"موضوعيا" كما هو دونما اعتبار لشيء آخر ؟.
تشكل هذه الأسئلة منطلقات الكتاب الذي نترجم منه هذا الفصل، كما
تشكل أساس بنائه : اللغة باعتبارها خزانا، وباعتبارها مصفاة،
وباعتبارها أداة للنمذجة والتصنيف ووعي الذات ووعي الآخر.
ولأن اللغة ليست كلا منسجما يقدم، بصفاء، تصورا موحَّدا وموحِّدا
للكون، فإنها تدرج ضمن عالمها ذاك سلسلة من التصنيفات الفرعية
المحددة للعرق واللون والجنس : لا نخاطب الطفل بنفس اللغة التي نخاطب
بها الراشد، ولا نخاطب المرأة بنفس اللغة التي نخاطب بها الرجل، ولا
نخاطب " الزعيم" و" الرئيس " و"المسؤول" بنفس اللغة التي نخاطب بها "
العامة " من الناس. فنحن أمام صفات تحدد مقاما للقول ، وتحدد للغة
تركيبا ، وتحدد للتركيب كلمات خاصة . إنها مقتضيات المؤسسة : إلغاء
الهوامش حفاظا على صفاء البناء الإيديولوجي ونقائه.
إن اللغة لا تعين فحسب، إنها تصنف : تصنف العرق واللون والجنس
والطبقة، وتحدد لكل دائرة من هذا الدوائر موقعها ضمن الممارسة
الإنسانية حيث الفعل ورد الفعل، وحيث الثقافي يلغي الطبيعي وحيث
الشكل يتجاوز المضمون : إن اللغة تنزعنا من عالم "طبيعي" لتقذف بنا
إلى عالم "ثقافي" تكتشف الذات فيه وجود أبعاد لها في الآخر وفي
العالم المحيط بها كما يشير إلى ذلك إيكو. وعلى هذا الأساس، فإن كل "التمييزات"
( لنقل التصنيفات ) اللغوية المرتبطة بهذه العوالم تكشف عن نظرة
تصنيفية : إنها في غالب الأحيان احتقارية من هذا الجانب وتمجيدية من
الجانب الآخر.
إن أدوات التمييز متنوعة ( انظر الكتاب : النوع والعدد وعلاقتهما
بوضع المرأة في المجتمع، المذكر والمؤنث ، أنواع اللغات ...). تتسرب
هذه التمييزات عبر التسمية والتباينات التي تخفيها أولا، وتبدو من
خلال خزان اللغة ومرجعها ثانيا، أي القاموس : مداخله وإيحاءاته
وتداعياته. من التعريف يأتي التمييز الأول حيث تدل كلمة "رجل" ( في
اللغة الفرنسية على الأقل ) على الإنسان وعلى المذكر في نفس الوقت،
ولا تدل كلمة "امرأة" إلا على ما يحدد الجنس ، بعدها تأتي الإيضاحات
عبر أمثلة مرتبطة بالإيحاءات (كل القيم المضافة المشكلة للمعاني
الثانية ) حيث لا تدل المرأة إلا على الضعف والوهن والجبن، ثم تأتي
بعد ذلك التداعيات ( المرادفات والضديات) حيث ترتبط كلمة امرأة بالشر
والخديعة والتحايل والمكر وكل الصفات التي تضيق بها جنبات القواميس.
ومن جانبنا نكتفي بتقديم بعض "التحف" التي تضمنها " لسان العرب "
والخاصة بكلمتي "مذكر" و"مؤنث"، إننا نريد فعل ذلك لتأكيد البعد
الكوني للغة في تصنيفها للمرأة وتأبيد اضطهادها. يقدم لسان العرب
سلسلة طويلة من المداخل، منها ما هو خاص بالتصنيف الجنسي المباشر
كدلالة المؤنث على المرأة ودلالة المذكرعلى الرجل، وفي هذه الحالة لا
يقوم القاموس إلا بالإحالة على وضع موضوعي محايد. إلا أن الأمر
سيختلف مع الاشتقاقات والتفتح على السياقات. وهكذا يقدم لسان العرب
في مادة أنث ما يلي:
- الأنثى خلاف الذكر في كل شيء.
-يقال للرجل : أنَّثت تأنيثا أي لنت له ولم تتشدد.
- والأنيث من الرجال المخنث، شبه المرأة.
- أرض أنيثة ومئناثة سهلة منبتة .... ليس بغليظة.
- بلد أنيث لين سهل، وزعم ابن الأعرابي أن المرأة إنما سميت أنثى
من البلد الأنيث ... لأن المرأة ألين من الرجل.
- والأنيث هو اللين.
- سيف أنيث، هو الذي ليس بقاطع.
- سيف مئناث إذا كانت حديده لينة.
ويقدم في مادة ذكر ما يلي:
- التذكير خلاف التأنيث، والذكر خلاف الأنثى.
- يوم مذكر إذا وصف بالشدة والصعوبة وكثرة القتل.
-رجل ذكر إذا كان قويا شجاعا، أنفا أبيا.
- مطر ذكر شديد وابل.
- قول ذكر صلب متين.
- شعر ذكر فحل.
- فلاة مذكار ذات أهوال ولا يسلكها إلا الذكر من الرجال.
- والذكر والذكير من الحديد، أيبسه وأشده وأجوده وهو خلاف الأنيث
وبذلك يسمى السيف مذكرا.
إننا أمام سلسلة من التحديدات المنفتحة علي سياقات بالغة التنوع.
وسواء تعلق الأمر بالذكر أو بالأنثى، فإن السياقات رغم تنوعها
واختلافها، فإنها لا تحيل في نهاية الأمر إلا على كون دلالي واحد
يوحد السياقات ضمن دائرة مفهومية واحدة. وهكذا نلاحظ وجود قيمة
دلالية واحدة تجمع بين سياقات مختلفة تحيل عليها كلمة "الأنثى"،
ويتعلق الأمر بـ " الضعف" المتولد عن : " اللين" و"السهولة" و" غياب
الشدة" و" انتفاء الوعورة ". وكذلك الأمر في حالة كلمة " مذكر" .
فسياقاته المتنوعة تحيل على ذاكرة دلالية واحدة يمكن تجسيدها في :
"القوة"، كما توحي بذلك "الشدة "و"الوعورة" و"الصعوبة" و"السيف
القاطع" و"اليوم الشديد" و"المطر الوابل".
وبما أن الذكر والأنثى يشكلان محورا دلاليا واحدا لا يمكن فصل حده
الأول عن حده الثاني، فإن طبيعة الارتباط الموجود بينهما - كا هو
مثبت في القاموس- لا تتحدد من خلال تقابل محايد يجعل من الحد الأول
يتمتع بنفس قيمة الحد الثاني داخل الدائرة المضمونية التي يحيل عليها
المحور الدلالي الذي يربط بينهما. إن الأمر يتعلق بتقابل يجمع بين
السلبي والإيجابي، بين الفاعل والمنفعل، بين القوي والضعيف.
تلك هي المرأة، فانظروا ما فعل القاموس بها.