معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

مؤلفــات بطاقة تعريــف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع  خزانات الموقـع  صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

 

 

محسن أعمار- كلية الآداب - القنيطرة

مدخل إلى الدراسات السيميائية بالمغرب

محاولة تركيبية

 

إذا كانت كل من نظرية دوسوسير1 وبورس 2 قد شكلت اللبنات الأولى لإرساء معالم البحث السيميائي، فإن ما لحقها من إسهامات، وما تجاذبها من تأثيرات وإضافات على مدى ثلاثة عقود3، قد هيأ السبيل أمام السيميائيات كي تحدد إطار اشتغالها من خلال ما أنجزته من مفاهيم ونظريات أكسبت هذا الخطاب خصوصيته داخل حقل البحث العلمي. وبالرغم مما عرفه هذا الخطاب من فعالية وإجرائية في تحليلاته وتطبيقاته، فإنه لازال يبحث عن قدر من المشروعية العلمية نتيجة الأزمة التي تطال الأسس الإبستيمولوجية والأنطولوجية للعلامة4.

ومما لاشك فيه، أن الوقوف عند خلفيات الاتجاه السيميائي في أسسه ومكوناته، يعتبر شرطا أساسيا للتعامل مع الخطاب السيميائي المغربي في الإطار الصحيح. إذ بدون النظر في معطيات هذا الاتجاه وظروف إنتاجه يظل عنصر الفهم والاستيعاب متعذرا. فمنذ محاولات فلاديمير بروب (1928)، إلى المحاولات الأكثر حداثة للسيميوطيقا السردية، اعتبر هذا الحقل من أنشط الحقول وأخصبها من حيث العطاء: (بارت ، تودوروف ، كريستيفا ، امبرطو إيكو ، ريفاتير ، ميتز ، كوكي، كورتيس ، راستيي وكريماس... إلخ) فمادامت الجملة قابلة للوصف من الناحية المعجمية والتركيبية والدلالية، ومادام كل مستوى من هذه المستويات لا يمكنه أن يؤسس المعنى بمفرده، بل في علاقته بباقي المستويات الأخرى، فإن هذا المبدأ قابل للتطبيق كذلك على مختلف أشكال النصوص والخطابات ذلك أن النص أو الخطاب يحتوي "سيميائيا" على نفس المستويات، "لقد كانت هذه المبادئ (وغيرها) هي المنطلق الرئيسي نحو تأسيس لغة واصفة تمتد بجذورها في اللسانيات لكنها تسير نحو الانفصال عنها. إنها لغة واصفة تستند في تشكلها إلى الدرس اللساني، ولكنها تستمد مردوديتها التحليلية من النص وليس من الجملة..." 5. وتعود السيميائيات السردية إلى أصول متنوعة تتحدد في اللسانيات البنيوية (دوسوسير) والتوليدية (شومسكي) والشكلانية الروسية (أعمال فلاديمير بروب) والبنيوية الأنثروبولوجية (كلود لفي ستراوس) والدراسات المنطقية (أعمال بروندال) والفيزياء (كمفهوم التشاكل Isotopie)... إلخ.

لقد وضع كريماس هيكلا عاما يسمى المسار التوليدي "Parcours generatif" ويشمل ثلاثة مستويات متعالقة فيما بينها تحكمها بنيتان:

1) البينية السميائية السردية وتتكون من:

أ - المستوى المورفولوجي (العميق): ويرصد البعد الدلالي والمنطقي.

ب - المستوى التركيبي: ويرصد التحويل من النظام المنطقي إلى نظام التركيب السردي.

2) البنية الخطابية وتتحدد في:

- مستوى التركيب الخطابي ويتحقق انطلاقا من الصوغ الخطابي للبنية السميائية السردية.

وفي ضوء هذه القواعد والتصورات المؤسسة للمقترب النظري والإجرائي، الذي يشتغل الخطاب السيميائي وفق ميكانيزماته وضوابطه، تتحدد عناصر الدرس السيميائي المغربي، وتبرز معاييره وقواعده. على أن الانضباط بتلك الشروط والقواعد السميائية المتعارف عليها، يأخذ في الدرس المغربي وجها آخر يمكن صياغته في شكل خطاب نظري وتطبيقي يحكمه تصور يكاد يكون ممتلكا لأدواته وآلياته ومفاهيمه التي تتراوح بين الأخذ والاستلهام والتوفيق والإفادة حينا، وبين التطويع والنقد والإضافة حينا آخر.

إن هذا الطرح يدفعنا إلى التساؤل عن وضع وخصوصية "المشروع النقدي السيميائي" بالمغرب سواء على مستوى المنهج والمصطلح أو على مستوى "الرؤية النقدية" الواضحة والمتفحصة. والإجابة على هذا السؤال تقتضي القيام بقراءة استقرائية6 تقف عند كل دراسة تطبق أو "تدعي" المنهج السيميائي، ثم الانتقال بعد ذلك إلى إعداد مخطط إجمالي لنموذج عام. لكن طبيعة هذا العمل ليست بالسهولة التي نتصورها إذ لا مفر من حصر المتن المدروس وفي هذا إقصاء لأعمال أخرى.

وعموما، يمكن أن نميز بين نوعين من الدراسات:

الأولى، تفتقر إلى التماسك المنهجي ووضوح الرؤية، حيث يغلب عليها طابع التجزيء والاختزال والتكرار والخلط بين المفاهيم وضعف الترجمة. أما الثانية، فنجدها في بعض الدراسات والأطروحات الجامعية التي تمثلت المنهج والنظرية السيميائية في شمولهما وتجانسهما، وهي قليلة، ونلمسها عند ثلة من الدارسين المغاربة يجمع بينهم التخصص والرغبة الملحة في الدفع بالدرس السيميائي إلى الأمام.

ونتوقف الآن عند تلك الدراسات التي قام بها كل من مصطفى الشاذلي، ومحمد مفتاح، وعبد المجيد نوسي، وسعيد بنكراد، لنتبين نوعية الأسئلة والانشغالات المطروحة على هؤلاء أثناء الممارسة السميائية. ثم بعد ذلك نستخلص الخلاصات الممكنة والخصائص المحددة لمشروع الخطاب السيميائي بالمغرب.

فالأستاذ مصطفى الشاذلي قد كرس كل جهوده للبحث السيميائي منذ بداية الثمانينات، حيث قدم للمناقشة أطروحة جامعية بمدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية بباريس تحت عنوان: التشاكلات السردية والتشاكلات الأكسيو-إيديولوجية: دراسة سيميائية لمتن حكائي مغربي7. بعد ذلك قام بنشر العديد من المقالات التي تصب كلها في الحقل السيميائي، نذكر من بينها "الفضائية في الحكاية الشعبية المغربية" بمجلة أبحاث لسانية وسيميائية8.

- "الأدب الشفهي الإشكالات والرهانات" في مظاهر الأدب بالمغرب9.

- الفعل الأسطوري في الحكاية العجيبة المغربية10.

- و"التلفظ في السيميوطيقا" بمجلة لغات وآداب11.

هذا بالإضافة إلى الكتاب الذي نشره سنة 1995 تحت عنوان: السيميوطيقا نحو دلالة جديدة للنص: "الإشكالية، الرهانات والتطلعات النظرية"12. وهو عبارة عن دراسة في التأمل النظري والمنهجي للنظرية الكريماسية كمعرفة منظمة تتضمن جهازا متجانسا من الأدوات والمفاهيم الإجرائية. ويذهب الباحث إلى أن هذا التناول يسير في ضوء التطور الذي عرفته اللسانيات النصية والسرديات والتداوليات وأشكال التلفظ، وبصفة عامة القضايا التي تتناول إشتغال الخطاب. كما حدد الباحث منهجية الدراسة قائلا: "بعد عرض موجز لمختلف المذاهب السيميوطيقية، سنحاول إعادة تقويم النظرية السيميوطيقية من خلال مبادئها ومسلماتها، وكذلك من خلال مفاهيمها ومفاتيحها، قبل أن نخوض في المسار التوليدي للمعنى وفي النموذج التأسيسي للدلالة، ومشاكل تمظهر الخطاب، لننتهي بمناقشة الإشكالية التلفظية وأثرها في تطور الجهاز النظري السيميوطيقي"13.

ما يلاحظ على هذه الدراسة الأخيرة هو غلبة المنحى النظري مقارنة بالجانب التطبيقي. فالجانب التطبيقي يكاد يكون غائبا في هذا الكتاب.

كما تجدر الإشارة إلى الدراسة التي أنجزها الشاذلي باللغة العربية حول قصيدة العصافير تموت في الجليل للشاعر محمود درويش14 وفق المنهاجية السيميائية السردية. واختيار الباحث لهذا النص الشعري أملته اعتبارات خاصة منها: تنظيم الفضاء، والتعبير التيبوغرافي، وتشكل الجمل والأدوات المعجمية، ثم الصور والتوظيف البلاغي والحوار... إلخ.

وللإجابة على سؤال: كيف يشتغل نص العصافير...؟، ينطلق المحلل من تحديد المنظومة العلائقية المركبة والمتحكمة في النص والفاعلة فيه، حيث سيعمل على تقسيم القصيدة إلى خمسة مقاطع طبقا للمعايير السيميولوجية: البياض، وعلامات التوقف والحذف والترتيب التيبوغرافي أو الطباعي. ثم ينتقل إلى دراسة مستويات التلفظ وتقاطع الأبعاد السردية والخطابية التي تمنح للقصيدة استقلالا ونفسا أسطوريا عاليا. هذا بالإضافة إلى مفهوم التشاكل أو التماكنية على حد تعبير المحلل، حيث خلص إلى وجود أربعة أنواع من التماكنية:

1- تماكنية تلفظية 2- تماكنية كونية

3- تماكنية قومية 4- تماكنية استعارية

غير أن الباحث لم يوسع مفهوم التشاكل، ليشمل مكونات الخطاب المضمونية والتعبيرية: كالتشاكل الصوتي والنبري والتشاكل المعنوي. كما أنه لم يتطرق للمكون السردي بما فيه الكفاية، وأهمل الجوانب العروضية والبلاغية والأسلوبية للنص الشعري، لأنها تخضع، حسب رأيه، لأنماط معينة، ولا تساهم في البنيات العميقة للقصيدة15. واكتفى فقط بدراسة البنية التركيبية، والتشكيلة التماكنية في النص.

أما الأستاذ محمد مفتاح، فقد طالعنا منذ بداية الثمانيات بكتابات نقدية، جمعت بين التصور القديم والتصور الحديث، في محاولة جمع وتوفيق بين الدراسات العربية القديمة والدراسات الغربية المعاصرة. فكان كتابه في سيمياء الشعر القديم16، وهو عبارة عن تحليل لنونية أبي البقاء الرندي، وذلك وفق نظرية نحتها "مما ورد عند بعض النقاد القدامى من مبادئ، ومما انتهت إليه الدراسات الشعرية السيميائية"17. ثم يستدرك الباحث قائلا: "يتضح -مما سبق- أن محاولاتنا تدخل ضمن نظرية الشعرية التي لها مسلماتها وفروضها ونظرياتها كما نجد عند ياكبسون ولوتمان وجون كوهن، ومع اختلافهم فإنهم يشتركون جميعا في محاولتهم صياغة مبادئ عامة للشعر"18.

والباحث ينطلق في هذه الدراسة من كون القصيدة الشعرية ككل، هي عبارة عن بنية تتكون من عناصر تؤلف بينها علاقات، وكل عنصر يتميز عن غيره، وهذه العناصر هي: المواد الصوتية، والمعجم الخاص، والتركيب والمقصدية19.

غير أن محمد مفتاح لم يتجاوز في هذه الدراسة المتقدمة في الزمن، حدود المنطق الثنائي الذي كرسته مقولات ياكبسون ودوسوسير اللغوية. ولعل خصوصية هذه الدراسة تكمن في استثمارها، لأول مرة في تاريخ النقد العربي الحديث، لمفهوم المربع السيميائي. إلا أن هذا المربع لم يكن يمثل سوى تقابلا خطابيا ولم ينفذ إلى البنيات الأولية العميقة، وربما كان ذلك راجعا إلى حداثة هذه الدراسات بالمغرب وعدم استقرارها وقلة انتشارها بين القراء في تلك الفترة.

لكن محمد مفتاح حاول في مؤلفه الثاني تحليل الخطاب الشعري: استراتيجية التناص20، استدراك بعض الثغرات الحاصلة في الدراسة السابقة، حيث وسع من قاعدة المنهج البنيوي الشعري، ليشمل دراسات حول التشاكل والتباين والتناص والتفاعل، مستثمرا معطيات نظرية الأفعال الكلامية عند اوستن وسورل وكرايس والتيار السيميوطيقي خاصة عند كل من كريماس، وجماعة مو، وريفاتير.

ومن البنيوية الشعرية، ينقلنا مفتاح في كتابه "دينامية النص"21 إلى المرحلة الدينامية التفاعلية حيث "الظواهر الفيزيائية -يقول مفتاح- والأجسام الحية والنصوص اللسانية محكومة بقوانين الدينامية وآلياتها وضوابطها... وليست الظواهر النصية سوى تجليات لشيء عميق هو عبارة عن بنية ونماذج أولية أو حاجات بيولوجية"22.

وقد عالج الباحث مفهوم الدينامية من خلال مقولتي: المربع السيميائي والمورفولوجيا، حيث يحدد علاقاته المتمثلة في التضاد وشبه التضاد والتناقض والتضمن، ودينامية العلاقة بين هذه الأطراف تجعل النص ينمو أفقيا وعموديا. ومن هذا المنظور يصبح المربع السيميائي ليس مجرد تمثل بصري يساعد على الفهم فحسب، وإنما يقول مفتاح: "صار شكلا هندسيا يصح توليد مفاهيم منه لصياغة نظرية تعتمد على الطوبولوجيا والعلاقة والاختلاف والائتلاف"23.

عموما، فخصوصية كتاب دينامية النص تمثلت في تعميق الجهاز النظري، وضبط المفاهيم وتوضيحها وانتقادها وربطها بالنصوص الموضوعة على محك التطبيق، يقول الباحث: "... إذ كل فقرة تخصص سابقتها وتبينها وتفسرها، وتتحاور معها... فقد لا يفهم بضبط وإتقان الانسجام في النص القرآني دون الرجوع إلى فقرتي الاتجاه السيميوطيقي والذكاء الاصطناعي، إذ من الأولى استمددت المورفولوجيا التصنيفية التي قبلت -في ضوئها- بعض العلاقات ورفضت بعضا منها ومن الثانية حددت مفهوم الإطار"24.

بعد المرحلة الدينامية التفاعلية، يتحول مفتاح نحو المنهاجية النسقية الشمولية التي تستثمر جهود المنهاجيات السابقة. وتقوم المقاربة النسقية الشمولية التي عمل الباحث على توظيفها في كتبه: مجهول البيان25، والتلقي والتأويل مقاربة نسقية26، والتشابه والاختلاف نحو منهاجية شمولية27، على التعالقات والتقابلات والتشابهات والاختلافات، بالإضافة إلى مفاهيم أخرى مستوحاة من نظريات متعددة: سيميائية، ولسانية، وبيولوجية، وفيزيائية، ونفسية معرفية... الخ كمفهوم الشبكة الدلالية، والأطر، والمدونات، والخطاطات، والبنية، والنواة، والدينامية، والصراع، والتناسل... الخ. إنها مقاربة استكشافية بمعنى افتراض نسق عام يتفرع إلى أنساق جزئية.

ومفتاح في كل هذا لا يكتفي بطرح القضايا النظرية والإشكالات المنهجية التي تفرضها النظريات العلمية المعاصرة، بل يعود إلى مساءلة واستنطاق القضايا الفكرية القديمة، في مجال المنطق والبيان والبديع والمعاني، مع ربط كل هذا بمجال التطبيق والاشتغال على نصوص شعرية، وصوفية، وبلاغية، ومنطقية، ودينية، وفلسفية... الخ لا يسع المجال للتعرض لها.

نستنتج -مما سبق- أن مفتاح في تناوله للمقاربة السيميائية، لم يكن يركن إلى المدرسة والاتجاه الواحد، لأن النظرة الأحادية، في رأيه، قاصرة وعاجزة عن الإجابة على إشكالات النص، ومن ثمة لا مفر من اختيار سبيل التعدد في المفاهيم والتصورات، بالرغم مما يقتضيه هذا التعدد من مشاق ومزالق، وما يفرض على صاحبه من انتقائية قد تخل بالبناء العام المتماسك للنظرية السيميائية.

هناك دارس آخر اختار المرجعية السيميائية كمجال للدراسة والبحث، هو الأستاذ عبد المجيد نوسي. ويتجلى ذلك في الأطروحة المتميزة التي أنجزها الباحث سنة 1994 حول رواية اللجنة لصنع الله إبراهيم تحت عنوان: تحليل سيميوطيقي لرواية اللجنة تشييد مسار الدلالة28. وأهمية هذه الدراسة تكمن في استيفاء الباحث لكل الشروط والمستلزمات التي تفرضها النظرية الكريماسية، سواء من حيث الأصول والمنطلقات الإبستيمولوجية والمنهجية أو من حيث تمثل وتطبيق المفاهيم والأدوات الإجرائية على نص اللجنة. وقد حدد الباحث منهجه في أول صفحة من البحث قائلا: "وقد حرصنا بشكل جلي في المدخل أن المرجعية النظرية التي سنستند إليها في تحليل رواية اللجنة هي السيميوطيقا السردية ممثلة في أعمال المدرسة الفرنسية وخصوصا أعمال كريماس. وقد أوضحنا على هذا المستوى أننا نهدف إلى تبني المنهج السيميوطيقي برمته. وهذا يدل على أن العمل لن يتوقف عند الاستثمار الانتقائي لمستوى من مستوياتها... ولكنه يستثمر معطيات النظرية في تعالق كل مستوياتها...".

والباحث في هذا العمل يمر بمراحل متعددة: الاستيعاب والفهم والترجمة والشرح والتفسير، مع مراعاة انسجام وتماسك مستويات النظرية: المستوى المرفولوجي العميق، ومستوى التركيب السردي، ومستوى التركيب الخطابي. كما أن الباحث لم يغفل البعد النظري والإبيستيمولوجي الذي يطرحه تطبيق أدوات ومفاهيم السميوطيقا السردية على خطاب الرواية، إذ يقول: "وقد أشرنا أيضا إلى منهج العمل في البحث والقاضي بالاستناد إلى الإطار النظري الذي حددته السميوطيقا ممثلا في المسار التوليدي وإلى ما يحيط به من شروط ومعايير علمية تمثلها خصائص الإجرائية والتماسك. وقمنا في بداية كل فصل بتحديد المفهوم الذي نستثمره في علاقته بالنظرية وبمسارها التوليدي، وحرصنا على أن يكون التحديد إشكاليا يطرح بعض الأسئلة... كما أشرنا إلى الأصول التي استلهمتها النظرية في تشييد جهازها المفاهيمي..." 29. غير أن الإشكال الكبير الذي كان يشكل تحديا للدارس هو مدى تمثيلية نص اللجنة وقدرته على احتواء النظرية، بعبارة أخرى كيف تستطيع النظرية أن تفرض منهجها وجهازها المفاهيمي وأدواتها الإجرائية من خلال النص الواحد، دونما إخلال بالمقتضيات التي يتطلبها التماسك المنهجي للسميوطيقا السردية؟

أما الأستاذ سعيد بنكراد فقد حاول تقريب الدرس السيميائي إلى القراء، سواء من خلال الترجمة أو الدراسة، فقد قام في البداية بترجمة مقال فيليب هامون، تحت عنوان سيميولوجية الشخصيات الروائية30. بعد ذلك، أصدر كتاب مدخل إلى السيميائيات السردية31 يعرف فيه بالنظرية الكريماسية وبأصولها منطلقا من الإرث البروبي. بعد ذلك، ينتقل إلى طرح الأسس النظرية المختلفة التي تعتمدها النظرية الكريماسية، وكذا جهاز المفاهيم الأساسية في النظرية، بالإضافة إلى النماذج التي تكون هيكل النظرية: كالنموذج التكويني والنموذج العاملي.

أما في كتاب شخصيات النص السردي -البناء الثقافي32- فقد حاول فيه سعيد بنكراد عرض النظرية السيميائية في مجال الشخصية. ففي الفصل النظري تطرق الباحث إلى أعمال بروب ولوتمان وكريماس، مع تقديم ملاحظات حول عملية الإمساك بالشخصية من خلال مستوى التجلي، وذلك من زاويتين: زاوية التلقي، فالقارئ يسهم في بناء الشخصية من خلال تحيين موسوعته الثقافية، ومن زاوية أشكال وتقنيات التشكل الظاهري للشخصية، اعتمادا على تصور فيليب هامون في هذا الميدان. في حين خصص الجزء الثاني من الكتاب، لتقديم دراسة تطبيقية حول الشخصيات من خلال رواية "الشراع والعاصفة" لحنا مينة. وهي عبارة عن دراسة للبناء العاملي والأدوار والوظائف والمسارات السردية، وتوزيع العلاقات بين الممثلين، إنها باختصار تطبيق محض للسيميائيات السردية في مستوى التركيب السردي والعاملي.

أما في سنة 1996 فسيصدر سعيد بنكراد كتابا مميزا تحت عنوان: النص السردي نحو سيميائيات للإديولوجيا33، ينطلق فيه الباحث من جملة من القضايا الخاصة بالتدليل والتسنين، كما تبلوره آليات النص السردي عبر الإيديولوجيا والسرد وعالم الممكنات. إنها يقول الباحث: "أبعاد مكونة لماهية النص ومكونة لأسس تلقيه وتأويله وسبل التفاعل معه، فعبر هذه الآليات يتم استشراف الآفاق التي يفتحها "الوجه الخفي" للدلالة أمام مسارات التأويل والقراءات المتنوعة34.

والباحث يحاول من خلال هذه الدراسة، الإجابة كذلك على أسئلة عميقة من قبيل: كيف يأتي المعنى إلى النص انطلاقا من الوضع الإيديولوجي؟ وكيف تأتي الإيديولوجيا إلى المعنى؟ إن أشكال التحقق المتولدة عن "سنن كلي"، هي -في نظره- التعريف السيميولوجي الذي يمكن أن يعطى للإيديولوجيا. والقضايا التي يعالجها هذا الكتاب تنطلق من هذا التصور، أي من إمكانية تحديد "تخوم سيميائيات الإيديولوجيا"، انطلاقا من كل المعطيات النظرية التي جاءت بها السرديات المعاصرة بكل أنوعها.

ولتوضيح طبيعة اشتغال التسنين الإيديولوجي، يقدم الباحث دراستين تطبيقيتين: الأولى عبارة عن قراءة للضوء الهارب لمحمد برادة، حاول فيها الباحث استخراج القواعد السردية التي تحكمت في بناء الشكل الروائي العام، من خلال بناء "المشهد الجنسي"، باعتباره الركيزة الأساسية التي يقوم عليها الفعل السردي. كما حاول الباحث أن يكشف عن "الواقع الإيديولوجي"، من خلال تسريد الجسد عبر ثنائية المذكر والمؤنث.

أما الدراسة الثانية فخصصها الباحث لرواية الشراع والعاصفة لحنا مينة، حيث حاول من خلال هذه القراءة أن يسلط الضوء على ما أسماه "بزمن الاستئناس"، الذي يتجلى عبر الطابع الأطروحي الذي يتحكم في بناء الرواية من حيث هي خزان للقيم، ومن حيث هي نمط في البناء والتلقي.

ويلاحظ على هذه الدراسة الحضور القوي لباحثين ومنظرين غربيين كإيكو وكريماس وبورس وبارت وفلاديمير كريزنسكي وايزر وغيرهم.

بعد هذا العرض الموجز للوضع السيميائي بالمغرب نقف الآن عند بعض الخصائص المشتركة بين هذه الدراسات، أولاها محاولة تقليص المسافة بين مفاهيم ومصطلحات مستمدة من سياقات ثقافية مغايرة للثقافة العربية، وبين معطيات النصوص الأدبية بحمولتها اللغوية والثقافية. كما تشترك هذه الدراسات في عملية ضبط المفاهيم، وتدقيق المصطلحات، وطرح النظرية قبل وضعها على محك التطبيق. كما أن الاختيارات المنهجية والطروحات النظرية التي نهجها هؤلاء الدارسون، تضع القارئ أمام ترسانة هائلة من المفاهيم والإجراءات، غير متداولة في لغته وفي سياقه الثقافي.

هناك ملاحظة أخرى تتجلى في كون بعض الأعمال يغلب عليها طابع التلخيص واختزال النظرية، كما أن التطبيقات تكون مجتزأة تركز على جانب وتغفل جوانب أخرى. هذا بالإضافة إلى اعتماد مدارس متعددة في الدراسة، مما يسقط هذه الأخيرة في التوفيق والانتقاء، ويظهر هذا بوضوح في أعمال محمد مفتاح، حيث نلاحظ تباينا على مستوى الطروحات النظرية، وكذلك على مستوى المواضيع والمتون والأجناس الأدبية. بالإضافة إلى الجمع بين مناهج وطروحات بلاغية ونقدية عربية قديمة، وبين مناهج ونظريات نقدية غربية معاصرة، تنتمي لاتجاهات متعددة في النقد الأدبي والبلاغة الحديثة والبنيوية والسيميائية ونظرية التلقي والذكاء الاصطناعي وتحليل الخطاب... الخ.

وعموما، فالمشروع السيميائي على مستوى الدرس الأدبي بالمغرب، بالرغم من المجهودات المبذولة لازال يبدو متعثرا بعض الشيء، نتيجة غياب التراكم الكمي والنوعي الذي يسمح بالوصف والتصنيف، فمصادره تكاد تنحصر في بعض الأعمال الجامعية، وفي بعض الدراسات والمقالات التي تصدر متفرقة من حين لآخر. وهنا لابد من الإشارة إلى الدور الإيجابي الذي تضطلع به مجلة "علامات"35 التي يشرف على إدارتها الأستاذ سعيد بنكراد، كمجلة رائدة ومتخصصة في قضايا الخطاب السيميائي.

هناك أيضا غياب الترجمة المواكبة للمستجدات في حقل السيميولوجيا، مع تباين واختلاف في ترجمة المفاهيم والمصطلحات. وهذا راجع بالأساس، إلى عدم وجود معاجم وقواميس عربية متخصصة في مجال الدراسات اللغوية والسيميائية والأدبية المعاصرة.

الهوامش:

1. لم يعمق فردناند دوسوسير F. De Saussure (1857، 1914) بحثه في السيميولوجيا، بل اكتفى فقط بتقديم تصور عام لهذا العلم ولموضوعه ومنهجه. وينطلق دوسوسير في تصوره للسيميولوجيا من الأنساق الدلالية المكونة من الدوال والمدلولات التي تؤدي وظيفة التعبير عن الأفكار الرمزية داخل المجتمعات المختلفة. انظر كتاب: Cours de linguistique générale, Payot, Paris, pp. 33, 34

2. لم يكن تشارلز ساندرس بورس C.S. Peirce (1839، 1914) عالما لغويا، بل كان فيلسوفا ورياضيا اهتم بالمنطق والرياضيات والفينومينولوجيا يقول "إن المنطق بمعناه العام... ليس سوى تسمية أخرى للسيميوطيقا، إنه النظرية شبه الضرورية أو الشكلية للعلامات..." والسميوطيقا عند بورس هي "نظرية الطبيعة الجوهرية لكل سيميوزيس ممكن وتنوعاته الأساسية". والسيميوزيس يحتوي على ثلاثة أبعاد: الممثل، والمؤول والموضوع. انظر كتاب بورس: Ecrits sur le signe, Seuil, Paris, 1978.

3. بعد دوسوسر وبورس، ظهرت مدارس واتجاهات ومذاهب تتعارض لا من حيث النظريات السيميوطيقية المتنافرة فحسب، بل تتعارض أيضا من حيث تصورها لما يجب أن يشكل نظرية "سميوطيقية" مثلا سميوطيقا التواصل وسميولوجيا الدلالة، وعموما هناك اتجاهان كبيران الاتجاه الأوروبي الذي يستلهم فكر دوسوسر ويضم بيسانس "Buyssens" وبريطو "Prieto" ومونان "Mounin" وبارت "Barthes" وكريستيفا "Kristeva" وكريماس "Greimas"، والاتجاه الأمريكي الذي يستلهم فكر بورس ويمثله شارل موريس "C.Morris" وكارناب "Carnap" وتوما سبيوك "T.Sebeok".

4. تعيش السيميوطيقا حاليا، حالة غموض انطولوجي وإبيستيمولوجي. وهذه الحالة الظرفية ناتجة عن غياب أو ضعف أسس علم العلامات، فالسميوطيقا المعاصرة تواجه تضخما في المقولات وفي الأسس والخطابات السميوطيقية، تضخم يمس استقرار الموضوع السميوطيقي ذاته، ومن هذا المنطلق أصبح من الضروري القيام بوضع أسس "تاريخية الإنتاج في السميوطيقا" l’historiographie de la sémiotique: انظر مقال S.Kim, « A propos d’un projet d’histoire de la sémiotique: questions et problèmes épistémologiques » Revue langages, N° 107, Septembre 92, éd. Larousse..

5. سعيد بنكراد: مدخل إلى السميائيات السردية، ص: 27.

6. هناك العديد من الدراسات والمقالات التي تحمل عناوينها كلمة سيميولوجيا ككتاب محمد السرغيني محاضرات في السيميولوجيا، دار الثقافة للنشر والتوزيع 1987، أو سيميائيات ككتاب دروس في السيميائيات لحنون مبارك، عن دار توبقال للنشر 1987، وكتاب سيميائية النص الأدبي لأنور المرتجي، عن إفريقيا الشرق 1987، غير أن هذه الدراسات يغلب عليها طابع الانتقاء والاختزال، علاوة على أن أصحاب هذه الدراسات ليسوا متخصصين في السميولوجيا فهم ينتمون إما إلى حقل الأدب أو اللسانيات أو غيرهما. هناك بعض الدراسات التي لا تثير عناوينها صراحة إلى كلمة سيميائيات، لكن مضمون هذه الدراسات يصب في حقل السيميائيات، ومن ذلك أعمال عبد الفتاح كيليطو مثلا.

7. Chadli El Mostafa: Isotopies narratives - isotopies axio-idéologiques, Etude sémiotique d’un corpus de contes marocains (2 vol), Thèse de IIIème Cycle, Paris, EHESS, 1980.

8. Chadli El Mostafa: La « spatialité dans le conte populaire marocains" in Recherches linguistiques et sémiotiques, pp. 38-446, Rabat, publication de la faculté des Lettres 1981.

9. Chadli El Mostafa: "La littérature orale: problèmatique et enjeux" in Aspects de la littérature au Maroc, pp. 11-14, Oujda, faculté des lettres, 1984.

10. Chadli El Mostafa: « Le faire mythique dans le conte merveilleux marocain » in le conte, Toulouse, Travaux de 7ème colloque d’Albi, pp. 101-110, 1987.

11. Chadli El Mostafa: « L'enonciation en sémiotique » in langues et littératures, VI-VII, pp. 105-131, 1987-1988.

12. Chadli El Mostafa: Sémiotique vers une nouvelle sémantique du texte (problèmatique, enjeux et perspectives thèoriques), Rabat, Publication de la faculté des Lettres 1995.

13.نفس المرجع ص: 9.

14.مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، العدد 12، سنة 1986.

15.نفس المرجع، ص: 94.

16.مفتاح محمد: في سيمياء الشعر القديم دراسة نظرية وتطبيقية، دار الثقافة البيضاء، 1982.

17.نفس المرجع، ص: 5.

18.نفس المرجع، ص: 58.

19.نفس المرجع، ص: 28.

20.مفتاح محمد: تحليل الخطاب الشعري، استراتيجية التناص، المركز الثقافي العربي، 1985.

21.مفتاح محمد: دينامية النص، المركز الثقافي العربي، 1987.

22.نفس المرجع، ص: 5.

23.نفس المرجع، ص: 12.

24.نفس المرجع، ص: 6.

25.مفتاح محمد: مجهول البيان، دار توبقال للنشر 1990.

26.مفتاح محمد: التلقي والتأويل، مقاربة نسقية، المركز الثقافي العربي، 1994.

27.مفتاح محمد: التشابه والاختلاف: نحو منهاجية شمولية، المركز الثقافي العربي، 1996.

28. مجيد نوسي: تحليل سميوطيقي لرواية اللجنة، تشييد مسار الدلالة، أطروحة جامعية لنيل دكتوراه الدولة تحت إشراف الدكتور محمد مفتاح، كلية الآداب، الرباط 1994.

29.نفس المرجع، ص: 11.

30.فيليب هامون: سيميولوجية الشخصيات الروائية، ترجمة سعيد بنكراد، دار الكلام، 1990.

31.بنكراد سعيد: مدخل إلى السيميائيات السردية، دار النشر، تنمل، مراكش، 1994.

32.بنكراد سعيد: شخصيات النص السردي -البناء الثقافي، منشورات كلية الآداب، مكناس، 1995.

33.بنكراد سعيد: النص السردي، نحو سيميائيات للإيديولوجيا، دار الآمان، الرباط، 1996.

34.نفس المرجع، ص: 5. علامات، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب.

 

 
 
 
 

 

 

 

 

 

 

- في سميائيات الجسد

- سميائيات الإيديولوجيا

- مدخل إلى الدراسات السميائية بالمغرب

جدل الذات والعلامات

 

 

 

 
معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

مؤلفــات بطاقة تعريــف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع  خزانات الموقـع  صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

موقع سعيد بنگراد - تاريخ الإنشاء: نونبر 2003