أن نبدأ من الفقرات البسيطة الموجودة في
''العناصر''. وبالتأكيد، فإن مصطلح "إيحاء" ظهر في كتابات بارث
في وقت كانت اتجاهات البحث عنده قد استقرت في شكلها النهائي، فما
هو موصوف في ''العناصر'' بـ"النسق الموحى"، أُشير إليه في تحليل
"للكتابة"، ثم نُظر إليه بعد ذلك باعتباره "أسطورة"، ثم دُرس في
نهاية المطاف كنسق سيميولوجي ثان. لقد كان لقاء بارث باللسانيات
صدفة، ولكن هذه اللسانيات مكنته من طرح مشاكل توجد أصولها خارج
حقل اللسانيات. لقد كان بارث يروم، في كتابه " درجة الصفر في
الكتابة"، استخراج مستوى خاص، يقع بين اللسان وبين أسلوب الكاتب،
وهو مستوى يندرج ضمنه المعنى الذي يعطيه الكاتب لفعل الكتابة
ذاتها. فمن جهة يعد اللسان مخزونا مشتركا دائم التغير، إلا أنه
مفروض باستمرار على المبدع من خارجه. إن اللسان باعتباره أداة
للتواصل، هو كيان اجتماعي مفروض على المتكلم كما على الروائي.
إنه سابق على الأدب أو دون ذلك كما يقول بارث.
ومن جهة أخرى، فإن الأسلوب هو
سمة الفردي، ما لا يمكن حذفه من عمل أدبي ما. ففي تكرار الثيمات
والجمل يتم التعبير، بل أكثر من ذلك، تتم خيانة التاريخ الأكثر
سرية للفرد. إن الأسلوب، من جهة نظر سيكلوجيا الأعماق، يقع خارج
المجتمع، وبشكل ما، خارج المبدع. ذلك أن الأسلوب يُفرض على
المبدع بشكل سابق على أي تفكير أو إرادة. إن الأسلوب إذن يتجاوز
الأدب، ولكن هناك مستوى يكون فيه الأدب اختيارا إراديا وعلاقة
واعية بين الإبداع والمجتمع، وهذا المستوى هو "الكتابة"، أي
>تفكير الكاتب في الاستعمال الاجتماعي للكتابة وشكلها
والاختيارات التي يتبناها <. (52)
إن الفقرة الأولى من " درجة
الصفر في الكتابة"، تقدم لنا بعض الإشارات الخاصة بهذه الكتابة :
إن الفظاظة التي كان Hébert يضمنها مقالاته عن " Père Duchène "
لم تكن لها فقط تلك الدلالات المعبر عنها بوضوح، ذلك أن مجرد
التفوه بها هو علامة لوظيفة أخرى، وظيفة ثانية، علامة لوضعية
ثورية (53)، وهذا ما يسميه بارث بالتدقيق بالإيحاء : "Les
Foutre" و " bougre "توحي بالثورية.
ولم يقم كتابه " أساطير" سوى
بتطوير الخطاطة التحليلية التي احتواها كتابه " درجة الصفر في
الكتابة". فكل وثيقة وكل مقال صحفي أو قصة أو فوتوغرافيا أو صورة
إشهارية تعد علامة مزدوجة. يجب ألا نهتم، عندما يتحدث السيد ''بوجاد''
بمعنى حديثه، يجب البحث عن دلالة ثانية، إنها ما يشبه كتابة
بوجاد، وبشكل عام، كتابة البورجوازية الصغيرة التي تعبر بلاغيا
عن المبادئ البسيطة التي تحكم سلوك البرجوازية الصغيرة
وأساطيرها.
وعلى هذا الأساس تعتبر
الأسطورة كل ما يقال داخل المجتمع، في حدود أن هذا الكلام لا
يقتصر على قول ما هو خالص ونقي، إن هذا الكلام يعكس مصالح خاصة
داخل مجتمع معين، كما يعكس تاريخا، وذلك لأنه إيديولوجيا
بالضرورة، أي تزييف وكذب. ولهذا السبب أيضا، يعتبر كل دليل
أسطوري دليلا مزدوجا : فالكلمات أو الصور تشكل، في مستوى أول،
دالا لمدلول هو ما تقوم الكلمات أو الصور بتعيينه أو تقريره بشكل
واضح، إن الأمر يتعلق بمستوى اللسان، وهو ما يسميه بارث اللغة
/الموضوع. إلا أن هذه اللغة /الموضوع تشكل خارج، هذا المستوى،
دالا لمدول آخر، أي المدلول الأسطوري. وفي هذه الحالة فإن الدال
والمدلول يشكلان العلامة الأسطورية.
إن الدال في الصورة التي تزين
الصفحة الأولى من ''باري ماتش'' والتي تمثل جنديا زنجيا يؤدي
التحية للعلم الفرنسي، يتطابق مع المدلول الممثل بشكل جلي (جندي
زنجي يؤدي التحية للعلم الفرنسي). ولكن هذا الدليل يدل على شيء
آخر: > إن فرنسا امبراطورية عظيمة وأبناؤها، باختلاف ألوانهم،
يخدمونها بإخلاص، وليس هناك من رد على القائلين بالنزعة
الاستعمارية المزعومة لفرنسا، أحسن من هذا الجندي الزنجي الذي
يخدم مستعمريه المزعومين< (54).
هناك دليل ثان إذن يعرف النور
يتكون داله من مجموع الصورة/مدلول، وسيكون مدلوله هو الطابع
''الفرنسي'' وطابع ''العسكرية''. وسيستند بارث في أعماله اللاحقة
كالتغذية والموضة إلى نفس الخطاطة. ولا تعود تطبيقات هذه الخطاطة
إلى اللسانيات، بل إلى السيكولوجيا الاجتماعية أو نقد
الايديولوجيا. فقد حاول بارث في كتابه "عناصر سيمولوجية" أن يعطي
لبنائه النقدي طابعا علميا باستعمال المقولات اللسانية :
اللسان/الكلام، دال/مدول، استبدال/توزيع، تقرير/ إيحاء. فهل
يتعلق الأمر حقا بالإيحاء، بالمعنى الهالمسلافي، كما نعتقد أننا
فهمنا ذلك؟
إن بارث يستعمل فعلا مفاهيم هلمسليف : مستوى التعبير، مستوى
المضمون، ولكنه في حقيقة الأمر لا يقوم إلا بترجمة الخطاطة
التحليلية التي ساعدته في تحديد الكتابة أو الأسطورة إلى مصطلحات
لسانية. نحن أمام نسق أول من الدلائل يحتوي على مستوى للتعبير
وآخر للمضمون، وهو ما يقابل اللسان. ويسمي بارث هذا المستوى
"التقرير" في علاقته بالنسق الثاني الذي يشكل داخل الأول مستوى
التعبير، وهذا المستوى هو مستوى السميائيات ''الإيحائية''، وهو>
نسق يتشكل مستوى تعبيره من نسق دلالي<. (55) ويحدد بارث
للسميائيات الإيحائية وظيفة تأسيس >أنتروبولوجيا تاريخية كاملة<.
(56) ويتعلق الأمر بجرد ووصف وإدانة الأنساق الثانية التي تشوس
على الواقع وتشوهه.
إن استخدام المصطلحات
والأساليب اللسانية يطرح مشكلا مزدوجا : هل كان بارث وفيا
لهلمسليف؟ هل تستطيع اللسانيات توفير نموذج لدراسة الإيحاء؟ يجب
التأكيد أن الإيحاء هو أساس نظرية بارث، فليس للفقرات الأخرى من
"العناصر" والتي تتناول بالدراسة اللسان/كلام، دال/ مدلول، من
قيمة سميولوجية إلا في حدود وجود أنساق إيحائية، منسجمة مع
الأنساق التقريرية. وإذا كان الأمر كذلك، فإن هذه الفقرات لا
تقوم إلا بإعادة التحاليل التي لا تصدق إلا على اللسانيات. وهكذا
ينهار البناء بكامله، أو يقتصر فقط على تقديم عناصر خاصة
باللسانيات العامة.
إلا أن بارث يؤكد أن الأنساق
الإيحائية تشكل فعلا نسقا يتكون من دال ومدلول، فهل يمكن القول
إن لهذه الانساق شيء مسترك مع اللسان؟ فما يسمح باستخراج الدلائل
البسيطة للسان هو تطابق التعبير مع المضمون، تطابق الدال مع
المدلول، إن الأساليب المختلفة في استخراج الفونيم، تجزيء
الفونيم مثلا، قائمة على مبدأ التطابق هذا، ويبدو أنه من الصعب
في حالة دوال الإيحاء، وهو ما يسميه بارث بالموحيات، اقتراح
طريقة لاستخراج وتصنيف هذه الوحدات : إن الدوال ''متصلة وتائهة''
لا تتطابق في شيء مع الدوال اللسانية، أما المدلول فهو ''عام
وكلي وغامض'' (57) .
في ظل هذه الشروط، كيف يمكن
التعرف على الوحدات وتحديدها؟ إن الإحالة على هلمسليف أمر غير
شرعي، لأن هذه الطريقة لا علاقة لها باللسانيات، ويجب ألا نندهش
من ذلك، فالإيحاء ليس إلا الاسم الذي يغطي مشكلا اجتماعيا وليس
لسانيا، فمثلما حاولت المقاربة السيكولوجية أن تقابل المعنى
الإدراكي أو العقلي للدليل بمعناه الانفعالي - ما أطلق عليه
الإيحاء- حاول النقد السوسيولوجي للايديولوجيا أن يميز بين
المعنى المحايد الموضوعي -التقرير- وبين القيمة السياسية
والاجتماعية للدليل أي إيحاؤه. لقد كان المعنى الأصلي للإيحاء
يبشر بهذا الغنى : إن الأمر يتعلق في جميع الحالات بدلالة غامضة
وثانوية تضاف إلى دلالة بدئية ومركزية. فهل يحق لنا استعمال هذه
الكلمة؟
7- إنها لتقلبات مدهشة تلك التي جعلت من الإيحاء سمة لوقائع
بالغة الاختلاف لدرجة صار بإمكاننا التساؤل عن القاسم المشترك
بين كل هذه الوقائع. خلاصة واحدة يمكن استخراجها من هذا التاريخ
المليء بالمفاجآت والإثارة. ففي نصف قرن، انتقل هذا المصطلح
التقني من المنطق الصوري التقليدي إلى اللسانيات مغيرا في أحيان
كثيرة من شخصيته حتى لينتابنا الشك هل يعين هذا المصطلح الآن
شيئا بعينه أو قضية مستقلة يمكن للعلم أن يستعملها بفعالية. أين
هي تلك المصطلحات الأقل تقنية التي كانت اللسانيات قد استخدمتها
كأدوات؟ ألم يكن في اللسانيات، في الغالب الأعم، جناسات خالصة -
بالمعنى الذي يعطيه أرسطو لهذه الكلمة- أي '' أن الاسم وحده
مشترك، في حين تتعدد المقولة التي تعينه''. (58) لا يمكن الحصول
على''معنى'' مقولة ما من خلال استعمالاتها، ولا من خلال تعريف
عابر. إن أساس هذا المعنى هو النسق الفكري أي مجموع المشاكل التي
تندرج ضمنها هذه المقولة : إن مسارات التطور ليست حاضرة احتماليا
في البداية، فكل وضعية هي امتداد لسابقتها ولكنها دائمة التجدد.
إن تاريخ اللسانيات، كأي تاريخ للعلم، مصنوع من استمرارية
وقطائع، ومن هذه الانزلاقات، والعجز عن الفهم والاختراعات التي
تجعل من سيرها سيرا متعددا، ولكنه قابل للفهم على الرغم من ذلك.
وتاريخ الإيحاء يمنحنا مثالا على هذا الغموض غير المتوقع. لقد
كان هذا المصطلح يحمل في أحشائه هذا الغموض، وذلك لأن التمييز
بين دلالة ثانية غامضة ومتقابلة مع دلالة واضحة وأساسية، وهو
القيمة المشتركة لكل الاستعمالات التي عرفتها كلمة إيحاء- كان من
الغموض والعمومية إلى الحد الذي يجعل من استعماله في اشكاليات
وأنساق مختلفة أمرا ممكنا.
ومع ذلك، سيكون من العبث
الخروج بخلاصة متشائمة، كأن لا نرى في هذه التحولات سوى دليل
محسوس على أن اللسانيات لم تصل مرحلة النضج بعد. فبغض النظر عن
تقابل المدارس والنظريات، هناك دائما منطق داخلي لكل جهة نظر.
فإذا كنا لا نستطيع تقديم تعريف واحد للإيحاء فإن ذلك لا يعود
إلى غياب مضمون خاص بهذه المقولة، بل لأن مضامينها متعددة. إن
مغامرات الإيحاء تؤكد وجود ثلاث إشكاليات مختلفة لكل منها موضوعا
وأرضية تسند خطواتها. إن ثاني درس يقدمه لنا التاريخ هو ضرورة
التعجيل بالتمييز بين هذه الحقول الثلاثة التي لا تهتم بهما
اللسانيات بنفس الطريقة.
إن أول مشكل أشار إليه كل من
هلمسليف وبلومفيلد يتعلق بمستويات اللسان، وهو مشكل لساني بحت
أهملته الأبحاث المعاصرة بشكل سافر، كما أشار إلى ذلك هلمسليف،
وذلك لارتباطه بسوسيولوجيا بداية القرن. فإذا كان اللسان نسقا،
فلماذا لا تكون مستوىات اللسان- التراتبية والتداخل الضروريان
للمرور من اللسان إلى المتكلم الفردي - هي أيضا نسقية؟ إن
المحاولة جديرة بالإنجاز حتى ولو كان ذلك من أجل رفض هذه
الفرضية.
هناك مشكل ثاني تطرحه
العلاقات بين التداعيات القسرية، أي ذلك الحد الأدنى المشترك بين
مجموع المتكلمين الذي يجعل التفاهم بينهم ممكنا، وبين التداعيات
الحرة المكونة من مجموع تجارب المتكلمين التي تكون بشكل متنوع
''دلالة'' كلمة، وهي الإيحاءات إذا شئنا. إن رسم الحدود التي
تفصل بين النوعين ليس بالأمر السهل، هذا إن وجدت أصلا حدود
بينهما. وعلى الرغم من ذلك، فإن المشكل مشكل حقيقي، إنه لساني،
بالمعنى الواسع للكلمة، ولكنه لا يطرح بشكل صحيح إلا داخل
لسانيات نفسية تتشابه طرقها مع تلك المستعملة في سيكولوجيات
التداعيات اللفظية والإدراك الجمالي. (59)
إن الإيحاء كما يراه بارث
يبعدنا عن اللسانيات الخالصة، وهذا لا يعني أن المشكلة التي
يطرحها مشكلة مغلوطة. إن الأمر على العكس من ذلك، فالحقل الذي
تقع داخله تحليلاته موجود فعلا، والأسئلة التي يطرحها على الموضة
والأدب أسئلة يجب أن تطرح، ولكن لا شيء يثبت أن طرح هذه المشاكل
وحلها يجب أن يتم في إطار اللسانيات، لسانيات ثانية، أو عبر
لسانيات.
لقد كان هدف بارث هو إدانة
الإيديولوجيا وقد وفرت اللسانيات النموذج غير المناسب لدراسة
مشاكل تعود إلى السيكولوجيا الاجتماعية أو السوسيولوجيا. لقد
شكلت اللسانيات والسميولوجيا، وبشكل مفارق، قناعا إيديولوجيا
لعمل كان يحاول الإفلات من إطار الأبحاث السوسيولوجية البحت التي
كان يرفضها. ولهذا فإن الإيحاء كان اسما لسانيا لا ينتمي إلى
اللغة، وكان أيضا تعبيرا عن رغبة في الإفلات من المشاكل
السوسيولوجية عبر اللسانيات.
إن الوقائع الإيديولوجية لا
تهم اللساني بشكل مباشر. فاللساني لا يتدخل إلا من أجل دراسة
المشكلة التي اعتقد بارث أنه قام بحلها : ماهي العلاقات الممكنة
بين الإيديولوجية والآراء وبين تعبيراتهما اللغوية؟ إن الأمر،
كما معروف يتعلق بقضية مركزية تخص تحليل المضمون، وفي هذا المجال
فإن الطرق الأكثر ضمانة هي تلك التي تقدمها النظرة التجريبية.
وفي جميع الحالات، فإن مقولة الإيحاء لا تساعد على حل هذه
القضية. قد تساعد على إثارة الانتباه عليها، وتؤكد أن اللسانيات
غير كافية من أجل الإجابة عنها.
إن تحولات الإيحاء الدائمة
سيساعدنا على إيجاد الاستعمال الجيد له. إن التمييز بين ثلاثة
معاني للإيحاء لا تمنع تشابك وهشاشة الحدود بينها، وهي حدود لا
يمكن تجنبها في الوصف الآني للظواهر اللغوية. هناك تحولات كثيرة
تجعلنا ننتقل من إيحاء يمس مستوى من مستويات اللغة، إلى إيحاء
عاطفي لننتقل من هذين الإيحاءين إلى الإيحاء المنزاح عند بارث.
ويجب ألا تدفعنا استحالة
الحسم في هذا الأمر إلى رفض التصنيفات التجريبية، فإذا كان هناك
شبه اتفاق حول المعنى الثاني، فإن هذا يقودنا إلى تبيين أن
الإيحاء قد استخدم من أجل تعيين وقائع أخرى تستحق أن تدرس في
ذاتها، والتي لها، ولو جزئيا، علاقة باللسانيات.
هوامش
*- J. Molino : La connotation, in " La linguistique " , vol 7,
fasc 1 , 1971 , pp 5 - 30
1- G. Mounin : Les problèmes théoriques de la traduction,
Paris, Gallimard, 1963 ; p. 144
2- A . Martinet : Connotations , poésie et culture, in to
honor R Jakobson, t II , p 1290
3- J . Maritain : petite logique, P. Tequi; 1966 , p. 49
4- Arnnauld et Lancelot : Grammaire Générale et raisonnée,
Paris , republications paulet , 1969, pp . 25 -26
5- E. Goblot : Taraité de logique , Paris , 1925, cité par J.
Maritain, op cit, p. 33
6- J. Maritain, op cit, p. 33
7- J .N .Keynes : Studies and exercises in formal logic,
18884, cf J. Maritain ,op cit ,pp. 35 - 36
8- J. Maritain, op cit, p. 36
9- E Goblot : Taraité de logique, pp. 105 et suiv
10- G Rodier : Etudes de philosophie grecque, Paris 1926, p.
52 , cité par J Triot , Traité de logique formelle , Paris ,
Vrin ; 1966 , p . 80
11- B. Russel, on Denoting , in Mind ; 1905 , p. 479
12- L Bloomfeild, Language, Londres et Allen univen, 1967, p.
139
13-L. Bloomfeild op cit, pp.143 - 144
14-L. Bloomfeild, op cit, p.146
15-L. Bloomfeild, op cit, p.148
16-L. Bloomfeild, op cit, p. 149
17-A Martinet : Connotations , poésie et culture , p. 1290
18-J Vendryes, Le
langage, A Michel , 1950, pp. 293- 305 ، ويتعلق الأمر بالمجال
الذي يدرسه مارتيني في الفصل الرابع من A Functionnal View of
language , oxford, Claredon press, 1962 والمعنون ب Liguistic
variety
19-L. Bloomfeild, op cit, p.153
20-L. Bloomfeild, op cit, p.155
21-L .Bloomfeild, op cit, p.155
22- L. Hjelmeslev : Prolégomène à une théorie du langage,
Paris , Ed minuit, 1968, p. 31
23- Saussure , Cours de linguistique générale, Paris Payot ,
1966, pp. 31 - 32
24-" المستويات " هنا بالمعنى الذي استعملناه أعلاه وليس بالمعنى
الذي استعمل في الترجمة الفرنسية ص 156 حيث يدل على Value-styles
في الترجمة الانجليزية ص 74.
25- L. Hjelmeslev, op cit p. 157
26-L. Hjelmeslev : pour une sémantique structurale, in Essais
linguistiques, copenhague, 1959, p. 109
27-L. Hjelmeslev, op cit , p. 68
28-L. Hjelmeslev, op cit , p.74
29-L. Hjelmeslev, op cit , p.74
30-L. Hjelmeslev, op cit , p.75
31-L. Hjelmeslev, op cit , p. 70
32-L. Hjelmeslev, op cit , p.102
33-L. Hjelmeslev, op cit , pp. 159 et 101
34-LL. Hjelmeslev, op cit , pp. 159-160
35-L. Hjelmeslev: Structural Analysis of language, in Essais
linguistiques, p. 35
36-L. Hjelmeslev, op cit , p. 160
37-L. Hjelmeslev, op cit , p.160
38-C. K .Ogden and I .A .Richards , The Meaining of Meaining,
Londres, Routledge et Kegan Paul , 1960, pp. 187-188
39-C. K. Ogden and I. A .Richards , op cit ,pp.223 -227
40-C. K Ogden and I A Richards , op cit p . 149
41- من المفيد تطوير اأزبحاث في الاتجاه الذي اقترحه يوشيهيكو
إلكغامي، يف كتابه Structural Semantics, Linguistics, n 33,
Juillet 1967 , pp. 49 -67, في الفقرة الخامسة من مقاله،
فالإيحاءات المحتملة - في اللغة- ستتحدد من خلا ل العلاقات
والترابطات الصوتية والمعجمية والمورفولوجية أوالتركيبية
للكلمات.
42-A .Martinet , c r de Sandmann, Subject and Predicate, in B
S L , 54 ( 1959) fasc 2 , pp. 42-43 , cité par G. Mounin, op
cit p. 162
43-A. Martinet, connotations, p. 1290
44-F . Jodelet , L'association verbale, in Traité
psychologique expérimentale, t VIII, Paris Press uni de
France, 1965, p. 124
45-F . Jodelet ,, op cit, p. 124
46-F . Jodelet , op cit, p 127
47-F . Jodelet , op cit, p.97
48- انظر مثلا الأبحاث التي أنجزها بنزكري ومعاونوه في المعهد
الفرنسي للإحصاء في جامعة باريس.
49-F . Jodelet , op cit, p. 97
50- F . Jodelet , op cit, p.123
51- R Barthes , Eléments de sémiologie, in Communications n 4
, 1964 , p. 131
52-R . Barthes , Le degré zéro de l'écriture, Paris ,
Gonthier, p. 18
53-R . Barthes, op cit , p. 9
54-R . Barthes: Mythologies, Paris , Le seuil , p. 223
55-R .Barthes , Eléments de sémiologie, op cit p. 130
56- R. Barthes , Eléments de sémiologie, op cit p. 131
57-R. Barthes , Eléments de sémiologie, op cit , p.131
58-Aristote: Catégories, I , I, traduc Tricot , Paris , Vrin ,
1959, p. 1
59-F . Jodelet , op cit, et R. Francès, psychologie de
l'esthétique, Presses unive de Frannce, 1968, chap , i : " les
réponses esthétiques élémentaires " ,pp. 17 - 36
|