لقد
قادتنا التصورات الثلاثة السابقة إلى تأكيد حقيقة مفادها أن تناول
الشخصية داخل النص السردي لا يمكن فصله عن تناول السردية ذاتها.
فسواء تحدثنا عن البنية الدلالية كما هو الشأن عند لوتمان، أو تحدثنا
عن البنية الدلالية الأولية كما يتصورها گريماص، أو تحدثنا عن البنية
( أو الأشكال الأصلية في علاقتها بالأشكال المشتقة) عند پروپ، فإننا
سنظل مطوقين بسياج نظري واحد.
فهذه
التصورات الثلاثة تركز كلها على مستويين متمايزين يؤدي أحدهما إلى
الآخر ضمن جدلية لاتدرك إلا من خلال تفكيك النص ورده الى وحداته
المكونة : إننا أمام حد مفهومي سابق عن التجلي النصي، وحد مشخص متولد
عنه ولاحق له. وهذا الحد المفهومي يحتاج، لكي يتحول إلى حد مشخص، إلى
إدخال ذات الخطاب التي تقوم بعملية تحويل المجرد إلى عنصر تصويري
قابل للإدراك من خلال معطيات النص اللسانية.
وبناء
عليه، فإن الشخصية ليست وليدة التجلي، كما أن إدراكها ليس مرتبطا
بالمستوى السطحي، إنها على العكس من ذلك، عنصر مدمج داخل المستوى
المحايث على شكل قيم ومواصفات، ولا يقوم المستوى السطحي إلا بتخصيصها
عبر صبها داخل السياق الخاص الذي يحدده النص الثقافي. وبعبارة أخرى،
فإن القيم الخالقة للشخصيات تنفجر في بنية تصويرية على شكل مجموعة من
العناصر هي ما يشكل خصائص الشخصية ضمن وضعية إنسانية تتميز بعمقها
المحلي : أي سياقها الثقافي الخاص.
انطلاقا
من هذا، سيكون بإمكاننا الآن أن نربط جسورا بين التحليل الذي ينظر
إلى الشخصية كسلسلة من الأدوار المسننة داخل البنية الدلالية
الأولية، وبين التحليل الذي ينظر إليها كمحفل مسنن هو الآخر ولكن
داخل نص الثقافة هذه المرة إن على مستوى الدال، أو على مستوى المدلول
أو على المستويين معا.
إن
عملية الربط بين هذين التصورين ( أو عقد مصالحة بين التحليلين ) تعد
في حد ذاتها اعترافا بالقصور الذي يتخلل التصورين معا. فمن جهة سيكون
من الصعب قبول مقترحات گريماص الخاصة ببنية الممثلين. ذلك لأن هذه
المقترحات لاتتجاوز حدود رصد عملية التحول من العامل إلى الممثل.
فعملية التخطيب ( Discurvisation ) التي يشير إليها گريماص كتحول من
المجرد إلى المحسوس إن كانت لها القدرة على مدنا بأدوات تسمح لنا
بالإمساك بحلقة مركزية من حلقات المسار التوليدي، فإنها عاجزة على
الكشف عن خصوصية النص الدلالية والفنية. فتحديد الأدوار والمحاور
الدلالية المرتبطة بها ورد هذه المحاور إلى بنية دلالية أصلية،
لايخلقان نصا ولا يحددان القيمة الفنية لهذا النص. ذلك أن الوجود
الفني للشخصية لايتحدد من خلال طرح هذه الشخصية كسند لمضمون قيمي ما
فحسب، بل يتحدد أيضا وأساسا، من خلال خلق سلسلة من الانزياحات التي
تدرك كوجود جديد يربط بين المخيالي والواقعي ضمن دائرة ثالثة يطلق
عليها عادة عالم الممكنات.
ومن جهة
ثانية، فإن الحديث عن الشخصية كعنصر من عناصر النص المعطاة بشكل
مباشر، وتحديدها كسلسلة من الخصائص الفنية، لن يقودنا في نهاية الأمر
إلا إلى تقديم دراسة تقنوية مكتفية بذاتها ولكنها عاجزة عن تحديد
العوالم الدلالية التي تعد المبررالرئيس لوجود أي نص. إنها إلغاء
لسمة الكلية (1) التي يتميز بها نص ما. ذلك أن قيمة وأهمية تحليل من
هذا النوع تكمنان في تجاوزه لنفسه واندراجه ضمن استراتيجية يعد
التساؤل عن شروط إنتاج المعنى ( أو المعاني ) وتداوله داخل النص
قطبها الرئيس.
إن
الوصل بين هذين التصورين سيؤدي بنا حتما إلى مزج عناصر التصورين معا
ضمن استراتيجية تحليلية موحدة تحكمها إشكالية البحث عن المعنى ( أو
المعاني ) التي يولدها فعل القراءة وفعل الابداع. وانطلاقا من عملية
الوصل هاته سنحاول أن نعرض لمجموعة من القضايا الخاصة بالأساليب
المؤدية إلى خلق عالم مشخص يشتغل كوضعيات إنسانية لها موقعها داخل ''
عالم الممكنات ''، التي تدرك باعتبارها معادلا مخياليا لعالم واقعي.
وسيكون تعاملنا مع هذه الأساليب محكوما بالتصورات التي تم عرضها في
الصفحات السابقة، أي إن عملية التشخيص ( ما يؤدي إلى خلق عوالم مشخصة
) يجب أن تدرك في علاقتها بعنصرها المولد أي التجريد المفهومي.
وسينصب
العرض الذي نحاول تقديمه على عنصرين رئيسين. فمن جهة سنتناول
بالتحليل عملية خلق وتلقي الشخصية ضمن جدلية النص الثقافي / النص
المتحقق. أي بين تسنين معطيات داخل محفل يشتغل كشخصية، وفك هذا
التسنين ضمن نفس المحفل. وسنتناول من جهة ثانية الأساليب الخاصة
ببناء الشخصية وذلك من خلال تحديد خصائص الشخصيات الفنية والدلالية.
1 -
التلقي و إنتاج الأثر / شخصية
إن
التعامل مع الشخصية كوحدة نصية لا امتداد لها خارج بنية النص الذي
يحتويها، معناه استبعاد كل التصورات التي تجعل من هذه الشخصية مرادفا
لكائن '' حي '' يمكن التأكد من وجوده في بنية أخرى غير بنية النص.
فالشخصية باعتبارها '' كائنا من ورق '' ، لاوجود لها إلا من خلال ما
يقوله عنها النص( الصوت الخفي أو الجلي للسارد). وبعبارة أخرى إنها
كلمات ( وحدات معجمية ) مولدة لآثار متنوعة يمكن تلخيصها في '' الأثر
شخصية '' ( هامون). و'' الأثر شخصية '' ليس هو الشخصية ولا يتطابق
معها، إنه عنصر بسيط داخل سنن ثقافي عام يتم داخله خلق عالم مخيالي
يمتلك تشابها مع عالم '' واقعي".
إن درجة
مقروئية هذا العالم تتحدد من خلال العناصر الثقافية المدرجة داخل
النص والمفترض فيها أنها مشتركة بين محفلي الخلق والتلقي. " فإذا كان
الكاتب يضطر، وهو يخلق شخصية مخيالية، إلى أن يسنن واقعا مخياليا
داخل معطيات النص، فإن القارئ يقوم بعملية عكسية. إنه يقوم بفك
التسنين الخاص بواقع النص للوصول إلى تمثيل مخيالي. '' (2) وما بين
التسنين المرتبط بعملية الخلق وبين فك التسنين المرتبط بعملية
التأويل، تنتصب الشخصية كإسقاط لصورة سلوكية مسننة داخل نوع ثقافي
خاص ( بأبعادها النفسية والاجتماعية والحضارية )، داخل عالم مخيالي.
وستكون العودة بهذه الصورة إلى منبعها الأول ( أصلها المولد) مرتبطة
بفعل تأويلي يعد رابطا بين تسنين إبداعي وفك للتسنين من خلال فعل
القراءة. وهذا ما يشكل التجسيد (3).
ويمكن
تحديد التجسيد بأنه فعل إنتاج المعنى من خلال الربط بين فعل القراءة
وفعل الخلق. وهذا التجسيد ليس ممكنا إلا من خلال طرح فعل الإدراك
كعنصر لا يقوم فقط بتنظيم عناصر مادة معطاة بشكل قبلي داخل النص، أي
رصد التشابه القائم بين التحقق النصي وبين الصورة الثقافية التي
يتحرك داخلها المتلقي. إنه يتجاوز هذا إلى خلق حركة قائمة على الجهد
التأويلي ونمط اشتغال هذا التأويل. ''ذلك أن وجود صورة لشيء ما معناه
أن عملية التمثيل التي نقوم بها تولد موضوعا لايتطابق مع المعطى
التجريبي للشيء، ولا مع دلالة الشيء الممثل، وغياب الشيء هو الشرط
الضروري لجهدنا التمثيلي (4). فما بين حالة البدء وحالة النهاية
ننتقل عبر الجهد التأويلي، من حالة تكون فيها الشخصية بياضا دلاليا
لايحيل إلا على نفسه، إلى حالة تمتلك فيها الشخصية أبعادا دلالية
متنوعة.
إن
عملية من هذا النوع تقتضي تنظيم عناصر معطاة داخل النص وفق الصورة
التنظيمية المثبتة داخل نص الثقافة. وعلاقة الصورة الأولى بالثانية
علاقة مفتوحة ومطاطية ( وهو ما يسمح بالحديث عن تعددية القراءة ).
فبقدر ما يظل عالم الشخصية مفتوحا بقدرما يخلق هذا الانفتاح عند
القارئ حرية كبرى في التأويل. ذلك أن الشيء يمتلك، بصفة عامة، في
حالة غيابه حرية كبرى في التكيف مع وضعيات بالغة التنوع، '' ولعل هذا
ما يفسر تلك الخيبة التي نشعر بها عندما نشاهد رواية وقد تحولت إلى
فيلم. فالفيلم يفرض على إدراكنا موضوعا محددا، شخصية مثلا، فهذا
الموضوع يبدو فقيرا قياسا للواجهات المتعددة التي تشتمل عليها صورة
تمثيلنا. فعندما نقوم بتمثيل موضوع ما فإننا لانختار واجهة بعينها،
ولكننا ننتج صورة تتطابق مع مجموعة من الواجهات. '' (5)
وتبعا
لذلك، فإن الشخصية باعتبارها بناء وليس معطى جاهزا محددا سلفا، لا
تكشف عن مجموع دلالاتها إلا مع نهاية الزمن الإبداعي ونهاية الزمن
التأويلي. > إنها على غرار العلامة اللسانية وحدة متمفصلة بشكل
مزدوج، وتتجلى من خلال دال متقطع يحيل على مدلول متقطع. وتعتبر بهذا
جزءا من جذر أصلي تقوم الإرسالية ببنائه. فالدال يتحدد من خلال اسم
العلم ومن خلال مجموع التحديدات الأخرى. ويستخرج المدلول من شبكة من
المسارات الدلالية التزامنية التي تحيل على هذه الشخصية <. (6)
إن
عملية البناء هاته تستند، في تحققها، إلى عنصرين رئيسين. فالشخصية
تحيل من جهة على النص الثقافي بأبعاده المتعددة، وتحيل من جهة ثانية
على السنن الثقافي الخاص للمتلقي. فبناء الشخصية ليس عملية اعتباطية
خاضعة لمزاج المبدع ومزاج المتلقى، وإنما هو عملية واعية تخضع
لمجموعة من القيود والإرغامات. ولايمكنها أن تتشكل ككيان حي إلا من
خلال هذه القيود والإرغامات. وتؤول هذه القيود باعتبارها تسنينا
جماليا. ذلك أن عملية الإبداع في ذاتها محكومة بمجموعة من المعايير
الفنية المثبتة في سجل النوع الأدبي، كما تؤول تسنينا ثقافيا. فبناء
الشخصية لا يتم إلا داخل عالم الممكنات التي يحيل عليها النص الفني.
وفي كلتا الحالتين، فإن إدراك الشخصية لا يتم إلا من خلال هذا
التسنين المزودج والمشترك بين محفلي الابداع والتلقي.
وإذا
جاز الحديث عن تناظر دلالي يشتغل كجذر مشترك لمجموعة من الصور
اللكسيمية المؤدية إلى خلق كون دلالي مستقل بذاته، كان بإمكاننا أيضا
الحديث عن الشخصية باعتبارها قطبا تلتف وتتبلور حوله مجموعة من القيم
الدلالية لتشكلها ككيان، وتتشكل من خلالها كبنية دلالية كبرى تغطي
الكون النصي في مجمله.
استنادا
إلى هذا، تتحدد القراءة ( التأويل ) كإحالة مزدوجة. فمن جهة، تحيل
على المعرفة الملفوظية، أي العالم الدلالي المعطى بشكل مباشر من خلال
عناصر النص نفسها، ومن جهة ثانية تحيل على معرفة خارج / نصية لايمكن
إدراكها من خلال تجليات النص. وهذه المعرفة ( كما توحي بذلك كلمة
''خارج '' ) ليست منفصلة عن النص ولا متناقضة معه. بل تعد جزءا لا
يتجزأ منه؛ إلا أن الكشف عنها يستدعي تنشيطا لذاكرة القارئ وذاكرة
النص. وبعبارة أخرى نحتاج، لكي ندرك هذه المعرفة ونتمثلها، إلى
سيرورة تأويلية من طبيعة أخرى. فماذا نعني بالمعرفة الخارج / نصية ؟
إذا كان
اللكسيم يحتوي، بطبيعته، على سلسلة من الإمكانات الدلالية القابلة
للتحقق داخل النص، فإن هذا التحقق لا يمكن أن يكون إلا جزئيا : إننا
نحقق إمكانات ونقوم بإقصاء أخرى. فليس هناك من نص ( إلا في حالات
نادرة ) قادر على استيعاب كل ما يختزنه اللكسيم ضمن اختيار دلالي
واحد ومنسجم. ذلك أن الإرغامات التي يفرضها التناظر الدلالي ( أو
التناظرات الدلالية ) تجعل من عملية الانتقاء موجهة نحو ما يخلق
انسجام الكون النصي. وهذا ما يدفع بالنص ( الخطاب ) إلى إقصاء سلسلة
من الإمكانات لحساب أخرى. وعملية الإقصاء هاته ليست نهائية. فالعناصر
المستبعدة تظل تمارس حياتها خارج النص وقابلة لأن تظهر في أية لحظة
مع أدنى تنشيط للذاكرة.(7)
ويمكن
مقارنة هذين النوعين من المعرفة بثنائية المؤول المباشر والمؤول
الديناميكي كما وردا عند بورس، وطورهما إيكو. فإذا كان الأول يتحدد
من خلال ما هو معطى داخل العلامة ذاتها، أي ما يوفر العناصر الضرورية
والأولية لعملية التأويل، فإن الثاني يتجاوز هذه الحدود لكي يلقى
بالتأويل داخل سيرورة اللامتناهي. حينها ندخل ضمن عالم الإحالات الذي
لا ينتهي إلا بدخول عنصر ثالث يسمح باقامة العلاقة السميائية :
''ماثول / موضوع ''.
إن
الإحالة على مؤول مباشر وآخر ديناميكي هو الذي يسمح لنا بالتعامل مع
الشخصية لحظة تحققها داخل النص كموضوع مباشر أي كمحفل مكتف بذاته
يتحرك ضمن حدود نصية رابطة بين بياضين دلاليين، في حين تعد إحالة هذه
الشخصية على عناصر خارج / نصية موضوعا ديناميكيا يقتضي قراءة ثانية
تربط المتحقق بالمحتمل، والحاضر بالغائب : المعرفة النصية والمعرفة
الموجودة خارج النص.(8)
وبناء
عليه، فإن ما يقصى هو ما يشكل أساس التأويل وعمقه، إذ لولا ذلك ما
جاز الحديث عن تعددية في المعاني والقراءة. من هنا فإن قوة التأويل
وعمقه يتحققان من خلال القدرة على الربط بين الإحالتين معا، أي الربط
بين المعرفتين، وعملية الربط هاته هي التي تجعل من الشخصية تتحرك من
جهة كحد محروم من أي مدلول (البياض الدلالي ) وذلك بحكم منطق البناء
نفسه. وتتحرك من جهة ثانية كحد يحيل على عوالم متعددة ليس لها وجود
مرئي داخل النص وهي ما يشكل المعرفة الخارج / نصية.
2)
الشخصية: الأدوار المبرمجة
من هنا
سيكون بناء الشخصية محكوما باستراتيجية التحولات التي تقود بالضرورة
إلى نقطة إرساء دلالية محددة من خلال عملية البناء نفسه. وهذه
الاستراتيجية تحتوي على سلسلة من الاختيارات السردية المدرجة ضمن
مبدأ التوقعية. فالنص كما يقول إمبرتو إيكو ''هو نتاج يشكل قدره
التأويلي جزءا من قدره التوليدي، إنه يحتوي، ككل استرايجية، على
استراتيجية الآخر ''.(9) فما قلناه عن البياض الدلالي الذي يميز
الشخصية في لحظات الانتشار السردي الأولى سيظل حكما نسبيا، ولا يمكن
أن يصدق إلا على أسماء الأعلام أو الرموز الدالة عليها. فأسماء
الأعلام وحدها هي التي لا تملك مدلولات تحتويها الدوال بشكل مسبق.
وبالفعل، إذا أخذنا بعين الاعتبار بعض الصفات الدالة على الوظائف
الاجتماعية ( العامل - الفلاح - الشرطي - الطبيب ... ) لاحظنا أن
الشخصيات المحددة من خلال هذه الصفات تملك - بشكل قبلي - حمولة
دلالية محتملة. > إنها تحيل على معنى ممتلئ وثابت داخل نص الثقافة،
كما تحيل على أدوار وبرامج واستعمالات مسكوكة. من هنا، فإن مقروئيتها
محكومة بدرجة مشاركة القارئ في هذه الثقافة ( يجب أن تفهم وأن تعرف
). إن انضواءها داخل ملفوظ ما، يجعل منها نقطة إرساء مرجعية تحيل على
النص الكبير للإيديولوجيا<.(10)
وبالتأكيد فإن الإيديولوجيا لا يمكنها أن توجد إلا مجسدة في جهاز
يمنحها بعدها المتجذر في الممارسة. وهذا التجسد يولد حالة انتظار عند
المتلقي. وحالة الانتظار هاته هي ما يتطابق ويتولد عن الحمولة
الدلالية المحتملة باعتبارها المادة الأساسية للتأويل. فالنص
باعتباره سلسلة من الأفعال الممكنة التي تتحقق من خلال سيرورة
القراءة (11) يقوم بتخصيص هذه الحمولة من خلال نفيها أو إثباتها أو
إضافة عناصر أخرى إلى مخزونها الاحتمالي. والنفي والإثبات كلاهما
لايوجد إلا من خلال هذه الحمولة المحددة لأفق انتظار القارئ. وهو أفق
قد يتحقق، وقد تنتهي به استراتيجية التحولات إلى الفشل ( الخيبة ).
" فإذا
كان بإمكاننا القول إن معنى علامة ما داخل ملفوظ ما محكوم بكل السياق
السابق عنه الذي يقوم بانتقاء وتحيين دلالة ضمن دلالات أخرى ممكنة
نظريا، فسيكون بإمكاننا أن نوسع من مقولة السياق هاته لتشمل نص
التاريخ ونص الثقافة .'' (12) والحاصل، إننا نتحرك، وفق هذا التصور،
ضمن نصين متوازيين ومتداخلين في نفس الآن : النص الخاص، ونص الثقافة
الذي يحتويه.
-
فألاول يمتح عناصر تشكله وبنائه من النص الثاني ولا يمكن أن يوجد إلا
من خلاله بالاثبات أو الخرق.
-
والثاني يغتني ويتطور ويتغير انطلاقا من التحققات المتنوعة للأول.
وتتحدد
الشخصية داخل هذين النصين من خلال وجود مزدوج :
- فهي
تتحرك ضمن سياق يعد سلسلة من السلوكات والمواصفات والوظائف المثبتة
داخل سجل الثقافة المدركة من خلال سنن التعرف بتعبير إيكو.
-
وتتحرك كتحقق خاص لهذا السنن من خلال اندراجها ضمن سياق خاص هو سياق
النص.
من هنا
لايمكن إنجاز قراءة ذات مردودية تحليلية جيدة دون الربط بين هذين
النصين ضمن حركة تأويلية لا تفسر الأول بالثاني كما لا تفسر الثاني
بالأول، بل تبني نصا ثالثا مو مزيج من النصين معا.
ومن هذه
الزاوية ( زاوية تسنين الأدوار بشكل مسبق ) يميز فليب هامون بين
ثلاثة أنواع من الشخصيات :
-
شخصيات مرجعية
-
شخصيات إشارية
-
شخصيات استذكارية . (13)
وما
يهمنا في هذا المقام هوالنوع الأول من الشخصيات. فالشخصيات المرجعية
تحيل إما على مرجعية تاريخية ( الحسين بن علي، معاوية، أبو ذر
الغفاري، الحجاج ...) . فهذه الأسماء تملك قصة معروفة عند القارئ.
فهي ليست سلسلة من الأحداث المفصلة والمدققة التي قد تشتغل كسيرة
ذاتية، بل هي صورة مكثفة لم تحتفظ الذاكرة منها سوى بالعناصر
المميزة، أي العناصر القابلة للاشتغال كرموز لحالات حياتية أخرى
مشابهة. فـ "الزمن، ذلك المبسط الكبير"، (14) يهذب هذه القصة ويصفيها
عبر خانة ثقافية تحولها إلى إطار يحيل على سلسلة من القيم والمواقف
والسلوكات.
إن هذه
الشخصيات تحيل على سلسلة من التحديدات التي تشتغل كمرجعية ضمنية
للعالم المروي. ومن أهم هذه التحديدات التحديد الفضائي والتحديد
الزماني والتحديد السياسي. فبمجرد ما نطرح اسما تاريخيا ضمن سياق
النص المعاصر، فإننا نقوم بعملية استحضار للاطار الفضائي الذي يحتوي
قصة هذا الإسم في كل إيحاءاتها. إلا أن الاسم التاريخيي مرتبط دائما
بحقبة زمنية معينة لا كإطار يشير إلى تحقيب معين، بل كإطار يشتمل على
سلسلة من المعارف التي تحتاج إلى معرفة سابقة تفسر سلوك هذا الشخص
التاريخي. من هنا كان التحديد الزماني نقطة إرساء مرجعية تمد القراءة
بمفاتيح هامة للقراءة. ويحيل الاسم التاريخي على تحديد سياسي. إنه
يحيل على مواقف سياسية /إيديولوجية قد تكون هي المبرر الرئيس وراء
استثمار هذا الإسم داخل نص معاصر.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذه الشخصيات تحيل على مرجعية أسطورية قريبة
أو بعيدة. ولإن كانت الشخصيات المنتمية إلى هذا النوع من المرجعيات،
لا تملك وجودا قصصيا واضحا، فإنها مرتبطة بالوجود الأرضي للإنسان،
وصراعه من أجل البقاء وتفسير الظواهر الطبيعية. فهي من هذه الناحية
تحيل على قيم كونية كبرى محورها الرئيس الإنسان وعذاباته في الأرض
وتطلعه إلى خلاص سماوي. وغالبا ما تستثمر هذه الشخصيات باعتبارها
رموزا تحيل على المقاومة والتضحية والصمود.
كما
تحيل على مرجعيات اجتماعية، وهذه المرجعية الاجتماعية كما، أشرنا إلى
ذلك من قبل، هي سلسلة من الوظائف الاجتماعية التي تحتوي من جهة على
أدوار مبرمجة بشكل مسبق، كما تحتوي من جهة ثانية على حالة انتظار.
ذلك أن المتلقي عندما يجد نفسه أمام إسم يحيل على وظيفة اجتماعية
معينة، فإنه يتصرف وفق العوالم القيمية التي يوحي بها هذا الاسم، فهو
يتوقع من هذه الشخصية هذا السلوك وليس ذاك. وأن هذا السلوك سيتم بهذه
الطريقة وليس بتلك.
وبإمكاننا، انطلاقا من هذه الفئة الأخيرة من الشخصيات، أن نوسع من
دائرة تناول الشخصيات وننتقل إلى مساءلة بعض النصوص المصنفة كروايات
أطروحة ( رواية الواقعية الاشتراكية مثلا ). فهذا النوع من الروايات
يتميز بكونه يشتغل بإيديولوجية جاهزة سابقة عنه في الوجود. ولهذا فإن
أهميتها وقيمتها الفنية لاتتحدد من خلال القصة التي تشتمل عليها، بل
تتحدد انطلاقا من نسق واضح وثنائي للقيم من جهة، ومن قاعدة للفعل
موجهة للقارئ من جهة ثانية. (15)
وبناء
عليه فما '' يجعل من رواية ما رواية أطروحة هو نسق دلالي خاص - أو
إذا شئنا صيغة خطابية - وليس قصة خاصة . '' (16). وبعبارة أخرى، فإن
الجهاز الإيديولوجي (النسق القيمي ) الذي تنطلق منه هذه الرواية
يمارس سلسلة من الإرغامات التي تقيد الرواية من حيث إنها تفرض عليها
بناء خاصا يكون في خدمة هذا النسق.
وإذا لم
تكن البنية السردية - باعتبارها الوعاء الذي ستصب فيه هذه
الإيديولوجيا - في منأى عن هذه الإرغامات، فإن بناء الشخصيات -
المحافل التي ستأخذ على عاتقها تحيين هذا الجهاز - ستبنى بطريقة
تحافظ على نقاء وصفاء هذه الإيديولوجيا. وتبعا لذلك سنكون من جهة،
أمام إخراج سردي لمقولة إيديولوجية، ومن جهة ثانية أمام تعريف
إيديولوجي للشخصيات. فماذا نعني بالتعريف الايديولوجي ؟.
من
الواضح أن روايات الأطروحة - الواقعية الاشتراكية مثلا - تنطلق في
عملية تشكلها من تصور إيديولوجي سابق : إما من نسق أخلاقي ثنائي : شر
- خير ، صدق - كذب ، حيث يبنى عالم الرواية ككون موزع على حيزين :
عالم الخير وكل شخصياته مثمنة إيجابيا، وعالم الشر، وتمثل شخصياته
الشر كله. وإما من تقسيم اجتماعي واضح حيث تصنف الكائنات وفق
انتمائها إلي هذه الطبقة أو تلك، كما هو الحال في الواقعية
الاشتراكية. ويندرج هذا التقسيم ضمن سجل طبقي يحدد لكل دور سلسلة من
المواقف والسلوكات والوظائف.
استنادا
إلى هذا فإن رواية الاطروحة '' هي رواية '' واقعية '' ( قائمة على
جمالية للمحتمل وللتمثيل)، تمثل أمام القارئ كحاملة لتعاليم بهدف
البرهنة على صحة عقيدة سياسية أو فلسفية أو دينية. '' (17) إن هذا
التعريف - كما تعترف سوليمان نفسها بذلك - لايحتوي على أي حكم قيمة.
فالاعمال المنتمية إلى الواقعية الاشتراكية، لاتقل أهمية عن تلك التي
أنتجت داخل مدارس أخرى.
وانطلاقا من هذا التعريف(18) فإن العالم الذي يشيد داخل هذه الرواية،
عالم يتحدد ويصاغ داخل الإيديولوجيا نفسها. إنه يشير إلى الإثبات
وإلى النفي : إثبات العالم الإيديولوجي المثمن منذ البدايات الأولى
للرواية، ونفي العالم النقيض، أي نفي القيم التي لاتستقيم داخل هذه
الإيديولوجيا. ونتيجة لما سبق فإن الشخصيات تبنى هي الأخرى وفق هذه
الثنائية، فهي إما ممثلة للقيم ''الصادقة '' وإما ممثلة للقيم ''
المزيفة ''، إنها مبنية وفق غاية مسبقة تتجاوز في تحققها بناء النص
نفسه ( مادامت اللغة نفسها تختصر في كونها أداة ناقلة ).
وإذا
كان الاشتغال بالإيديولوجيا الجاهزة لا يغير من طبيعتها ولا يمس نمط
بنائها، فإنه يحدد، في نفس الآن، على مستوى بناء الشخصيات، نسقا خاصا
تخضع له كل الشخصيات : هناك شخصيات خيرة بطبيعتها، وهناك شخصيات
شريرة بطبيعتها. ولامجال لعقد مصالة بين هذين النوعين من الشخصيات.
انطلاقا
من هذه الملاحظة، فإن الشخصية لاتحدد من خلال خصائصها الذاتية (
الخصائص النفسية، الحساسية الفردية... ) بل تتحدد أساسا عبر انتمائها
إلى هذه الفئة الاجتماعية أو تلك. وبعبارة أخرى، فإن السارد يقوم
بإسقاط مجموعة من الخصائص الاخلاقية والسياسية والاجتماعية التي تعود
إلى طبقة اجتماعية ما، على شخصياته بحيث إن ملفوظا من نوع :
'' كان
عيسى يعمل في ورش البناء ''
يقرأ
بطريقة خاصة. فعيسى لا يحدد فقط كعامل أي كلكسيم يحيل على حمولة
دلالية محتملة تتحدد في برنامج مرتقب للفعل، وإنما من خلال مفهوم
الطبقة العاملة وموقعها من عملية الإنتاج ودورها التاريخي وعلاقتها
بالطبقات الأخرى. > ففي رواية التعلم - السلبي أو الايجابي - ينتقل
البطل من جهل الحقيقة ومن السلبية إلى معرفة الحقيقة ومعرفة الذات
والتوجه نحو الفعل. ويقوم السارد الكلي المعرفة بتثمين هذا المسار.
إنه يرافق الذات في طريقها : إنه يتحدث، ويبرهن ويعين ويحكم. فالذات
تخضع في طريقها لمجموعة من التجارب لكي تصل إلى الحقيقة ( إعلان
الانتماء إلى عقيدة ). وهذه المعرفة هي التي تسمح لها بالمرور إلى
الفعل. إن بحث البطل هو بحث عن اليقين، حينها سيتخذ المرور من الجهل
إلى الحقيقة شكل سيناريو استئناسي.<(19)
وكما
سنوضح من خلال القسم المخصص للتطبيق، فإن اختيار الشخصيات يتم
انطلاقا من هذه الإرغامات (العناصر المنظمة بشكل مسبق داخل
الإيديولوجيا )، وتمثل هذه الإرغامات أمامنا على شكل صورة جاهزة
تحتوي على سلسلة من السلوكات والمواقف المسكوكة. فما دامت البنية
السردية تشتغل كمعادل تصويري لمقولة إيديولوجية أو سياسية أو فلسفية،
فإن التشخيص ينطلق من تحقيق غايتين على الأقل :
-الغاية
الأولى هي تقديم الشخصيات وفق تمثيلية كل شخصية لفئة اجتماعية معينة،
فما يصدر عن الشخصية ( أ) يجب أن يكون صورة مشخصة لسلوك مثبت داخل
السجل الثقافي / السياسي للطبقة (أ). وما يصدر عن الشخصية (ب) سيكون
هو صورة لسلوك مكثف يعود إلى الطبقة (ب) .
-
الغاية الثانية هي الحفاظ على نقاء وصفاء الإيديولوجيا في صورتها
المثالية كتعبير عن كلية التصور التي تصدر عنه.
وبما أن
هذا النوع من النصوص يخشى البياض الدلالي كما يخشى التشويش والغموض،
فإن الانتقال من موقع إلى آخر ( من قيمة إلى أخرى ) يتم بشكل كلي
وشمولي وواضح، ولامكان فيه للتردد والحيرة والبين بين :
الجهل
المعرفة
جهل
النفس معرفة النفس
الذات
الاخر
الفرد
الطبقة
اللاوعي
الوعي
وهكذا
تتخذ الترسيمة السردية، في غالب الأحيان - طابعا متعديا، فتحقيق
الترسيمة السردية لا يتم على شكل إنجاز تداولى مجسد في تحقيق برنامج
سردي تام، بل يتم من خلال إسقاط الفعل الاستقبالي على شكل برنامج
قابل للتحقيق وفق الكينونة الجديدة التي استقرت عليها الشخصية بعد
التحولات التي خضعت لها، وهو ما يقابل الوعي بالفعل.
إن هذه
التحديدات العامة ( الخاصة ببناء وتلقي الشخصية ) تنعكس بشكل أو بآخر
على أساليب التمييز التي تخضع لها الشخصيات من أجل خلق أثر اختلافي
يضمن للنص مقروئيته. فتوزيع الشخصيات داخل النص السردي يتم انطلاقا
من توزيع - ضمني أو صريح - للقيم التي تتخذ شكل مواصفات أو وظائف
يعيد القارئ تنظيمها وفق سنن النص الثقافي وسننه الخاص. ولعل هذا ما
يفسر تلك الرغبة التي نستشعرها أثناء القراءة في البحث عن المحفل
الذي يمثل القيم التي تشتغل كنقطة استدلالية تقود إلى تحديد العالم
الدلالي المثمن داخل النص. ذلك > أن مقروئية نص ما ( في مجتمع معين
ومرحلة معينة ) تتحدد من خلال وجود تطابق بين البطل وبين فضاء أخلاقي
مثمن ومعترف به ومقبول لدى القارئ <. (20)
وبناء
عليه، إذا كانت الشخصية، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، لاتتشكل ككيان،
أي ككون دلالي تام إلا باستكمال الترسيمة السردية لكافة حلقاتها، فإن
تحديد العناصر المميزة لكل شخصية على حدة يقتضي إلماما بعناصر
التمييز عند الشخصيات الأخرى، وذلك لوجود تداخل وتقاطع بين مجموع
الشخصيات. > فالعناصر المميزة للبورتريه ليست علامات سهلة التحديد.
إنها تخترق مجموع المحكي وتقع في مستوى يتجاوز الجملة .< (21) فعملية
التمييز إذن تخضع من جهة لمقتضيات الامتداد النصي، أي ما يربط بين
لحظة البداية كانتشار سردي ممكن، وبين لحظة النهاية كإشباع لهذا
الانتشار. وتخضع من جهة ثانية لمقتضيات الاشتغال الذاتي والاشتغال
داخل أسنن سابقة.
ويرد
هامون هذه المقتضيات إلى نمط اشتغال العلامة ذاتها، > فكل علامة
تتحدد من خلال سلسلة من المقتضيات الانتقائية، أي من خلال مجموع
القواعد التي تحد من إمكانات التأليف مع علامات أخرى. وهذه القواعد
تتخذ أشكالا متنوعة :
-
لسانية ( مرتبطة باختيار السند اللساني. مثال ذلك خطية ظهور الدوال)
.
-
منطقية ( كل محكي يتميز بتوقعية، تكاد تكون قوية وتكاد تكون مقبولة،
لبعض المسارات المفروضة من خلال نقطة الانطلاق ).
- فنية
( مرتبطة باختيار النوع )
-
إيديولوجية : تسريب بعض الأسنن الثقافية مثل " الاحتمالي "، "اللائق"
التي تقوم بالحد من "القدرة" النظرية للنوع. وتفرض على السارد سلسلة
من الإرغامات المسبقة. < (22)
فإذا
كانت وظيفة العلامة هي وظيفة اختلافية بالدرجة الأولى، فإن نمط
اشتغال الشخصيات لايخرج عن هذا المبدأ. فكل شخصية منضوية داخل عالم
مغلق تمثل عنصرا اختلافيا في علاقته بالعناصر الأخرى. وهذا الاختلاف
هو الضمانة على وجود معنى ( معاني ) يتحدد من خلاله النص كعالم
معقول. وهذا لايعني أن كل عنصر قابل لأن يشتغل وفق نمط خاص به
ولايتقاطع مع عناصر أخرى. إن الأمر على خلاف ذلك. فمقروئية نص ما
تتطلب حدا أدنى من الاختلاف وحدا أدنى من التوافق والانسجام. ذلك أن
الشخصية تتحدد إيجابيا من خلال خصائصها الذاتية وتتحدد سلبيا من خلال
تقابلها ( في علاقتها ) مع الشخصيات الأخرى، بخصائصها الذاتية أيضا.
وبناء
عليه، إذا كان بإمكاننا الحديث عن تناظر دلالي يوحد عناصر النص، كان
بإمكاننا الحديث أيضا عن تناظر بين شخصيتين أو أكثر ضمن دائرة قيمية
واحدة. من هنا تأتي أهمية البحث عن نقطة استدلالية تشتغل من جهة
كبؤرة تتسرب من خلالها القيم المثمنة داخل النص، وتشتغل من جهة ثانية
كعنصر موجه للقراءة، أي كمركز توجيه.
وهذا
يتطلب إنجاز سلسلة من الإجراءات تقود إلى عزل شخصية ما عن باقي
الشخصيات الأخرى وتقديمها كمحفل محدد للأساليب السردية، ومحدد
للترسيمة السردية ومحدد للنقطة الاستدلالية التي يتم انطلاقا منها
تفكيك النص. ويوجز فيليب هامون هذا الأسلوب في الإجراءات التالية.
1 -
مواصفة اختلافية : إن السارد يقدم لنا شخصية ما من خلال منحها
مواصفات لايمكن العثور عليها عند الشخصيات الأخرى، فهي تتحرك وفق نمط
سردي لايمكن أن يتطابق مع أنماط حركة الشخصيات الأخرى. وغالبا ما
تكون هذه المواصفات عناصر ثابتة في تركيبة هذه الشخصية. فقد تنضاف
إليها عناصر أخرى، وقد تهذب ولكن جوهرها يظل ثابتا.
*-
توزيع اختلافي : ويتعلق الأمر هنا من جهة بلحظات الظهور، ويتعلق من
جهة ثانية بالموقع الذي تحتله داخل المساحة النصية. ففيما يتعلق
بالعنصر الأول، فإن لحظات الظهور تشكل دائما لحظة قوية داخل حركة
الفعل السردي ( البداية، الوسط، النهاية ). أما فيما يتعلق بالعنصر
الثاني، فإن ظهور هذه الشخصية يتسم بالديمومة والاستمرارية. فهي، على
خلاف الشخصيات الأخرى، حاضرة حتى في غيابها ( مجموعة من الشخصيات
تتحدث عن هذه الشخصية ).
2 -
استقلالية اختلافية : و يتعلق الأمر هنا من جهة بنمط الظهور. فإذا
كانت الشخصيات الأخرى تظهر دائما مرفوقة بشخصيات أخرى، بحيث إن ظهور
الشخصية ش1 يستدعي ظهور الشخصية ش 2، فإن هذه الشخصية قد تظهر
منفردة، كما تظهر مرفوقة بأية شخصية أخرى. كما يتعلق من جهة ثانية
بصيغ السرد وصيغ الخطابات التي تعمل على إظهار هذه الشخصية. فهي
تستخدم المونولوج للتعبير عن نفسها، كما تستعمل الحوار وكل الصيغ
الخطابية الأخرى. وتتميز من جهة ثالثة بحركيتها داخل الفضاء والزمان،
وهي طريقة تشير إلى شمولية وحركية القيم التي تمثلها.
3 -
وظيفية اختلافية : إن الشخصية هنا تتحدد من جهة، من خلال المواصفات
والأفعال ونمط التوزيع، كمرجعية للعملية السردية ذاتها. فانطلاقا
منها ستنشر الحركة السردية خيوطها في اتجاهات متعددة، وتتحدد من جهة
ثانية كمرجعية ثقافية. إنها تمثل، من موقعها، جاذبا مغناطيسيا لكل
القيم المنتشرة في النص، وعبرها يتم التمييز بين القيم المرفوضة
والقيم المثمنة. كما تتحدد من جهة ثالثة من خلال سلسلة من الصيغ
التقديمية، فهي وسيط بين مجموعة من الشخصيات، ومرتبطة بالفعل وليس
بالقول. وفي هذا وذاك، تتميز من خلال صراعها مع عالم آخر ممثل من
خلال شخصيات أخرى.
4 -
تحديد عرفي مسبق : إن النوع هنا يلعب دورا رئيسا في تحديد الشخصية
الرئيسة. فمن خلال ميثاق القراءة يوجه القارئ نحو أسلوب معين في فك
التسنين الذي يخضع له نسق الشخصيات. فداخل هذا النوع أو ذاك يتحدد
البطل من خلال لباسه، أو هيأته العامة أو طريقة حديثه إلى الآخرين
وكذا الكلمات المسكوكة التي يستعملها.(23)
إن هذه
السلسلة من الإجراءات التمييزية، إن كانت تشير إلى الكثير من الخصائص
التي يشتمل عليها النص وخاصة فيما يتعلق بنسق الشخصيات، فإنها ليست
شاملة ولايمكن أن تكون كذلك. فالعملية الإبداعية في تطور مستمر،
والنوع الروائي يغتني بتجارب فنية لاتنفك تتجدد. وهذا ما يثري
النظرية ويعمق من رؤيتها ويوسع من دائرة تطبيقها.
ويكفي
أن نشيرهنا إلى حالتين لاتضع ما سبق موضع الشك، ولكنهما تضيفان عناصر
تنوع النموذج السابق. الحالة الأولى تمثلها النصوص المبنية انطلاقا
من تقسيم ثنائي للعالم يوزع العالم على نوعين متناقضين من القيم. وفي
هذه الحالة تقتضي عملية التمييز إجراء مزدوجا. فالتمييز الاختلافي
ينصب على شخصيتين في آن واحد. وكل شخصية تمثل عالما يشتمل على سلسلة
من الشخصيات، وهكذا يتم التمييز بين الشخصية (أ)، وبين باقي الشخصيات
التي تنتمي إلى نفس القسم. ويتم التمييز بين الشخصية (ب) وبين باقي
شخصيات القسم الذي تنتمي إليه هذه الشخصية.
أما
الحالة الثانية فهي الحالة التي تمثلها الروايات التي تتجنب طرح أية
نقطة استدلالية. وبعبارة أخرى يمكن لأية شخصية أن تشتغل في علاقتها
بمجموعة من الشخصيات كنقطة استدلالية. ففي هذه الحالة نكون أمام
''اللاقرار '' ، و"اللاقرار" هو استحالة ( أو صعوبة ) تحديد عالم
قيمي مثمن من لدن السارد. وبناء عليه فإن التميز يكاد يكون شاملا،
وكل شخصية تتلقى مواصفات وتقوم بوظائف تحددها كعالم قائم بذاته.
الهوامش
:
1) الكلية هنا بمعنى الاختيار الذي يعتنقه القارئ كتأويل خاص ضمن
تأويلات أخرى ممكنة.
2) Wit la Buder ( Alexander) : Le personnage dans la lecture
réaliste p 28
3) يقول وولف ستانبل "
إن العمل الأدبي في الجماليات الأدبية، كما طورها ميخاروفسكي
وأتباعه، لا ينظر إليه كوحدة، إنه يتشكل من حالتين : هناك أولا
النص\f0الشيء ( texte /chose) ويمثل العمل الأدبي من خلال طابعه
المادي المحتمل. و هناك " الموضوع الجمالي " الذي يعد نتاجا "لتجسيد
" القارئ، لهذا العمل. فهذا القارئ يعطي، في تطابقه مع معايير ( أو
السنن ) مرحلته، معنى للنص".
انظر Dieter Stemple ( Wolf ) :Aspects
géneriques de la reception p164-
4) Gili ( Y ) : A propos du texte littéraire et de Kafka, pp 40
-41
5) نفسه ص 41
6) فيليب هامون : سميولوجية الشخصيات
الروائية، ترجمة سعيد بنگراد، دارالكلام، 1990 ص 26
7) Greimas : Les actants ... p 170
8) إن الموضوع المباشر حسب بورس هو ما
توفره العلامة بطريقة مباشرة، في حين يتحدد الموضوع الديناميكي
كتجميع لكل المعلومات السابقة عن هذا الموضوع والمحددة له. إنه حصيلة
تجربة سميائية سابقة. انظر Carentini (Enrico) : Action du signe
انظر ايضا Desmedt ( Nicole ) : Le processus interprétatif
9) Eco ( umberto) :Lector in fabula
10) هامون المرجع السابق ص122
11) Iser ( wolfgang) :l'acte de
lecture ; p 13
12) هامون م س ص 126
13) نفسه ص 123 - 124
14) قول لفسيلوفسكي ورد فيLevi Strauss
( Claude ) : Anthropologie structurale , 159 p
15) Suleiman ( suzan -Rubin) : Le
roman à thèse p 72
16) نفسه ص 79
17) نفسه ص 14
18) يحدد هامون
خصائص الخطاب الواقعي في :
-العالم غني،
متنوع، متفتح
- بإمكاني تمرير
إرسالية
-باستطاعة اللغة
تمرير إرسالية
- اللغة ثانوية
في علاقتها بالواقع
-الحركة المنتجة
للإرسالية يجب أن تختفي
-على قارئي أن يؤمن
بصحة الخبر الذي أقدمه عن العالم
انظرHamon : un
discours contraint, p. 132,133
19) Robin (
Régine ) Le réalisme socialiste, une esthétique impossible, p. 276
20) هامون ، سميولجية
الشخصيات الروائية ، م س ص 60
21) Valette (
Bernard) :Esthetique du roman moderne, p. 87
22) المرجع
السابق ص 150، 151
23) انظر هامون
المرجع السابق من ص 63 -64 - 65 - 66.
|