من هنا يصبح البحث في كالسرد" و"الإيديولوجيا"
و"عالم الممكنات" أحد المقاربات التي تبحث بدورها في أشكال
ووظائف فعل الحكي والتعامل معها من منظور ما تختزنه من مبادئ
تسنن التجربة والإدراك، ولأن كل أنشطة الإنسان قادرة على إنتاج
قواعد خاصة بها، فإن صورة التسنين السردي تصبح دالة على تنظيم
منسجم ومتماسك من الإمكانات الدلالية، في ارتباط في هذا المقترح
تندرج كل ممارسة تأويلية ضمن ما يشكل عالم النص السردي والعالم
الممكن، ويبقى بالإضافة إلى هذا العالم الواقعي أحد الأنساق التي
بموجبها يصبح العالم السردي عالما ممكنا: يكون هناك عالم ممكن،
لأن ثمة عالما واقعيا يتقدمه هو المرجع أو الإحالة، وهو أيضا نمط
من أنماط المعرفة الثقافية، لذلك، يصح القول، إن كل عالم ممكن
هو، في نهاية الأمر، جزء من العالم الواقعي مع اختلاف الحدود
والتشخيصات والمصادر التداولية.
يبدو د سعيد بنكراد على حق
يعالج هذه القضايا في بحثه عن تصورات "السردية" ومواصفاتها
الدلالية، لأن النص السردي ليس مجرد تنظيم لملفوظات مرتبطة
بسياقات ثقافية واجتماعية، بعبارة أخرى،
ليس النص السردي مجرد تسنين لساني يحاول أن
يوازي أو يماثل بين ذلك التنظيم وتمثلاته الذهنية المرتبطة به،
إنه أيضا (وبالإضافة إلى ذلك) "سيرورة خطابية" تتشكل حسب أطوار
ومراحل متباينة، وهذا ما يمنح للمستوى الأكسيولوجي والمستوى
الإيديولوجي قيمتهما في تحقيق بعض التحديدات الخاصة بتسنين النص
السردي.
مما لا شك فيه أن هذه القضايا ترتكز على
تصورات محددة للنص والخطاب والدلالة والإيديولوجيا والسياق
والسرد والتسنين، البرنامج، العالم، الصوت، الفاعل، وغيرها من
التصورات التي يضيق المجال هنا على تحديدها واستخلاص فرضياتها،
ولن يكون، بالمقدور، تبعا لذلك، التفكير في حدودها النظرية
والتحليلية العامة، بيد أن هذا لن يمنعنا أيضا من القول بأن هذا
الكتاب الجديد لسعيد بنكراد يتخذ من النص، والنص السردي تحديدا،
مجالا لبحث قضايا السرد والإيديولوجيا والعالم الممكن، أي مجالا
لارتياد آفاق التأويل وتحديد الدلالة، فتغدو أطروحة الكتاب
أطروحة منفتحة على جملة من المبادئ وفق "سنن كلي" يتحقق عبره
الأصل التعريفي للإيديولوجيا، ولذلك فغن اقتراح "سميائيات
للإيديولوجيا" يرتبط لدى بن كراد بقواعد أستطيع حصرها في ما يلي:
(1)
الانطلاق من مساءلة التسنين
السردي وضبط بعض مستوياته" النوعية" التي تسمح بتبين تحققات
النص.
(2)
الاحتكام إلى تناول تحديدات
العالم الممكن، ليس فقط على مستوى العلائق الكامنة بين الواقعي
والتخييلين ولكن أيضا على مستوى تمثل العالم الممكن بما هو بناء
ثقافي يسمح للنص بإدراك العالم وتحيينه على هذا النمط أو ذاك، عن
المرور من الواقع إلى الخيال يحتاج إلى تسنين إيديولوجي و آخر
سردي لتحقيق عالم الإمكان.
(3)
مساءلة أنساق النص السردي:
إنتاج القيم، قواعد النوع، التي تمنح النص دوما صياغة جديدة
للقيم وتوزيعا جديدا لها، ولذلك تكشف أنساق النص عن حالتين
للإيديولوجيا :
في إما فعل مسنن قبل ولادة النص، وإما لاحق،
أي أن النص يعتبر لحظة تسنين مولدة لحالة إيديولوجية (انظر
صفحة57 وما بعدها).
في ارتباط بما سبق، يصبح كل حديث عن السردية
والإيديولوجيا مقترنا بتقديم الخصائص الجوهرية لنظام الإرغامات
التابعة له، مما يفيد أن تحقق الإرغامات يتم على مستويين:
ارغامات خطابية تضبط توزيع الوحدات الدلالية وأشكالها المضمونية،
وإرغامات سردية تقود نحو كون حكائي منسجم ومحكم البناء.
هكذا يحلل سعيد بنكراد الإرغامات الخطابية من
زاوية (الانتفاء كإجراء إيديولوجي) و(الإيديولوجيا ومسارات
التدليل)، بينما يحلل الارغامات السردية حسب ما يميز (البناء
السردي واليات الوجود الإيديولوجي: أنماط العرض- الهيكل السردي –
بناء الشخصيات والإرغام الإيديولوجي).
لقد تبين لي قراءة تحاليل سعيد بنكراد في
كتابة (النص السردي، نحو سميائيات للإيديولوجيا) عمق وجدية
الأسئلة التي يقترحها على القارئ، وهي أسئلة نفهم البعض
اعتباراتها التصويرية حين نستحضر المشروع المنهجي والتحليلي الذي
بلوره بنكراد في دراسات سابقة:
ترجمته لكتاب ف. هامون: سيميولوجية الشخصيات
الروائية (دار الكلام 1990)، "مدخل إلى السميائيات السردية) تنمل
1994،"شخصيات النص السردي. البناء الثقافي". منشورات كلية آداب
مكناس 1995، (علامات) بأعدادها السبعة الصادرة لحد الآن بصبر
جميل وإصرار نادر مطمئن بأن البقية ستأتي.
كل هذه الاعتبارات، تجعل قضايا هذا الكتاب
منفتحة على أسئلة تشكل المعنى وأنماط تداوله وفق ما يخصص وجود
الإنسان وقيمه في العام، لذلك يتضمن تحليل بنكراد دراستين
تطبيقيتين:
أولاهما
قراءة في رواية (الضوء الهارب) لمحمد برادة وتروم مساءلة الكيفية
التي ينتج بها النص قيمة الإيديولوجية الخاصة من خلال موضوعة
الجسد وامتدادها الدلالية. وثانيهما، قراءة في رواية (الشراع
والعاصفة) لحنا مينه، وتهدف تحليل العديد من القيم الدلالية التي
تمنح الذات حق الانتماء والإيمان "بالأطروحة وطقوس الاستئناس":
(النص السردي: نحو سيميائيات للإيديولوجيا)، كتاب جدير بالقراءة
والمتابعة.