معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

مؤلفــات بطاقة تعــريف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال   مواقـــع  خزانات الموقـع صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

سعيد بنگـراد

الفصل الثاني:

نسق الشخصيات والبناء العاملي

 

 

1 - المواقع و المسارات

إن البنية العاملية في مفهومها العام هي تحويل للمحسوس إلى مجرد، أي الانتقال من المعنى المباشر إلى ما يتم الإمساك به من خلال عملية تحليلية قائمة على تقليص العناصر الحشوية. فإذا تركنا جانبا كل المواصفات السابقة المسندة إلى الشخصيات، وأخذنا بالوظائف كعناصر مميزة، فإننا سنقوم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بتجريد الممثلين من فرديتهم وتحويلهم إلى مجرد مواقع تركيبية قائمة على سلسلة من التقابلات. وبعبارة أخرى، سنقوم بتكثيف السلوكات ( الأفعال ) المحسوسة، المتشابهة في مفهوم شامل وعام يتطابق والمواقع التركيبية ( ما يقابل دوائر الفعل عند پروپ ).

وعلى غرار اللسانيات- حيث إن الحصول على مدلول ما يتم من خلال سيرورة تقليصية للعناصر الحشوية ( النظر إلى المدلول باعتباره صورة ذهنية لقسم من الأشياء بتعبير بول ميكلو ) (1)، فإن البنية العاملية كعنصر تركيبي لا تقوم لها قائمة إلا من خلال عملية التقليص هاته. والتقليص يعني - من جملة ما يعنيه- التخلص من كل العناصر التي لا يشكل حذفها أي إخلال بالقصة، والاحتفاظ بالعناصر التي تشكل القوائم الرئيسية للهيكل الروائي (فمإذا يعني أن تطلب من شخص أن يعطيك ملخصا لرواية سوى أن تطلب منه القيام بعملية تقليص لهذا الكون المترامي الاطراف ). وعملية التقليص هاته تتم من خلال :

أ - القيام بتجميع الممثلين وتحديد وظائفهم ومواصفاتهم، ثم إدراجهم في أقسام تمثل محاور دلالية خاصة.

ب - إذا كان اعتمادنا على المواصفات هو السبيل الذي قادنا إلى استخراج سلسلة من الصفات التي تم تكثيفها بعد ذلك في محاور دلالية، فإن اعتمادنا على الوظائف هو ما يشكل نقطة الانطلاق نحو مقاربة واستخراج بنية دلالية عامة منظمة للحكاية تختصر وتكثف كل ما يتعلق بأفعال الشخصيات في محاور دلالية محدودة العدد والقيمة. فالبنية العاملية، باعتبارها استعادة استبدالية لمجموع الوظائف المسجلة داخل الرواية ، هي > في المقام الأول تعميم لبنية تركيبية. فالعامل ليس تحديدا لمضمون قيمي فحسب، إنه أيضا قاعدة لمعانم سياقية. وانطلاقا من هذه القاعدة يبنى العامل كإمكان لإجراء ما، فطابعه كقوى ساكنة آت من وضعه الصوغي، في تقابله مع الوظيفة باعتبارها ديناميكية قابلة للوصف < ( 2 ) .

إن التمييز داخل هذا التعميم التركيبي بين قوة ساكنة وأخرى ديناميكية، يحيلنا على نمطين متمايزين للوجود في حياة العامل النصية، ولكل نمط من النمطين وضعه الخاص. فالعامل يتحدد من جهة بدوره العاملي، ويتحدد من جهة ثانية بوضعه العاملي. > فإذا كان الدور العاملي يتشكل من العناصر التي تضاف - في إحدى مراحل المسار السردي- إلى ما يشكل العامل من خلال التطور التوزيعي للخطاب، فإن الوضع العاملي هو ما يحدد العامل داخل كلية المسار، سواء كان هذا المسار معطى بشكل صريح أو معطى بشكل ضمني < ( 3 ). والتمييز بين الدور العاملي والوضع العاملي هو التمييز بين البعد الديناميكي والبعد السكوني للنموذج فيحياة العامل.

فإذا كان النص حركة دائمة من التحولات والتطورات، فإن أي عامل قد يجد نفسه في أية لحظة موزع على مواقع تركيبية بالغة التنوع : قد يتحول من ذات إلى موضوع، وقد يتحول من ذات إلى مرسل، بل قد يحصل أن يكون هناك قلب كلي للمواقع، وذلك ضمن لعبة الظاهر والكينونة. فالمسار السردي هو المحدد لأنماط الوجود السميائي. والحديث عن موقع تركيبي بشكل مسبق، كلي ونهائي، هو التخلي عن التحليل بشكل سريع، ولن يؤدي إلا إلى قتل الديناميكية المميزة لأي نص يجعل من نفسه تمثيلا مخياليا لوضعيات إنسانية. من هنا لا تشكل الخطاطة التي نصادفها عادة في نهاية كل تحليل داخل نص سردي ما سوى اختصار لمجموع التحولات، ومحاولة إعطاء بعد بصري لهذه التحولات، وليس بديلا عن التحليل.

و إذا كان النموذج العاملي هيكلا عاما ( صيغة تنظيمية) يستخلص من مجموعة كثيرة من النصوص السردية، فإن الترسيمة العاملية هي ما يشكل التحقق الذي يحول هذا النموذج من العمومية إلى الخصوصية. فكل نص يحتوي من العناصر ما يميزه عن غيره من النصوص، وهو ما يشكل في نهاية المطاف تلوينه الثقافي والأخلاقي. إن إغفال هذه الخصوصية معناه النظر إلى النصوص السردية كلها باعتبارها نصا واحد. وبناء عليه، إذا كان النموذج العاملي يقوم بإبراز أشكال التشابه بين النصوص، فإن الترسيمة العاملية هي ما يعمل على إبراز أشكال الاختلاف بينها. إن الأمر لا يتعلق إذن بالبحث عن هذا النموذج داخل النص الروائي، بل يكمن في مساءلة العناصر المشكلة للرواية من خلال خصوصيتها. فهذه العناصر هي المحددة لنمط اشتغال هذه الترسيمة داخل النص وليس العكس.

إن نمط هذا الاشتغال يستند إلى وجود وحدات دلالية تمنح النموذج بعده الاختلافي؛ وهذه الوحدات هي ما يشكل الأسنن الإيديولوجية والثقافية والأخلاقية التي يستند إليها النص من أجل إنتاج دلالاته. > فإذا كان الهيكل العام يبدو - باعتباره أدوات موسوعية لها وجودها المستقل عن تحققها في النص - كنسق من التقابلات الفارغة- فإن البنية الإيديولوجية لا تظهر ( سواء على مستوى الأهلية الموسوعية، أو على مستوى التحيين النصي ) إلا عندما تدخل مجموعة من الإيحاءات القيمية في ترابط مع أقطاب عاملية مسجلة في النص <. (4)

وبناء عليه، فإن هذا التحقق ليس غريبا عن الأفق الإيديولوجي الذي يعد به النص في مراحل انتشاره الأولى ( ما قلناه سابقا عن الإمكانات والتقليص وموقع الاختيار الإيديولوجي من ذلك(5)، وليس غريبا كذلك عن محفل القراءة باعتباره أداة منظمة وخالقة للمعنى الذي يختزنه النص. فالقارئ لا يؤول هذه الأدوار العاملية إلا انطلاقا من السنن الثقافي الذي ينتمي إليه > فالأهلية الإيديولوجية للمتلقي تتدخل من أجل تحديد التوجه الخاص بالهيكل العاملي العام وكذا بالتقابلات الإيديولوجية <. ( 6)

فهل يمكن القول إننا أمام أداة سحرية تكفينا شر التحليل ؟ لا نعتقد ذلك بطبيعة الحال. فمردودية أية أداة لا تقاس بقوة انسجامها الداخلي فقط، بل تقاس أيضا وأساسا بمدى إثرائها للنص، ومدى قدرتها على الكشف عن خصوصية النص وإبرازها لمكوناته الخاصة. فالنص أغنى من النظرية وأغنى من القوالب الجاهزة، لكن الولوج إليه يقتضي مع ذلك الاستعانة بالمفاتيح المساعدة لفك ألغازه وخباياه. ومن هنا فإن قيمة النموذج النظري لا تتحدد إلا بقدرته على المساهمة في إغناء معرفتنا بالنص. وهذه المعرفة ليست معطاة قبل تدخل القارئ، إنها مصاحبة لفعل الإبداع ومصاحبة لفعل التلقي.

يمكن القول إذن إن النموذج العاملي، باعتباره صيغة تنظيمية لعناصر النص وأداة لمعرفة هذه العناصر، يمكن أن يصبح أداة فعالة في مقاربة النصوص >شريطة أن لا نرى فيه شكلا معطى بطريقة قبلية، أو نرى فيه بنية جامدة، أو يتحول إلى سرير بروكوست حيث تأتي النصوص لتستلقي عليه. إنه نمط للاشتغال بالغ التنوع<(7). فالنص السردي لا يتحدد من خلال خطاطته السردية، ولكن من خلال خصوصية تحيين هذه الخطاطة داخل النص. ووجود هذه الخصوصية هو المبرر الرئيس لأي تحليل؛ فنص نعرف عنه كل شيء ( تنظيمه، نمط بنائه ) غير جدير بالتحليل.

وسنحاول في مقاربتنا للبنية العاملية أن نرصد بعض العناصر المشكلة للترسيمة العاملية، ونعني بذلك، على الخصوص، المسارات السردية المسجلة في الرواية، باعتبار هذه المسارات ركائز أساسية في تتبع سيرورة التحولات. وسنعمد بعد ذلك إلى إعطاء تركيب لمجموع هذه العناصر، من خلال محاولة الربط بين المواصفات والأدوار الثيمية كوحدات خطابية ظاهرة، وبين العوامل كوحدات سردية تركيبية مستترة، في أفق خلق نوع من الانسجام بين بنية الممثلين من جهة والبنية العاملية من جهة ثانية.

2 - الطروسي ومسار البحث المزدوج

لقد سجلنا أن رحلة الطروسي من البحار إلى القهوجي ومن القهوجي إلى البحار تتبع مسارا مزدوجا :

- الأول أصلي ومعطى من خلال نقص مس بطريقة مباشرة مسارا عاديا في حياة شخص عادي.

- الثاني عرضي وطارئ، ووجوده مرتبط بوجود الأول ( لولا غرق المنصورة لما كتبت الرواية ).

إن وجود هذين المسارين، بما يعنيه هذا الوجود من تعقيد للفعل السردي، لا يمثل اختيارين سرديين متقابلين. فالرواية تتبع أسلوبا دقيقا في رصد وسرد الوقائع المنتمية إلى كل مسار على حدة، وفي كل مرحلة هناك غلبة ما لهذا المسار على حساب الآخر.

وسنحاول الآن أن نرصد عناصر المسارين معا : تقاطعهما وتداخلهما وانفصالهما. استنادا إلى هذا، هل يمكن القول مثلا إن للمسارالسردي الأول نمطا وجوديا مختلفا بالضرورة عن أنماط الوجود المسجلة في المسار الثاني ؟ أم يمكن القول إن هناك خيطين سرديين بمخرج واحد ؟ وكيفما كانت الإجابة عن هذين السؤالين، علينا أن نعترف بأن الانتقال من المسار الأول إلى المسارالثاني هو الابتعاد عن متصل بيوغرافي عادي وإقحام لعنصر غريب داخل هذا المتصل. إلا أن هذه التبعية ( تبعية المسار الثاني للمسار الأول وتبعيةالقصة الثانية للأولى ) تتحول شيئا فشيئا إلى هيمنة. فبقدر ما تتقدم الحركة السردية إلى الأمام بقدر ما يغطي العنصر الثاني على الأول ويصبح محدده ومخرجه ونهايته.

وهذه الهيمنة لا يحكمها ولا يحددها سوى القصدية الأولى التي تقف وراء إنتاج النص، وهي قصدية لا تكشف عن نفسها دفعة واحدة. إنها تتم على مراحل، ففي كل مرحلة يتم تقليص المسار الأول وتضخيم المسار الثاني لتنتهي الرواية بتحسر على مغادرة البر، كما بدأت بتحسر على مغادرة البحر.

انطلاقا من هذا، فإن عنصر الاختلاف بين المسار السردي الأول والمسارالسردي الثاني يكمن في الصيغ المحددة للفعل الوظيفي. فإذا كنا في الفقرة السابقة من هذا البحث، تحدثنا عن سلسلة من المواصفات المرتبطة بدور ثيمي واحد : البحار، فإن ذلك يعني وجود دائرة ثقافية محددة لكينونة الذات ( الطروسي ) من جهة، ومحددة من جهة ثانية لكل ما يمكن أن يصدر عنها.

وبعبارة أخرى نحن أمام مواصفة تحتوي في داخلها على سلسلة من الإمكانات الوظيفية القابلة للتحقق جزئيا أو كليا داخل النص الروائي. ووجود هذه الدائرة الثقافية وبروز حالة نقص هما النقطة الرئيسة لانطلاق المسار الأول. وهذا المسار قائم على عنصرى الماضي والحاضر كما اتضح ذلك من التحليل السابق، وفق صيغة واحدة هي قدرة الفعل.

من هنا كان التمييز بين المسارالأول، باعتباره مسارا مرتبطا بقدرة الفعل، ذلك أن توقعية المتلقي لا تشترط في تحقيق هذا المسار أي معرفة سوى ما كان من معرفة عملية هي جزء من الفعل و تابعة له، وبين المسارالثاني، حيث إن تحقيق هذا المسار يرتكز أساسا على وجود معرفة يجب إما اكتسابها (سنكون آنذاك أمام تحول جذري في كينونة الذات) أو إعلان التعاطف معها من خلال التجسيد السلوكي لوجهها المفهومي.

إلى هذا الحد يكون مفتاح الحل للتداخل بين المسارين هو بالضبط هذا الاختلاف في الصيغ المحددة للفعل الوظيفي. فالصيغة الأولى لا تأثير لها على كينونة الذات، ودورها هو تكريس هذه الكينونة والحفاظ على عنصر الاستمرارية فيها ( الحلم بالعودة إلى البحر). والثانية تهدف إلى إحداث تغيير في هذه الكينونة ( التشكيك في النسق الحياتي السابق ). > فعلى خلاف المعرفة الخاصة بالكينونة التي تعود إلى ماهو معاصر ودائم بشكل لامتناهي، فإن معرفة الفعل تفترض تعلق السابق باللاحق أي إدماج الحاضر في الماضي < (8). من هنا سيكون الحاضر إما نقطة إرساء لتواصلية نكوصية ( استمرار العنصر الماضي كمحدد للعنصر الحاضر)، وحينها سيكون المسار بشكله العادي هو :

ذات ممكنة طرح حالة النقص

ذات محينة البحث عن المال لإلغاء النقص

ذات محققة الحصول على المال وإلغاء حالة النقص

ذات ممجدة الإقرار بانتصار الذات.

وإما سيكون هذا الحاضر نقطة إرساء تواصلية استمرارية، أي إلغاء الماضي كعنصر فاعل في الحاضر وبناء زمن جديد. لحظتها سنكون أمام مسار آخر سنرى تفاصيله فيما يلي.

3 - مسار الاسترجاع

إن المسار السردي الأول يتمفصل حول برنامج سردي معطى منذ اللحظات الأولى لانطلاق الرواية وذلك وفق الصيغة التركيبيـة التالية :

ذ u م ذ n م

وهي الصيغة التي ستشتغل فيما سيأتي كجاذب مغناطيسي لمجموعة من الأفعال التي لا تدرك إلا من خلال انتظامها داخل هذه البنية التركيبية. فمن النقطة البدئية إلى النقطة النهائية سيسلك هذا المسار خطا مرسوما سلفا من خلال العنوان أولا ( سنعود إلى هذه النقطة في الفقرات المقبلة ) ومن خلال الاستراتيجية السردية التي ركزت في مراحلها الأولى على نقطة النقص هاته ( الانفصال ) باعتبارها العنصر المولد للرواية ثانيا. فهذا المسار إذن، يعد لحظة سردية مرتبطة بالتحريك داخل الخطاطة السردية العامة. وهذا الارتباط هو ما يحيل على الكينونة وعلى الفعل المسقط أو القابل للإسقاط.

إن طبيعة المسار هاته هي ما يحدد نمط التحقق الخاص لبنية الاتصال المطروحة كحالة ممكنة لأنها تستند إلى الماضي. فالاختراق المولد للفعل السردي لا يقوم بفصل لحظة حياتية داخل متصل ثابت ( الإبقاء على وظيفته مثلا وطرح العنصر السياسي كعنصر يقوم بإثراء هذه الحياة)، ولكنه يقوم بإحداث شروخ داخل متصل حياتي، لدرجة أن الاستمرارية غير ممكنة إلا من خلال ملء هذه الشروخ. من هنا، فإن أي فعل ( وظيفة ) يقود من الإمكان إلى التحيين ثم إلى التحقق ( وهي الأنماط الثلاثة المكونة للوجود السميائي ) لا بد وأن يستند إلى نقطة الاختراق هاته باعتبارها النقطة الاستدلالية للفعل السردي. كما أن أي فعل لابد وأن يدخل في إطار إعادة إنتاج عنصر الحياة الماضية ( الأمر يتعلق بالعودة إلى مهنة سابقة )، باعتبار هذا الفعل عملية ترميمية للشروخ المنتجة للانفصال ( حالة النقص ).

إن الارتكاز على عناصر الحياة الماضية لاستشراف آفاق الحياة المقبلة من خلال إعادة إنتاج أفعال تسير وفق النمط القديم ( التوازي الذي أشرنا إليه سابقا بين أفعال تمت في الماضي وأخرى تمت في الحاضر ) هو إعادة إنتاج للماضي بكل ما تعنيه هذه الكلمة : الإبقاء على الكينونة كما تبلورت في الماضي. استنادا إلى هذا، فإن الأحداث الممكن وقوعها ضمن خطية هذا المسار لا تعد بالكثير من المفاجئات؛ فهي محددة بشكل مسبق من خلال لحظة النقص، ومن خلال لحظة الإمكان، ومن خلال صيغة البحث المزمع القيام به. وبعبارة أخرى، فإن إمكانات التحقق تكاد تكون متوقعة : فهي إما البحث عن المال والحصول عليه، ومعنى ذلك الانتصار في رحلة البحث، وإما الفشل في إيجاد هذا المال، ومعناه البقاء على البر وسقوط الحلم نهائيا والإبقاء على البنية التركيبية في حالتها البدئية.

إن الطابع "العادي" لرحلة كهاته، يتجلى أكثر من خلال طرح المحور الدلالي المعبر عن الرغبة، و محور معطى من خلال وجود الطروسي على الشاطئ واستماتته في البقاء بجانب البحر. إن لذلك فهو يعد عنصرا مركزيا في كل نص يأخذ على عاتقه سرد مجموعة من الأحداث تعود إلى شخصية أو مجموعة من الشخصيات. والرغبة هاته يمكن تلخيصها في " استرجاع ما ضاع ". و كلمة " استرجاع " لها قيمة دلالية كبرى، لأنها مبنية على العنصر المعرفي السابق، أي العودة إلى وضع سابق ( معروف بدقائقه وعمومياته )، وليس التوق إلى معانقة شيء جديد يحمل في طياته عنصر المفاجئة والغرابة. فما يرغب فيه شيء معروف، كما كانت طرق البحث عنه معروفة من خلال ماهيته نفسها. ولعل غياب المحاور الدلالية الأخرى ( محور الإبلاغ ومحور الصراع ) المراقبة والمحددة للمحور الأول هو ما يفسر هذا الطابع "العادي" ( رحلة لا تثير اهتمم أحد).

إن الرحلة فردية، وتتعلق بشيء فردي، ونتائجها فردية والباعث عليها فردي أيضا. إنها رحلة معزولة ومفصولة بشكل كلي عن الإطار المحيط بها. إننا لا نعثر على معيق، فلا أحد يقف في وجه الطروسي ويحول بينه وبين العودة إلى البحر. ولا نعثر على مساعد، فلا أحد يساعده أو يمد له يد العون لتحقيق رغبته. والقرار قرار فردي، مبعثه الحنين إلى ماض جميل، والمرسل إليه ليس شخصا آخر سوى الطروسي نفسه. فكل نتائج الرحلة ستؤول إليه.

إن هذه الخانات الفارغة، إن كانت تعبر عن الطابع الفردي لهذه الرحلة، فإنها هي التي ستقوم - من خلال غيابها - بمد جسور نحو استشراف آفاق رحلة ثانية. فغيابها غياب وظيفي ولها موقع خاص داخل البناء الروائي. والتغاضي عن هذا الغياب هو التغاضي عن عنصر هام داخل النص ( إن تثمين الفعل الجماعي يمر عبر تسفيه الرحلة الفردية ). ومرد هذا هو القالب الإيديولوجي الذي تشتغل به الرواية. فوجود هذا القالب هو الذي يفسر طغيان الفردية في هذا المسار وذوبانها في المسار الثاني؛ وهو أيضا العنصرالذي سيدفع بالبناء الروائي نحو وجهة جديدة. وجهة ستقوم بتكسير هذه الخطية البسيطة المميزة لهذا المسار( أو إرهاصاته الأولى على الأقل ). وسيعمل السارد على إبقاء الطروسي في حالة تحيين إلى حين حل المعادلة الخاصة بالانتماء السياسي. فلقد كان من الممكن أن تسلب استمرارية المسار الأول بعناصره المحددة سلفا الرواية عنصرالتوتر والتأزيم داخلها، وتحولها إلى مجرد سرد عادي لأحداث عادية ليس لها أي عمق اجتماعي. تأسيسا على هذا، فإن دمج المسارالأول في المسارالثاني هو الخط الموصل إلى دمج البرنامج السردي الأول في البرنامج السردي الثاني.

وبما أن قصة شخص ما هي، بمعنى من المعاني، قصة شخص آخر بشكل جزئي أو كلي، فإن إمكان تحقيق المسارالأول عبرتحقيق مراحله الثلاث مسألة تقارب الاستحالة. وبناء عليه، فإن قطعية الحكم البدئي في العودة إلى البحر، والانسلال خلسة أو علنا من المجموع الذي تتحرك داخله الذات، مسألة وهمية ولا يمكن أن يقبلها العالم المسقط كعالم ممكن. إذ أن سرد حدث ما يعود إلى شخصية ما هو في نفس الوقت إشارة إلى قصة الآخرين. والحدث الذي يتم داخل علاقات إنسانية ( داخل كون إنساني ) ليس فرديا ولا يمكن أن يكون كذلك.

وبعبارة أخرى، فإن كل رحلة تستدعي رحلة مضادة، وكل برنامج يفترض برنامجا مضادا. ومن هنا كانت استراتيجية السارد - في بدايتها على الأقل - بالغة الذكاء. فهي بعد أن ألقت بالطروسي خارج البحر، حددت له إطارا فضائيا بدلالات إيحائية واضحة. إن المقهى الذي استقر فيه -الذي لا يبعد عن البحر إلا ببضعة أمتار - كشكل من أشكال العزلة - يشتغل كفضاء مفتوح على الآخر. فهو فضاء اللقاء والسمر والحديث وتبادل الأحلام والأوهام كذلك. وأول ضربة تلقاها المسار الأول، وهو لا زال يحبو، كانت من هذا الفضاء نفسه، فهو النقطة التي تسللت من خلالها الحركة السردية لكي تلقي بالعنصرالسياسي للتداول باعتباره بديلا متطورا عن الموضوع الأول.

فبالإضافة إلى أن المقهى، كما قلنا سابقا، مكان للقاء، فإن طبيعته ( مقهى بدائية ) وموقعه ( قرب الميناء ) يحددان طبيعة المترددين عليه. فجل رواده من العمال والبحارة ومن لف لفهم. فنحن إذن أمام إطار فضائي متفتح على العنصر الإنساني، وداخل هذا العنصر الإنساني هناك انتقاء لعينة واحدة العمال وما شابههم. وهذا الانتقاء ليس غريبا عن استراتيجية الفعل السياسي. والخلاصة أن هذا الفضاء يسير والمتحركين داخله في اتجاه التقليص من فعالية المسار الأول ومن مردوديته السردية، ويفتح الأبواب أمام طرح المسارالسردي الثاني.

4 - المسار السردي الثاني و المحفل المزدوج

إذا كان المسار السردي الأول اختراقا لمتصل منطقي وعادي في حياة بحار، فإن المسار السردي الثاني يأخذ نقطة انطلاقه من لحظة الاختراق هاته. وكما سبق أن ذكرنا، فإن هذا المسار يعد نتاجا للمسار الأول. ذلك أن وجود القصة الأولى هو المبرر الرئيس لوجود القصة الثانية : قصة البحار وقصة السياسي. وبما أن هذا المسار عنصر طارئ ولاحق للحظة التحفيز الأولى، فإن احتمال إرسائه كإمكان سردي متفتح على آفاق جديدة يستدعي ظهور محفل جديد يقوم بعملية الإيعاز والتحفيز من خلال إيجاد حدث ما يتأرجح بين المسار الأول والمسار الثاني. فما يحمله المسار الثاني في أحشائه ليس معطى بطريقة مباشرة من خلال الكون الثقافي الذي يتحرك داخله الطروسي ( لو لم تغرق المنصورة، ولو لم يستقر الطروسي على البر فهل كانت مسألة السياسة ستثار ؟ ).

هل يمكن تحديد حدث بعينه وطرحه كلحظة إمكان داخل المسار السردي الثاني ؟ إن السارد في عملية تمثيله للأحداث يمزج بين أحداث تمت في الماضي وأخرى تتم في الحاضر. وداخل هذه الأحداث ليس هناك انسجام وخطية زمنية واضحة يربطان مجموع الأحداث. فالحديث عن الخمرة والبحر والمرأة يختلط بالحديث عن المواقف والسلوك والأخلاق. ولتجاوز هذا التنافر، يمكن رصد مجموعة من العناصر المنتمية إلى أحداث مختلفة وطرحها كعنصر تمييزي يؤهل الطروسي للسير في اتجاه تحقيق المسار الثاني. فبالإضافة إلى ما قلناه سابقا عن غيرة الطروسي على العروبة وحب الوطن وتهريب الزعماء وهي عناصر ترصد البعد السياسي في حياته هناك أيضا :

- علاقته بالبحارة وعمال الميناء. إن هذه العلاقة وحدها كافية لأن تجلب له المتاعب.

- دفاعه عن بعض البحارة ومساعدة البعض الآخر.

- معركته ضد صالح بن برو، و ابن برو هو رجل أبي رشيد ويده الطولى.

إن هذه العناصر الثلاثة التي تشير إلى اللقاء الأول مع عالم غير عالمه، هي ما يجعله ذاتا ممكنة على مستوى تحقيق برنامج سردي يتمحور حول الفعل السياسي. في ضوء هذه العناصر أيضا يمكن تفسير دخول الاستاذ كامل إلى مسرح الأحداث ونشوء علاقة حميمية بينه وبين الطروسي رغم الانتماء المختلف لكل منهما ( بحار - مثقف ).

فإذا كان هذا اللقاء يعلن - على المستوى التشخيصي - عن ميلاد صداقة بين الرجلين، فإنه، على المستوى التركيبي يشير إلى علاقة من نوع آخر. فبدءا من هذه اللحظة سيتحول الأستاذ كامل إلى مرسل محفز يقوم بإلقاء موضوع للتداول. وعناصر هذا الموضوع معطاة بشكل حدسي، على شكل قيم متناثرة هنا وهناك. إن دخول الأستاذ كامل كعنصر جديد، هو تنشيط لذاكرة الطروسي، وتنشيط لذاكرة النص. فما هو أساسي - في هذه اللحظة السردية - ليس لحظة الإنجاز في ذاتها، ولكن الأساس هو العناصر المؤدية إلى ظهورها.

وإذا كنا قد ذكرنا سابقا أن المسار الأول، بمختلف مراحله، هو إعادة إنتاج لمسار حياتي يتشكل من عناصر منتمية إلى الماضي، أي إسقاط الحاضر على المستقبل من أجل استعادة الماضي، فإن المسار الثاني هو أيضا استعادة لهذه العناصر ( أو لجزء منها )، وذلك بهدف تكييفها مع عناصر ثقافية جديدة : أي إسقاط الماضي على الحاضر من أجل استشراف المستقبل. فالعناصر الحياتية التي أنتجت ضمن سنن ثقافي معين ( في النص : الفردية وحب الذات ) يتم إدماجها داخل إطار ثقافي جديد. وبطبيعة الحال، فإن طبيعة هذا الإطار الثقافي تختلف عن طبيعة الإطار الثقافي الأول. ذلك أن الأول كائن موجود على شكل قيم وممارسات وقاعدة اقتصادية واجتماعية معروفة، في حين يتحدد الثاني من خلال الإمكان : إنه إيديولوجية راسمة لملامح مجتمع جديد لا يبنى إلا على أنقاض المجتمع القديم.

إن المسار السردي الثاني من خلال الوجود الاحتمالي ( الارهاصات الأولى للعمل السياسي ) ثم الوجود المحين ( الاجتماعات ومساندة العمال والوقوف في وجه أبي رشيد ) ثم الوجود المحقق في شكل فعل ملموس يجسد ويزكي الانتماء السياسي ( نقل السلاح )، سيقود إلى استشراف آفاق مسارآخر لا يتحقق داخل النص بل خارجه. فالتحقق على مستوى المسار الأول سيتحول، عندما تتم مجموع التحولات التي كانت الرواية مسرحا لها، إلى نقطة إمكان جديدة داخل سيرورة جديدة هي سيرورة الفعل الاجتماعي والثقافي : ضرورة الوعي. فما يجب تحقيقه على مستوى النص هو الإقناع بإمكان خلق مجتمع جديد.

وبناء عليه، فإن التداخل بين المسارين هو تداخل بين إطارين ثقافيين مختلفين من حيث الوجود ومن حيث نمط الاشتغال. الأول كائن والثاني ممكن، والانتقال من الأول إلى الثاني هو انتقال من الكائن إلى الممكن. والتداخل بين المسارين يمكن استشفافه من العنوان نفسه. فالعنوان كما هو شائع يختزل ويكثف الأحداث الآتية ( قد يحصل في بعض الحالات أن يتحول العنوان إلى عنصر تضليلي ). إن هذا العنوان مركب من كلمتين مع أداة عطف : "الشراع والعاصفة". فعلى المستوى التركيبي هناك معطوف ومعطوف عليه، وواو العطف تحديد دلالي لتبعية المعطوف للمعطوف عليه. فالمعطوف عليه ثابت داخل حقل دلالي يمكن استحضار بعض عناصره على شكل مسار سيميمي( سلسلة من الآثار المعنوية) متأصل داخل مقولة معنمية ثابتة بمعنميها المتقابلين:

بحر (م) بر

وهكذا يمكن، بالنسبة للطرف الأول، استحضار مجموعة من الوحدات الإيحائية المرتبطة به : موج + استحمام + صيد + عاصفة + سفر ... و بهذا المعنى، فإن كل الإمكانات الدلالية التي يحبل بها اللكسيم " شراع " تحيل على فضاء واحد هو فضاء تحققها. وربط هذا الفضاء باسم العلم الذي يرافقه، سيؤدي بنا بالضرورة إلى استحضار حياة بكاملها يعد البحر هو بؤرة تحققها الأمثل.

وعلى عكس " الشراع " الذي لا يتحقق بكامل دلالته إلا من خلال تحيين المعنم " بحر"، فإن اللكسيم " عاصفة " غير خاضع لفضاء بعينه، وهو بهذا غني بدلالاته الايحائية، وإمكانات تحققه موزعة على طرفي المقولة المعنمية : الأرض. فالعاصفة في علاقتها المباشرة بالشراع ( أي من خلال الرابط التركيبي الذي يشتغل كمحدد أول لدلالة العاصفة ) لا يتحقق داخلها سوى المعنم " طبيعي ". فالعاصفة هنا ظاهرة طبيعية تعود إلى البحر بكل جبروته : " العاصفة البحرية"، "الأنواء"، "خطر العواصف"، "الغرق" ( غرق المنصورة وبعدها الشختورة ). إلا أن العاصفة تملك، خارج إطار الشراع وفي انفصال عنه، دلالات أخرى، كما تشير إلى فضاءات أخرى. فالخروج من العنوان بصفته جملة معزولة، والدخول إلى النص، هو استحضار لذاكرة النص الثقافية. وفي هذا الإطار فإن فضاء تحققها هو البر. فهي تشير إلى الحرب بويلاتها (الحرب عاصفة مدمرة أيضا )، وقد تشير إلى القلاقل الاجتماعية، كما تشير إلى القلاقل السياسية : وثبة الشعب السوري لانتزاع استقلاله وحريته، كما قد تشير إلى تحول مفاجئ في حياة شخص ما.

في ضوء هذه المعطيات، سيظهر العنوان كعنصر نصي يشتمل على المسارين معا. فإذا كان اللكسيم " الشراع " يحيلنا على المسار الأول بكل عناصره المكونة وكذا فضاء تحققه : غرق المنصورة، الحلم بالعودة إلى البحر، إنقاذ الشختورة، الصيد، إنقاذ جميل سعود ...، فإن اللكسيم "عاصفة " هو ما يشكل تفتح العنوان وتفتح المسار الذي يدل عليه. إنه يتجاوز النواة الدائمة ( طبيعي ) ليشمل العنصر الإنساني ( السياق الجديد ) الثقافي. والانتقال من المسار الأول إلى المسار الثاني سيؤدي إلى تراجع رحلة البحث الأولى بطابعها الفردي الانعزالي، وتقدم رحلة البحث السياسي. إنه انتقال موازي للانتقال من بنية تعاقدية (تعاقد ضمني ) إلى بنية سجالية تطرح على المستوى التركيبي مجموعة من العوامل وظيفتها هي ملء الخانات الفارغة التي ميزت المسار الأول.

5 - المسار السردي الثاني و البنية السجالية

إذا كنا تحدثنا في مرحلة سابقة عن وجود مسار سردي ثان يعود إلى ذات بعينها ( الطروسي )، فبإمكاننا الآن أن نحدد طبيعة ونمط اشتغال هذا المسار، وذلك من خلال دمجه داخل مجموع المسارات الموجودة في النص. فوجود هذا المسار لا يتحدد ولا يكتسب قيمته السردية إلا من خلال وجود مسارين سرديين آخرين؛ مسار الأستاذ كامل، ومسار نديم مظهر وأبو رشيد. فعلى عكس المسار الأول المتميز بفراغ المحيط الذي يتحرك داخله، يملك المسار الثاني قنوات متعددة تجعل منه إطارا متفتحا على ذوات متعددة، لكل ذات برنامجها الخاص المعطى بطريقة مباشرة أو المفترض من خلال الموقع الاجتماعي أو الفكري ( الإيديولوجي ) لهذه الذات أو تلك.

فليس غريبا أن يترافق الانتقال من المسار الأول إلى المسار الثاني مع ظهور مجموعة من الشخصيات المميزة برحلتها الخاصة. وسنتناول العلاقة الرابطة بين المسارين من موقعين مختلفين : موقع الأستاذ كامل من المسار الثاني وموقع نديم مظهر وأبي رشيد من نفس المسار:

أ - لقد سبق أن أشرنا إلى أن الأستاذ كامل يتحرك داخل النص الروائي كصورة مثلى لنسق إيديولوجي ثابت في الذاكرة، وأن له موقعا داخل النص الثقافي العام. فكل محاولة لفك التسنين الخاص بهذه الشخصية، لابد وأن تأخذ في الحسبان وجود هذا التسنين درءا لأي تفسير خاطئ. وعلى هذا الأساس، فإن علاقة الأستاذ كامل بالطروسي ليست علاقة بسيطة من النوع الذي يربط أي شخصية بشخصية أخرى. إنها على العكس من ذلك، علاقة بالغة التعقيد والتشابك. فالأستاذ كامل يشتغل من جهة كذات داخل مسار خاص. وهذا المسار يظهر أحيانا على شكل أفعال مجسدة في عقد الاجتماعات ومحاولة خلق نقابة عمالية. وقد يكون فقط مفترضا من خلال موقعه الإيديولوجي ( موقع لا يعمل النص على إخفائه ). ويشتغل الأستاذ كامل من جهة ثانية كمرسل محفز داخل برنامج آخر هو البرنامج المؤطر للمسار الثاني، كما يشتغل من جهة ثالثة كذات مضادة لمسار آخرهو مسار أبي رشيد ونديم مظهر. إنها ثلاثة مواقع تركيبية محددة لثلاثة أدوار عاملية تعود إلى ذات واحدة.

ب - إن الحديث عن مسارسردي خاص بالأستاذ كامل هوالحديث عن التسنين المواصفاتي والوظيفي لهذه الشخصية. وفي هذا المجال سبق أن أشرنا إلى الحضور المكثف لسنن فرعي داخل النص الروائي مجسدا في وجود شخصية تتحرك خارج إطار أي تصنيف مواصفاتي أو وظيفي. فالنص لا يذكر لنا أي شيء عن الأستاذ كامل، ولكنه يشير فقط إلى أساس التحفيز عنده ( ص 145)، أي مبرر الانتماء والحركة والفعل : إنه الإحساس بالظلم الاجتماعي والقهر السياسي بدءا من العائلة والحارة، وانتهاء بالوطن والمعمورة باكملها.

فهذا الإحساس هو الذي دفعه إلى تبني إيديولوجيا ثورية قد تقود المجتمع إلى الخلاص من كل أشكال الظلم. وإذا كانت ندرة المعلومات، تشكل عائقا أمام نموه السردي ( للأستاذ كامل صورة واحدة على مدى المقاطع الثلاثة للرواية )، فإنها بالمقابل تعمل على إغناء هذه الشخصية، إذ بقدر ما تقل المعلومات، بقدر ما يكون أمام فعل القراءة فرصة كبرى للتأويل.

وهكذا وعوض البحث عن برنامج سردي خاص بالأستاذ كامل، يجب البحث عن الوجه الإيديولوجي لهذا البرنامج. فإذا كان الإحساس بالظلم ( أو الوعي التاريخي، الوعي الطبقي ) هو المحفز للأستاذ كامل لكي يخوض معركة السياسة، فإن هذا البرنامج لا يظهر إلا من خلال برنامج استعمالي ضمن علاقة احتوائية ( تحقيق هذا البرنامج يقود إلى تحقيق برنامج آخر). وهذا البرنامج الاستعمالي معطى في النص على شكل محاولات استقطابية لبعض العناصر المتنورة من رواد المقهى ( الطروسي )، وكمحاربة للإيديولوجيا الفاشية ( أبو حميد )، وكمواجهة، وإن بواسطة محفل آخر، لمخططات شخصيات أخرى.

إن البرنامج الأصل إذن، برنامج التاريخ وحركيته، غائب كوقائع نصية، لكنه حاضر كإشارات خطابية تشير إلى الأستاذ كامل كذات تنوب داخل النص الروائي عن نص آخر( الحياة الحزبية الداخلية ). فالحركة السردية تفترض هذه الحياة السرية، وتضع الأستاذ كامل كناطق باسمها. وعلى أساس وجود هذا النسق الفرعي يجب فهم غياب المراحل الثلاثة ( الإمكان والتحيين والتحقق ) المشكلة لكل مسار سردي.

وإذا كان الأستاذ كامل محددا بشكل مسبق من خلال نسق إيديولوجي سابق عن وجود النص كتحقق لهذه الإيديولوجيا، فإن هذا معناه أن مسار هذه الذات يتحدد من خلال الانتماء الحزبي ( لكي يعرف الطروسي تحولا، عليه أن يصل إلى مرحلة الانتماء، وسيكون مسار الأستاذ كامل مفترضا من خلال هذا الشرط ). فما يقوم به الأستاذ كامل داخل النص هو جزء من فعل أعم وأشمل ولا يدرك إلا بضبط عناصر النص الغائب. فهو داخل النص ليس محط اختبار أو تجربة، وليس ذاتا مهمتها هي اكتساب أدوات تؤهلها لاستقطاب هذه الشخصية أو تلك. إنه هنا بشكل كلي، كوجه لقوة تواجه قوة أخرى.

ج - إن الغياب السردي لمسار سردي ثابت يتحدد داخله الأستاذ كامل هو ما يمنحه هذه الحرية في التنقل من موقع إلى آخر. فهو، كما لاحظنا من قبل، ذات تتحدد من خلال علاقتها بمرسل متعال هو التاريخ أو الوعي التاريخي، لكنه في نفس الوقت - وكنتيجة للموقع السابق - يتحول إلى مرسل محفز لذات أخرى ( الطروسي ). فهو صاحب الإيعاز الأول، المالك للمعرفة، وهو المسؤول عن تحول الحركة السردية من نقطتها الأولى إلى نقطتها الثانية. وعبر هذا الموقع أيضا تتحول معطيات الماضي إلى نقطة بدئية داخل معطيات الحاضر. فإنطلاقا من وجود الأستاذ كامل، كمحفل سردي يتم عبره تبئير الشخصيات الأخرى، يعمد السارد إلى تفسير الماضي في ضوء الحاضر في أفق تشكيل المستقبل. وعلى عكس الإيعاز الأول ( الخاص بالطروسي )، حيث إن المرسل ليس شخصا آخر سوى الذات نفسها، فإن الإيعاز الثاني يصدر عن ذات أخرى تتحرك داخل النص وفق نمط وجودي خاص.

وإذا نظرنا إلى المسألة من زاوية أخرى، فإن المسار السردي للمرسل ( الأستاذ كامل ) سيظهر ليس بصفته ممارسة لقوة قائمة فقط، ولكن أيضا كقوة بدئية لمشاريع التحريك، وكبؤرة لبلورة البرامج السردية الهادفة إلى دفع الذوات - الحليفة أو المعادية -إلى ممارسة الفعل المنشود(9). فالأستاذ كامل، بصفته مرسلا مشخصا داخل النص الروائي، يشتغل من جهة كمالك للمعرفة، وهذه الخاصية تجعل منه عنصرا داخل بنية إبلاغ تشاركي ( منح المعرفة دون فقدانها )، ومن جهة ثانية يشتغل كمحفل راسم لحدود البرنامج المزمع تنفيذه من طرف ذات أخرى. إن هذه القضية تتضح أكثر من خلال عقد مقارنة بين المسار الأول والمسار الثاني وموقع عملية الارسال داخلهما.

فإذا كان الطروسي محددا داخل المسار الأول كذات ومرسل ومرسل إليه في نفس الوقت، فإنه داخل المسار الثاني محدد كذات داخل علاقة إبلاغية رابطة بين مرسل ومرسل إليه يقعان خارجها. فما يبدو كإرسال فردي يتحول، من خلال وجود السنن الفرعي، إلى إرسال اجتماعي إيديولوجي تلعب فيه حركة التاريخ ( منظورا إليها من زاوية معينة ) دورا هاما. وبناء عليه، فإن الأستاذ كامل هو أداة التوسط بين الإرسال الأول ( الوعي التاريخي ) والإرسال الثاني ( الأستاذ كامل نفسه ). والطروسي من خلال هذه التحديدات لا يوجد في علاقة مباشرة مع الوعي التاريخي، فهو لن يصل إلى هذا الموقع إلا بتحقق المسار الثاني الذي سينقله من موقع " جهل النفس " إلى موقع " معرفة النفس "، أي عندما يتم إلغاء الجانب الفردي للمسار الأول.

إن الموقع الثالث يعد أكثر وضوحا من الموقعين السابقين. فالعلاقات داخل هذا الموقع معطاة بشكل مباشر منذ الفصول الأولى للنص الروائي. ويتعلق الأمر هنا بتصادم بنيتين فرعيتين مختلفتين تماما، ونقطة الوصل بينهما هي المسار السردي الثاني. ولقد ذكرنا منذ البداية أن الحلقة المركزية داخل استراتيجية الفعل السردي هي نقطة الوصل هاته الرابطة بين برنامج سردي وبرنامج سردي مضاد ( مشاريع الأستاذ كامل، والهواجس التآمرية عند أبي رشيد ). وكما سبق أن ذكرنا فإن أول نقلة سردية قادتنا من رحلة البحث الأولى إلى رحلة البحث الثانية تمثلت فى تحويل أو محاولة تحويل الطروسي إلى موقع موضوع مرغوب فيه مع اختلاف في الغاية من امتلاك هذا الموضوع. ولقد شكلت معركته ضد صالح بن برو نقطة البداية لهذا التحول. وسرعان ما سيظهر الأستاذ كامل كقوة ستعمل على تشذيب قدرة الفعل عند الطروسي وتحويلها إلى عمل جماعي منظم ( نقل السلاح ). وبالمقابل سيظهر أبو رشيد ونديم مظهر كقوة تعمل على توظيف قدرة الفعل عند الطروسي لتكريس الوضع القائم.

إن هذا الموقع العاملي هو نقطة التصادم الأولى داخل النص الروائي بين قوتين متضادتين. لكن نقطة التصادم هاته لا تشكل سوى مرحلة أو شكل من أشكال الصراع بين القوتين. إنها لم تعمل إلا على إبراز نقطة بدئية- ضمن نقط أخرى ممكنة - لصراع لا تستطيع الرواية استنفاده ولا تستطيع استيعاب جميع تناقضاته.

فإذا كنا قد أشرنا فيما سبق إلى أن برنامج الأستاذ كامل هو جزء من سنن ثقافي / إيديولوجي قيد التكوين، فإن هذه الإشارة تصدق على برنامج أبي رشيد ونديم مظهر على حد سواء. إنه تسنين فني لموقع إيديولوجي. وكل سنن من هذين السننين محدد داخل إطار ثقافي يعرف عنه القارئ الشيء الكثير: ( صراع الفكر الرأسمالي مع الفكر الاشتراكي ). فالتصادم المشار إليه سابقا ليس عملا أو وقائع أو أحداثا يقوم النص ببنائها، ودمجها داخل منظومة النص كإحدى الركائز التي تتمحور حولها البرامج والمسارات. إنه على العكس من ذلك معطى من خلال صوت السارد، وبنية النص ككل، على شكل قيم عادية وطبيعية، إنها الحتمية التاريخية. ولعل هذا ما يفسر" أن القيم التي يناضل البطل من أجلها ليست موضع تشكيك، كما لا تكتشف من خلال وقائع القصة. إذ أن القصة تشتغل تفسيرا لحقائق مقبولة سلفا وليست إثباتا لهذه الحقائق" (10).

وما يقال عن القيم المثمنة يصدق على القيم المرذولة ( المضادة ). فإذا كان كل برنامج يستدعي برنامجا مضادا، فإن كل قيمة تستدعي قيمة مضادة؛ ذلك أن ظهور الأستاذ كامل ببرنامجه السردي وبمساره هو مناسبة لإقحام الخطاب السياسي، على شكل تنويعات داخل الترسيمة العاملية برمتها.

وهكذا فإن الهوس الواقعي يصل إلى حد إقامة تمييز داخل الخانة العاملية الواحدة. فمن خلال بعض الوقائع النصية ( الاجتماعات السياسية التي تلت الحرب العالمية ) يلاحظ القارئ عودة نديم مظهر من جديد كأحد رموز مقاومة المستعمر، في حين يستثنى أبو رشيد من هذا الاجتماع.

إذا كان البرنامج السردي المحدد لوجود أبي رشيد ونديم مظهر، برنامجا مفترضا ولا تظهر منه إلا بعض الوجوه، وهي وجوه استعمالية، فإن الحديث عن مسار سردي خاص بهذين المحفلين، حديث لا طائل من ورائه، كما أن الرواية لا تطرحهما كمحفلين قابلين للتطور والتغير. إنهما هنا من أجل قياس درجة التطورات المسجلة في المعسكر المقابل. وبعبارة أخرى، فإن وجودهما هو ما يبرر وجود المعسكر المقابل.

وبناء عليه، فإن حركية المسار الثاني وتطوره نحو آفاق التحقق الأمثل، يتمان من خلال موقع هذين المحفلين منه. إلا أن الانتقال من المسار الأول ( البحث عن المال والعودة إلى البحر ) إلى المسار الثاني ( التحول السياسي )، يحدث في هذا المعسكر انشطارا يؤدي إلى تفجير التماسك الذي يحكم هذا الموقع ويولد برنامجين سرديين مرتبطين بالمسار الثاني. فأبو رشيد يتحرك في اتجاه تحقيق المسار الأول ( عودة الطروسي إلى البحر). فتحقق هذا المسار هو في الوقت نفسه تحقق لبرنامجه الأصلي ( أو لنقل استمرارية هذا البرنامج في الاشتغال). أما فشله فسيعرض هذا الاشتغال للخطر ( تهديد نفوذه الاقتصادي في الميناء ).

وفي المقابل فإن نديم مظهر يتحرك في الاتجاه المعاكس (يرغب في بقاء الطروسي على البر للضغط على أبي رشيد ). وإذا كنا في مرحلة سابقة قد أشرنا إلى أن العلاقة الإنسانية التي تربط الطروسي بنديم مظهر، هي ما يسمح للحركة السردية بتحويل هذا الأخير إلى الصف الوطني، فإن آثار هذا التحول بادية على مستوى البنية العاملية. فموقفه من المسار الثاني، هو ما سيقفز به من موقع المحفل المضاد إلى محفل مقبول داخل بنية التحول الكبرى ويجعل منه جزءا من حركة الفعل المندرج ضمن هذه البنية. وبناء عليه، فإن تحقق المسار الثاني لا يتم على حساب مسار آخر، لأن هذا المسار لا وجود له. إنه يقوم بإلغاء الأساس الإيديولوجي الذي ولد المسار الثاني نفسه ( لولا وجود هذين المحفلين لما كانت هناك حاجة إلى هذه الحركة ).

6 - المواصفات والوظائف والأدوار الثيمية

إذا كان بإمكاننا تحديد أي برنامج سردي بأنه انتقال من حالة بدئية إلى حالة نهائية، فإن أي فعل يقوم بتجسيد هذا التحول يجب أن يبنى على حالة سكونية تبرره وتمنحه عمقه ومقروئيته ومقبوليته. فالمواصفات المسندة إلى شخصية ما تقوم، في إحالتها على حالة معينة، في الوقت نفسه، بتحديد مسبق لمجموعة من الإمكانات الخاصة بالفعل. من هنا يمكن القول بأن أية مواصفة، بحكم نمط تشكلها، قابلة لأن تتحول إلى وظيفة بمجرد طرحها كعنصر محدد لكينونة شخصية ما. إلا أن المواصفات التي تعد تسنينا سلوكيا سابقا في الوجود على عملية إسنادها إلى شخصية ما، تتراوح بين القولبة المطلقة حيث يستطيع القارئ بسهولة استنساخ ما يمكن أن يصدر عن حاملها ( التوقعية الكبيرة ) وإما بين القولبة النسبية حيث تتشكل المواصفات أحيانا كعناصر تضليلية لا يستطيع معها القارئ تحديد آفاق مستقبل الفعل. وتبقى استراتيجية الفعل السردي ( خطاب السارد بالتحديد ) هي المحدد أولا وأخيرا لدرجة هذه التوقعية.

فإذا أخذنا الدور الثيمي باعتباره النقطة النهائية داخل السيرورة المواصفاتية، لاحظنا أن ما يظهر، على مستوى الخطاب، كمواصفة أو صفة مسندة إلى ممثل ما، يظهر، على المستوى الدلالي كتسمية تحتوي في داخلها على حقل من الوظائف ( أي مجموعة من السلوكات الموصوفة في الحكاية أو فقط مفترضة ) .(11 )

وهكذا فإن اللعبة السردية، كما يلاحظ ذلك گريماص في تحليله لحكاية(12) "البحث عن الخوف" ( تتحدد من خلال ثلاثة مستويات:

*- الأدوار الثيمية

*- الممثلون

*-العوامل

فإذا تركنا العنصرين الثاني والثالث جانبا ( لقد تحدثنا في الفقرات السابقة عنهما )، وأخذنا الأدوار الثيمية في الاعتبار، لاحظنا أن المواصفة، باعتبارها أحد العناصر المسهمة في عملية تشكل الدور الثيمي، ليست سوى وجه متحقق داخل هذا الدور أو ذاك. و بناء عليه، فإن الدور الثيمي هو الآخر قابل للتجزيء والإعلان عن ميلاد مجموعة من الأدوار يمكن تكثيفها في شكل تام ونهائي يدل ويحيل على مهنة أو هواية أو نشاط إنساني ما ( العامل : العامل الزراعي، العامل الصناعي، الحداد، الميكانيكي ).

إن هذا القفز من التحديد الثيمي المطلق إلى التحديد الثيمي النسبي، أو العكس، الانتقال من التحديد الثيمي النسبي إلى التحديد الثيمي المطلق هو ما يميز هذا الكاتب عن ذاك في معالجة ثيمة من الثيمات. وهذا الانتقال من هذا المستوى إلى ذاك هو عملية محكومة بالمرجعية المزدوجة التي يعد النص أحد تحققاتها : المرجعية الجمالية النوعية والمرجعية الثقافية الخاصة بالمبدع " فنسق الوحدات الدلالية يعبر عن الطريقة التي تقوم بواسطتها ثقافة ما، بتقطيع الكون المدرك وبلورة شكل مضموني محدد .( 13 ) وداخل هذا التقطيع العام نصادف تقطيعات صغرى تعود إلى الذات، وتعبر عن الرؤية الخاصة التي يتميز بها هذا الكاتب عن ذاك. فالمواصفات والعوامل والأدوار الثيمية هي معطيات ثقافية في المقام الأول، وتحققها في النص هو ما يمنح هذا النص نكهته الخاصة.

وسنتناول فيما يلي، كمحاولة تركيبية لما سبق، تداخل هذه المستويات الثلاثة، وتحديد النتائج المترتبة عن هذا التداخل. إن الرواية تضع بين أيدينا، كتحقق سردي ثابت، مجموعة من العناصر الدلالية المتقابلة، ويحكم هذه العناصر فضاء خاص يتمفصل في حيزين مكانيين متقابلين:

بحر ( م) بر

حرية فردية ( م ) حرية جماعية

العمل الفردي ( م ) العمل الجماعي

الحركة ( م ) الثبات

الحب الحر ( م ) الزواج

وإذا كان بإمكاننا تكثيف المجموعة الأولى من القيم في الدور الثيمي الذي يجسدها كصورة مثلى : بحار، فإن المجموعة الثانية تفلت من أي تصنيف ولا يمكن ردها إلى دور ثيمي واحد. فلا وجود لعلاقة طبيعية بين هذه القيم وبين الدور الثيمي " قهوجي ". فموقع هذا الدور داخل الفعل الإنساني في النص الروائي موقع مؤقت ومرفوض. وبناء عليه، فإن الانتقال من القيم

الأولى إلى القيم الثانية، يجب أن يرافقه انتقال من الدور الثيمي "بحار" إلى دور ثيمي جديد قادر على استيعاب مجموع هذه القيم. وهذا الانتقال يتم إما من خلال تسمية جديدة تحيل على دور ثيمي واضح، وإما من خلال عملية وصفية تقوم برصد مجموعة من السلوكات التي ستكثف فيما بعد في دور ثيمي. " فإذا كان الدور الثيمي يتحدد من خلال تقليص مزدوج : تقليص التشكل الخطابي في مسار تصويري واحد متحقق أو قابل للتحقق في الخطاب، ورد هذا المسار إلى محفل مؤهل واحد"(14)، فإنه يتحدد أيضا، باعتباره وحدة ثقافية تعيش في الذاكرة الجماعية، من خلال مجموعة من المسارات التصويرية ذات الطبيعة الايحائية.

وهكذا يمكن أن نرد الدور الثيمي "بحار" إلى المسارات التالية :

- المسار التصويري الأول : ريس، صاحب مركب، يتجول في البحار

- المسار التصويري الثاني : عاشق، فحل، كثير المغامرات مع النساء

- المسار التصويري الثالث : شجاع، مقدام جريء

- المسار التصويري الرابع : طيب، حسن المعشر ، .....

فهذا السنن الوصفي يخضع، باعتباره جزءا من ثقافة، لمقتضيات التقطيع الثقافي للكون السلوكي المدرك كأفعال. فلا يمكن أن يكون الطروسي شجاعا وعاجزا جنسيا في الوقت نفسه، كما لا يمكن أن يكون شهما وجبانا في الوقت نفسه.

من هنا فإن أي انتقال من موقع إلى موقع، أو من دور إلى دور لابد وأن يأخذ في الحسبان ذاكرة الخطاب كعنصر ضاغط يحدد آفاق ما سيأتي : فلا يمكن للطروسي، مثلا، أن يغير من دوره الثيمي مع الاستمرار في نفس السلوك. فعملية القلب الأولى الخاصة بالأدوار الثيمية ( من بحار إلى قهوجي)، ترافقها عملية قلب على مستوى البنية العاملية ( من ذات إلى موضوع ) كتأكيد على وجود نوع من الانحطاط في وضعية الطروسي الاجتماعية. فإذا علمنا أن الدور الثيمي " قهوجي " والدور العاملي " موضوع " لا يشكلان داخل النص الروائي سوى لحظة سردية عابرة، كان بإمكاننا اعتبار هذه اللحظة السردية النواة الرئيسة لكل التحولات اللاحقة. وهو ما سيقفز بنا من حالة بدئىة إلى حالة نهائية. فرفض الطروسي لمهنة القهوجي هي مايدفعه إلى التمسك بمهنة البحار من خلال استمرارية السلوك السابق، ورفضه لأن يخضع لسلطة أبي رشيد هـو ما يدفعه - بشكل واع أو لاواع - إلى الالتحاق بالصف المناضل.

فالملاحظ أن الفعل السردي يقوم، في كل لحظة، بإبراز هذا الجانب أو ذاك : السلوك الفردي النقي، والإحساس الوطني والقومي. فمع الاحتفاظ بالدور الثيمي " بحار " كقطب ثيمي رئيس تتجه الحركة السردية إلى انتقاء بعض الجوانب الحياتية عند الطروسي وتطويرها بما يتناسب والدور العاملي الجديد الذي أسند إليه ( المسار السردي الثاني وكل التحولات المسجلة داخله ). فعملية القلب إذن تتم على مستويين : المستوى الاجتماعي والمستوى السياسي، فأي تغيير على المستوى السياسي ينتج عنه تغيير على المستوى الاجتماعي :

-المستوى السياسي :

عامل ( م ) برجوازي

واع (م) لاواع وطني (م) لاوطني

فاعل (م) لافاعل

برجوازي صغير (م) ..............

ثوري (م) لاثوري ( 15 )

فمن خلال هذه الترسيمة نكون أمام تحديدين : فالشق الأول ( العامل ) معطى كسيرورة تتغير داخلها الأدوار الثيمية والسلوكات والمواقع التركيبية، أما الشق الثاني فمعطى بشكل نهائي منذ البدايات الأولى للرواية. فهذه السيرورة، المتجلية في التحديدات الفرعية هو ما يسمح بإضفاء طابع الحركية على البنية العاملية والأدوار الثيمية المرتبطة بها.

- مستوى القيم الاجتماعية:

وفي هذا المستوى سنستعيد كل القيم السابقة وطرحها على شكل ثنائيات :

شجاع الجنس الفعل

حذر (م) متهور الحرية (م) الزواج فردي ( م ) جماعي

ويمكن تكثيف هذه الثنائيات مجتمعة في ثنائية واحدة :

غير منضبط ( م) منضبط

فإذا كانت سيرورة التحول السياسي تقفز بنا من ثنائية:

جهل النفس ( م ) معرفة النفس

إلى ثنائية :

لا سياسي ( م) سياسي

كحالتين متقابلتين، فإن سيرورة التحول على مستوى القيم الاجتماعية تستند إلى تطوير هذه القيم من داخلها. وبعبارة دقيقة، تقوم بانتقاء أحد طرفي القيمة وتثمينه وإلغاء الطرف الثاني، أي استبعاد العناصر التي لا تستقيم داخل الكون القيمي الجديد. إنها محاولة للحفاظ على الدور الثيمي " بحار" كضمانة على استمرارية البنية التركيبية الأولى، ثم دمجه داخل البنية الثانية لخلق نوع من التقاطع بين البنيتين. فإذا كان تحقق البنية الأولى يؤدي إلى عقد مصالحة بين البحر والبر، فإن تحقق البنية الثانية يؤدي إلى إلغاء المصالحة بين الذات والواقع.

الهوامش

1) Miclau , Paul : Le signe linguistique, p. 89

2 )Greimas : Sémantique structurale, p. 185- 186

3 ) Greimas : Les acquis et les projets in Courtès : Introduction à la sémiotique narrative, p. 19

4 ) Eco , Umberto : Lector in fabula, p. 234

5 ) ترى آن أوبرسفيلد، في معرض حديثها عن النموذج العاملي وعن العلاقات التي تحكم أقطابه، وكذا الخانات المكونة له، أن وجود خانة فارغة مسألة ممكنة. فهذا الفراغ يشكل إمكانا سرديا حقيقيا، وغياب مساعد ومعيق يرافقان الذات في رحلتها يمكن تفسيره بوجود فراغ إيديولوجي عند الذات ( عزلة الفرد وابتعاده عن محيطه ) انظر Ubersfeild : Lire le theâtre p p 61 - 95

6 ) Eco op cit, p. 234

7 ) Ubersfeild, op. cit p 61

8 ) Courtès , Joseph : Introduction à la sémiotique narrative, p. 80

9 ) Greimas : Les acquis et les projets, p. 24

10) Suleiman : Le roman à thèse, p. 178

11 ) Greimas : Du sens, p. 256

12 ) نفسه ص 249 إلى 270

13 ) Eco : Le signe, p. 126 انظر ايضا كتابه La structure absente, p 80 - 83

14 ) Greimas : Du sens II, p. 64

15 ) في رواية " الثلج يأتي من النافذة " يعمد السارد إلى خلق تمييز دقيق بين فياض وجوزيف. فكلاهما ينتمي إلى البرجوازية الصغيرة وكلاهما متعاطف مع الحركة العمالية، إلا أن فياض يعمل جاهدا لكي يصبح مثقفا عضويا من خلال اكتساب تجربة العمل اليدوي، في حين لا يتجاوز جوزيف حدود توزيع المنشورات والدعاية الفكرية لقضية العمال. والملاحظ أن هذه الرواية تتخذ مسارا معاكسا لرواية " الشراع و العاصفة " فالحركة تسير من العامل إلى المثقف وليس العكس كما هو الشأن مع الرواية التي نحاول دراستها.

 

 

 
 
 
معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

مؤلفــات بطاقة تعــريف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال   مواقـــع  خزانات الموقـع صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

موقع سعيد بنگراد - تاريخ الإنشاء: نونبر 2003