لقد قال لامارتين عن أشهر قصائده ( لقد نسيت عنوان القصيدة ) إنه
كتبها دفعة واحدة، في ليلة عاصفة وسط غابة. وعندما مات عثر على
مخطوط يحتوي على تصحيحات وتغييرات، وربما كانت هذه القصيدة من
أكثر القصائد صنعة في الأدب الفرنسي.
عندما يقول الكاتب ( الفنان بصفة عامة ) إنه كان يشتغل دون
التفكير في قواعد السيرورة، فإنه فقط يريد أن يقول بأنه كان
يشتغل دون أن يدري أنه يعرف القاعدة. إن الطفل يتكلم لغته
الأصلية بطلاقة، ومع ذلك فإنه لا يستطيع أن يحدثنا عن النحو. إن
النحوي ليس وحده من يعرف قواعد اللغة، فالطفل أيضا يعرف، دون أن
يدري، تلك القواعد. إن النحوي هو ذلك الذي يعرف لماذا أو كيف
يعرف الطفل لغته.
إن الحديث عن كيفية الكتابة لا يعني البرهنة على أن ما كتب هو
شيء جيد. فإدغار بو كان يقول بأن " وقع العمل الأدبي شيء ومعرفة
السيرورة شيء آخر ". فعندما يحدثنا بول كلي أو كاندينسكي عن
طريقة صباغتهما، فإنهما لا يقولان إن أحدهما أفضل من الآخر.
وعندما يقول لنا ميكائيل أونج، إن النحت هو تحرير الصورة
الموجودة بشكل سابق في الصخرة، فإنه لا يريد أن يقول لنا بأن La
Pieta du Vatican أجمل من La Pieta Rondanini(6). لذلك، قد يحدث
أن يكتب مؤلفون مغمورون لا تأثير لأعمالهم أجمل الصفحات حول
السيرورة التقنية. إنهم يجيدون التفكير في سيرورتهم فقط : فاساري،
هوراسيو غرينوف، هارون كوبلاند .
القرون الوسطى،
بكل تأكيد
لقد كتبت رواية لأنني كنت أرغب في فعل ذلك. وأعتقد أن هذا سبب
كاف لكي نخوض في سرد أحداث. إن الإنسان بطبعه ميال لنسج
الحكايات. لقد بدأت في الكتابة سنة 1978 انطلاقا من فكرة بسيطة،
لقد كانت لدي رغبة في تسميم راهب.
وأعتقد أن رواية ما يمكن أن تولد من فكرة كهذه، أما الباقي فهو
لحم نضيفه أثناء الكتابة. وقد تكون هذه الفكرة أقدم من هذا. فلقد
عثرت على دفتر يحمل تاريخ 1975 حيث وضعت لائحة بأسماء رهبان
يعيشون في دير فسيح ولا شيء غير ذلك. في البداية انكببت على
قراءة Le traité des poisons لـ أورفيلا، وهو كتاب اشتريته من
كتبي في باريس منذ عشرين عاما وفاء مني ربما لويسمانس " Hysmans"
( Làs-bas) (7).
وبما أن أي سم من تلك السموم لم يكن كافيا، فقد طلبت من صديق
إحيائي أن يدلني على مشروب تكون له خصائص بعينها ( يؤخذ عن طريق
الجلد ) ومزقت الرسالة التي يجيبني فيها هذا الصديق بأنه لا يعرف
أي سم من هذا النوع. ويتعلق الأمر هنا بوثائق قد تقود صاحبها، في
سياق آخر، رأسا إلى السجن.
ولقد تصورت في البداية أن الرهبان يجب أن يكونوا في أديرة معاصرة
( لقد كنت أفكر في راهب يقرأ المانيفاستو )، وبما أن الأديرة
حافلة بالذكريات القروسطية، فإنني بدأت أنقب في أرشيفي الخاص
بالقرون الوسطى ( كتاب حول الاستتيقا القروسطية في سنة 1956،
مائة صفحة أخرى حول نفس الموضوع سنة 1959، محاولات أخرى، عودة من
جديد إلى التراث القروسطي في سنة 1962أثناء عملي حول جويس. ثم
كانت هناك الدراسة الطويلة حول القيامة وشذرات من تعليق بوتيس دو
لييبانا. الحاصل أن القرون الوسطى كانت على الدوام حاضرة في
ذهني). ولقد عثرت على مادة هائلة (ميكروفيلم، نسخ مصورة، دفاتر)
كانت مكدسة عندي منذ 1952، من أجل غايات غير واضحة : من أجل
كتابة تاريخ الوحوش، أو من أجل دراسة موسوعات القرون الوسطى، أو
نظرية للفهارس.
ولقد تبادر إلى ذهني في لحظة من اللحظات : بما أن القرون الوسطى
هي مخيالي اليومي، فلماذا لا أكتب رواية تجري أحداثها في القرون
الوسطى. وكما قلت ذلك في لقاءات متعددة، فأنا لا أعرف الحاضر إلا
من خلال شاشة التلفزيون، أما القرون الوسطى فأنا أعرفها دون
وسائط.
ولقد اتهمتني زوجتي، ونحن نشعل نارا في الخلاء، بأنني لا أعرف
كيف أتأمل شرارتها التي كانت تتصاعد وسط الأشجار في اتجاه أسلاك
الكهرباء. وعندما قرأت الفصل الخاص بالحريق قالت لي : " أنت كنت
تشاهد الشهب إذن"، وأجبت : " لا، ولكني كنت أعرف كيف يمكن أن
يتأملها راهب من القرون الوسطى".
منذ عشر سنوات، وأنا أرفق رسالة من المؤلف إلى الناشر خاصة
بتعليقي حول التعليق الخاص بالقيامة لبوتيس دو لييبانا اعترفت
قائلا : " كيفما كان الحال، لقد جئت إلى البحث العلمي شاقا غابات
رمزية مليئة بالحيوانات الخرافية، مقارنا بين البنيات العمودية
والمربعة للكاتدرائيات وبين ظلال من الخبث التفسيري المبثوث في
الصيغ التتراغونية للمنتخبات، جئته متسكعا من شارع فورار إلى
جناح الكنيسة السيستيرية، متحاورا مع الكهنة الكلونيزيين (8)
علماء كانوا أو أثرياء، وعناية توماس الأكويني ببدانته وعقلانيته
لا تفارقني، لقد أغراني هونوريوس دوتون بجغرافيته التي يتم فيها
في آن واحد شرح لماذا لا يهتم الطفل في طفولته بالمضاجعة، وكيف
نصل إلى " الجزيرة المفقودة" وكيف نأسر بازيليك (9) لا تملك سوى
مرآة جيب واحدة وإيمان لايتزعزع بمصارع الضواري.
" لم يفارقني هذا الميل الشديد وهذا الشوق إلى القرون الوسطى
أبدا، وإن كنت، لأسباب أخلاقية ومادية، قد سلكت سبيلا آخر ( فأن
تكون قروسطيا معناه أن تكون غنيا وأن تكون لك القدرة على السفر
الى الخزانات البعيدة لتصوير المخطوطات النادرة.)
إن القرون الوسطى ظلت حاضرة في ذهني إن لم يكن ذلك كمهنة، فإنها
ظلت هوايتي المفضلة. إنها غوايتي الدائمة، فهي حاضرة بوضوح في كل
شيء، أراها في الأشياء التي أهتم بها والتي لا تبدو في الظاهر
أنها تنتمي إلى القرون الوسطى إلا أنها كذلك في العمق.
" أرغب في عطلة سرية تحت أسقف أوتان ( Autan) حيث يكتب اليوم
الكاهن بريفو (10) كتبا حول الشيطان يعبق من تجليدها الكبريت
ويقوم بشطحات برية في مواساك وكونك، وقد أعمى نظره شيوخ القيامة
والشياطين الذين يحشون الأرواح الملعونة في قدور حامية. وبموازاة
مع ذلك أقوم من جديد بقراءة الكاهن المتنور بيد ( Bède)، وأبحث
عن الطمأنينة العقلانية عند أوكام (11) لكي أتمكن من استيعاب
ألغاز العلامة في الجوانب الغامضة عند سوسير. وهكذا دواليك، وأنا
في كل هذا أحن دوما إلى سانكتي براندني، متمعنا في فكرنا كما
يبدو في كتاب كيل Kells، وأقرأ من جديد بورخيس في Celtes
Kenningars وفي العلاقات بين السلطة والجماهير المقتنعة، الخاضعة
للمراقبة في صحف الكاهن سوغير "
القناع
لم أقرر، في واقع الأمر، الحديث عن القرون الوسطى فحسب. لقد قررت
أن أتحدث في القرون الوسطى على لسان إخباري عاش في تلك الفترة.
لقد كنت ساردا مبتدئا، ولقد نظرت، إلى حدود تلك اللحظة، إلى
الساردين باعتبارهم يقعون في الجانب الآخر من الأحداث. لقد كنت
أخجل من القيام بالسرد. لقد كانت حالتي تشبه حالة ذلك الناقد
المسرحي الذي يجد نفسه فجأة تحت أضواء الخشبة أمام أعين كل هؤلاء
الذين كانوا، إلى عهد قريب، شركاءه خارج الخشبة.
هل يمكن القول مثلا : " لقد كان صباحا رائعا في أواخر نوفمبر "
دون أن أكون في ذلك شبيها بسنوبي ؟ ولو جعلت سنوبي هو قائل هذه
العبارة ؟ أي إذا وضعت هذه الجملة " لقد كان صباحا رائعا ... "
على لسان شخص مرخص له بقول ذلك، لأن ذلك ممكن الحدوث في هذه
المرحلة ؟ لقد كنت في حاجة إلى قناع.
وانكببت على قراءة وإعادة قراءة الإخباريين القروسطيين، لكي
أتمكن من الإيقاع والصفاء. سيتحدثون بدلا عني، وسأكون بريئا من
كل اتهام. سأكون كذلك ولكني لن أسلم من صدى التناص. وهكذا اكتشفت
من جديد ما كان الكتاب يعرفونه قبلي ( وقالوا لنا ذلك مرات عديدة
) : إن الكتب تتحدث دائما عن كتب أخرى، وكل قصة تروي قصة أخرى
سبق أن رويت. لقد كان هوميروس على علم بذلك، وأرسطو أيضا، دون أن
نتحدث عن رابليه أو سيرفانتيس. ولهذا ما كان لقصتي أن تبدأ سوى
من المخطوط الذي تم العثور عليه. ولهذا السبب أيضا، فإن هذه
القصة ستكون استشهادا (بطبيعة الحال ). وكتبت على التو المقدمة،
جاعلا السرد في المستوى الرابع من الضمائر، داخل مستويات ثلاثة
أخرى : أنا أقول بأن فالي قال بأن مابيون قال بأن أدزو قال ...
وتحررت لحظتها من كل خوف. وتوقفت عن الكتابة لمدة سنة. توقفت عن
الكتابة لأنني اكتشفت شيئا كنت أعرفه من قبل ( وكل الناس يعرفونه
) ولكني فهمته جيدا أثناء الكتابة.
لقد اكتشفت أن الرواية لا علاقة لها في البداية بالكلمات. إن
كتابة رواية أمر يعود إلى الكوسمولوجيا، تماما كما هو الأمر مع
القصة التي يرويها سفر التكوين ( لقد كان وودي ألان يقول : علينا
أن نختار نماذج ).
الرواية بصفتها
واقعة كوسمولوجية
أعتقد أن رواية قصة ما تفترض بناء عالم، ويستحب أن يكون هذا
العالم كثيفا في أبسط جزئياته. فإذا بنيت نهرا بضفتين ووضعت على
الضفة اليسرى صيادا، وأسندت إلى هذا الصياد صفة الغضوب، وجعلت له
صحيفة سوابق، حينها سيكون بإمكاني أن أبدأ الكتابة، أي أترجم إلى
كلمات ما يستحيل أن يحدث. ماذا يفعل الصياد ؟ إنه يصطاد ( وها
نحن أمام مقطع من الإيماءات التي لا يمكن تجنبها )، وماذا سيحدث
بعد ذلك ؟ إما أن السمكة ستقع في الشرك وإما أنها لن تقع فيه.
إذا وقعت السمكة في الشرك، فإن الصياد سيحصل على سمك وسيعود فرحا
إلى منزله. أما إذا لم تقع السمكة في الشرك، وبما أن هذا الصياد
غضوب، فإنه لن يتحكم في أعصابه، وربما سيكسر قصبته. ولكن هذا ليس
أمرا مهما. ورغم ذلك فإنه يشكل بداية ما.
والحال أن هناك مثلا هنديا يقول : " اجلس على ضفة النهر وانتظر
فستطفو لا محالة جثة عدوك فوق الماء"، وإذا حدث أن طفت جثة ما
على سطح الماء، وهناك سياق تناصي يحيل عليه للنهر؟ لا تنسوا أن
صيادي له سوابق. فهل سيجازف ليجد نفسه في مأزق ؟ ماذا سيفعل؟ هل
سيهرب، أم سيتظاهر بعدم رؤية الجثة ؟ هل سيشعر بأن الشكوك تحوم
حوله، فهذه الجثة هي في واقع الأمر جثة ذلك الرجل الذي كان يكرهه
؟ وبما أنه غضوب، فهل سيعتصره الألم لأنه لم يكن هو القاتل، فكم
كان يتمنى أن ينتقم من عدوه ؟وكما تلاحظون، فإن تأثيثا بسيطا
لهذا العالم كان كافيا لتوليد قصة.
وبالإضافة إلى ذلك هناك ملامح خاصة بأسلوب السرد، فالصياد الذي
يصطاد سيفرض علي نمطا سرديا بطيئا ومنسابا، وإيقاعا خاصا يوحي
بالانتظار الصبور وخاصا أيضا بالقفزات التي تعبر عن نفاد هذا
الصبر.
يجب بناء هذا العالم، وستأتي الكلمات فيما بعد من تلقاء نفسها،
فامتلاك الأشياء سابق على وجود الكلمات، وهو عكس ما يحدث في
الشعر حيث امتلاك الكلمات سابق على امتلاك الأشياء.
ولقد قضيت السنة الأولى من العمل في بناء هذا العالم : لائحة
طويلة من الكتب التي يمكن العثور عليها في خزانة قروسطية، لائحة
من أسماء وشهادات ميلاد لمجموعة من الشخصيات التي سأقوم فيما بعد
باستبعاد مجموعة كبيرة منها ( ذلك أنه كان علي أن أعرف من هؤلاء
الرهبان الذين لن يظهروا في الكتاب، ولم يكن من الضروري أن يتعرف
عليهم القارئ ولكن كان علي أن أعرفهم ).
من قال إن السردية في حاجة إلى شهادات ميلاد ؟ ربما هي في حاجة
إلى وزارة للتعمير أيضا، وهذا ما يفسر الأبحاث الكثيرة التي قمت
بها حول المعمار، في الصور وفي الموسوعة المعمارية، وذلك من أجل
تحديد تصميم الدير وكذا المسافات، بل وصل الأمر إلى تحديد عدد
درجات السلم اللولبي. ولقد قال ماركو فيريري إن حواراتي كانت
سينيماتوغرافية لأنها كانت صحيحة من الناحية الزمنية. ولقد كان
الأمر كذلك فعلا. فعندما كنت أصور شخصيتين تتجاذبان أطراف الحديث
وهما تقطعان المسافة الفاصلة بين المطعم والرواق، كنت أكتب
والتصميم أمام عيني. وهكذا فعندما يصلان إلى الرواق يكون الحوار
قد انتهى.
يجب أن نقيد أنفسنا بإرغامات لكي نبدع بحرية. إن الإرغامات في
الشعر وليدة الشطر والبيت والقافية، أي ما سماه المعاصرون بالهمس
عن طريق الأذن. أما في السرد، فإن الإرغامات متولدة عن عالم
ضمني، ولا علاقة لهذا بالواقعية ( حتى وإن كان هذا يشرح ذلك إلى
حدود الواقعية). فبإمكاننا أن نبني عالما لا واقعيا بشكل كلي حيث
الحمير تطير وتبعث الأميرات بفضل قبلة. ولكن على هذا العالم
المحتمل فقط واللاواقعي أن يوجد وفق بنيات محددة منذ البداية (
يجب التأكد هل يتعلق الأمر بعالم تبعث فيه الأميرة بفضل قبلة
أمير أم قبلة ساحرة، وهل قبلة الأميرة تحول الضفادع وحدها إلى
أمراء أم تفعل ذلك مع التاتو أيضا (12).
ولقد شكل التاريخ أيضا جزءا من عالمي، وهذا ما جعلني أقرأ وأعيد
قراءة الوقائع القروسطية. وأثناء قراءتي لهذه الوقائع تبين لي أن
علي أن أدخل إلى عالمي أشياء لم تخطر لي على البال أبدا. مثال
ذلك النضال من أجل الفقر أو المحاكم الدينية ضد الهرطوقيين(
fraticelle (13).
مثال ذلك : لماذا احتوى كتابي على هرطوقيين من القرن الرابع عشر
؟ فإذا كان علي أن أكتب رواية عن القرون الوسطي، فلتكن رواية عن
القرن الثالث عشر أوالثاني عشر، فمعرفتي بهذين القرنين أفضل من
معرفتي بالقرن الرابع عشر، ولكني كنت في حاجة إلى محقق، ويستحسن
أن يكون انجليزيا ( إحالة تناصية ) يمتاز بملكة حادة في الملاحظة
وفطنة كبيرة في مجال تأويل الأمارات.
إن هذه المزايا لا يمكن العثور عليها إلا في الأوساط
الفرانسيسكية (14). ولقد كانت هناك بعد روجي باكون نظرية في
العلامات أكثر تطورا من تلك التي كانت في حوزة الأوكاميين (15).
وبالتحديد، فإن هذه النظرية كانت موجودة قبل ذلك، وكان تأويل
العلامات عندها إما من طبيعة رمزية، وإما أنها كانت تميل إلى
قراءة الأفكار والكونيات في العلامات. ومع ذلك فمع بيكون أو
أوكام كان استعمال العلامات يقود إلى معرفة الأفراد.
لقد كان علي إذن أن أمثل لأحداث قصتي في القرن الرابع عشر. وفعلت
ذلك بكثير من عدم الرضا، فلم أكن أشعر براحة كبيرة من فعل ذلك.
وقمت بقراءات جديدة واكتشفت أن فرانسيسكيا من القرن الرابع عشر،
حتى ولو كان انجليزيا، لا يمكنه أن يتجاهل الجدل الدائر آنذاك
حول الفقر، خاصة إذا كان صديقا أو مريدا أو من معارف أوكام. وكنت
قد قررت في البداية أن يكون هذا المحقق هو أوكام نفسه، ولكني
تخليت عن الفكرة لأنني لم أكن، من الناحية الإنسانية، أرتاحإلى
هذا المحقق المبجل.
ولكن لماذا حدث كل شيء في نهاية نوفمبر 1327؟ حدث ذلك في هذا
التاريخ بالذات لأن ميشال دو سيزان سيكون في ديسمبر في أفنتيون (
وهذا ما نطلق عليه تأثيث عالم في رواية تاريخية. إن بعض العناصر،
مثل عدد درجات السلم يتحكم فيها المؤلف، أما العناصر الأخرى
فتنتمي إلى العالم الواقعي، مثل تنقلات ميشال التي تتطابق أحيانا
مع العالم الممكن للسرد ).
إلا أن نوفمبر فترة متقدمة من السنة، وأنا كنت في حاجة إلى قتل
خنزير. لماذا قتل خنزير؟ لسبب بسيط لأنني كنت أرغب في وضع جثة
داخل جرة من الدماء بحيث يكون الرأس داخل الجرة وتكون الرجلان
خارجها. ولماذا هذه الحاجة ؟ لأن النفيرالثاني للقيامة يقول بأن
... لن أصل إلى حد تغيير القيامة، إنها تعد جزءا من العالم. فما
كان علي سوى أن أجعل الدير في قمة جبل لكي أحصل على الثلج. ولولا
ذلك لكان بالإمكان أن تدور أحداث قصتي في السهول في بومبوزا أو
كونكير.
إن العالم المبني هو الذي يدلنا على كيفية نمو القصة. فالكثيرون
تساءلوا لماذا يوحي جورغ(Jorge) من خلال الاسم على بورخيس،
ولماذا كان بورخيس شريرا ؟ ولكني لا أعرف.
لقد كنت أبحث عن أعمى يكون حارسا للخزانة ( وهو ما كان يبدو أنه
يشكل فكرة سردية جديدة )، وفي هذه الحالة، فإن الخزانة مضافا
إليها أعمى لا يمكن أن تحيل إلا على بورخيس. ولأنه من الضروري أن
نؤدي ما يجب علينا.
عندما وضعت بورخيس في الخزانة لم أكن أعرف حينها هل سيكون هو
القاتل. لقد قام بكل شيء من تلقاء نفسه إذا جاز التعبير. لكن يجب
ألا يؤدي هذا الى الاعتقاد بأن الأمر يتعلق بموقف "مثالي" : أي
أن للشخصيات حياة خاصة، ولا يقوم المؤلف - وهو في حالة جذب- إلا
بتحريكها وفق ما توحي به هي. إنها ترهات، أو هي عناصر تصلح
لتحرير موضوع إنشائي من مستوى البكالوريا. لا، الحقيقة أن
الشخصيات مرغمة على الفعل وفق قوانين العالم الذي تسكنه، وأن
السارد أسير مقدماته.
ولقد شكلت لدي المتاهة (Labyrinthe) أيضا مغامرة جميلة. فكل
المتاهات التي كنت أعرفها، تلك التي قدم عنها سانتاركاغيلي وصفا
رائعا، كانت مفتوحة على السماء. فهي قد تكون معقدة ومليئة
بالتلافيف ولكنها لا تفي بالغرض، فأنا كنت في حاجة إلى متاهة
مغلقة ( هل هناك خزانة بسقف مفتوح ؟)، وإذا كانت هذه المتاهة
معقدة ومليئة بالممرات والغرف الداخلية، فإن التهوئة ستكون غير
كافية، والحال أني كنت في حاجة إلى تهوئة لإشعال الحريق ( أن
تلتهم النيران المبنى فهذا أمر كنت أعيه جيدا وذلك لأسباب
كوسمولوجية -تاريخية، ففي القرون الوسطى كانت الكاتدرائيات
والأديرة تلتهمهاالنيران كالهشيم، فتصور قصة قروسطية بدون حريق
كتصور فيلم حربي في المحيط الهادي دون تصور طائرة تحترق وتهوي
إلى البحر ). ولهذا اشتغلت لمدة ثلاثة شهور في بناء متاهة مناسبة
وأضفت بعد ذلك بعض الكوى، فبدونها سيظل الهواء غير كاف.
من يتكلم ؟
لقد كنت أتخبط في مشاكل عديدة. لقد كنت أريد عالما مغلقا شبيها
بمعتقل، وكنت أفضل أن يكون هذا المعتقل مغلقا. كان علي أن أستحضر
الوحدات الزمانية، بالإضافة إلى الوحدات الفضائية (ذلك أن وحدة
الفعل لم تكن مؤكدة ). لقد كان الأمر إذن يقتضي وجود دير بندكتي
(16) حيث الحياة موقوتة على الصلوات اليومية ( وربما كان نموذجي
اللاواعي هو عوليس بسبب البنية الصارمة لساعات النهار، وأيضا "
الجبل الساحر" ، حيث المكان صخري ومخصص للاستشفاء وسيشهد العديد
من الجدالات ).
ولقد طرحت علي الحوارات العديد من المشاكل، وفقت في حلها أثناء
الكتابة. هناك ثيمة نادرا ما تناولها نقاد السردية، يتعلق الأمر
بالوسائل التي يستعملها السارد من أجل توزيع الكلام على مختلف
الشخصيات. فما هي مثلا الاختلافات بين هذه الحوارات الخمسة :
1 -كيف حالك ؟
-لا بأس، وأنت ؟
2 -كيف حالك ؟ قال جان
-لابأس، وأنت ؟ قال بيير
3 -كيف، قال جان، كيف حالك ؟
-ورد بيير على الفور: لا بأس، وأنت ؟
4 -كيف حالك ؟سارع جان إلى القول
-لا بأس، وأنت ؟ رد بيير مستهزئا
5 -قال جان : كيف حالك ؟
- -لا بأس، رد بيير بصوت لامبالي. ثم أردف بابتسامة غير محددة :
وأنت ؟
فباستثناء الحالتين الأولى والثانية، فإننا نلحظ في الأمثلة
الأخرى حضور ما يطلق عليه محفل التلفظ. فالمؤلف يتدخل من خلال
تعليق شخصي ليوحي بالمعنى الذي يمكن أن تحيل عليه كلمات
الشخصيتين. فهل هذه القصدية غائبة فعلا في الحالتين اللتين
تبدوان كأنهما محايدتان ؟ وما موقع القارئ من ذلك ؟ هل هو حر في
الحالتين الأولى والثانية، ألا يمكن أن يكون، رغما عنه، تحت
تأثير شحنة عاطفية ( لنستحضر الحياد الظاهري لحوارارت همنغواي )
، أم هو أكثر حرية في الحوارات التي تقدمها الحالات الأخرى فهو
يعرف فيها، على الأقل، حدود اللعبة ؟
إن الأمر يتعلق بقضية تعود إلى الأسلوب، إنها قضية إيديولوجية،
قضية " شعر" أكثر مما هي قضية اختيار لقافية أو سجع أو جناس.
فالأمر يتعلق بإيجاد انسجام، وربما ساعدني في ذلك أن أغلب
الحوارات كانت تأتي على لسان أدزو، وفيها يقوم، بطبيعة الحال،
بفرض وجهة نظره على السرد كله.
ولقد طرحت علي الحورات أيضا مشكلة أخرى : إلى أي حد يمكن لهذه
الحوارات أن تكون معبرة عن القرون الوسطى؟ وبعبارة أخرى لقد
أدركت، وأنا أكتب، أن الكتاب يتخذ شكلا ميلودراميا غنائيا يتخلله
عدد كبير من الأناشيد والمقطوعات الغنائية. فلقد كانت المقطوعات
الغنائية ( وصف البوابة الكبرى مثلا ) تحيل على البلاغة السامية
للقرون الوسطى، وهنا لا تعوزنا النماذج. ولكن ما وضع الحوارات
هنا ؟ لقد خشيت أحيانا أن تكون حواراتي مستوحاة من أغاثا كريستي،
خاصة في المقاطع الصادرة عن سوغر أو القديس برنار. وعدت من جديد
إلى قراءة الروايات القروسيطية، وأعني بذلك الملحمة الفروسية،
وأدركت، بقليل من التجاوزات، بأني أحترم استعمالا سرديا وشعريا
لم يكن غريبا عن القرون الوسطى. ولكن القضية أزعجتني لفترة طويلة
ولست متأكدا أنني تغلبت على المشاكل التي يطرحها الانتقال من
الأناشيد إلى المقطوعات الغنائية.
وهناك مشكلة أخرى : يتعلق الأمر بالتداخل بين المحافل السردية.
لقد كنت أعرف أنني منهمك ( أنا ) في سرد قصة بكلمات شخص آخر، بعد
أن أشرت في المقدمة إلى أن كلمات هذا الشخص قد تسربت عبر محفلين
آخرين على الأقل : محفل مابْيُون ومحفل الأب فالي. ويمكن أن
نفترض، بالتأكيد، أن هذين المحفلين قد تصرفا، كما يفعل ذلك
الفيلولوجيون، في النص الأصلي ( من سيصدق ذلك ؟).
ومع ذلك، فإننا سنصادف هذا المشكل من جديد في سرد أدزو نفسه، وهو
سرد بضمير المتكلم. فأدزو يحكي وعمره ثمانون سنة عما عاشه عندما
كان في الثامنة عشرة من عمره. من يتكلم إذن، أدزو ابن الثامنة
عشرة سنة أم أدزو ابن الثمانين ؟ هما معا بطبيعة الحال، والأمر
كان مقصودا من جانبي. فاللعبة كانت تقتضي أن نصور باستمرار أدزو
الشيخ وهو يحكي عما يتذكر أنه شاهده أو سمعه وهو شاب.
إن نموذجي كان هو Le Serenus Zeitblom للدكتور فاوستيس ( ولكن لم
أعد قراءته واكتفيت بذكريات بعيدة ). إن هذه اللعبة التلفظية
المزدوجة قد استولت علي وملكت علي نفسي، ذلك أنني، وأنا أضاعف
شخصية أدزو، كنت أضاعف من الحجب والشاشات الموضوعة بيني، أنا
باعتباري شخصا له سيرة محددة، وبيني باعتباري مؤلفا يروي أحداثا،
أي سارد ا وبين الشخصيات التي تتم روايتها بما في ذلك الصوت
السردي، وهذا يذكرنا بمسألة القناع التي أشرت إليها سابقا.
لقد كنت أشعر أنني محمي، وقد ذكرتني هذه التجربة ( لدي رغبة في
أن أقول محمي جسديا ببداهة تشبه وضع قطعة گاطو في الزيزفون) ببعض
الألعاب الطفولية حيث كنت أتسلل تحت الغطاء لأشعر وكأني في غواصة
ومن هناك كنت أبعث برسائل إلى أختى التي كانت من جهتها مختبئة
أيضا تحت غطاء في سرير آخر. لقد كنا منعزلين عن العالم نتمتع
بحرية لا حد لها في ابتداع سباقات طويلة داخل مياه صامتة.
لقد كان أدزو مهما بالنسبة إلي. فمنذ البداية كنت أرغب في رواية
القصة كاملة ( بأسرارها وحوادثها السياسية والتيولوجية وبغموضها
أيضا )، من خلال صوت شخص يعيش داخل الأحداث بإخلاص آلة
فوتوغرافية في يد مراهق لا يعرف عن هذه الأحداث أي شيء ( ولن
يفهمها جيدا حتى وهو شيخ، لذلك فإنه سيختار الهروب إلى العدم
الإلهي، وهذا الهروب لا يشبه ذلك الذي علمه إياه أستاذه).
ولقد كانت الغاية هي أن نجعل من كل شيء يُفهم من خلال كلمات شخص
لا يفهم شيئا. وعندما أقرأ النقود، أدرك أن الأمر يتعلق هنا
بمظهر من الرواية نادرا ما أثار اهتمام أي قارئ مثقف ( لا أحد
تقريبا أشار إلى هذا المظهر ). وأتساءل الآن : ألا يكون هذا
المظهر هو الذي ساهم في تحديد مقروئية الرواية عند
القراءالعاديين. لقد اندمجوا في براءة السارد وكانوا يشعرون
بأنهم قد تخلصوا من كل إثم عندما لم يفهموا كل شيء. لقد واجهتهم
بقلقهم تجاه الجنس واللغات غيرالمعروفة، وصعوبة الفكر، وخبايا
الحياة السياسية. إنها أشياء أعيها الآن، بعد فوات الأوان. ولكن
ألا أكون هنا أسقط على أدزو مجموعة من انفعالاتي وأنا مراهق،
خاصة ما يتعلق منها بارتعاشة الحب ( ولقد كنت دائما أتمتع بحماية
شخص آخر غيري يقول ذلك. وبالفعل فإن أدزو لا يعيش آلام الحب إلا
من خلال كلمات لا يستعملها كهنة الكنيسة للحديث عن الحب ). إن
الفن هو تخلص من الانفعالات الشخصية، لقد علمني ذلك جويس وإليوت.
لقد كان الصراع ضد الانفعال عنيفا. لقد كتبت صلاة رائعة نسجتها
على منوال " مديح الطبيعة " لألان دو ليل، ووضعتها على لسان غيوم
في لحظة من لحظات الانفعال. وأدركت بعد ذلك أننا أنا وهو سنثير
شفقة الناس. أنا باعتباري مؤلفا وهو باعتباره شخصية. فأنا
باعتباري مؤلفا، لم يكن من حقي فعل ذلك، وهو باعتباره شخصية لم
يكن في مقدوره فعل ذلك، لأنه صنع من طينة مغايرة. فانفعالاته
كانت من طبيعة ذهنية أو متحفظة. لذلك حذفت هذه الصفحة. ولقد قالت
إحدى الصديقات بعد أن قرأت الكتاب : > إن اعتراضي الوحيد هو أن
غيوم لم يكن يعرف الرحمة <، ولقد نقلت هذا الكلام إلى صديق آخر
فأجابني : > طيب، هذا أسلوبه في نحت منتحبته piéta < (17). قد
يكون الأمر كذلك، آمين .
التعريض
لقد ساعدني أدزو على حل مشكلة أخرى. لقد كان بإمكاني أن أجعل
أحداث قصتي تجري في زمن قروسطي يعرف عنه الناس كل شيء. فإذا قال
شخص ما في قصة معاصرة بأن الفاتيكان لا يوافق على طلاقه، فلن
يكون من الضروري أن نشرح ماذا يعني الفاتيكان ولماذا لا يوافق
على الطلاق. إلا أن الأمر ليس كذلك في رواية تاريخية. إننا نحكي
أيضا من أجل تنوير الناس وإخبارهم بما حدث، ومن أجل الإشارة إلى
أن هذه الأحداث البعيدة لها أهميتا راهنا.
إلا أننا قد نقع في مخاطر " الصلغارية ". إن شخصيات صلغاري تفر
إلى الغابة هربا من الأعداء، فتقع على جذر شجرة باأوباب (18):
لحظتها يتوقف السارد عن الحكي لكي يقدم لنا درسا في علم النبات
والباأوباب. إنها فكرة كثيرة التداول. إن الأمر طريف، فهو شبيه
بعيوب شخص نحبه، ولكننا نعمل جاهدين على تجنب عيوبه.
لقد أعدت كتابة مئات الصفحات لكي أتجنب هذه العقبة، ولكنني لا
أتذكر ماذا فعلت من أجل حل هذا المشكل. لقد أدركت هذا الأمر
سنتين بعد ذلك فقط، عندما كنت أحاول أن أشرح لماذا لقي هذا
الكتاب تعاطفا من أناس لا يحبون قراءة الكتب "العالمة ". إن
الأسلوب السردي لأدزو يستند إلى ذلك المحسن البلاغي الذي نطلق
عليه القول المراوغ (prétérition). إنه المثال الشهير : >
بإمكاني القول إنها تعرف جيدا جمال الكتب الخاصة بالفكر... ولكن
لماذا أسهب في القول< ( بوسيي).
إننا لا نريد أن نتحدث عن شيء يعرفه الناس جيدا، إلا أننا، ونحن
نقول ذلك، نتحدث عن هذا الشيء. إن هذا يشبه الطريقة التي
يستعملها أدزو للإشارة إلى بعض الشخصيات وبعض الأحداث المعروفة
جدا. فهذه الشخصيات وهذه الأحداث، لا يعرفها قارئ أدزو، وهو
ألماني من نهاية القرن، لأنها شخصيات وجدت وأحداث وقعت في
إيطاليا في بداية القرن، ولم يكن لأدزو أي تحفظ للحديث عنها. بل
سيفعل ذلك بأسلوب تعليمي، لأن ذلك كان هو أسلوب الإخباري
القروسطي. فلقد كان يرغب كثيرا في إدخال مقولات موسوعية كلما
أشار إلى شيء ما. ولقد قالت لي صديقة ( ليست الصديقة السابقة )
بعد أن قرأت المخطوط إن ما أثار انتباهها هو النبرة الصحفية
للحكي، وليس نبرة الرواية. ولقد كانت هي نفس الكلمات التي
أوردتها صحيفة Espresso إذا لم تخني الذاكرة. لم يعجبني هذا
الكلام في بداية الأمر، ولكني بعد ذلك فهمت ما أدركته تلك المرأة
دون أن تجرؤ على الاعتراف بذلك. تلك كانت طريقة اخباريو هذا
القرن في الحكي، وإذا كنا اليوم نتحدث عن الإخباريات فلأننا نكتب
ذلك كثيرا.
النفًس
ولقد كانت هناك غاية أخرى من المقاطع التعليمية الطويلة. لقد
أشار علي أصدقائي الناشرون، بعد اطلاعهم على المخطوط، بتقليص
المائة صفحة الأولى، فقد بدت لهم أنها أخاذة ومتعبة. ورفضت ذلك
بدون تردد. ولقد كانت حجتي أن من يرغب في الدخول إلى الدير
والمكوث به سبعة أيام، عليه أن يتحمل هذا الإيقاع. وإذا لم يكن
ذلك في استطاعته، فإنه لن يتمكن من قراءة الكتاب في كليته.
والحاصل أن وظيفة المائة صفحة الأولى كانت امتحانا واستئناسا.
ولا أبالي بالذين لا يحبون ذلك، إنهم سيقفون عند بداية الهضبة.
إن الدخول إلى رواية شبيه برحلة إلى الجبل. يجب اختيار نفس،
واختيار إيقاع للسير، وإلا فإننا سنتوقف في البداية. وهذا ما
يحدث في الشعر، والله وحده يعلم كم هي مملة تلك القصائد التي
يتلوها ممثلون لا يجيدون قراءة الشعر، فيلحنون في القراءة،
ويتصرفون كما لو أنهم يلقون نثرا، إنهم ينساقون وراء المضمون
وينسون الإيقاع. فلقراءة قصيدة من نوع hendécasyllabes أو
tercet(19)يجب اتباع الإيقاع الغنائي الذي كان يرومه الشاعر. فمن
الأفضل أن نتلو شعر دانتي كما لو أن الأمر يتعلق بقوافي عدِّية
طفولتنا ( 20) على أن نلهث وراءالمعنى.
أما في السردية، فإن النفس لا يعود إلى الجمل، بل مرتبط بوحدات
كبرى، أي بمقاطع حدثية. فهناك روايات تتنفس مثل الغزلان وأخرى
مثل حوت أو فيل. إن التناغم لا يكمن في طول النفس بل في انتظامه.
وإذا حدث أن انقطع النفس، في لحظة ما، وتوقف فصل ( أو مقطع ) قبل
النهاية التامة للنفس، فإن هذا سيلعب دورا هاما في الاقتصاد
العام للمحكي. فهو قد يشكل نقطة قطيعة، أو قلبا مفاجئا للأحداث.
وهذا ما يقوم به المؤلفون، الكبار منهم على الأقل، : فليس لجملة
مثل : > لقد ردت المسكينة -" نقطة إلى السطر، نفس إيقاع : >وداعا
أيتها الجبال <. فعندما يحدث هذا، فإن الأمر يكون كما لو أن جبال
لومباردي قد غطتها الدماء. ( *)
إن الرواية العظيمة هي تلك التي يعرف مؤلفها متى يسرع ومتى
يتوقف، وكيف يقدر درجة الوقفات أو الإسراع ضمن إيقاع أصلي ثابت.
ففي الموسيقى يمكن أن نعزف " ريباتو" (21) دون المغالاة في ذلك،
وإلا كنا أمام حالة هؤلاء العازفيين السيئين الذين يعتقدون أنه
من أجل عزف مقاطع من شوبان يكفي أن نوسع من دائرة الريباتو.
لا أشرح هنا الكيفية التي حُلت بها هذه المشاكل، بل أحاول أن
أبين كيف أني لم أطرحها. وسأكون كاذبا إذا قلت إنني طرحت هذه
المشاكل بشكل واع. هناك روح للتلحين تفكر من خلال إيقاعات
الأصابع التي تضرب على ملمس الآلة.
وأود أن أقدم هنا مثالا خاصا بالفكرة القائلة بأن السرد هو تفكير
بالأصابع. من الواضح أن المشهد الخاص بالمضاجعة داخل المطبخ مبني
في كليته انطلاقا من الاستشهاد بنصوص دينية من نشيد الأناشيد
والقديس برنار وجان دو فكامب، مرورا بالقديسة هيلدوغارد دو بنغام.
من لا يعرف الممارسة الصوفية القروسطية وله فقط حاسة سمعية بسيطة
يدرك ذلك. ولكن إذا طلب مني اليوم أن أحدد صاحب هذه الاستشهادات،
وأين تنتهي الأولى وتبدأ الثانية، فإنني لا أستطيع فعل ذلك.
لقد كان في حوزتي، في الواقع، عدد هائل من الجذاذات المليئة بكل
أنواع النصوص، وأحيانا صفحات من كتب ونسخ، أكثر بكثير من تلك
التي استعملت. ولكنني عندما كتبت المشهد، فعلت ذلك دفعة واحدة (
لم أقم بتهذيبه إلا لاحقا، كما لو أنني أضفت إليه مادة الفيرني
لكي أخلق نوعا من الانسجام بين العناصر الموصلة ).
وبناء عليه، فإنني كنت أكتب وبجانبي نصوص متناثرة، ألقي نظرة
تارة على هذه، وتارة على تلك، ناقلا مقطعا لكي أصله بعد ذلك
بمقطع آخر. إنه الفصل الذي كتبته بسرعة فائقة. لقد أدركت بعد ذلك
أنني أحاول أن أتبع بأصابعي إيقاع المضاجعة ولذلك لم يكن بإمكاني
التوقف لاختيار الاستشهاد. فما كان يتحكم في صحة الاستشهاد هو
الإيقاع الذي كنت أسرب عبره الاستشهاد، وأستبعد ذلك الذي قد يؤدي
إلى تكسير إيقاع أصابعي.
لا يمكنني القول إن مدة كتابة الحدث هي نفسها المدة التي
يستغرقها الحدث ( حتى وإن كانت هناك مضاجعة بطيئة )، ولكنني
حاولت أن أقلص، إلى أبعد حد ممكن، المسافة الفاصلة بين زمن
المضاجعة وزمن الكتابة. وأعني بالكتابة الرقانة لا الكتابة
بالمفهوم البارثي. إني أتحدث عن الكتابة بالمفهوم المادي،
الفيزيقي. وأتحدث عن إيقاع الجسد وليس إيقاع الانفعالات. إن
الانفعال كان موجودا في البداية، في القرار الذي اتخذته القاضي
بالمزج بين النشوة الصوفية والنشوة الإيروسية، في اللحظة التي
قرأت فيها واخترت النصوص التي سأستعملها. وبعد ذلك تلاشت كل
الانفعالات. لقد كان أدزو هو الذي يمارس الجنس، وليس أنا، أما
أنا فقد كان علي فقط أن أترجم انفعالاته إلى لعبة لليدين
والعينين، كما لو أنني كنت أريد أن أحكي قصة حب من خلال الضرب
على طبل.
من أجل من هذا الإيقاع وهذا النفس وهذه المعاناة ؟ من أجلي أنا ؟
بطبيعة الحال لا. إنها من أجل القارئ. فنحن نفكر في قارئ ما
أثناء الكتابة. تماما كما هو حال الرسام الذي يفكر في المشاهد
أثناء رسمه للوحة. فبعد لطخة من لطخات الفرشاة يتراجع إلى الخلف
خطوتين أو ثلاث خطوات ليدرس الوقع. إنه ينظر إلى اللوحة كما يجب
أن ينظر إليها مشاهد ما، ضمن شروط إضاءة مناسبة ويتأملها وهي
معلقة على الحائط.
فعندما يتم العمل، يبدأ حوار بين النص وقارئه ( المؤلف مستبعد من
هذا الحوار ). أما أثناء صياغة هذا العمل فيكون هناك حوار مزدوج
: حوار بين هذا النص وبين جميع النصوص السابقة ( إننا لا نكتب
كتبا إلا انطلاقا من كتب أخرى وحولها )، وآخر بين المؤلف وقارئه
النموذجي. ولقد نظَّرت لهذه المسألة في Lector in fabula وقبل
ذلك في L'oeuvre ouverte. ولست أنا من اخترع هذا القارئ.
قد يفكر المؤلف، وهو يكتب، في جمهور فعلي، كما كان يفعل ذلك
مؤسسو الرواية المعاصرة رتشاردسون فيلدينغ أو دوفو، فهؤلاء كانوا
يكتبون للباعة الذين كانت تقصدهم نساؤهم للتسوق. وجويس نفسه كان
يكتب للجمهور، وهو الذي كان يفكر في قارئ مثالي مصاب بأرق مثالي.
وفي الحالتين معا، سواء كتبنا ونحن نفكر في جمهور يوجد على عتبة
الباب ومستعد للأداء، أو نكتب لقارئ ينتمي إلى المستقبل، فإن
الكتابة تعني بناء قارئ نموذجي من خلال النص.
فماذا يعني التفكير في قارئ نموذجي قادر على تجاوز العوائق التي
تخلقها المائة صفحة الأولى ؟ إنه يعني كتابة مائة صفحة بهدف بناء
قارئ مناسب للصفحات التي ستأتي بعد ذلك.
هل هناك كاتب يكتب فقط من أجل المستقبل ؟ لا وجود لكاتب من هذا
النوع، حتى وإن أكد هو ذلك، وذلك لسبب بسيط : فبما أن هذا الكاتب
ليس نوستراداموس (22)، فإنه لن يتصور المستقبل إلا من خلال
النموذج الذي يبلوره انطلاقا مما يعرفه معاصروه.
هل هناك كاتب يكتب لقلة من القراء ؟ نعم، إذا كان ذلك يعني أن
القارئ النموذجي الذي يتصوره، ليس له حظوظ كبيرة في أن يتجسد في
جمهور عريض.
ورغم ذلك، وحتى في هذه الحالة، فإن المؤلف يكتب وله أمل، وهذا
ليس سرا، في أن يستجيب لكتابه أكبر عدد من النماذج الممثلة لهذا
القارئ المنشود بإلحاح، وهو ما يفترضه النص ويشجع عليه.
قد يكون الاختلاف، إن كان هناك اختلاف، بين النص الذي يروم إنتاج
قارئ جديد وبين ذاك الذي يروم إرضاء رغبات جمهور عريض. ففي
الحالة الثانية نحن أمام كتاب كتب وفق وصفة موجهة لإنتاج مادة
بالجملة. فالمؤلف يقوم بما يشبه دراسة للسوق لكي يتكيف مع
متطلباتها. إن هذا العمل المستند إلى صيغة جاهزة لا تظهر معالمه
الحقيقية إلا بعد دراسة مجموع نماذجه : فعندما نتأمل كل هذه
الروايات سنلحظ، إذا ما نحن غيرنا الأسماء والأمكنة والملامح، أن
المؤلف يروي فيها نفس القصة، تلك التي يرغب فيها الجمهور.
أما عندما يبحث الكاتب عن الجديد ويسقط قارئا مختلفا، فإنه لا
يريد أن يكون دارسا للسوق من أجل تحديد نوعية الطلبات، بل يريد
أن يكون فيلسوفا يستشرف لحمة Zeitgeist. إنه يكشف لجمهوره ما يجب
عليه أن يرغب فيه حتى وإن كان هذا الجمهور لا يعرف ذلك، إنه يريد
أن يُعَرِّف القارئ بنفسه.
فلو أن مانزوني (23) انساق وراء ما كان يوده الجمهور لأصبح ثريا
: الرواية التاريخية القروسطية بشخصياتها الشهيرة، تماما كما هو
الشأن في التراجيديا اليونانية حيث الملوك والأميرات (أليس هذا
ما قدمه في L'Adelchi)، أهواء عظيمة وكبيرة، معارك حربية،
واحتفاء بالأمجاد الإيطالية في زمن كانت فيه إيطاليا أرضا
للغابات. ألم يقم بذلك روائيون قبله ومعه و بعده، هؤلاء
الروائيون التاريخيون التعساء بدءا " الحرفي" ل أزغليو ، إلى
fougueux et vaseux مرورا ب l'illisible ل كانتو؟
فماذا فعل مانزوني؟ لقد اختار القرن السابع عشر : فترة الاستعباد
والأنذال وقاتل مأجور ، واحد ولكنه ماكر، ولا سرد للمعارك. يضاف
إلى ذلك اختياره الشجاع بأن يُرفق قصته بالوثائق والصرخات. ولقد
نال هذا العمل إعجاب كل الناس : مثقفين وعامة، عظماء وبسطاء،
متعصبين وأكلة الرهبان.
لقد أدرك أن هذا ما كان يريده القراء، حتى وإن كانوا يجهلون ذلك
ولا يطلبونه، حتى وإن كانوا لا يتصورن إمكانية استهلاكه. ولقد
تطلب ذلك جهدا كبيرا : المبرد والمنشار والمطرقة والغسيل لكي
يكون هذا المنتوج عذب المذاق، ومن أجل أن يصبح القراء الفعليون
قراء نموذجيين كما كان يتمنى.
لم يكن مانزوني يكتب لكي يتملق الجمهور، ولكنه كان يفعل ذلك من
أجل خلق جمهور لا يمكن ألا تروقه رواياته. وكم كان الأمر سيكون
مؤسفا لو أن هذه الرواية لم تعجب الجمهور. تأملوا هذا النفاق
وهذا الصفاء الذي يتحدث بهما عن 25 قارئا، وكان يريد 25 مليون
قارئ.
فمن هو القارئ النموذجي الذي كنت أرغب فيه وأنا أكتب ؟ إنه قارئ
متواطئ بكل تأكيد، يسايرني في لعبتي. كنت أود أن أصبح قروسطيا
بشكل كلي، وأن أعيش القرون الوسطى كما لو أنها كانت مرحلتي (
والعكس صحيح ). وكنت في الآن نفسه أرغب بكل قوة في أن ترتسم
أمامي ملامح قارئ يصبح، بعد تخطيه للحظة الاستئناس فريستي أو
فريسة النص، ويظن أنه لا يرغب إلا فيما يقدمه النص. إن النص يريد
أن يكون تجربة تحول لدى القارئ. إنك تعتقد أنك تريد الجنس
ومؤامرات إجرامية يُكتشف في نهايتها المجرم، يُضاف إلى ذلك أحداث
كثيرة، ولكنك في الآن نفسه تستحي من قبول بضاعة رخيصة آتية من
"Fiacre n! 13 " ومن " Forgeron de la Court-Dieu ".
أما أنا فسأعطيك شيئا من اللاتينية، وشيئا من النساء وكثيرا من
التيولوجيا ودماء كثيرة كما هو الشأن في Grand Guignol لتكتب بعد
ذلك ": > لا هذا ليس صحيحا، لا أريد أن أستمر في اللعبة <، حينها
يجب أن أمتلكك، أن أجعل من بدنك يقشعر أمام جبروت الآلهة التي
تحول نظام العالم إلى عبث. وبعد ذلك ستدرك، إن كنت ذكيا، كيف
استدرجتك إلى هذا الفخ، وسأخبرك أنا في نهاية الأمر بذلك في كل
خطوة، وأنبهك إلى أنني أقودك إلى العذاب. ولكن أليس جمال
المواثيق مع الشيطان آتيا من كونك تُوَقع وأنت تدرك مع من
تتعامل. وإلا فما جدوى أن نجازى بأن يزج بنا في جهنم.
وبما أنني أرغب في أن يكون الشىء الوحيد الرائع هو ذاك الذي
يجعلك تقشعر، أي القشعريرة الميتافيزيقية، فلم يبق لي سوى أن
أختار ( من بين كل نماذج اللحمة) تلك التي تعتبر أكثر
ميتافيزيقية وفلسفية أي الرواية البوليسية.
وليس صدفة أن يبدأ الكتاب كما تبدأ الروايات البوليسية ( وليس
صدفة أيضا أن تخدع الرواية القارئ الساذج حتى النهاية لدرجة أنه
لا يدرك بأن الأمر يتعلق برواية بوليسية حيث لا يُكتشَف أي شيء
ولا يصل المحقق إلى أي شيء ).
أعتقد أن الناس يحبون الروايات البوليسية، لا لأن فيها جرائم وأن
النظام ينتصر في النهاية على لانظام الخطأ ( النظام الثقافي
والاجتماعي والشرعي والأخلاقي ). إذا كانت الرواية البوليسية
تثير إعجاب الناس، فلأنها تمثل لقصة تخمين في حالتها الخالصة.
ولكن ألا يمثل فحص طبي، أو بحث علمي أوتساؤل فلسفي حالات تخمين؟.
إن مسألة الفلسفة الأساس، في واقع الأمر، هي نفسها في الرواية
البوليسية ( كما هو الحال أيضا في التحليل النفسي ) : من المسؤول
؟ من أجل معرفة ذلك ( أو الاعتقاد في معرفة ذلك ) يجب أن نفترض
أن كل الوقائع يحكمها منطق، ذلك الذي فرضه عليها المتهم. فكل قصة
بحث وتخمين تحكي لنا عن شيء يوجد بجانبنا باستمرار( وهذا يمثل ما
يشبه استشهاد هايدغيري). وهذا ما يفسر بوضوح لماذا تتشعب القصة
الأساس ( من هو المجرم ؟) إلى قصص أخرى كلها قصص لتخمينات،
تتمحور كلها حول التخمين باعتباره كذلك.
إن العالم المجرد للتخمين هو المتاهة. وهناك ثلاثة أنواع من
المتاهات : الأولى إغريقية إنها متاهة تيزي Thésée (24) ، وهي لا
تبيح لأحد أن يضل. إنك تدخل وتصل إلى الوسط، ومن الوسط تتوجه إلى
المخرج. وهذا ما يفسر أن في الوسط يوجد المينوتور minotaure (25)وإلا
ستفقد القصة كل مذاق، وتتحول إلى مجرد نزهة من أجل الحفاظ على
الصحة. هذا صحيح، ولكنك لا تعرف إلى أين ستصل ولا ما سيفعل
المينوتور. وربما سيولد الرعب.
أما إذا قمتم ببسط المتاهة الكلاسيكية، فستجدون خيطا في أيديكم،
خيط أريان (26) . إن المتاهة الكلاسيكية هي خيط أريان وخيط
الإنسان نفسه.
أما المتاهة الثانية فهي متاهة مصطنعة : إذا وضعتها بين يديك
فإنك ستحصل على ما يشبه الشجرة، على بنية في شكل جذور بممرات
مغلقة. لا وجود إلا لمخرج واحد ومن المحتمل أن تضلوا طريقكم.
أنتم في حاجة إلى خيط أريان لكي لا تضلوا، إن هذه المتاهة هي
نموذج من سيرورة المحاولة والخطأ.
وهناك في الختام الشبكة أو ما يسميه دولوز وغاتاري بـ الجذمور
Rhizome (27). والجذمور مصنوع بكيفية تجعل من كل سبيل قابلا لأن
يرتبط بسبيل آخر. فلا وسط له، ولا محيط أيضا ولا مخرج له، لأنه
افتراض غير نهائي. إن فضاء التخمين فضاء يشبه الجذمور. إن متاهة
المكتبة التي تصورتها هي متاهة مصطنعة، ولكن العالم الذي يدرك
فيه غيوم أنه حي مبني على شكل جذمور: إنه قابل للبنينة ولكنه ليس
مبنينا بشكل نهائي أبدا.
ولقد قال شاب في السابعة عشرة من عمره بأنه لم يفهم أي شيء من
الحوارات التيولوجية ولكنها كانت تشكل عنده ما يشبه امتدادا
للمتاهة الفضائية ( كما لو أن الأمر يتعلق بموسقى تشويقية في
فيلم من أفلام هيتشكوك ). وأعتقد أنه حدث شيء ما من هذا القبيل :
فالقارئ الساذج أحس بأنه أمام قصة متاهة، حيث لم تكن المتاهات من
طبيعة فضائية. والغريب في الأمر أن أكثر القراءات سذاجة كانت هي
أكثرها " بنيوية". إن القارئ الساذج دخل في علاقة مباشرة، دون
الحاجة إلى وساطة مضمونية، مع وجوب أن تسلي الرواية أيضا خاصة من
خلال حبكتها.
إذا استطاعت رواية ما أن تسلي فإنها ستنال استحسان الجمهور.
والحال أنه نُظر إلى هذا الاستحسان، لمدة طويلة، نظرة سلبية.
فإذا نالت الرواية إعجاب الجمهور، فهذا دليل على أنها لا تقول
شيئا جديدا، إنها تكتفي بقول ما كان ينتظره الجمهور.
وأعتقد أن هناك فرقا بين القول > إذا جاءت الرواية بما كان
ينتظره القارئ، فإنها ستنال رضاه < وبين القول : > إذا نالت
الرواية إعجاب القارئ، فهذا معناه أنها تقول ما كان ينتظره
القارئ <. فالحالة الثانية ليست دائما صحيحة، ويكفي أن نستحضر
دوفو أو بلزاك وصولا إل Tambourو cent ans de solitude
ويمكن القول إن المعادلة : الاستحسان = قيمة سلبية، تم تدعيمها
من خلال بعض المواقف السجالية التي اتخذناها نحن مجموعة 63، بل
وقبل 1963، عندما كنا نعتبر الكتاب الناجح كتابا تجاريا،
والرواية التجارية هي رواية الحبكة، في حين كنا نحتفي بالعمل
التجريبي الذي يحدث ضجة ويرفضه الجمهور العريض. كل هذا قيل، وكل
هذا كان له معنى. فهذه الأشياء هي التي أثارت حفيظة المتعلمين
والمثقفين، وهي التي لم ينسها الإخباريون أبدا، لأنها صيغت عمدا
لكي يكون لها هذا الوقع بالذات، وذلك من خلال استحضار نموذج
الروايات الكلاسيكية الأساس، ذات البعد التجاري والخالية من أي
نفحة تجديدية، خاصة في القرن التاسع عشر.
ولم يكن هناك بد من قيام تحالفات استعملت فيها كل الوسائل، وكانت
في أحيان كثيرة تعبيرا عن حروب عشائرية. ولا زلت أتذكر أن
أعداءنا كانوا هم لامبيدوزا وباساني وكاسولا ( Lampedusa ,
Bassani , Cassola). أما الآن فإنني أنظر إلى كل واحد من هؤلاء
الثلاثة نظرة خاصة. فلقد كتب لامبيدوزا رواية جيدة سابقة لزمانها
وكنا ضد الاحتفاء الذي لقيته كما لو أنها فتحت مسارا جديدا للأدب
الإيطالي، في حين أنها كانت على العكس من ذلك تغلق مسارا. أما
كاسولا فلم أغير رأيي تجاهه. وفي المقابل سأكون حذرا وحذرا جدا
تجاه باساني لو كنت في 1963، وسأقبله اليوم بصدر رحب كرفيق درب.
ولكن هذا كله لا علاقة له بالقضية التي أريد أن أتحدث عنها.
فالقضية هي أن كل الناس نسوا ما حدث سنة 1965عندما التأم شمل
المجموعة من جديد. فلقد التقى أعضاء المجموعة في باليرمو لمناقشة
قضايا الرواية التجريبية (والمؤسف أن أعمال هذه الندوة لازالت في
كاتالوغات Feltrineli تحت عنوان :Il romanzo spierimentale
بتاريخين مختلفين : 1965على الغلاف و 1966 عند الانتهاء من
طبعه).
ولقد حفل هذا النقاش بجملة من الأفكار الهامة. كان هناك في
البداية التقرير الذي قدمه ريناتو باريلي( renato Barilli) وكان
حينها يعد منظرا لكل تجريبيي الرواية الجديدة، ولحظتها كان يصفي
حسابه مع روب غريي وغراس وبينشون ( ويجب ألا ننسى أن بينشون
يُنظر إليه الآن على أنه من رواد مابعد الحداثة، ولكن هذه الكلمة
لم تكن موجودة آنذاك، أو على الأقل لم تكن موجودة في إيطاليا، في
الوقت الذي كان جون بارث لازال مبتدئا في أمريكا ). ولقد استشهد
باريلي بروسيل الذي تم اكتشافه من جديد ولم يشر إلى بورخيس لأن
إعادة الاعتبار إليه لم تكن قد بدأت بعد. فماذا قال باريلي ؟ قال
إنه إلى حدود تلك الفترة تم تفضيل نهاية الحبكة وإيقاف الفعل
لحظة بزوغه وفي نشوة ماديته، في حين كانت مرحلة جديدة في تاريخ
السردية ترى النور مع إعادة الاعتبار للفعل، حتى ولو كان فعلا من
طبيعة أخرى.
أما أنا، فسألقي الضوء على الأحاسيس التي انتباتنا الليلة
السابقة على الندوة ونحن نشاهد كولاجا (collage) سينيماتوغرافيا
غريبا قدمه باروشيلو وغريفي تحت عنوان verifica incerta. يتعلق
الأمر بقصة تم تركيبها من أجزاء قصص أخرى، ووضعيات قارة وأفكار
السينما التجارية. وقد أثارني أن الجمهور اهتز متعة في لحظات
بعينها كان من الممكن أن تكون مزعجة منذ سنوات خلت، أي في تلك
اللحظات التي يتم فيها تجنب النتائج المنطقية والزمانية ويتم خرق
انتظاراته بشكل سافر.
لقد كانت حركة الطليعيين هي السائدة، وأصبحت التنافرات عزيزة على
العين والأذن. خلاصة واحدة كانت ممكنة : إن عدم مقبولية
الإرسالية لم تعد هي المقياس للسردية التجريبية ( وبالنسبة لكل
فن )، ذلك أن اللامقبول قد أصبح يشكل شيئا محبذا. لقد بدأنا نشهد
عودة عامة إلى أشكال للمقبول والمحبب. وأود أن أذكر هنا أنه إذا
كان على الجمهور، في الأمسيات المستقبلية لمارينيتي، أن يصفر >
فالأمر مختلف حاليا، فالسجال الذي كان يعتبر فشل تجربة ما مرتبطا
بمقبوليتها هو سجال تافه وغير منتج : إن الأمر يتعلق بعودة إلى
الخطاطة الأكسيولوجية للطليعة التاريخية، والناقد الطليعي
المحتمل ليس شيئا آخر سوى مارينيتي (28) متخلف.
ولنكرر أن لامقبولية الإرسالية عند المتلقي لم تصبح ضمانة على
قيمة ما إلا في مرحلة تاريخية محددة. ربما علينا أن نتخلى عن تلك
الفكرة المبطنة التي تتحكم في كل نقاشاتنا والمتمثلة في أن الضجة
( scandale) هي الدليل على صحة العمل الأدبي. إن ثنائية النظام /اللانظام،
بين عمل موجه للاستهلاك وعمل استفزازي، حتى وإن لم تفقد قيمتها،
هي قابلة لأن يعاد فيها النظر من زاوية جديدة. وأعتقد أنه من
الممكن أن نعثر على عناصر للقطيعة والاعتراض في الأعمال التي
تعتبر أعمالا للاستهلاك السهل؛ في حين أن هناك أعمالا استفزازية
لا تعارض شيئا ومع ذلك لازالت تثير الجمهور. لقد التقيت في هذه
الأيام شخصا انتابه شك وريبة لأن منتوجا أعجبه كثيرا < وهكذا
دواليك.
إن 1965 كانت هي بدايات البوب آر، أي السنوات التي أصبحت فيها
التمييزات التقليدية بين الفن التجريبي اللاتصويري، والفن
الجماهيري السردي التصويري لا قيمة لها. إنها السنوات التي قال
فيها بوسور Pousseur وهو يتحدث عن البيتلز : > إنهم يعملون
لصالحنا < دون أن يدركوا بأنهم يعملون من أجل أنفسهم ( وستبين
كاتي بيربرين أن البيتلز عندما وصلوا إلى المستوى الذي وصل إليه
بورسيل أصبح بالإمكان عزف مقطوعاتهم جنبا إلى جنب مع مونتيفيردي
وساتي) (29).
لقد اتضحت منذ 1965 فكرتان بشكل نهائي. يمكن أن نعثر على الحبكة
في شكل إحالة على حبكات أخرى، ويمكن للإحالة أن تكون أقل تقليدية
وأقل تجارية من الحبكة المحال عليها. ( ستشهد 1972 تحقيق نبوءة
بومبياني المتعلقة بالعودة إلى الحبكة حيث أعيد النظر في بونسون
دوتيراي وأوجين سو بشكل ساخر وباهر، وحيث بدأت بعض صفحات دوما س
تثير الإعجاب الممزوج بشيء من السخرية ). هل يمكن العثور على
رواية تجارية، إشكالية نوعا ما، وتكون في نفس الآن محببة ؟
لقد قام منظرو مابعد الحداثة الأمريكيون بتحقيق هذه العودة إلى
الحبكة والاستلطاف.
ولكن وللأسف فإن كلمة مابعد الحداثة تصدق على كل شيء ( وأنظر إلى
مابعد الحداثة كما اقترحها الأمريكيون، أي باعتبارها مقولة
أدبية، وليس المقولة العامة التي جاء بها ليوطار). أعتقد أن هذه
المقولة يستعملها كل حسب هواه.
ويبدو من جهة ثانية، أن هناك محاولة تريد أن تسحبها على ما مضى:
فقبل ذلك لم تكن هذه المقولة تصدق إلا على بعض الكتاب أو
الفنانين المنتمين إلى العشرين سنة الماضية، إلا أنها أصبحت شيئا
فشيئا تصدق على كتاب من بداية القرن، ثم اتسعت دائرتها أكثر
فأكثر ولا يستبعد أن يوصف هوميروس بالمابعدحداثي.
وأعتقد أن مابعد الحداثة ليس اتجاها يمكن أن نحدده كرونولوجيا،
ولكنه مقولة روحية أو هو طريقة في العمل. ويمكن القول إن لكل
مرحلة مابعد حداثة خاصة بها، كما أن لكل مرحلة صنعتها (حتى وإن
كنت أتساءل إن لم تكن مابعد الحداثة اسما عصريا للصنعة باعتبارها
مقولة ميتاتاريخية ). وأعتقد أنه في كل مرحلة هناك لحظات أزمة
كتلك التي وصفها نيتشه في les considérations inactuelles حول
الدراسات التاريخية. إن الماضي يتحكم فينا وينهكنا ويبتزنا.
إن الطليعة التاريخية ( وهنا أيضا أنظر إلى الطليعة باعتبارها
مقولة ميتاتاريخية ) تريد أن تصفي حسابها مع الماضي. لقد كانت
الجملة التالية : > ليسقط ضوء القمر < هي شعار المستقبليين، وهي
أيضا برنامج كل الطليعيين، يكفي في ذلك أن نحل محل هذه الجملة
شيئا مناسبا. إن الطليعة تدمر الماضي وتشوهه : ولقد كانت les
demoiselles d'Avignon (30)هي الحركة النوعية لذلك. بل إن
الطليعة ستذهب إلى أبعد من ذلك ، فبعد أن دمرت الصورة ستقوم
بإلغائها نهائيا، إنها ستعانق التجريد واللاشكلي، واللوحة
البيضاء، اللوحة الممزقة، اللوحة المحروقة. أما في المعمار، فإن
الطليعة ستكون هي الشرط الأدنى للستارالحائطي " Curtain Wall" (
ستار، البناء في شكل نصب، توازي خالص للمستطيلات. أما في الأدب،
فإنها ستدمر انسيابية الخطاب، لكي تصل إلى الكولاج على طريقة
بوروث Burroughs (31)، وإلى حدود الصمت والصفحة البيضاء. وستشكل
في الموسيقى بداية المرور من اللانبرة إلى الضجيج، إلى الصمت
المطلق (وبهذا المعنى فإن جون كاج كان في بداياته حداثيا.
وجاء زمن لم تعد فيه الطليعة ( الاتجاه الحداثي ) قادرة على
المزيد من التقدم، لأنها أنتجت لغة واصفة تتحدث عن نصوصها
المستحيلة ( الفن المفهومي ). إن الجواب مابعد الحداثي عن
الحداثة يكمن في الاعتراف بأن الماضي الذي لا يمكن تدميره لأن
ذلك سيؤدي إلى الصمت، يجب أن يدرس من جديد : بطريقة ساخرة وغير
بريئة. وأنا أفكر الآن في موقف مابعد الحداثة كموقف ذلك الرجل
الذي أحب امرأة مثقفة جدا تعرف أنه لا يستطيع أن يقول لها : >
أحبك بشدة < لأنه يعرف بأنها تعرف ( وهي تعرف أنه يعرف ) أن هذه
الجمل قد كتبتها باربارا كارتلاد. ومع ذلك هناك حل، كأن يقول لها
: > أحبك بشدة، كما تقول ذلك باربارا كارتلاند <. وهكذا فإن هذا
الرجل، وقد تجنب البراءة المزيفة، قال بوضوح بأننا لا يمكن أن
نتكلم ببراءة، وقال مع ذلك لهذه المرأة ما كان يود قوله بأنه
يحبها، وهو يحبها في مرحلة ضاعت فيها البراءة. فإذا تواطأت معه
المرأة، فإنها ستعتبر ما قاله تصريحا بالحب، ولن يحس أي منهما
بالبراءة. وكلاهما قبل تحدي الماضي، أي قبل ما قيل، ذاك الذي لا
يمكن أن نلغيه من حسابنا. وسيلعبان كلاهما بوعي ومتعة لعبة
السخرية. ولكن كلاهما سيكون قد نجح، مرة أخرى، في الحديث عن
الحب.
إن الأمر يتعلق بسخرية ولغة واصفة وتلفظ مضاعف. وهذا معناه أنك،
في حضرة الكون الحداثي، إذا لم تفهم اللعبة، فعليك بالضرورة أن
ترفضه. أما مع ما بعد الحداثة، فإننا قد لا نفهم اللعبة ولكننا
سننظر إلى الأشياء بجدية. وهو ما يمثل، من جهة أخرى ميزة (
مجازفة ) السخرية. هناك دائما أشخاص مستعدون للنظر إلى السخرية
بشكل جدي. وأعتقد أن الكولاج الذي قدمه بيكاسو وخوان غريس وبراك
كان كولاجا حديثا، لذلك تم رفضه من لدن الأشخاص الأسوياء. وفي
المقابل، فإن الكولاج الذي أنجزه ماكس إرنست، أي ذلك المونتاج
الخاص بأجزاء من منحوتات القرن التاسع عشر، كان ينتمي إلى ما بعد
الحداثإمكاننا أيضا أن ننظر إليها على أنها محكيات فانتاستيكية،
ومحكيات حُلمية، دون الانتباه إلى أنها تمثل خطابا حول النحت
وربما حول الكولاج نفسه.
إذا كانت تلك هي طبيعة مابعد الحداثة، فإن هذا ما يفسر أن يكون
ستيرن أو رابليه مابعد حداثيين، وهذا ما يفسر أيضا لماذا لم يكن
بورخيس كذلك، ولماذا يمكن أن يتعايش داخل نفس الفنان أو تتعاقبا
بسرعة أو تتبادلا اللحظة الحداثية واللحظة مابعد الحداثية.
انظروا إلى جويس، إن البورتريه هو قصة محاولة حداثية. أما Les
Dublnersفقد كانت أكثر حداثة من " le Portrait " ، رغم أنها
سابقة عليه زمنيا. أما Ulysses فهي بين بين، في حين تعد
Finnegans Wake مابعد حداثية، أو على الأقل تدشن الخطاب مابعد
الحداثي، فهي تستدعي، لكي تفهم، دراسة جديدة حول السخرية لا تنفي
ما سبق.
لقد قيل تقريبا، منذ البداية، كل شيء عن مابعد الحداثة ( أي ما
قيل في محاولات مثل :" أدب الإنهاك لجون بارث، الصادر سنة
1967والذي أعيد طبعه مؤخرا في العدد 7 من Calibano الخاص بمابعد
الحداثة الأمريكية ). وهذا لا يعني أنني متفق مع التقدير الجيد
الذي يقدمه منظرو مابعد الحداثة ( بمن فيهم جون بارث ) للكتاب
والفنانين وطريقة تحديدهم لمن ينتمي إلى مابعد الحداثة ومن هو
ليس كذلك.
إن ما يهمني في الأمر هو الخلاصات التي خرج بها منظرو هذا
الاتجاه من مقدماتهم : > في تصوري لا يقلد الكاتب مابعد الحداثي
النموذجي أحدا، ولا يتنكر لا لآبائه من القرن العشرين ولا
لأجداده من القرن التاسع عشر. لقد هضم الحداثة، ولكنه لا يضعها
حملا ثقيلا على كتفيه. قد لا يحلم هذا الكاتب بالوصول إلى هواة
جيمس ميشينر و إرفينغ والاس، دون أن نتحدث عن الأميين الذين
بلَّدتهم وسائل الاتصال الجماهيرية، ولكنه يحلم بالوصول أوتسلية
(بعض الأحيان على الأقل) جمهور أعرض من حلقة أولئك الذين كان
يسميهم توماس مان المسيحيين الأوائل، المخلصين للفن. على الرواية
المنتمية إلى ما بعد الحداثة أن تتجاوز الصراع القائم بين
الواقعية واللاواقعية، بين شكلانية ومضمونية، الأدب الخالص
والأدب الملتزم، سردية النخبة وسردية الجماهير. وأفضل في هذا
المجال قياسها بالجاز الجيد أو بالموسيقي الكلاسيكية : فعند
سماعنا أو دراستنا لتوزيع ما، نكتشف كما هائلا من الأشياء لم تثر
انتباهنا في البداية، إلا أنها تعرف كيف تمتعك منذ البداية إلى
درجة تدفعك لأن تسمعها من جديد، وهذا يصدق على المتخصصين كما
يصدق على المبتدئين< ( لقد تناول جون بارث هذا الموضوع من جديد
سنة 1980 تحت عنوان " أدب الامتلاء" la littérature de la
plenitude" )
وبالتأكيد، فإن هذا الخطاب يمكن إعادة صياغته بطريقة مفارقة، وهو
ما قام به ليسلي وفيلدر في دراسة سنة 1981، وفي مناظرة حول
Salmagundo مع مؤلفين أمريكيين آخرين.
وبطبيعة الحال فإن فيلدر كان مستفزا. فقد مجد Le dernier des
Mohicans (32) كما مجد سردية المغامرات والقوطي، كل تلك الكتلة
من الكتابة التي احتقرها النقاد، والتي عرفت كيف تحيط نفسها
بالأساطير وعششت في متخيل أكثر من جيل.
لقد تساءل فيلدر : هل ستُقرأ رواية مثل رواية La case de l'oncle
Tom (33)بنفس الحرارة في المطبخ وفي الصالون وفي غرفة الأطفال
إذا أعيد طبعها من جديد؟. لقد وضع شكسبير وكذا رواية " ذهب مع
الريح "جنبا إلى جنب مع أولئك الذين كانوا يعرفون كيف يسلون. لقد
كان ناقدا ماهرا، لاشك في ذلك، ونعرف جميعا أنه ناقد رفيع الذوق
يصعب تصديقه. إنه كان يريد فقط تدمير ذلك الحاجز القائم بين الفن
واللطف. إنه كان يدرك بشكل حدسي أن مسألة التأثير في جمهور عريض
واستيطان أحلامه، قد تكون هي ما يشكل في الوقت الراهن ما نطلق
عليه الطليعة، وهذا ما يترك لنا الحرية في أن نقول إن استيطان
أحلام القارئ ليس بالضرورة دليلا على دغدغتها. فقد يعني أيضا
ملاحقتها وإرهاقها.
لقد رفضت منذ سنتين أن أجيب عن أسئلة تافهة من نوع : هل يعد عملك
عملا مفتوحا ؟ وما يدريني، تلك مشكلتكم أنتم وليست مشكلتي. أو من
نوع : ما هي أقرب شخصية إلىك ؟ يا إلهي، من هي الشخصية التي
يتطابق معها المؤلف ؟ مع الظروف (adverbes) بطبيعة الحال. إلا أن
أكثر تلك الأسئلة تفاهة هي تلك التي تقول : هل صحيح أن سرد أحداث
الماضي هو هروب من الحاضر؟. وأرد : هذا محتمل، فإذا كان مانزوني
يحكي عن أحداث القرن السابع عشر فلأن القرن التاسع عشر لم يكن
يثير اهتمامه. لقد كان غويستي في روايتهيروي النمساويون أشياء
تخص مرحلته، في حين أن رواية بريشت SantAmbringo غيرامنتو دو
بونديل
Guiramento de pondilكانت تتحدث عن الخرافات الماضية. إن love
story وليدة عصرها إلا أن La chartreuse de parme (34) تحكي عن
أحداث وقعت منذ 25 سنة.
فما الفائدة من القول إن كل مشاكل أوروبا المعاصرة تشكلت، كما
نحياها الآن، في القرون الوسطى، بدءا من ديموقراطية الجماعات إلى
اقتصاد البنوك، ومن الملكيات الوطنية إلى الحواضر، ومن
التكنولوجيا الحديثة إلى ثورة الفلاحين. إن القرون الوسطى هي
طفولتنا التي تجب العودة إليها باستمرار لكي نحتفظ بذاكرتنا. لكن
بالإمكان أيضا أن نتحدث عن القرون الوسطى على طريقة إكسكاليبور
(Excalibur ) (35).
وبناء عليه، يجب البحث عن المشكل في أشياء أخرى، وهو مشكل لا
يمكن تجنبه. فماذا يعني أن نكتب رواية تاريخية ؟ أعتقد أن هناك
ثلاث طرق لرواية أحداث الماضي. الطريقة الأولى هي رومانس (
Romance) (36) ينطلق من الدورة البروتونية مرورا بقصص تولكيان (
Tolkien)، حيث نعثر أيضا على " الرواية القوطية " التي لا علاقة
لها بالرواية ولكنها وثيقة الصلة بالرومانس . في هذه الحالة، فإن
الماضي يمثل أمامنا على شكل سينوغرافيا، أو ذريعة أو بناء لحكاية
تطلق العنان لكل أنواع الخيال. ومن جهته فإن الخيال العلمي يعد
في غالب الأحيان رومانس. والرومانس هو حكاية لمكان بعيد.
بعد ذلك تأتي رواية الفروسية كما هو الشأن مع دوماس. إن رواية
الفروسية تختار لنفسها ماضيا "واقعيا" يمكن التعرف عليه : ومن
أجل الوصول إلى ذلك، فإنها تملؤه بشخصيات لها موقعها في الموسوعة
( ريشوليو، مازاران )، وستقوم هذه الشخصيات بأعمال لا وجود لها
في الموسوعة (اللقاء مع ميليدي، عقد لقاءات مع المدعو بوناسيو)
ولكنها لا تتناقض معها.
ومن أجل تدعيم الطابع الواقعي، يوكل إلى الشخصيات التاريخية
(بتواطؤ مع الهستوغرافي) القيام بنفس الأفعال التي قامت بها
تاريخيا ( محاصرة لاروشيل، علاقات حميمية مع آن النمساوية ،
قضايا مع لافروند ). وضمن هذا الإطار ( " الحقيقي" ) يتم إدراج
الشخصيات التخييلية. ولكن هذه النوعية الأخيرة تعبر عن مشاعر
يمكن أن تكون مشاعر شخصيات من تلك المرحلة. فما يقوم به
دارتانيون لحظة استعادته للمجوهرات في لندن، عمل قابل للإنجاز في
القرن السادس عشر، كما يمكن أن يُنجز في القرن الثامن عشر. فليس
من الضروري أن نعيش في القرن السابع عشر لكي تكون لنا نفسية
دارتانيون.
وفي المقابل ليس من الضروري أن تكون في الرواية التاريخية شخصيات
يمكن التعرف عليها من خلال الموسوعة المشتركة. فالشخصية الأكثر
شهرة في les fiancés، هي الكاردنال فيديريغو، الذي لم يكن معروفا
على نطاق واسع قبل مانزوني ( أما الشخصية الأخرى، سان شارل، فقد
كانت أكثر شهرة)، ولكن كل ما يقوم به لوسيا أو فرا كريستوفورو
لايمكن أن يتم إلا في لامبارديا القرن السابع عشر ). إن تحركات
الشخصيات تستخدم من أجل فهم أفضل للتاريخ، ولما مضى، ورغم أنها
مخلوقة خلقا فإنها تقول، بوضوح لا مثيل له، عن أيطاليا تلك
المرحلة أكثر مما تقوله كتب التاريخ عنها.
وبهذ المعنى كنت بالتأكيد أرغب في كتابة رواية تاريخية، لا لأن
آوبارتان أو ميشال قد وجدا فعلا وقالا بالفعل ما قالاه، ولكن لأن
كل ما قالته هذه الشخصيات ومن بينها غيوم يمكن أن يقال في تلك
المرحلة.
لا أعرف إلى أي حد كنت وفيا في هذا المجال، ولا أعتقد أنني قصرت
عندما كنت أسرب بعض استشهادات مؤلفين سابقين ( كـ فيتغنشتاين )
لأوهم القارئ بأنها استشهادات تنتمي إلى تلك المرحلة. وفي هذه
الحالة كنت أعرف أن شخصياتي من القرون الوسطى ليست هي التي كانت
حديثة، ولكن الذين ينتمون إلى العصر الحديث هم الذين كانوا
يفكرون بعقلية القرون الوسطى.
ومع ذلك، فإنني أتساءل أحيانا : ألا أكون قد منحت شخصياتي القدرة
على تجميع أفكار قروسطية بشكل كلي، انطلاقا من مجموعة من
الخرافات المفهومية التي لو احتفظ بها في حالتها تلك لما أمكن
التعرف عليها باعتبارها تنتمي إلى القرون الوسطى. ولكن أعتقد أن
على الرواية التاريخية أن تقوم بهذا أيضا : عليها أن تحدد في
الماضي الأسباب التي كانت وراء ما حدث بعد ذلك، وأيضا رسم
السيرورة التي تطورت بشكل بطيء من خلالها وأحدثت هذا الوقع.
فإذا قامت شخصية من شخصياتي بمقارنة فكرتين تنتميان إلى القرون
الوسطى لكي تستنتج فكرة ثالثة أكثر حداثة، فإنها تكون قد قامت
بما ستقوم به الثقافة لاحقا. وإذا لم يكتب أي شخص أبدا ما قاله،
فبالتأكيد سيكون هناك شخص آخر قد فكر في ذلك وإن بشكل ملتبس (
حتى وإن لم يقل ذلك خوفا أو حياء ).
وفي جميع الحالات هناك شيء راقني كثيرا : كلما قال أو كتب ناقد
أو قارئ أن شخصية من شخصياتي تشير إلى أشياء حديثة، إلا وأكون في
واقع الأمر في هذه الحالات بالضبط قد أتيت باستشهادات من القرن
الرابع عشر.
وهناك فقرات استمتع بها القارئ كثيرا وعدَّها من القرون الوسطى،
في حين اعتبرتها أنا بشكل لاشرعي حديثة. والسبب في ذلك أن لكل
قارئ فكرته الخاصة عن القرون الوسطى، وغالبا ما تكون هذه الفكرة
غير صحيحة. نحن وحدنا، رهبان تلك الفترة، نعرف الحقيقة، ولكننا
لو قلناها لأدى بنا ذلك رأسا إلى المحرقة.
1- البيت الشعري باللاتينية وبه تختتم الرواية :
Stat rosa pristina nomine, nomina nuda tenemus
وترجمته التقريبية بالعربية : > إن اسم
الوردة الماضية لازال قائما ، فمن الوردة نستخلص الكلمة الخالصة
<.
*- إن الأمر يتعلق بالصيغة الأولى لرواية " المخطوبين " Les
Fiancés " لألساندرو مانزوني ( هامش من وضع المترجم عن الإيطالية
).
2- فيلون François Villon : شاعر فرنسي عاش في القرن الخامس عشر
، عاش حياة مليئة بالمغامرات وعاشرالصعاليك والمجرمين، كما صاحب
النبلاء والشخصيات العظيمة. وقد خلصه بعض النبلاء مرارا من
المقصلة. من أعماله Le Grand testament; l' Epitaphe villon.
ولقد عده البعض من أكبرالبلاغيين، كما عده البعض الآخر أول شاعر
ينتمي إلى الحداثة.
3- برنار وأدزو وغيوم ، ثلاث شخصيات رئيسية في رواية أمبيرتو
إيكو " اسم الوردة ".
4- للمزيد من التوسع في هذه القضية يُراجع كتاب إمبيرتو إيكو :,
éd P U F , 1996 Interprétation et surinterprétation . وقد قمنا
بترجمته إلى العربية تحت عنوان : التأويل بين السميائيات
والتفكيكية، المركزالثقافي العربي بيروت - الدار البيضاء، 2000.
*- الصفحة 485 من طبعة : Le livre de poche ( هامش المترجم من
الإيطالية )
5- وردت بالانجليزية في النص.
6- منحوتتان من منحوتات ميكال أونجلو، وكلاهما تمثل للمسيح وأمه
في أوضاع تحيل جميعها على الألم . وكلمة pieta تشير إلى العذراء
في وضع ينطق ألما ومعاناة وجسد المسيح بين يديها.
7- Huysmans ويسمانس ( 1848 - 1907 ) كاتب فرنسي من أصل هولندي،
عاش في باريس حياة التسكع والتمرد، وكتب أشياء كثيرة عن هذه
المدينة ومن جملتها روايته : Làs-bas التي يشير إليها إيكو هنا،
والإشارة في مجملها تحيل على الفترة التي قضاها إيكو في باريس
عندما كان طالبا.
8- Cluny: دير في فرنسا أسسه الدوق غيوم داكيتان في 910 للميلاد،
وقد عرف عن هذا الدير استقلاليته عن النبلاء والأساقفة في الآن
نفسه، وكانت له علاقة مباشرة بالبابا في روما. وكان للرهبان في
هذا الدير نمط خاص في الحياة وخلف تقاليد عدة في الثقافة
والمعمار حتى نسب إلى رهبانه صفة الكلونيزيين.
9- بازيليك basilic زواحف خرافية يٌعتقد أن لها القدرة على القتل
من خلال النظر في