معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

مؤلفــات بطاقة تعــريف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال   مواقـــع  خزانات الموقـع صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

 

أومبرتو إيكـو

الفصل الأول

التأويل والتاريخ

ترجمـة: سعيد بنگـراد

أصدر كاستييه سنة 1957 كتابا تنبؤيا بعنوان " زمن القارئ "(1). وفي سنة 1962 كتبت " العمل المفتوح " (2). ولقد دافعت في هذا الكتاب عن الدور الفعال للمؤول في عملية قراءة النصوص ذات الصبغة الجمالية. ولم ير القراء في هذا الكتاب سوى جانب "الانفتاح "، متناسين أن القراءة المفتوحة التي دافعت عنها هي نشاط نابع من أثر فني ( عمل يهدف إلى إثارة تأويل ). وبعبارة أخرى، لقد درست في هذا الكتاب الجدلية القائمة بين حقوق النص وبين حقوق المؤولين. ولدي الآن إحساس أن حقوق المؤولين فاقت في السنين الأخيرة كل الحقوق.

أما كتبي الأخيرة (3) فقد استندت فيها إلى السميوزيس اللامتناهية. وقد حاولت، في المؤتمر الذي عقد في هارفارد في سبتمبر 1989 حول بورس، أن أبرهن على أن مقولة السميوزيس اللامتناهية يجب ألا تقودنا إلى القول بغياب قاعدة للتأويل. فالقول بأن التأويل ( باعتباره مظهرا رئيسا للسميوزيس ) قد يكون لا متناهيا، لا يعني غياب أي موضوع للتأويل، كما لا يمكن القول بأن هذا التأويل تائه بلا موضوع ولا يهتم سوى بنفسه ( 4). فالقول بلا نهائية النص، لا يعني أن كل تأويل هو بالضرورة تأويل جيد.

وهناك نظريات حديثة تقول بأن القراءة الوحيدة الجدية للنصوص هي قراءة خاطئة، والوجود الوحيد للنصوص يكمن في سلسلة الأجوبة التي تثيرها. فالنص، كما يشير إلى ذلك تودوروف، بمكر ( مستندا إلى ما يقوله شولمبرج عن بُوهوم )، هو نزهة يقوم فيها المؤلف بوضع الكلمات ليأتي القراء بالمعنى.(5).

وحتى إذا افترضنا أن ما يقوله تودوروف صحيح، فإن الكلمات التي يأتي بها المؤلف تشكل ترسانة ثقيلة من المعطيات المادية التي لا يمكن للقارئ أن يتجاهلها. فإذا أسعفتني الذاكرة، فقد لاحظ أحدهم هنا في انجلترا منذ سنوات أنه" عندما نقول نستطيع الفعل ". إن تأويل نص معناه هو شرح كيف أن هذه الكلمات تحيل - في ذاتها- على أشياء مختلفة ( وليس على أشياء أخرى ). فإذا قال جاك باقرالبطون ( Jack l'Eventreur) إن مصدر أفعاله هو إنجيل القديس لوقا، فإن عددا كبيرا من النقاد سيقولون بأنه قرأ القديس لوقا بطريقة أقرب إلى العبث. أما الذين لا ينحازون إلى القارئ فسيقولون بأن جاك كان أحمق. ويجب أن أقول بكل أسف، رغم تعاطفي مع الذين ينحازون للقارئ ورغم أني قرأت كوبير (Cooper) ولانغ ( Laing) وغاتاري( Guattari)، إن جاك باقر البطون كان مريضا في حاجة إلى علاج.

أدرك أن هذا المثال مثال مصطنع وأن غلاة التفكيكيين سيتفقون معي ( أو على الأقل أتمنى ذلك، فمن يدري ). ومع ذلك يبدو أن حجة ما، مهما بلغت غرابتها، يجب أن تُحمل محمل الجد. إنها دليل على أن هناك حالة على الأقل، يمكن معها القول إن هذا التأويل خاطئ. وإذا استندنا إلى نظرية بوبر ( Popper) الخاصة بالبحث العلمي، فإن هذا سيكون كافيا لدحض الفرضية القائلة بأن التأويل لا يستند إلى أي معيار من معايير العامة ( من الناحية الإحصائية على الأقل ).

قد يُعترض علينا بالقول بأن البديل الوحيد لنظرية خاصة بالتأويل الجذري الموجه نحو القارئ هو ما يدعو إليه القائلون بأن التأويل الوحيد الصحيح هو ذاك الذي يروم الإمساك بالمقاصد الأصلية للمؤلف. ولقد أشرت، في بعض كتاباتي الأخيرة، إلى وجود إمكانية ثالثة تتوسط قصدية المؤلف ( وهي قصدية صعبة التحديد وبدون أهمية في تأويل نص ما ) والشخص المؤول الذي يكتفي بـ " إدخال النص إلى رحى تستجيب لغاياته " على حد تعبير رورتي، ( 6)، ويتعلق الأمر بقصدية النص.

سأحاول في المحاضرتين الثانية والثالثة توضيح ما أقصده بقصدية النص ( أو "قصدية النص" في مقابل أو في تفاعل مع "قصدية القارئ و "قصدية المؤلف" ).

وفي المقابل أود في هذه المحاضرة تقديم بعض التساؤلات التي تعود إلى الجذورالقديمة للسجال المعاصر حول دلالة نص ما ( أو التعددية الدلالية أو غياب أية دلالة متعالية). واسمحوا لي الآن ألا أقيم أي اعتبار للتمييز بين النص الأدبي والنصوص اليومية، وكذا الاختلاف بين النصوص التي تعتبر صورا للعالم وبين العالم الطبيعي ( وفق التصورات التقليدية المغرقة في القدم ) باعتباره نصا كبيرا يجب فك رموزه.

سآخذكم معي في رحلة أركيولوجية ستقودنا بعيدا عن النظريات المعاصرة للتأويل النصي. وستدركون بعد ذلك، عكس ما تعتقدون، أن الفكر الذي نطلق عليه " ما بعد الحداثة " سيبدو في مجمله وكأنه فكر ينتمي إلى الماضي البعيد.

لقد استضافني سنة 1987 المسؤولون عن معرض الكتاب في فرانكفورت لإلقاء محاضرة افتتاحية لهذا المعرض. وقد اقترحوا علي مناقشة اللاعقلانية الحديثة. ( قد يكون الأمر خاصا بموضوع ذي راهنية بينة ). ولقد أوضحت في البداية صعوبة تحديد اللاعقلانية دون امتلاك تصور فلسفي عن "العقل". وبكل أسف، فإن تاريخ الفلسفة كله يبين بأن تعريفا من هذا النوع لا إجماع عليه. فلا وجود لنمط واحد للتفكير لا ينظر إليه بأنه لا عقلاني انطلاقا من نموذج تاريخي لنمط آخر للتفكير، هو نفسه يُنظر إليه بأنه تفكير لاعقلاني. إن منطق أرسطو يختلف عن منطق هيجل . ف Ratio ، Ragione، Raison ، Reason و Vernunft مفاهيم لا تمتلك نفس الدلالة.

وعادة ما تشكل العودة إلى المعنى العادي الذي تقدمه القواميس لهذه الكلمات طريقة أخرى لإدراك معاني المفاهيم الفلسفية. ومن جهتي أعتقد أن مرادفات " لا عقلاني" في الألمانية هي :

unsinnig ، unlogisch، unvernunflig ،sinnlos *. أما في الإنجليزية، فإن مرادفاتها هي : senseless، absurd ، non sensical ، incoherent ، * * delirious .

إن هذه الدلالات هي أشمل و إما قاصرة على تحديد جهات نظر فلسفية جديرة بهذا الاسم. ومع ذلك، فإن هذه المصطلحات تشير إلى شيء يتجاوز الحدود التي يقيمها معيار ما. إن أحد أضداد "irraisonnableness" ( حسب قاموسRoget's Thesaurus) هو " moderateness " . فأن تكون معتدلا، فهذا معناه أنك لا تتجاوز" الحد" (modus ) أي لا تتجاوز الحدود والمقاييس. إن هذا اللفظ modus] يذكرنا بقاعدتين نحن مدينون بهما للحضارتين الإغريقية واللاتينية. ويتعلق الأمر بالمبدإ المنطقي لـ " الحد المطروح "modus ponens، ويتعلق الثاني بالمبدأ الأخلاقي الذي صاغه هوراس بقوله : >إن الحد يوجد في الأفكار. والأفكاراليقينية هي تلك التي تشكل حدودا وتقع على الجانبين من الخط<(7).

وهذا معناه أن مقولة الحد (modus)، كانت على قدر كبير من الأهمية. فهي إن لم تكن كذلك في تحديد الاختلاف بين العقلانية واللاعقلانية، فقد كانت كذلك من أجل التمييز بين موقفين تأويليين أساسين، أو طريقتين في فك رموز النص باعتباره عالما، وباعتبار العالم نصا.

إن العقلانية الإغريقية، من أفلاطون إلى أرسطو وكل من يدور في فلكهما، قد انبنت على مبدإ مفاده أن المعرفة هي إمساك بالسبب. إن تعريف الله، انطلاقا من هذا الرابط، معناه تحديد سبب يقصي كل سبب آخر. فلكي تكون قادرا على منح العالم تعريفا سببيا، يجب بالضرورة أن تستحضر فكرة وجود سلسلة وحيدة الاتجاه. إن وجود حركة تسير من "أ" إلى "ب "يفترض غياب أية قوة قادرة للسير بهذه الحركة من "ب" إلى "أ".

من هنا، ومن أجل تبرير الطابع الخطي الأحادي الاتجاه للسلسلة السببية، يجب الاستناد إلى مجموعة من المبادئ : مبدأ الهوية ( "أ"= "أ" )، مبدأ عدم التناقض ( يستحيل أن يكون الشيء "أ "ولا "أ" في نفس الآن )، ومبدإ الثالث المرفوع ( "أ" إما صحيحة وإما خاطئة ).

إن النموذج النوعي للفكر العقلاني الغربي كـ"حد مطروح" منبثق من هذه المبادئ وهي عينها شرط وجوده.

وحتى في الحالة التي لا تسمح فيها هذه المبادئ بإسناد نظام فيزيقي للكون، فإنها مع ذلك تعد مصدرا لتعاقد اجتماعي. ولقد تبنت العقلانية اللاتينية عقلانية اليونان، ولكنها عدلتها وأغنتها بمنحها معنى شرعيا وتعاقديا. إن المعيار الشرعي هو" الحد" ، إلا أن " الحد" في الوقت ذاته هو النهاية والحدود أيضا.

ولقد استهوت اللاتينيين فكرة الحدود الفضائية هاته. وكانت هي أصل الخرافة الخاصة بتأسيس روما : لقد خط روميليس على الأرض خطا، وقتل أخاه لأنه لم يحترم في نظره هذا الخط. ذلك أن رفض فرضية الحدود هاته سيتولد عنها غياب أية مدينة. لقد أصبح هوراس بطلا لأنه استطاع أن يمنع العدو من اجتياز الحدود ( جسر يفصل بين الرومان والآخرين ). إن الجسور هي عمل تدنيسي، لأنها تخطي للخندق المليء بالماء الذي يعين حدود المدينة. ولهذا السبب، فإن هذه الجسور لا يمكن أن تشيد إلا بحضور البابا وتحت رقابته.

إن إيديولوجية "السلم الروماني" وكذا الغايات السياسية لـ أوغيست ( Auguste) امبراطور روماني]، تستند إلى تعريف دقيق للحدود : إن قوة الإمبراطورية مستمدة من معرفة دقيقة للموقع الحدودي الذي يشكل نقطة يجب، انطلاقا منها، تحديد خطوط الدفاع. وإذا حدث أن انتفت هذه الحدود وقام البربر ( الرحل الذين تركوا أوطانهم الأصلية ليضربوا في الأرض كما لو أنها ملك لهم وهم مستعدون دائما لتركها من أجل أرض أخرى ) بفرض تصورهم البدوي، فإن ذلك سيشكل نهاية روما، حينها ستكون عاصمة الأمبراطورية في أي مكان آخر.

لم يقم جول سيزار، عندما أقدم على اجتياز الريبيكون ( Rubicon)***، بارتكاب معصية فقط، بل لقد كان على علم أنه بفعله هذا لا يستطيع أبدا إصلاح ما فعل، لقد وقع ما كان مقدرا ( alea jecta est). إن الزمن نفسه محكوم بالحدود. فما وقع لا يمكن أبدا محوه. فالزمن لا يمكن أن يستعاد. وهذا المبدأ هوالذي يحكم التركيب اللاتيني. إن اتجاه وتتابع الزمن -الذي هو من طبيعة خطية كوسمولوجية- يتشكل من نسق من الوحدات الفرعية ضمن تتابع زمني. إن هذا الإنجازالباهر للواقعية ذات البعد الحدثي المتمثلة في وجود مفعول مطلق يعني أن فعل شيء ما أو افتراضه أمر لا رجعة فيه.

لقد تساءل القديس توماس الأكويني في quastio quodlibetati ( 5 . 3 .3 ) قائلا : هل تستطيع امرأة فقدت بكارتها، أن تعود إلى حالة الطهارة الأصلية؟. لقد كان جوابه واضحا. إن الله قادرعلى الصفح، ويمكن للبكر أن تنعم بعفوه؛ وبإمكان الله، بمعجزة ما، أن يعيد لها سلامة جسدها، إلا أن الله ذاته لا يستطيع أن يجعل من الذي حدث أمرا لم يحدث. ذلك أن خرق قوانين الزمن أمر مناف لطبيعته. إن الله لا يمكنه أن يخرق القوانين المنطقية التي بموجبها تكون الصيغة : " أ حدث " و " أ لم يحدث " أمر في غاية التناقض. لقد وقع ما كان مقدرا alea jecta est.

الهرمسية والتأويل اللامحدود]

وإلى هذا النموذج العقلاني الإغريقي واللاتيني استندت الرياضيات والمنطق وبرمجة الحواسيب. ورغم ذلك، فإن هذا النموذج لم يكن شاملا للتراث الإغريقي كله. لقد كان أرسطو إغريقيا، إلا أن غرائبية أوليزيس كانت إغريقية أيضا. لقد كان العالم الإغريقي على الدوام فريسة لفكرة "اللانهائي". إن اللانهائي هو الذي لا يملك حدودا، إنه ينزاح عن القاعدة. ولأن الحضارة الإغريقية كانت مهوسة بفكرة اللانهائي، فإنها بلورت، على هامش مبدأي "الهوية" و"عدم التناقض"، فكرة المسخ الدائم مرموزا إليها بهرمس. ولقد كان هرمس كائنا متقلبا وغامضا، فقد كان أبا لكل الفنون وربا لكل اللصوص في الوقت ذاته، ولقد كان شيخا وشابا في ذات الوقت.

وفي أسطورة هرمس هذا نعثر على نفي لمبدإ الهوية ومبدأ عدم التناقض وكذا لمبدأ الثالث المرفوع؛ وفيها أيضا تنكفئ السلاسل المنطقية على نفسها لتشكل هرما حلزونيا : فالـ" ما بعد " يسبق الـ" ماقبل" ، والله لا يعترف بأية حدود فضائية، ويمكنه أن يكون، على هيئات متنوعة، في أماكن متعددة في وقت واحد.

لقد ساد هرمس في القرن II الميلادي. ولقد كان هذا القرن فترة نظام وسلم سياسيين. فقد توحدت شعوب الإمبراطورية تحت لواء لغة واحدة وثقافة مشتركة. ولم يعد أحد يجرؤ على تغييرالنظام لا سياسيا ولا عسكريا. وستشهد هذه الفترة ميلاد مفهوم "التربية العامة" الغاية منها تكوين إنسان كامل ينهل من كل التخصصات. وبينما كانت هذه المعرفة تصبو إلى تكوين إنسان كامل ومنسجم، كان عالم القرن الثاني الميلادي يعج بالأعراق واللغات : لقد أصبح ملتقى لكل الشعوب والأفكار، وأصبح لكل الآلهة الحق في الوجود. ولقد كانت هذه الآلهة تمتلك، في بداية الأمر، دلالة عميقة عند من يعبدونها، إلا أن التهام الأمبراطورية لأوطان تلك الشعوب أدى إلى تدمير هويتها أيضا. فلم يعد هناك فرق بين إزيس Isisوأستارتي(Astarté) وديمتير(Démeter ) وسيبيل( Cybele) وأنايتيس(Anaïtis ) ومايا (Mai).****

إن قصة ذلك الخليفة الذي أمر بتدمير خزانة الأسكندرية قصة مشهورة جدا. فقد كان يدعي أن هذه الكتب إما أنها تقول نفس ما يقوله القرآن، وفي هذه الحالة لا حاجة لنا بها، وإما أنها تقول ما لا يقوله القرآن وهي في هذه الحالة كتب خطيرة. لقد كان هذا الخليفة ملما بالحقيقة مالكا لها، وإليها كان يستند للحكم على هذه الكتب.

أما هرمسية القرن II ، فقد كانت، على النقيض من ذلك، تبحث عن حقيقة تجهلها، وكل زادها في ذلك هو الكتب. وعلى هذا الأساس، كانت تتخيل أو تتمنى أن يكون كل كتاب مشتملا على جزئية بسيطة من هذه الحقيقة، فكل كتاب كان يثبت ما يقوله الكتاب الآخر. وتحت تأثير هذا البعد التوفيقي انهار أحد مبادئ العقلانية الإغريقية أي ما يعود إلى مبدإ الثالث المرفوع. فأشياء كثيرة يمكن أن تكون صحيحة حتى لو تناقضت فيما بينها.

وإذا كانت كل الكتب تقول الحقيقة حتى لو أدى ذلك إلى تناقضها، فإن ذلك ممكن لأن كل كلمة هي في الأصل إيحاء أو مجاز. إنها تقول شيئا آخر غير ما يبدو في الظاهر. إن كل كلمة تشتمل على إرسالية لا يستطيع الفرد وحده أن يكشف عنها. ولكي نستطيع فهم الإرسالية الغريبة التي تشتمل عليها الكتب، وجب البحث عن تجليات ذلك في ما هو أبعد من الكلام الإنساني. إنه كشف قد تأتي به القوة الإلهية ذاتها عن طريق الرؤية أوالحلم أو الوحي. إن هذا الوحي الذي لم يسبق له مثيل يجب أن يحدثنا عن إله مجهول وعن حقيقة ظلت مجهولة.

إن المعرفة السرية معرفة عميقة ( ذلك أن ما يوجد تحت السطح هو وحده الذي قد يظل مجهولا لفترة طويلة ). وبناء على ذلك، فإن الحقيقة ستكون هي ما لم يقل، أو هي ما قيل بطريقة غامضة، ويجب أن تفهم في ما هو أبعد من ظاهر النص. إن الآلهة تتكلم ( نقول اليوم : الكائن يتكلم ) عبر إرساليات هيروغليفية ومليئة بالألغاز.

إن البحث عن حقيقة مخالفة، كان نابعا، في الواقع، من حذر ما تجاه التراث الإغريقي. فكل معرفة حقيقية يجب أن تكون عتيقة. إنها آثار الحضارات التي أهملها رواد العقلانية الإغريقية. إن الحقيقة شيء ينتمي إلى حياتنا اليومية منذ بدء الخليقة، إلا أننا نسيناها. وإذا كنا قد نسينا هذه الحقيقة، فقد كان من الضروري أن يكون هناك من يحفظها لنا. ولا يمكن أن يكون هذا سوى كائن لا نستطيع فهم كلماته. من هنا، فإن هذه الحقيقة ستكون ذات طابع غرائبي. وقد بين يونغ كيف أننا نميل إلى البحث عن صور لحضارات أخرى كلما أصبحت الصورة الإلهية صورة عادية ومألوفة أو فقدت غرابتها. إن الرموز الغرائبية هي وحدها القادرة على الاحتفاظ بهالة قدسية.

ولقد سقطت هذه المعرفة في القرن الثاني الميلادي بين أيدي الكهنة الغاليين والقساوسة السالتيين وحكماء الشرق الذين يتكلمون لغات غير مفهومة. ولقد كانت العقلانية الكلاسيكية ترى في البرابرة قوما لا يتكلمون بشكل سليم ( وهو ما يشير إليه الجذر الاشتقاقي barbaros الشخص الذي به عي في النطق ).

إلا أن الأمر اختلف بعد ذلك، فقد أصبحت تمتمة الأجنبي هي اللغة المقدسة، الغنية بالوعود والكشف الصامت. فبينما كان الشيء صحيحا إذا كان بالإمكان شرحه، فإن الأمر أصبح عكس ذلك، فالشيء الصحيح هو أساسا ذاك الذي لا يمكن شرحه.

فما فحوى هذه المعرفة الموغلة في الغرابة التي يملكها قساوسة البربر ؟ إن الفكرة الشائعة تقول إن هؤلاء القساوسة كانوا على علم بالروابط السرية التي تجمع بين العالم الروحي وبين عالم الكواكب، وبين ما يجمع هذا الأخير بالعالم الأرضي. وهو ما يعني أن التأثير على كوكب ما يؤدي إلى التحكم في سير النجوم، وسيرالنجوم يؤثر في مصير الكائنات الأرضية. كما أن العمليات السحرية على صورة إله ما تجبر هذا الإله على أن يسير وفق إرادتنا. فما يجري في السماء شبيه بما يجري في الأرض. لقد أصبح الكون صرحا هائلا من الثلوج حيث إن كل شيء مفرد يعكس ويدل على كل الأشياء الأخرى.

لا يمكن الحديث عن تداخل وتشابه كوني إلا إذا نحن ألغينا من حسابنا مبدأ عدم التناقض. إن تداخل الكون وليد انبعاث إله في الكون. إلا أن أصل هذا الانبعاث هو الواحد * غير القابل للمعرفة، ويعد هذا الواحد بؤرة التناقضات في ذاتها. ولقد حاولت الأفلاطونية الجديدة أن تبين أننا لا نستطيع معرفة الله من خلال حدود مألوفة، وذلك لعدم ملاءمة لغتنا لذلك. أما بالنسبة للفكر الهرمسي، فإن اللغة بقدر ما تكون غامضة ومتعددة، بقدر ما تكون غنية بالرموز والاستعارات، وهو ما يجعلها قادرة على تعيين الله الذي يحتضن داخله كل المتناقضات. ومع ذلك، فما يشكل احتفاء بتطابق المتناقضات هو نفسه ما يؤدي إلى انهيار مبدإ الهوية. كل شيء مرتبط بغيره.

إن خلاصة كل ما سبق هي أن التأويل غير محدود. إن محاولة الوصول إلى دلالة نهائية ومنيعة سيؤدي إلي فتح متاهات وانزلاقات دلالية لا حصر لها. فالنبتة لا تتحدد انطلاقا من خصائصها المورفولوجية والوظيفية، بل تتحدد انطلاقا من تشابهها مع عنصر آخر داخل الكوسموس، حتى ولو كان هذا التشابه تشابها جزئيا. فإذا كانت هذه النبتة تشبه، بشكل عام، جزءا من الجسم الإنساني، فدلالتها آتية من كونها تحيل على الجسد، وهذا الجزء من الجسم له دلالة لأنه يحيل بدوره على نجم، وهذا النجم له دلالة لأنه يحيل على تراتبية ملائكية، وهكذا إلى ما لا نهاية. فكل شيء، سواء كان أرضيا أو سماويا، يخفي داخله سرا. وكلما تم الكشف عن سر ما، فإن هذا السر سيحيل على سر آخر ضمن حركة تصاعدية موجهة نحو سر نهائي. إن السر النهائي في الطقوس الاستئناسية الهرمسية يكمن في أن كل شيء يخفي سرا. ولهذا السبب، فإن السر الهرمسي لا يمكن أن يكون سوى سر فارغ، ذلك أن الذي يزعم أنه قادر على الكشف عن هذا السر لم يأخذ بعد حظه الكافي من الاستئناس، ولم يتجاوز حدود المعرفة السطحية للسر الكوني.

إن الفكرالهرمسي يحول مسرح العالم كله إلى ظاهرة لسانية ويحرم اللسان، في الآن نفسه، من أية سلطة إبلاغية. وتقول النصوص المؤسسة للمتن الهرمسي( corpus hermeticum) التي رأت النور في حوض البحرالأبيض المتوسط في القرن الثاني، إن هرمس المثلث بالحكمة( trismegiste) سيتلقى نبوءته عبر رؤية أو حلم وسيتبدى له النوس ( Noûs) العقل]. والنوس عند أفلاطون هي الملكة المولدة للأفكار، وهي عند أرسطو العقل الذي يمكننا من التعرف على الجواهر. ولقد كان لمرونة النوس أثر مخالف للعمليات المعقدة لـ الدينويا "dianoia" التي كانت تعد، في زمن أفلاطون نفسه، تجسيدا للتأمل التحليلي، والنشاط العقلاني. وكانت آثار هذا النوس مخالفة أيضا للإبستيمي باعتباره علما ولـ الفرونيزيس "phronesis" باعتباره تأملا في الحقيقة. ورغم ذلك لم يكن هناك أي شيء غير قابل للوصف في طريقة اشتغال هذا النوس.

وعلى النقيض من ذلك، فإن النوس سيصبح في القرن الثاني ملكة للحدس الصوفي، والإشراق اللاعقلاني، سيصبح ملكة للرؤية المباشرة والعفوية. ولم يعد الكلام والنقاش والحجاج أمورا ضرورية. يكفي أن ننتظر مجيء شخص سيكلمنا، وسيأتي الضوء على إثر ذلك سريعا لدرجة أنه سيضمحل في الظلمات. إنه الاستئناس الحقيقي الذي لا يستطيع المريد أمامه أن يقول أي شيء.

فبدءا من اللحظة التي تنتفي فيها الخطية الزمنية التي يتحدد نظامها من خلال الروابط السببية، فإن الوقع سينقلب على نفسه وعلى أسبابه. وهو ما يحدث في السحر، وهو ما يحدث أيضا في الفيلولوجيا. فالمبدأ العقلاني : "تعلق اللاحق بالسابق" سيعوض بـ "تعلق السابق باللاحق". وما قام به مفكرو عصر النهضة لتبيين أن المتن الهرمسي لم يكن نتاج ثقافة إغريقية، بل كتب قبل أفلاطون مثال على هذا الموقف. فأن يشتمل هذا المتن على أفكار لم تكن متداولة في عصر أفلاطون يدل ويثبت في الآن نفسه أن هذا المتن سابق على أفلاطون.

وإذا كان هذا هو حال الأفكار الهرمسية الكلاسيكية، فإنها ستظهر من جديد لحظة انتصارها على العقلانية السكولائية في القرون الوسطى. فالمعرفة الهرمسية ستحافظ على وجودها طيلة القرون التي حاولت فيها العقلانية المسيحية إثبات وجود الله عبر نماذج برهانية مستوحاة من الحد المطروح (modus ponens). إنها ستستمر على شكل ظاهرة هامشية في أعمال الخمياويين والقباليين اليهود وفي أحضان ما تبقى من الأفلاطونية الجديدة في القرون الوسطى.

وسيعاود هذا المنتوج، الذي ينتمي إلى القرن الثاني، الظهور من جديد مع إطلالة ما نطلق عليه العالم الحديث ( في انتظار بزوغ الاقتصاد البنكي ) في فلورانسا؛ وسيكون شهادة على معرفة ممتدة بجذورها إلى فترة سابقة على النبي موسى. وسيعود النموذج الهرمسي - بعد أن أعاده إلى التداول كل من بيك دولاميرونديل (pic de la mirandole)، و فيسين جوهانيس روشلين( Ficin et Johannes Reuchlin)، أي من ينتمون إلى الأفلاطونية الجديدة لعصرالنهضة وكذا القباليون المسيحيون - ليغذي جزءا كبيرا من الثقافة الحديثة كما سيغذي السحر والعلم.

إن تاريخ هذا الانبعاث تاريخ معقد : لقد أثبت التاريخ أنه من الصعب أن نفصل بين التيار الهرمسي وبين التيارالعلمي، وبين باراسيلس Paracelse وبين غاليلي. فقد مارست المعرفة الهرمسية تأثيرها على فرانسيس بيكون وعلى كوبرنيك، كما مارست هذا التأثير على كيبلر ونيوتن. ولقد ولد العلم الكمي الحديث عبر حوار مع المعرفة النوعية الهرمسية.

إن النموذج الهرمسي يشير في نهاية التحليل إلى إمكانية قلب نظام الكون الذي تصفه العقلانية الإغريقية، كما سيكون بالإمكان الكشف، داخل هذا الكون، عن علاقات جديدة تمكن الإنسان من الفعل في الطبيعة وتغيير مجراها.

ومع ذلك، فإن هذا التأثير مرتبط أشد الارتباط بقناعة تقول بأن العالم لا يجب أن يوصف انطلاقا من حدود منطقية نوعية، بل انطلاقا من منطق كمي. وبهذا سيساهم النموذج الهرمسي، وبشكل مفارق، في ميلاد عدوه الجديد : العقلانية العلمية الحديثة. إن اللاعقلانية الهرمسية ستتأرجح، بدءا من هذا التاريخ، بين الصوفيين والخمياويين من جهة، وبين الشعراء والفلاسفة من جهة ثانية : من غوته إلى جيرار دو نيرفال وييتز، من شيلينج إلى فرانز فون بادر، ومن هايدغر إلى يونغ. وليس من العسير العثور في النقد مابعد الحداثي على مفاهيم كثيرة تحيل على فكرة الانزياح الدائم للدلالة. فالفكرة التي عبرعنها بول فاليري القائلة بـ" أن لا وجود لمعنى حقيقي للنص" هي فكرة هرمسية.

ولقد أكد جيلبير دوران في أحد كتبه (8) ( ورغم اشتمال هذا الكتاب على حجج مغرية فقد أساء إليه الحماس الإيماني للمؤلف) بأن الفكر المعاصر في مجمله يغلب عليه النفس الحيوي للهرمسية، وذلك في مقابل الإبدال الآلي للوضعية. وقدم في هذا الشأن لائحة من العلاقات البالغة الدلالة : سينغلر، بولي، ديلتي، نيتشه، هوسرل، كرينيي، بلانك، بولي، أوبنهايمر، إنشتين، باشلار، سوريكين، ليفي شتراوس، فوكو، ديريدا، بارث، تودوروف، شومسكي، گريماص، دولوز.

الغنوصية ومتاهات التأويل]

إلا أن هذا النموذج الفكري الذي حاد عن المعيار العقلاني الإغريقي واللاتيني، سيظل ناقصا إذا نحن لم نستحضر ظاهرة أخرى عرفت النور في نفس الفترة التاريخية. فتحت تأثير رؤى صاعقة، بلور إنسان القرن الثاني الميلادي، وهو يتلمس طريقه في بحر من الظلمات، وعيا عصابيا يتعلق بدوره داخل عالم غير قابل للفهم. إن الحقيقة سر، ولن تجدي مساءلة الرموز والأحاجي للكشف عن الحقيقة النهائية، فذلك لن يقود إلا إلى تغيير هذا السر من موقع إلى موقع آخر. فإذا كان هذا هو الشرط الإنساني، فإن هذا يعني أن العالم نتاج خطإ ما. وسيكون التعبير الثقافي عن هذه الحالة النفسية هو الغنوصية (Gnose ).

إن الغنوصية تحيل في الإرث العقلاني الإغريقي على المعرفة الحقيقية للوجود التي تعد حوارية ودياليكتيكية في الآن نفسه، في تقابلها مع الإدراك الحسي البسيط أو المعيار. وسيصبح هذا المفهوم، في القرون الأولى للمسيحية، دالا على المعرفة الحدسية، السابقة على العقلانية. إنه يعين الهبة الإلهية المكتسبة أو الممنوحة من السماء والقادرة على إنقاذ كل من يحتمي بها. إن الوحي الغنوصي يقول، بطريقة أسطورية، إن الألوهية ذاتها، الغامضة وغير المعروفة، تحتوي مسبقا على الأصل المولد للجنون وعلى الخنثوية. وهو ما يجعلها كيانا متناقضا منذ البداية، لأنها لا تتطابق مع نفسها. إن الذي ينفذ أوامرها ينبعث من جديد ويولد معه عالم قلق ومزيف تتسلل داخله جزئية من هذه الألوهية كما لو أنها تتسلل إلى سجن أو منفى. إن العالم الذي خلق خطأ هو كون مجهض. فالزمن، تلك المحاكاة المشوهة للخلود، يعد أحد مظاهر هذا الإجهاض.

ولقد حاولت الدراسات الكنيسية، طوال نفس الفترة، عقد مصالحة بين المسيانية اليهودية ( messianisme) (9) والعقلانية الإغريقية. ولهذا اخترعت مفهوم العناية الإلهية لكي تكون نبراسا عقلانيا للتاريخ. وطورالاتجاه الغنوصي من جهته، حالة نفور ورفض للزمن والتاريخ.

إن الغنوصي ينظر إلى نفسه باعتباره كيانا منفيا وضحية لجسده الخاص، معتبرا هذا الجسد قبرا ومنفى. لقد قذف به إلى العالم، وعليه أن يجد مخرجا منه. إن الوجود شر ونحن نعرف هذا الشر. وبقدر ما ينتابنا شعور بالإحباط في هذا الوجود الأرضي، بقدر ما نكون فريسة لهذيان جارف ورغبة في الانتقام. وعلى هذا الأساس كانت الغنوصية ترى في نفسها شرارة إلهية تم هجرها نتيجة مؤامرة كونية. وإذا ما استطاع الإنسان العودة إلى الله، فإنه لن يعود من جديد إلى بداياته الأولى فحسب، بل سيكون بإمكانه بعث هذه الأصول وتخليصها من الخطيئة الأصلية.

إن الإنسان بقدر ما هو سجين داخل عالم مريض، بقدر ما ينتابه شعور بأنه يختزن قوة فوق إنسانية. ولن يُغفر للألوهية ما أحدثته من شروخ إلا إذا أراد الإنسان ذلك. إن الإنسان الغنوصي هو إنسان كلي (Ubermensch)، في مقابل ضحايا المادة ( kylikoi). إن الذين ينتمون إلى الروح هم وحدهم القادرون على الوصول إلى الحقيقة، وبالتالي إلى الخلاص. وعلى عكس المسيحية التي كانت دينا للعبيد، فإن الغنوصية كانت دينا للأسياد.

ومن الصعب ألا نرى في الكثير من مظاهر الثقافة الحديثة والمعاصرة تعبيرا عن إرث غنوصي. لقد قيل عن الحب العذري ( الحب الرومنسي ) بأنه يعود بجذوره إلى المانوية أي الغنوصية لأنه قائم على العفاف وفقدان الحبيب، وهو إلى ذلك حب روحي يستبعد العلاقات الجنسية.

إن التمجيد الجمالي للشر، باعتباره تجربة ثورية، هو بالتأكيد من طبيعة غنوصية، تماما كما هو حال كثير من الشعراء الذي راحوا يبحثون عن تجربة رؤيوية عبر الانغماس الكلي في الجسد واستنفاد كل الطاقات الجنسية والنشوة الصوفية والمخدرات والهذيان اللفظي.

ولقد رد بعضهم المبدأ الأساس للرومنسية إلى جذور غنوصية. فهذا المبدأ هو إثبات جديد للتاريخ والزمن بغاية واحدة هي تحويل الإنسان إلى أداة لاستعادة الروح. ولم يقم لوكاتش من جهته إلا بترجمة الحالة المرضية للغنوصية إلى لغة ماركسية. فقد ادعى بأن اللاعقلانية الفلسفية في القرنين الماضيين لم تكن سوى اختراع برجوازي كانت الغاية منه هي الخروج من الأزمة التي كانت تواجهها البرجوازية، وتقديم تبريرات فلسفية لإرادة القوة لديها، وتبريرا كذلك لممارساتها الإمبريالية.

ولقد أشار البعض الآخر إلى وجود بقايا الغنوصية في الماركسية ذاتها، كما في اللينينية ( النظرية التي ترى في الحزب رأس حربة، نخبة مالكة لمفاتيح المعرفة ومن ثم لمفاتيح الخلاص ). كما رأى فيها البعض الآخر منبعا للوجودية، خاصة لوجودية هايدغر ( الوجود Dassein باعتباره " كينونة ملقاة في حضن العالم "، العلاقة بين الوجود المدني والزمن والتشاؤم ).

ولقد أجهد يونغ نفسه، وهو يتأمل العقائد الهرمسية القديمة، لكي يرى فيها اكتشافا جديدا لـ "الأنا الأصلية". وبنفس الطريقة، تم اكتشاف عنصر غنوصي في كل إدانة من لدن الأرستقراطية لمجتمع الجماهير، حيث قام رسل الأجناس المختارة بحملة تقتيل وسحق وإبادة للعبيد المنغمسين في ملذات الدنيا، وذلك من أجل الوصول إلى الكمال الأقصى.

لقد أنجبت الهرمسية والغنوصية هذه الحساسية تجاه السر. فإذا كان المريد هو الذي يفهم السر الكوني، فإن هذا يفسر كيف أن تلاشي النموذج الهرمسي قد قاد إلى الاعتقاد بأن السلطة تكمن في جعل الآخرين يعتقدون في أن جهة ما تمتلك السر السياسي. والسر في نظر جورج سيمال :

> يمنح من يمتلكه موقعا استثنائيا. فالسر شبيه بجاذب مغناطيسي له محددات اجتماعية خاصة. إنه مستقل عن السياق الذي يعد هو حارسه. وتزداد فعالية هذا السر كلما كان امتلاكه امتلاكا كليا وهاما. فالسر الذي يضيئ كل ما هو عميق وهام ينتج الخطأ القائل بأن كل ما هو غريب وهام هو شيء أساس. فاتجاه المجهول، سيكون رد الفعل الطبيعي للإنسان هو الميل إلى الأمْثَلَة وكذا إلى الحذر الدائم، وهما ما سيؤدي إلى نفس الغاية : تضخيم المجهول عن طريق التخيل وإيلاؤه اهتماما أكبر من ذلك الذي نوليه للواقع المحسوس<.(10)

الهرمسية والقراءة المعاصرة ]

وسأحاول الآن، من خلال هذه الرحلة في الموروث الهرمسي، أن أبين أين تكمن الأهمية في فهم بعض مظاهر النظرية التأويلية المعاصرة للنصوص.

من المؤكد أن تصورا ماديا ساذجا لن يكون كافيا لإيجاد رابط بين أبيقور وستالين. وبنفس المعنى، من الصعب جدا إيجاد عناصر مشتركة بين نيتشه وتشومسكي، رغم كل مظاهر الاحتفاء الهرمسي الواردة عند جيلبير دوران. ومع ذلك، سيكون مجديا، في هذه المحاضرات، أن أقوم بتعداد المظاهر الرئيسة لما أود أن أطلق عليه "المقاربة الهرمسية للنصوص". ففي الهرمسية القديمة، كما في الكثير من المقاربات المعاصرة، نعثر على سلسلة من الأفكار المتشابهة:

- النص كون مفتوح ( open-end) بإمكان المؤول أن يكتشف داخله سلسلة من الروابط اللانهائية.

- إن اللغة عاجزة عن الإمساك بدلالة وحيدة ومعطاة بشكل سابق. إن مهمة اللغة، على العكس من ذلك، لا تتجاوز حدود إمكانية الحديث عن تطابق للمتناقضات.

- إن اللغة تعكس لاتلاؤم الفكر. إن وجودنا في الكون عاجز عن الكشف عن دلالة متعالية.

- إن كل نص يدعي إثبات شيء ما هو كون مجهض، أي نتاج كائن يشكو من اختلال ذهني (وهو يريد أن يقول " كذا " و" كذا"، فإنه ينتج سلسلة لامتناهية من الإحالات مثل " هذا" ليس " هذا").

- إن الغنوصية النصية المعاصرة متسامحة جدا. فبإمكان أي كان أن يكون كائنا كليا، شريطة أن تكون لديه الرغبة في أن يحل قصدية القارئ محل قصدية الكاتب التي تستعصي على الضبط، لحظتها سيصل إلى الحقيقة، حقيقة أن الكاتب لا يعرف ما يقوله، فاللغة هي التي تتحدث نيابة عنه.

ومن أجل إنقاذ النص، أي نقله من وضع الحاضن لدلالة ما والعودة به إلى طابعه اللامتناهي، على القارئ أن يتخيل أن كل سطر يخفي دلالة خفية. فعوض أن تقول الكلمات، فإنها تخفي ما لا تقول. إن مجد القارئ يكمن في اكتشافه أنه بإمكان النصوص أن تقول كل شيء باستثناء ما يود الكاتب التدليل عليه. ففي اللحظة التي يتم فيها الكشف عن دلالة ما، ندرك أنها ليست الدلالة الجيدة، إن الدلالة الجيدة هي التي ستأتي بعد ذلك، وهكذا دواليك. إن الأغبياء، أي الخاسرين، هم الذين ينهون السيرورة قائلين : " لقد فهمنا". إن القارئ الحقيقي هو الذي يفهم أن سر النص يكمن في عدمه.

إني أدرك جيدا أن العرض الذي قدمته عن النظريات التأويلية الأشد تطرفا والمستندة إلى القارئ، عرض كاريكاتوري. ومع ذلك، فعادة ما يقدم الكاركاتور بورتريه جيدا، إن لم يكن لما هو كائن، فهو كذلك بالنسبة لما سيأتي، شريطة أن يدفع بفرضيات المنطلق إلى نتائجها القصوى.

وما أود قوله هو أن هناك، في موضع ما، مقاييس تسمح بإيقاف التأويل. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فإننا سنقع في مفارقة من طبيعة لسانية، كتلك التي صاغ حدودها ماسيدو فيرنانيدز: > هناك أشياء كثيرة ناقصة في هذا العالم، وإذا أضيف إلى ذلك نقصان شيء جديد، فلن يكون لهذا الشيء أي موضع <.

أعرف أن هناك نصوصا شعرية كانت الغاية منها هي البرهنة على لانهائية التأويل. وأعرف أيضا أن Finnegans Wake كتب لقارئ نموذجي يشكو من أرق مثالي. إلا أنني أعرف أن الأعمال الكاملة لماركيز دو ساد ( Marquis de Sade) إذا كانت قد كتبت لكي تشرح لنا ما هوالجنس، فإننا، في أغلبنا، معتدلون في هذا المجال.

يروي جون ويلكيز في مستهل Mercury; Or, the secret and swift Messenger ( 1641) :

> كم كان فن الكتابة غريبا عندما اكتشف لأول مرة. إنه أمر يمكن أن نتخيله، ونحن نفكر في الأمريكيين الذين اكتشفوا، مذهولين، أن هناك من يتحدثون مع الكتب، وكان عسيرا عليهم أن يصدقوا أن بإمكان ورقة أن تتحدث.

وهناك قصة تتحدث عن هذا. وهي قصة عبد هندي أرسله سيده بسلة مليئة بالتين وبداخلها رسالة. وفي الطريق أكل العبد الجزء الأكبر من التين، وتابع طريقه نحو وجهته. وعندما اطلع الشخص الذي كانت السلة موجهة إلىه على الرسالة، ولم يعثر على الكمية المبينة فيها، اتهم العبد بسرقة التين. إلا أن العبد أنكر ذلك بإصرار( رغم ما تقوله الرسالة ) لاعنا الورقة متهما إياها بالكذب وشهادة الزور.

وحدث أن أرسله سيده مرة أخرى إلى نفس الشخص ومعه نفس الحمولة مرفوقة برسالة تبين العدد الحقيقي لحبات التين التي تحتوي عليها السلة؛ وكما فعل في المرة السابقة، فقد أكل الجزء الأكبر من محتويات السلة، إلا أنه هذه المرة، وقبل أن يضع يده على التين، أخفى الرسالة تحت حجر ضخم، لكي لا تكون شاهدا عليه، مقتنعا أن الرسالة إذا لم تره يأكل التين، فلن تستطيع إفشاء سره. وعندما وصل إلى المكان المقصود، وسلم السلة إلى صاحبها، اتهمه هذا الأخير من جديد بأكل نصف الحمولة. واعترف هذه المرة بفعلته معجبا بألوهية الورقة، وعاهد سيده أن يكون وفيا في المستقبل، وأن يقوم بصدق بكل الأعمال التي يعهد إليه القيام بها <(11)

قد يقول قائل، إن النص بمجرد ما أن يفصل عن مرسله ( ويفصل أيضا عن قصدية هذا المرسل ) وعن الشروط الملموسة لإنتاجه ( وتبعا لذلك عن مرجعه المباشر)، فإنه سيحلق ( إن جاز التعبير) في فضاء فسيح من التأويلات التي قد لا تنتهي عند نقطة بعينها. وسيكون بإمكان ويلكز، في الحالة التي يتحدث عنها، أن يعترض قائلا إن السيد كان متأكدا أن السلة المشار إليها كانت السلة الوحيدة التي سيحملها العبد، وأن العبد الذي كان مكلفا بحملها كان هو العبد الوحيد الذي أمره سيده بحمل السلة، كما أن هناك علاقة بين التعبير " 30" المكتوب في الرسالة وبين حبات التين الموجودة في السلة.

بطبيعة الحال، يمكن أن نتصور أن العبد الأول قتل في الطريق، واستبدل بشخص آخر، وأن كمية التين استبدلت بأخرى، وأن السلة سلمت لشخص آخر، وأن هذا الشخص لا يعرف أحدا قد يرسل إليه التين. فهل بالإمكان بعد كل هذا أن نعرف عن أي شيء تتحدث الرسالة ؟. بالإمكان أن نفترض أن رد فعل الشخص الجديد سيكون بشكل تقريبي هو : " شخص ما، لا يعرفه إلا الله، أرسل إلي كمية من التين أقل من العدد الذي تشير إليه الرسالة ".

ولنفترض الآن أن الرسول لم يقتل فحسب، بل أكثر من ذلك قام قتلته بأكل كمية التين، وأتلفوا السلة، ووضعوا الرسالة في قنينة وألقوا بها في البحر ليكتشفها 70 سنة بعد ذلك روبنسون كروزو. لا سلة هناك إذن ولا عبد ولا تين، فقط هناك رسالة. ورغم كل ذلك فإن رد فعل روبنسون كروزو المباشر سيكون هو : أين هي حبات التين ؟

ولنفترض الآن أن الرسالة الموجودة في القنينة وقعت في يد شخص أكثر اطلاعا، قد يكون طالبا في اللسانيات أو الهرمنوطيقا أو السميائيات. وبالإمكان أن نتصور أن هذا الطالب، نظرا لاطلاعه، سيقوم بطرح سلسلة من الفرضيات مثل :

1- figues ( fig) يمكن أن يكون ( على الأقل الآن ) معنى بلاغيا ( مثل ما هو وارد في العبارات التالية : " to be in good fig " ( في حالة جيدة)" to be in full fig " ( مليء بالحيوية)" to be in poor fig"( في حالة سيئة)، وحينها تصبح الإرسالية قابلة لتلقي تأويل مخالف. ورغم ذلك، وفي هذه الحالة، فإن المرسل إليه قد يستحضر بعض التأويلات المتداولة لكلمة " تين " التي لا يمكن أن تحيل على " تفاحة " أو على " قطة".

2- إن الإرسالية الموضوعة في القنينة هي تعبير مجازي صادر عن شاعر : إن المرسل إليه يكتشف في هذه الإرسالية معنى ثانيا مخبأ يحكمه سنن شعري خاص لا يَصْدق إلا على هذا النص. وفي هذه الحالة، فإن المرسل إليه سيطرح سلسلة متنوعة من الفرضيات. إلا أنني مقتنع بوجود معايير " اقتصادية " ستجعل من بعض الفرضيات أكثر أهمية من غيرها. وعلى المرسل إليه، لكي يُصَدِّق على فرضياته، أن يطرح سلسلة من الفرضيات الخاصة بالمرسل المحتمل، وخاصة بالفترة التاريخية التي كتب أثناءها النص. وهذا لا علاقة له بقصدية المرسل، بل له علاقة بالبحث عن سياق ثقافي للإرسالية الأصلية.

من المحتمل أن يتوصل هذا المرسل الحاذق إلى قناعة مفادها أن النص الموجود في القنينة أحال في لحظة ما، على تين فعلي، كما عين مرسلا فعليا، وعين في ذات الوقت عبدا وشخصا ستسلم له السلة. إلا أن هذا النص قد فقد الآن أية سلطة مرجعية. بيد أن الإرسالية ستظل نصا قابلا لأن يستعمل مع عدد هائل من السلال، ولعدد هائل من كميات التين. ولن يستعمل أبدا مع " التفاح" أو مع " وحيد القرن ".

ويحق للمتلقي أن يحلم بهؤلاء الممثلين الذي كانوا يتبادلون الأشياء والرموز بشكل غامض ( قد يكون إرسال التين في فترة تاريخية ما "نذير شؤم" ). وبإمكانه، انطلاقا من هذه الإرسالية المجهولة، أن يأتي بسلسلة كبيرة من الدلالات والمراجع.

ومع ذلك، لن يكون بإمكان هذا المتلقي أن يقول إن هذه الإرسالية قد تدل على كل شيء. قد تدل هذه الإرسالية على أشياء كثيرة، إلا أن هناك معاني لا يمكن أن تحيل عليها إلا من باب العبث. إن هذه الإرسالية تقول، وهذا أمر لاشك فيه، إنه في فترة ما، كانت هناك سلة من التين، ولا وجود لأية نظرية تستند إلى القارئ يمكن أن تتجاهل هذا الإرغام.

وبالطبع هناك فرق بين أن تقرأ الرسالةالتي يشير إليها ويلكيز وبين أن تقرأ Finnegans Wake. إن كتابا من نوع Finnegans Wake يمكن أن يقود نا إلى التشكيك في أشياء تعد في مثال ويلكيز من صميم التجربة المشتركة. إلا أننا لا يمكن أن نتجاهل وجهة نظر العبد الذي كان شاهدا، ولأول مرة، على معجزة النصوص وتأويلها.

فإذا كان هناك من شيء يجب أن يؤول، فإن التأويل سينصب على شيء يجب أن يتم الكشف عنه في مكان ما، وبمعنى ما، أن نحترم هذا الشيء. لذلك سأقترح، في المحاضرة المقبلة أن أبدأ بالعبد. إنه وسيلتنا الوحيدة لكي نكون أسيادا للسميوزيس أو على الأقل خداما أوفياء لها.

الهوامش

1- J.M Castillet , La hora del lector, Barcelone, 1957

2- L'oeuvre ouverte , Paris , la seuil , 1970

3 - يشير إومبيرتو إيكو إلى الكتب التالية : ( A Theory of Semiotics ، Lector in fabula ،

Sémiotique et philosophie du langage )

4- انظر Les limites de l'interprétation , trad fran , M. Bouzahir , Paris , Grasset , 1992

5- T .Todorov , " Viaggio nella critica americana " Lettera, 4 , 1987 , p 12

6- Richard Rorty , Conséquence du pragmatisme , trad franç , J . P Cometti , Paris , Le Seuil , 1993, p . 151

* "لا معنى له" ، " لا منطقي " " مخالف للعقل " "عبثي"

** "لا معنى له" "عبثي" " مخالف للحس السليم" " غير منسجم"" يهذي" " مغالي" " متناقض" " لا منطقي" "."شاذ"

7- Horace, Satires, I . I , 106- 7

Rubicon*** : نهر ساحلي في روما القديمة كان يعد الحد الفاصل بين Gaule Cisalpineوإيطاليا الحالية. لقد كان محرما على كل جنرالات روما اجتيازه دون إذن من مجلس الشيوخ. وسيخرق جول سيزار هذا المنع ليدخل روما على رأس جيش ضخم ( المترجم )

**** Isis: من أقدم آلهة مصر، إنها الإلهة العظيمة والكونية. إنها كانت تبحث عن أخيها أوزيريس وزوجها لتبعثه. ( المترجم )

Demter: إلهة الخصوبة ( المترجم)

Mai : يقال إنها أم هرمس ، وتعد أيضا إلهة الخصوبة ومنبعا للطاقة الحيوية. ( المترجم )

Cybele: إلهة الأرض وابنة السماء ، وزوجة jupiter إنها ترمز إلى الطاقة المدفونة في الأرض

* الواحد ( UN) : > يرد أفلوطين ( Plotin ) الواحد إلى مبدأ الخير، ويضعه فوق الكينونة والعقل ذاته. ولا يعني هذا أن الواحد ليس موجودا وغير قادر على التفكير، بل إنه يتجاوز كل وجود وكل تفكير محدد فهو مبدأ التفكير<. فإذا كان الكائن والفكر متعددان، وإذا كان التعدد يفترض الوحدة، وجب وضع مبدأ يوجد خارج أي تعددية قبل الكينونة والفكر. A. Lalande : Vocabulaire technique et critique de la philosophie ( المترجم)

8- Gilbert Durant , Science de l'homme et tradition , Paris , Berg , 1979

9- حافظنا على كلمة messianisme بوقعها الفرنسي " المسيانية" ولها نفس مضمون فكرة المهدوية في الفكرالعربي الاسلامي، أي انتظار مخلص سيأتي لكي يملأ الأرض عدلا بعدما ملأت جورا. ( المترجم)

10- Georg Simmel , " the secret and the secret society" , The sociology of Georg Simmel , trad angl , et ed de Kurt. H. Wolff , New York , Free Press , 1950 , p . 332 -333

11- Jhon Wilkins , Mercuty; On the secret and Suift Messenger , 3 éd , Londres , Nicholson , 1797, p . 3-4

 

 

 

 
 
 
معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

مؤلفــات بطاقة تعــريف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال   مواقـــع  خزانات الموقـع صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

موقع سعيد بنگراد - تاريخ الإنشاء: نونبر 2003