معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

مؤلفــات بطاقة تعــريف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال   مواقـــع  خزانات الموقـع صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

سعيد بنگـراد

الباب الأول

الفصل الأول: الشخصية بين الأشكال الاصلية والأشكال المشتقة

 

لقد دعا بروب في الثلاثينات من القرن الماضي إلى نبذ المقاربات السردية التي تنطلق من الموضوعات والقيم باعتبارها العناصر الأساس في كل تحليل. فدراسة الحكاية العجيبة، في نظره (وربما كل الحكايات المشابهة)، عليها أن تركز على عناصر من صلب البناء الشكلي لهذه الحكايات لا على مضمونها أو على ما يوجد خارجها. فلا الموضوعات ولا القيم قادرة على أن تقود إلى خلق نموذج نظري يعد إجراء تجريديـا لوضعيات ملموسة.

ولقد شكل كتابه "مورفولوجيا الحكاية العجيبة"، (2) قطيعة مع تقليد نقدي ظل سائدا عشرات السنين، ليؤسس تصورا جديدا سيعرف ذروته في الستينات في فرنسا وأمريـكـا وبلدان أوربية أخرى.

لقد كان منطلق بروب هو تحديد العناصر المشتركة بين الحكايات، أي محاولة الوصول إلى اعتبار الحكايات تحققا متنوعـا لنموذج عـام وكوني. وكان ذلك يعني البحث عن العنصر الثابت في الحكاية وعزله عن العناصر المتحولـة بهدف خلق بنية عامة تتحقق في أشكال متعددة. فما يشكل الحكاية وما يحدد ماهيتها هي العناصـر الثابتة وليس غيرها. ونتيجة لذلك يجب النظر إلى مجموع هذه الحكايات ( أو الحكايات الروسية على الأقل ) باعتبارها بنية واحدة قابلة لتوليد أشكال متعددة من الحكايات.

وقد قاده هذا المبدأ إلى تحديد عنصرين أساسيين داخل الحكاية العجيبة :

- أولا الشخصية، باعتبارها السند المرئي لكل الأفعال المنجزة داخل الحكاية، وهي كيان يتميز بالتحول والعرضية.

- ثانيا الوظيفة باعتبارها ما يبرر وجود الشخصية، وهي لذلك عنصر ثابت ولا يمكن المساس به دون الإخلال بنظام الحكاية ككل.

استنادا إلى هذا التمييز، فإن الشخصية كيان متحول ولا يشكل سمة مميزة يمكن الاستناد إليها من أجل القيام بدراسة محايثة لنص الحكاية، فهي متغيرة من حيث الأسماء والهيئات وأشكال التجلي. فقد تكون الشخصية كائنا إنسانيا، كما قد تكون شجرة أو حيوانا أو جنـا، أو ما شئت من الموضوعات التي يوفرهـا العالم. أما الوظيفة فهي عنصر ثابت وقار، ويعد في التحليل المحايث عنصرا مميزا يمكن الاستناد إليه من أجل تقديم تحليل علمي دقيق يقود إلى تحديد ماهية الحكاية.

وعلى عكس العناصر الأخرى التي يمكن أن تشتمل عليها الحكاية العجيبة، فإن عنصري الشخصية والوظيفة مرتبطان ارتباطا وثيقا رغم تغير الأولى وثبات الثانية (سنرى لاحقا أن الفصل الذي يقيمه پروپ بين الشخصية والوظيفة فصل فيه كثير من التعسف).

وهكذا، إذا كانت الحكاية العجيبة تتحدد كتتابع لإحدى وثلاثين وظيفة، فإن هذه الوظائف قابلة للتجميع في دوائـر محدودة هي دوائر الفعل. وبعبارة أخرى يمكن البحث - داخل هذه الوظائف -عن محاور دلالية تنضوي تحتها الشخصيات، وكل شخصية موكول إليها القيام بفعل ( أو أكثر من فعل ) معين. وهذه الدوائر هي :

1 - دائرة الفعل المتعدي

2 - دائرة الفعل الواهب

3 - دائرة الفعل المساعد

4 - دائرة فعل الأميرة (أو الشخصية موضوع البحث)

5 - دائرة فعل الموكل

6 - دائرة فعل البطل

7 - دائرة فعل البطل المزيف (3)

إن هذا النموذج الخاص بالشخصيات يمكن التعامل معه باعتباره نسقا عاما، فقد تتغير أسماء الشخصيات، وقد تتغير أشكال الأفعال، لكن المضمون المحدد لكل دائرة فعل سيظل واحدا.

وما يمكن استنتاجه من التصور البروبي للبناء الحكائي يمكن تكثيفه في الخلاصات التالية :

1 - إن الوظيفة هي الخالقة للشخصية، وليس العكس كما يبدو من خلال القراءة الفوقية. فما يسميه بروب بدوائر الفعل يمكن النظر إليه كمحاور دلالية، أو قيم مضمونية سابقة على تجسد الشخصية في كائن أو شيء مـا. "فالاعتداء" (دائرة فعل المتعدي) المولد لفعل "اعتدى" يقع في أساس تشكل الفاعل "المعتدي". وبعبارة أخرى فإن الشخصية ليست سوى أداة تنفيذ لبرنامج الاعتداء في تمظهراته المتنوعة.

2 - الخلاصة الثانية يمكن تحديدهـا في الشكل الوجودي للشخصية. فالقيام بنمذجـة عامة للشخصيات الفاعلة داخل المتن الحكائي يجب أن تتم في مستوى تجريدي يتجاوز حدود ما هو مدرك من خلال التجلي اللغوي. فما دام بإمكاننا أن نقلص كل الحكايات ونختصرها في حكاية واحدة هي "الحكاية الأم" فسيكون بإمكاننا أيضا أن نختصر الشخصيات وتنوعها في عدد قليل يتناسب وعدد المحاور الدلالية المولدة للعالم المشخص.

3 - الخلاصة الثالثة تعود إلى القيم المضمونية التي تعد أساس وجود كل نص سردي تام (منجز). فالقول بوجود دوائـر للفعل معناه القول بأن هنـاك قيما مضمونية قارة مولدة لأفعال (وظائف) هي الأخرى قارة وثابتة. فمهما تنوعت الحكايات وتعددت، فإن "الاعتداء" سيظل قيمة ثابتة، كما ستظل الهبة والمساعدة والتوكيل وكل دوائر الفعل الأخرى ثابتة أيضا. ولن يهم بعد ذلك أن يكون المعتدي حيوانا أو جنـا أو نباتا أو إنسانا. كما لن تهم بعد ذلك طريقة الاعتداء مادامت السمة المميزة في البناء الحكائي هي فعل الاعتداء وليس تنوع أشكاله والأدوات التي نفذ بها.

وفي ضوء هذه الخلاصات يمكن تسجيل الملاحظات التالية :

1 - إن توزيع الوظائف وتحديد عددها وتوزيع دوائر الفعل عاى الشخصيات وفق المضامين الدلالية لهذه الوظائف، يفترض أن مضمون الحكاية (المضمون الدلالي الذي يؤطر المتن الحكائي ككل) يقع من الناحية التوليدية في المستوى التجريدي العام (البنيات السابقة على التجلي النصي ). فالتوزيعات الخاصة بالبنية الأصلية (الحكاية الأم) لا تشكل في تصور بروب سوى تحقق خاص ضمن تحققات أخرى ممكنة، وذلك ضمن ما توفره البنية الأولية من احتمالات قابلة للانجاز كليا أو جزئيا.

والحال أن المجرد والمحسوس لا يدركان ضمن العلاقة بين الحكاية الأم والحكايات المتفرعة عنها. فكل نص حكائي هو بناء خاص رغم وجود هذا التداخل بين الحكاية الأم وما يتولد عنها كما يشير إلى ذلك بروب. فكل نص سردي (حكاية شعبية أو رواية أو حكاية عجيبة) يحتوي في شكله الوجودي التام على مستويين :

- مستوى تجريدي عام تنتظم داخله سلسلة من القيم المضمونية على شكل ثنائيات دلالية قابلة للانفجار في مستويات مشخصة ذات طابع خاص.

- مستوى محسوس يقوم بتخصيص هذه القيم في أشكال خطابية هي في نهاية الأمر تحقق ثقافي وإيديولوجي لوحدات مفهومية تتسم بالعمومية.

وعلى هذا الأساس، فإن الإجراء التحليلي الذي يستند إلى التجريد كمرحلة أساسية للإمساك بمجموع الحكايات كبنية واحدة، يجب أن تليه مرحلة جديدة تتمثل في العودة من جديد إلى المحسوس، أي إلى التنوع البنيوي الذي تمثله مجموع الحكايات.

2 - الملاحظة الثانية تعود إلى شكل القيم المضمونية من الناحيتين التوزيعية والاستبدالية. فإذا كان توزيع الوظائف وكذا نمط توزيعها وما يتبعه من خلق لدوائر الفعل يشير إلى الانتشار التوزيعي للقيم المضمونية التي تؤطـر النص السردي، فإن هذه القيم يحكمها تنظيم آخر سابق على التجلي النصي. وبعبارة أخرى، فإن هذه القيم تمتلك وجودا مستقلا عن الوجه المشخص الذي تمنحه الحكاية للقارىء. "فالوحدات الاستبدالية تقوم، داخل الترسيمة التوزيعية، بدور المنظم للحكاية، كما تشكل هيكلها. بل يمكن القول إن التعرف على هذه الإسقاطات الاستبدالية هو وحده الذي يسمح لنـا بالحديث عن وجود بنيات سردية."(4)

استنادا إلى هذا، يجب، من أجل ضمان مردودية تحليلية كبرى، البحث عن السردية فيما هو سابق عنها، أي في المستوى السميائي السابق عن التحقق النصي. فالتقابل بين "بنية" و"شكل" يجب أن يقودنـا إلى التمييز بين البعد الكوني العام المنظم للفعالية السردية ككل، وبين التحقق الخاص، أي قدرة هذا البعد على استيعاب معطيات الثقافة التي تقوم، في نهاية المطاف، بالتمييز بين هذا النص وذاك. "فالشكل يستمد واقعيته من بنيته، وما نسميه شكلا هو في واقع الأمر "بنينة" للعناصر المحلية المحددة للمضمون. " ( 5 )

3 - الملاحظة الثالثة تعود إلى الطابع المتغير للشخصيات ومحاولة إعطاء تفسير لهذا التغير. فإذا كنا لا نستطيع إنكار أن الشخصيات في تحول مستمر، فإننا مع ذلك لا يمكن أن نقبل بالنتائج المترتبة عنها. فإذا كان التعميم هو الحلقة النظرية الموصلة إلى خلق النموذج العام والمجرد، فإن هذا التعميم نفسه هو الذي يجب أن يقود من جديد إلى طرح الحالات الخاصة. ولن يقود خلاف ذلك سوى إلى التعامل مع الحياة (في نماذجها المتعددة) ككل منسجم من القيم والعادات والثقافة. ولعل هذا القصور هو الذي وقع فيه پروپ حين أوقف التحليل حيث كان يجب أن يستمر ويتواصل. "وهكذا أضاع بروب المضمون في رحلته من المحسوس إلى المجرد" ( 6 ).

وبناء عليه، كان على بروب، عوض الوقوف عند الأشكال الكونية المنظمة للفعالية السردية، أن يعود من جديد إلى النماذج الخاصة. فالحالات الخاصة هي وحدها القادرة على مدنا بأسس الاختلاف بين هذه الحكاية وتلك، تماما كما كان التعميم هو سبيلنا إلى تلمس أسس التشابه بين كل الحكايات.

وقد لا حظ كلود ليفي شتروس، أن الشخصية في تغيرها وتحولها المستمرين، تمنحنا، على عكس ما ذهب إليه بروب، فرصة ثمينة لإدراك المضمون الحقيقي للحكاية ولتلوينها الثقافي والإيديولوجي. فإسناد فعل (وظيفة في التعريف البروبي) إلى شخصية معينة لا يعني الاهتمام فقط بما يصدر عن هذه االشخصية وإغفال كينونتها وبعدها الثقافي. فالعنصر الذي يشتغل كسند لوظيفة ما، له موقع داخل ثقافة معينة، وإذا لم نأخـذ هذا البعد الثقافي بعين الاعتبار في تعاملنا مع الشخصية فسنبقى في حدود تحليل شكلي لا طائل من ورائه.

ولعل المثال التالي يوضح بشكل كاف ما ذهب إليه كلود ليفي شتروس. فقد لاحظ أن "الحكايات الأمريكية تشير في غالب الأحيان إلى بعض الأشجار كشجرة البرقوق وشجرة التفاح. وسيكون من الخطإ القول إن ما يهم في هذه الإشارة هو مفهـوم "شجرة" فحسب، أما تحققاتها المتنوعة فتلك مسألة اعتباطية، تماما كالقول إن هناك وظيفة تشكل الشجرة سندها باستمرار(...) فما يهـم الأهلي في شجرة البرقوق هو خصوبتها، وما يشده إلى شجرة التفاح هو قوتها وعمق جذورهـا".(7)

فلا يمكن بأي حال من الأحوال - وفق هذه النظرة - التعامل مع الشجرة (التي تشتغل كشخصية في هذا المثال ) كعنصر متغير ولا دور له في بناء الحكاية. فكلا المعنمين : "القوة "و "الخصوبة "، يشكل قيمة دلالية لا يمكن التغاضي عنها في تحليل الحكاية. بل يمكن القول إن ما يمنح النص الحكائي خصوصيته وعمقه وموقعه داخل ثقافة ما هو هذا العنصر بالذات.

وبناء عليه، فما يعد في التحليل الپروپي عنصرا عرضيا وزائلا، يعد في التحليل المحايث عنصرا أساسيا في إنتاج معنى أو معاني الحكاية.

ويمكن أن نشير في ختام هذه الملاحظة إلى نقطة لا تقل أهمية عما جاء به كلود ليفي شتراوس. إن الأمر يتعلق هذه المرة بالوظائف ذاتها، باعتبارهـا عناصر ثابتة ( وهي المشكلة في تصور بروب للهيكل الحكائي في شكله الكوني). فإذا أخذنا بعين الاعتبار التربة الثقافية المغذية للوظائف لاحظنا أنه بإمكاننا أن نميز - داخل هذه الوظيفة - بين بعدين :

أ - بعد ثابت ومحدد لجوهـر الوظيفة كعنصر كوني (الاعتداء مثلا كقيمة كونية عرفتها الإنسانية منذ ولادتها).

ب - وبعد متحول يشكل التحققات الخاصة والمتنوعة لهذه الوظيفة (الاعتداء في أشكاله المتنوعة).

فمع هذا التمييز لن يكون من اللائق القول إن ما يهم في وظيفة الاعتداء هو بعدها الثابت - أي الوظيفة كجوهر- أما ما يعود إلى تحققاته فتلك أشكال اعتباطية مرتبطة بالشكل، أي بالتحققات العينية للحكاية؛ وتبعا لذلك لن تكون له أية مردودية من ناحية التحليل.

وبالتأكيد، إذا أخذنا وظيفة الاعتداء في الاعتبار لاحظنا أن هذا الاعتداء قد يتخذ مظاهر متعددة منها على سبيل المثال لا الحصر فعل "القتل" (كل ما يمكن أن يسيء إلى الانسان يمكن اعتباره اعتداء). وهذا القتل نفسه قد يأخـذ أشكالا متعددة تؤدي في نهاية الأمر إلى نتيجة واحدة هي "وضع حد لحياة".

وسنكتفي هنا بعرض حالتين من حالات القتل. فهذا القتل إما أن يكون نتيجة مواجهة مفتوحة بين شخصين ( أي أن المواجهة توفر حظوظا متساوية لكلا الشخصين)، وقد يكون نتيجة عملية غدر. ففي الحالة الأولى قد يدان القتل لأنه فعل مضاد للحياة ومناف لها. لكن إطار المواجهة وطريقتها قد لا يوضعان موضع تساؤل. أما في الحالة الثانية، فإننا سنقوم، بالإضافة إلى إدانة القتل كقتل، بتحديد قيمة إضافية أخرى لا يمكن تجاهلها في التعامل مع فعل الاعتداء، ويمكن تحديد هذه القيمة تقريبيا " عدم إنصاف للخصم". ويمكن أن نأخذ بعين الاعتبار أيضا أداة القتل ومكانه وتوقيته، وكل ما يمت إلى عملية القتل بصلة. فكل عنصر من هذه العناصر له موقعه الخاص داخل سيرورة إنتاج الدلالة.

ونتيجة لما سبق، فإن الوظيفة باعتبارها معادلا دلاليا لحد مفهومي مجرد وعام، تتخذ لحظة تحققها ضمن سياق خاص أشكالا متنوعة. وهذه الأشكال لا يمكن إدراكها في علاقتها بالمادة المضمونية التي تغديها، بل تدرك من خلال اندراجها ضمن دائرة ثقافية معينة. وهذه الثقافة هي التي تفسر الفعل وأنماطه وتجعله فعلا مقبولا أو تجعل منه فعلا مرفوضا.

ستقودنا هذه الملاحظات، في نهاية المطاف، إلى تحديد وضع الشخصية داخل المتن الحكائي، عبر تحديد موقعها داخل المسار التوليدي. فإذا تتبعنا مقترحات بروب خطوة خطوة، وصلنا إلى خلاصة مفادهـا أن الشخصية ليست منفصلة عن عملية تشكل الوظائف في قيم دلالية تقع في مستوى البنية الأصلية، وليس في مستوى الشكل المتحقق. إنها مثمنة لحظة تشكل المتن الحكائي كشكل كوني، إلا أنه سيتم إهمالها لحظة تحققها داخل نص سردي خاص (ما يسميه بروب بالشكل).

إن الأصل في هذه المفارقة هو التمييز الذي يقيمه بروب بين الأشكـال الأساسية والأشكال المشتقة. ( 8) فالشكل الأساسي هو المنبع والأصل، أما الأشكال المشتقة فهي أشكال ثانوية، بل واعتباطية أحيانا. ويوضح بروب هذا التمييز بقوله : "إننا نعني بالشكل الأساسي ذلك الشكل المرتبط بأصل الحكاية، وبدون شك فإن للحكاية، بصفة عامة، جذورها داخل الحياة الواقعية، إلا أن الحكاية العجيبة لا تعكس كثيرا هذه الحياة. فكل ما يأتي من الواقع يمثل شكلا ثانويا. ومن أجل فهم حقيقي لجذور الحكاية، علينا الاستعانة، في مقارناتنا، بالمعلومات المفصلة عن ثقافة تلك المرحلة."(9)

ولقد كان من المفروض أن تقوده هذه الإشارة العميقة إلى دور الحياة الاجتماعية (الواقعية) في تحول الحكايات وانمساخها، إلى العودة من جديد إلى الحكاية منظورا إليها في لونها المحلي، أي إلى البناء الثقافي الذي يغطي الجسم العام للبنية المجردة (سيتحدث گريماص لاحقا عن البنيات الخطابية التي تعد غطاء للبنيات السردية). إلا أن هذا الأمر لم يحدث. ولقد بينت الدراسات اللاحقة لبروب أهمية هذه العودة في سبر أغوار الحكاية والكشف عن دلالاتها داخل الحياة الاجتماعية.

وقد لاحظ ذلك بروب حين أعلن أن "للواقع دورا هاما في التحولات التي تعرفها الحكاية.فإذا كانت] الحياة الواقعية لاتستطيع تدمير البنية العامة للحكاية، فإننا مع ذلك] نمتح منها مادة مختلف الاستبدالات التي تحدث في الترسيمة القديمة ." (10)

ورغم هذه الانتقادات الموجهة لعمل بروب، فإننا مع ذلك يجب أن نسجل أن بروب أدرك مبكرا أن هناك أدوارا كبرى داخل الحكاية موزعة على عدد كبير من الشخصيات كيفما كان شكل تجلي هذه الشخصيات. وتعتبر هذه الأدوار في عمل بروب - بشكل صريح أو ضمني - محاور دلالية واضحة. ذلك أن الوظيفة تتحدد وفق دلالتها وموقعها داخل الحبكة. إنها تكييف لسلسلة من القيم الدلالية التي تتجسد (تتشخص) في سلوكات متنوعة تكون الشخصية هي مؤطرها الرئيسي.

ومن جهة أخرى فإن لعبة الاستبدالات، (11) التي برع فيها بروب، تدلنا، بشكل صريح أو ضمني أيضا، على أن هذه الأدوار الكبرى قابلة للتأقلم مع المعطيات المتنوعة للثقافة (رغم أن بروب ألح دائما على عدم أهمية هذا التأقلم في تحديد كنه أصل الحكاية ). ويعطي بروب في هذا المجال الأمثلة التالية :

- الجن يختطف بنت الملك

- الجن يختطف بنت الكاهن

- الدب يختطف أبناء الملك

- الساحرة تختطف ابن العجوز

- الإخوة يختطفون خطيبة إيفان

- الملك يختطف زوجة إيفان.

فإذا كانت الشخصيات التي تقوم بعملية الاختطاف تعتبر من خلال فعلها (وظيفتها)، تجسيدا تصويريا للشر، فإن تغير هذه الشخصيات من حكاية إلى أخرى يشكل، كما يشير إلى ذلك بروب نفسه، سلسلة من الاستبدالات الواقعية. (12) فالراوي، استنادا إلى ثقافته، يقوم بإحلال صورة ثقافية مألوفة عند المجموعة التي ينتمي إليها محل صورة تعد غريبة عنها.

والملاحظ أن بروب لا ينظر إلى هذا التأقلم إلا من زاوية واحدة هي زاوية التحولات التي تطرأ على الحكاية الأم لتأكيد أهمية العنصر الأصلي في الحكاية (ما يسميه بالشكل الأساسي). والحال أن هذا التأقلم يعد من زاوية أخرى عنصرا أساسا في فهم نمط بناء الشخصيات.

وإذا كان بالإمكان تحديد الوظيفة كعنصر كوني، فإن الشخصية عندما تَمْثُل أمامنا على شكل وحدات مرئية داخل النص السردي، لا يمكن أن تكون إلا ثقافية؛ فهي ثقافية في نمط ظهورها، وثقافية في لباسها، وثقافية في حركاتها، وثقافية في نوعية العلاقة التي تنسجها مع الشخصيات الأخرى. وباختصار فإنها حصيلة تجارب جماعية. والتجربة الجماعية تبنى انطلاقا من قدرتها على استيعاب كل التجارب الفردية عبر تهذيبها وتعميمها وتحويلها إلى مصفاة تسرب من خلالها السلوكات الفردية الخاصة.

ويكفي أن نتذكر، في هذا المجال، أن مسار السرد يستند، في نموه وتطوره وتشعباته (مختلف الاحتمالات التي يشتمل عليها) على العناصر المثمنة داخل ثقافة معينة. فالعدد الهائل للإمكانات السردية التي توفرها وضعية ما، محكومة بمبدإ "التوقعية". والتوقعية ليست شيئا آخـر سوى استحضار للإطار الثقافي الذي يحدد عدد الإمكانات السردية القابلة للتحقق. وهو ما يعني بعبارة أخرى، أن الإمكانات لا تتحقق وفق عددها، ولكنها تتحقق وفق ما يسمح به الإطار الثقافي. فما يتحقق هو ما تسمح به ثقافة المجتمع الذي ينتسب إليه النص. إن كل تحقق هو في ذات الوقت إقصاء لممكنات لم تتحقق.

ولقد بينت التطورات اللاحقة التي عرفها التحليل السردي (في الرواية والقصة، والمسرح وكل الأشكال التصويرية الأخرى)، أهمية الحدس الپروپي في تصوره لهيكلة الحكاية العجيبة، وتبعا لذلك، لميكانيزمات بناء الشخصية وتبلورهـا كوحدة معجمية ظاهرة من خلال التجلي النصي. فمن نفس الفكرة تقريبا، (13) سيميز جولز (14) بين نوعين من النصوص :

- النصوص النسقية. وهذه النصوص تتميز، كما يرى ذلك جولز، بطابعها المجرد، كما تتميز ببعدها المفهومي (الحكم، الأمثال، وأفعال اللغة...).

- النصوص السردية، والنصوص السردية في تصوره قد تكون، في علاقتها بالنصوص الأولى، نوعا من الإخراج السردي لنفس المقولات (تحويل المفهومي إلى تصويري).

وعملية الانتقال من النصوص الأولى إلى النصوص الثانية، محكومة بما يضيفه الكاتب إلى الأولى وإلى الثانية من تكوين ثقافي وإيديولوجي.

وهو نفس الأساس الذي ستقوم عليه السميائيات السردية كما صاغ حدودها ومفاهيمها گريماص. فلقد ميز منذ البداية، في أفق الإمساك بالكون الدلالي المفهومي الذي يعد النص ذريعته الأساسية، بين بنيتين ومستويين للتحليل :

- بنية مجردة، يطلق عليها البنية الدلالية الأولية وتتميز بالتجريد واللازمنية.

- وبنية سطحية تعد تفجيرا للبنية الأولى في عناصر مشخصة أي خلق معادل تصويري لحد مفهومي .(15)

وهي نفس الفكرة التي قد نعثر عليها، من زاوية نظر أخرى، في نمط اشتغال السميوز( السيرورة المؤدية إلى إنتاج الدلالة ) كما يتصورها بورس.(16) فهي سيرورة لا متناهية من الإحالات التي لا تتوقف إلا بدخول المؤول النهائي الذي يعد تسنينا لسلسلة من السلوكات في قوالب ثابتة. وسنحاول فيما سيأتي - عند تناولنا لبناء الشخصية عند گريماص- عقد مقارنة بين فكرة المؤول عند بورس وبين فكرة البنية الدلالية الأولية عند گريماص.

والخلاصة أن عجز النموذج البروبي في أن يشكل أداة تحليلية فعلية تقود إلى الكشف عن الخبايا الدلالية للنص السردي، يعود في الأساس إلى إهماله للشخصية وأبعادها الثقافية. فما يشكل موضوع التحليل هو الأشكال المشتقة ( النصوص السردية الخاصة )، وليست الأشكال الأساسية سوى فرضية للعمل يتم انطلاقا منها قياس درجة التطابق والانزياح عن الأصل المولد لكل الحكايات.

الهوامش

1 ) انظر : هامون (فيلب) سميولوجية الشخصيات الروائية، ترجمة سعيد بنگراد، دار الكلام 1991.

2 ) Propp ( Vladimir ) : Morphologie du conte merveilleux, ed, Seuil, 1970.انظر أيضا الترجمة التي أنجزها ابراهيــم الخطيب لهذا الكتاب دار الشركة المغربية للناشرين المتحدين .

3) نفسه ص 96 - 97

4) Greimas ( A J ) : Les acquis et les projet , in Courtès Introduction à la semiotique narrative et discursive, p. 8

5) Levi - Strauss ( Claude ) :Anthropologie structurale deux, p .158

6) نفسه ص 161

7) نفسه 162-163

8) Propp : les transformations du conte merveilleux

9) المرجع نفسه ، ص :176

10) نفسه ص 182

11) انظر تفسه ص 173

12 ) انظر ص 197 و ما بعدها

13) الفكرة الفائلة بوجود حد مفهومي مجرد يولد حدا مشخصا.

14) انظر Formes simples, ed, Seuil : Jolles Andre

15) سنتناول في الفقرة الثالثة من القسم النظري تصور گريماص للشخصية وموقعها داخل ما يسميه بالمسار التوليدي.

16) السيميوز في سميائيات بورس هي سيرورة إنتاج الدلالة، ويعرفها بورس بأنها تلك السيرورة التي يشتغل من خلالها شيء ما كعلامة. إنها تتطلب تضافر عناصر ثلاثة : الماثول ( Représentamen) والموضوع ( Objet) والمؤول ( Interprétant ). وهذه العناصر الثلاثة هي التي تجعل من العلامة عند بورس وحدة ثلاثية المبنى : الماثول يحيل على موضوع بواسطة مؤول. والمؤول هو الشرط الأساس لتداول المعنى، إنه عنصر التوسط الذي يمنح للعلامة صحتها.

 

 

 
 
 
معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

مؤلفــات بطاقة تعــريف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال   مواقـــع  خزانات الموقـع صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

موقع سعيد بنگراد - تاريخ الإنشاء: نونبر 2003