معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقة تعــريف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع   خزانات الموقـع صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلاما

 

إبراهيم نـمر موسى

 

  توظيف الشخصيات التاريخية في الشعر الفلسطيني المعاصر

 

 

                                                                        

الشعر والتاريخ

 

        يعدُّ التاريخ منبعاً ثراً من منابع الإلهام الشعري، الذي يعكس الشاعر من خلال الارتداد إليه روح العصر، ويعيد بناء الماضي وفق رؤيا إنسانية معاصرة، تكشف عن هموم الإنسان ومعاناته وطموحاته وأحلامه، وهذا يعني أن الماضي يعيش في الحاضر، ويرتبط معه بعلاقة جدلية تعتمد على التأثير والتأثر، تجعل النص الشعري ذا قيمة توثيقية ، يكتسب بحضورها دليلاً محكماً، وبرهاناً مفحماً على كبرياء الأمة التليد وحاضرها المجيد، أو حالات انكسارها الحضاري ومدى انعكاسه على الواقع المعاصر . وبمعنى آخر، يستلهم الشاعر أوجه التشابه بين أحداث الماضي، ووقائع العصر وظروفه إن سلباً أو إيجابياً، وهو في هذا كله يطلق العنان لخياله لكي يكشف عن صدى صوت الجماعة، وصدى نفسه في إطار الحقيقة التاريخية العامة التي يبحث عنها، أو الموضوعات التاريخية الكبرى ، التي تشكِّل حضوراً بارزاً في تاريخ الأمة دون الخوض في جزئيات صغيرة.

 

ليس معنى القول بوثائقية الشعر، أن يحقق الشاعر الغنائي القيمة "الوثائقية" ذاتها التي يبتغي المؤرِّخ تحقيقها فيما يرويه من أحداث التاريخ، أو أن يبقي الشعر رهينة في قبضة التاريخ ووقائعه وحقائقه، بل تعني قدرة الشعر على استحضار وقائع التاريخ وشخصياته، وإضفاء الشاعر عليها بعداً يستجلي من خلاله صورة العصر وما فيه من أحداث، ويتوقف نجاحه في التجاوز بالحقائق التاريخية من نطاقها العلمي الجاف إلى منطقة الشعور الحار المتدفق ، حيث ينفخ فيها من روحه وذاته، حتى تستوي كائناً حياً نابضاً بالحرارة والصدق والأصالة، وهذا ما عبَّر عنه "هرنشو" على لسان الأدباء بقوله:" إن العلم بالغاً ما بلغ، لا يعطينا من التاريخ سوى العظام المعروقة اليابسة، وأنه لا مندوحة عن خيال الشاعر إذا أريد نشر تلك العظام وبعث الحياة فيها، فإذا ما أحياها الخيال، فهي بحاجة إلى منتهى براعة الكاتب النحرير حتى تبرز في الثوب اللائق بها، وتعرض بحيث تصبح قوة فاعلة في عالمنا هذا"(1) ، فضلاً عن قدرة الشعر على استحضار وقائع تاريخية سكت عنها التاريخ نفسه، حين كان وقفاً على تصوير حياة الملوك والأمراء والعظماء وتاريخهم،  دون أن ينـزل إلى حياة العامة، وقد تنبَّه "فازيليف" إلى هذا حين درس شعر أبي تمام والبحتري على ضوء الأحداث التاريخية الكبرى ، التي هزَّت المجتمع العباسي في عصرهما فقال:" قراءة شعر هذين الشاعرين تدلنا على أن المؤرخين أهملوا بعض الوقائع الهامة ، وقدراً كبيراً من التفاصيل"(2)، كما أشار د. زكي المحاسني إلى ذلك بقوله: "فلطالما كان شعر أبي تمام في حروب الروم منيراً للصورة وموضحاً لألوان الحوادث، وهذا فضل الشعر العربي على التاريخ، فإني رأيت ما أضاعه التاريخ حفظه الشعر في كثير من الحادثات"(3)،وبهذا يصبح الشعر سجلاً إنسانياً،وحافظاً للذاكرة التاريخية من الضياع والنسيان.

 

         لقد أدرك الفلاسفة والمؤرخون والشعراء على حد سواء، حميمية العلاقة الجدلية التي تربط الشعر بالتاريخ، لذلك اهتم "أرسطو" في كتابه "فن الشعر" بتوضيح العلاقة والفرق بينهما، واضعاً في اعتباره طبيعة كل منهما وغايته في النظر إلى موضوعه، ذلك أن المؤرخ والشاعر لا يختلفان بأن ما يرويانه منظوم أو منثور، (فقد تصاغ أقوال هيرودتس في أوزان، فتظل تاريخاً سواء وزنت أم لم توزن)، بل هما يختلفان بأن أحدهما يروي ما وقع، على حين يروي الآخر ما يجوز وقوعه . ومن هنا كان الشعر أقرب إلى الفلسفة وأسمى مرتبة من التاريخ، لأن الشعر أميل إلى قول الكليات، على حين أن التاريخ أميل إلى قول الجزئيات(4) . وبهذا تتضح قدرة الشعر على التخطي والتجاوز وعدم الانحصار في إطار زمني ضيق -مثل التاريخ- يحدُّ من حركته وقدرته على إبداع الواقع، ذلك أن قدرة الشعر لا تحدُّها حدود زمانية أو مكانية، لأنه يسترجع الماضي، ويصوِّر الحاضر، ويستشرف المستقبل، أي أنه يعبِّر عما كان وما هو كائن وما سوف يكون، وهو في ذلك كله يتجاوز الأطر الجزئية إلى الأطر الكلية والإنسانية العامة، لذلك كان أقرب إلى الفلسفة وأفضل من التاريخ الذي يقتصر على ذكر حوادث وحقائق جزئية .

 

   أما المؤرخون العرب ، فقد أدركوا منذ وقت مبكر العلاقة الجدلية التي تربط الشعر بالتاريخ، فكانت كتبهم التاريخية بما فيها من حوادث وحقائق وشخصيات مدعَّمة بحضور شعري مكثف، لدرجة يمكن اعتبارها مصدراً من المصادر الأدبية بجانب قيمتها التاريخية المهمة، من ذلك على سبيل المثال جمع المؤرخ العربي المقدسي "أبو شامة المقدسي" في كتابه التاريخي "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" بين الشعر وأحداث التاريخ، فتعرَّفنا إلى أشعار ابن القيسراني وابن سناء الملك في مدح نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي، وعلاقة القصيدة من الناحية الزمانية بحادثة تاريخية محددة في الزمان والمكان، كما تعرَّفنا إلى كثير من الشعر الذي قيل في فتح بيت المقدس من خلال تأريخه لأحداث سنة 583هـ، فكأنه كان يؤرخ بالشعر، أو يشعر بالتاريخ. إن إدراك المؤرخ العربي لقيمة النص الشعري باعتباره عنصراً مهماً من عناصر الكتابة التاريخية، وليس مجرد تزيين شكلي يحلِّي به كتابه التاريخي، يدل على وعي عميق بالعلاقة الجدلية التي تربطهما معاً. وقد أدرك "هرنشو" هذه الحقيقة العلمية وصوَّرها أحسن تصوير وبموضوعية متناهية في الصدق، حين وازن بين الثقافة العربية وعلم التاريخ لدى المؤرخين العرب والصليبيين  الذين قدموا إلى بلاد الشام ، فقال: "ربما كان التقدم الملحوظ في تآريخ العهد الأخير من العصور الوسطى، ناشئاً إلى حد بعيد من تأثير الحضارة العربية التي شملت العالم الإسلامي في ذلك الزمان . لقد تماست النصرانية والإسلام في الأرض المقدسة وما يجاورها، وفي صقلية وجنوبي إيطاليا والأندلس…فكذلك الصليبيون خرجوا من ديارهم لقتال المسلمين ، فإذا بهم جلوس عند أقدامهم يأخذون عنهم أفانين العلم والمعرفة . لقد بهت أشباه الهمج من مقاتلة الصليبيين عندما رأوا "الكفار" الذين كانوا ينكرون من الناحية اللاهوتية ديانتهم، على حضارة دنيوية ترجح حضارتهم رجحاناً لا تصلح معه المقارنة بينهمـا"(5) ، ثم يشيد بالمؤرخـين المسلمين كالمسعودي وابن خلكـان وابن خلـدون ، ويعـدُّ

الأخير أنه "واضع علم التاريخ"(6).

 

         كما أدرك الشعراء العرب منذ العصر الجاهلي وحتى اليوم أهمية توظيف الحوادث والشخصيات التاريخية في أشعارهم، على اعتبار أن التاريخ يدرس حياة الإنسان وارتباطها بالزمان والمكان، وكذلك الشعر. فالتاريخ في أيسط تعريفاته يمكن اعتباره  علماً يدرس عمل الإنسان في الزمان والمكان (7) ، وقد أشار إلى هذا المعنى أيضاً المؤرخ العربي "محمد بن عبد الرحمن السخاوي" بقوله : "إن التاريخ فن يبحث عن وقائع الزمان من حيث توقيتها، وموضوعه الإنسان والزمان"(8) . ولهذا استلهم الشعراء الفلسطينيون المعاصرون أحداث التاريخ وشخصياته، وجعلوا منها نسقا بنائياً، ونسيجاً إبداعياً مندمجاً في شبكة العلاقات الدلالية التي ينتجها النص الشعري، ويرجع حازم القرطاجني أسباب هذه الإحالات أو التَّناصات التاريخية إلى كونها "إحالة تذكرة ، أو إحالة محاكاة ، أو مفاضلة ، أو إضراب ، أو إضافة، وقد تكون من جهات أخر غير هذه"(9) ، ويشترط في هذه الإحالات أن تكون واضحة ومشهورة إذ "يجب للشاعر أن يعتمد من ذلك المشهور الذي هو أوضح في معناه من المعنى الذي يناسب بينه وبينه"(10) ، وهذه إشارة ذكية تتحقق من خلالها العلاقة بين المرسِل والمرسَل إليه، تجعل الثاني مدركاً للأبعاد الدلالية التي يبغي الأول توصيلها، وتتحقق بها المشاركة الوجدانية بين الطرفين، فكأن "القرطاجني" يعيش بيننا ، ويرى ما تزخر به بعض دواوين الشعراء المعاصرين من هوامش تعريفية ، ناتجة عن اعتقاد الشاعر بغموض الدلالة الأسطورية أو التاريخية… الخ التي يوظفها في خطابه الشعري، فيهرع في نهاية الصفحة ليعرِّف القارئ بها.

 

         لقد وظَّف الشعراء الفلسطينيون الشخصيات بكثرة في دواوينهم الشعرية ، ولا يرجع ذلك فحسب إلى "لجوء الفنان إلى معين التاريخ في عصور التردي والإحباط، إذ يتوجه الفنان إلى التاريخ بحثاً عن المثل الأعلى، رغبة في التعويض العاطفي، وربما رهبة من وطأة زمن العجز الذي يحياه، وهرباً إلى أحضان الماضي الذي قد يبدو مجيداً أو مثالياً بالقياس إلى الحاضر"(11)، بل استطاع الشعراء من خلال هذا الكم الهائل من الإشارات التاريخية أن يعبِّروا عن رؤاهم الإنسانية ، وأن يعيدوا رسم خرائط الوطن الفلسطيني والعربي والعالمي بشخصياته وأزمانه وأماكنه ، وفق رؤيا شعرية تتساوق مع الحاضر، وتكشف عن شهادة شعرية إبداعية حية تتصل به، وتستحضر أبعاده بما فيها من انتصار وانكسار ، وحلم في صنع مستقبل إنساني أفضل.

 

         إن تعدد الإشارات التاريخية لدى الشعراء الفلسطينيين من عربية وإسلامية وعالمية ماضيه ومعاصرة، يدل على مدى اتساع الحدقة الشعرية والرؤيا الإبداعية وعدم الانغلاق على الذات الفردية، واستكناه الأبعاد الإنسانية الشاملة، وتوظيفها لإضفاء صورة حية عن واقعهم، جعلهم يعيدون تشكيل الوطن الذي ا تخذ صورة مثالية، مصورين حياة شعب محروم من شروط الحياة الإنسانية المألوفة في ظل نكبة ، تضغط على عصب القلب، وتدل على وحشية الاحتلال وإرهابه ، الذي استمرأ الولوغ في دمه وتزوير تاريخه، لكنه-أي الفلسطيني-يدافع عن بقايا وجوده الذاتي وهويته القومية، بل يحمل عبء الدفاع عن الأمة أو "دول الصمـت العربي" ، التي اكتفت بالاستنكار الأجوف الخالي من الفعل الإنساني أو الحضاري.

 

         وصفوة القول، إن الشعراء الفلسطينيين قد نهلوا من التاريخ شيئاً وافراً للتعبير عن قضاياهم الوطنية والقومية والإنسانية العادلة، ودافعوا عن كينونة الأمة التي ينتمون إليها، وقاوموا العدو الذي جرَّدهم من أرضهم ، لكنه لم يستطع تجريدهم من تاريخهم، فرسموا صورة الوطن في نفوسهم وأرواحهم قبل أن يرسموها في شعرهم، وكانوا حكاية الدم المسفوك الذي يرويه سفر النكبة وسفر التاريخ على حد سواء في قصيدة شعرية مجبولة بدمهم وبتراب الوطن . وبهذا فإن القصيدة "حين تومىء إلى ما يقع خارجها من نصوص وأحداث ومرويات، فإنها تفتح ميراثاً وجدانياً ومعرفياً مشتركاً بين الشاعر والجمهور، وتوقظ الذاكرة الوجدانية والجمالية للمتلقي ، ليبدأ نشاطه في استقبال القصيدة والتماهي معها"(12).

 

دخلت الشخصيات التاريخية والفلسطينية والعربية والعالمية القديمة والمعاصرة المتن الشعري

الفلسطيني، وهي محملة في الغالب بدلالات فكرية ونفسية عميقة بعد تحويرها ، أو تعديلها ، أو امتصاص

دلالاتها الموروثة بما يتطلبه السياق الشعري، ولم يكن الشعراء في ذلك على مستوى واحد من التوظيف، فقد تعددت شخصياتهم، وتعددت طرائقهم في استحضار الشخصيات التاريخية ما بين حضور موفق يتلاءم مع السياق الدلالي، وحضور مفاجىء لا مبرر لوجوده ولا يستدعيه السياق حيث "يتم استدعاؤه من الذاكرة دون أن تختمر لدى الشاعر تلك الكيفية التي يستطيع بها عقد زواج شرعي بين السياق والرمز. وبالمقابل تظهر بوادر الرمز قبل حضوره في السياق لدى بعض الشعراء، مما يؤكد أن السياق الشعري إنما يستمد قوته وتدفقه ونكهته من هذا الرمز، وحتى وهو ما يزال غير معلن عنه، فيكون حضوره بعد ذلك ، تأكيداً لهذه الدلالات ، وتعميقاً لها في الوقت نفسه"(13)، وبذلك يتسلل الرمز التاريخي في السياق الشعري بصورة تدريجية ، تجعل من حضوره ضرورة يتطلبها السياق ليغتني بها ويكتنـز بالدلالة.

 

         لقد عكف الشعراء الفلسطينيون على توظيف الشخصيات التاريخية، واستحضارها في متونهم الشعرية بكثافة، جعلت منها مادة معرفية ، ينعكس من خلالها الإنجاز الإنساني في صورة حركية ، لا تقدس القديم بشخصياته وأحداثه بقدر ما تتفاعل معه وفق رؤيا معاصرة، تعمل على إنتاج دلالات جديدة ، ترتبط بروح العصر، وتؤطِّر النص الشعري للكشف عن أحلام الجماعة وطموحاتها الإنسانية . وبذلك تتمايز طريقة حضور هذه الإشارات التاريخية في الخطاب الشعري الجديد عن الخطاب الشعري الكلاسيكي أو التقليدي لدى شعراء النهضة وفترة الإحياء، حيث كان التوظيف لديهم "يتسم بارتهان النص الشعري بالواقعة التاريخية ضمن زمنها الخارجي أولاً، وضمن تسلسل الوقائع الأخرى الحافة بها، لأن القصد الذي يلجىء الشعراء إلى هذا الفن (أي نظم الوقائع التاريخية) كان خارجياً، يأتي من التاريخ أولاً، لا من النص نفسه، فيكون وجود (التاريخي) في (الشعري) هدفاً لا وسيلة، وفي الأغلب يتجه الهدف إلى غرض تربوي أو تعليمي أو أخلاقي أو قومي، يستثير الهمم، ويذكر القارئ بدروس التاريخ ، ليتعمق انتماؤه إلى أمته ، وإحساسه بعظمتها ، وسمو ماضيها، مما لا يليق معه أن ينالها الهوان في حاضرها"(14)، لكن جاذبية استدعاء الوقائع والشخصيات التاريخية في الشعر الجديد، تسعى إلى التعبير عن التوأمين الحرية والسلام ، باعتبارهما من الرموز الأساسية التي يطمح إلى تحقيقهما الشعراء المعاصرون لصنع حاضر إنساني مشرق .

         إن نقل الشخصية التاريخية من زمنيتها الماضية إلى زمنية الحاضر والتعبير عنه، كانت الهم التاريخي الشعري الذي شكَّل ملمحاً متميزاً من ملامح الشعر الجديد، وأضفى على التجربة الشعرية بعداً إنسانياً شاملاً، وبهذا تتشكل "زمنية آنية، تختصر المسافة بين الصوتين، ليتلبس كل منهما صاحبه، فكلاهما رهين موقف متأزم، أشبهت ليلته بارحته، ومع المشـابهة في المـوقف قد تنبثق مفـارقة أو مفـارقات بحتمية اختـلاف الظـرف التاريخي، فتنضاف إلى المعطى المضمن –نتيجة لذلك- شذرات تحويرية تتسق مع الحالة المفارقة فيما يشبه تنويعات على الفكرة الأولى"(15) . وبذلك تتفاعل الشخصية التاريخية الماضية مع الشخصية المعاصرة، أو يتفاعل الماضي مع الحاضر لإنتاج دلالة جديدة، تعبِّر عن صدى صوت الشاعر والجماعة ، وما يعتريهما من هموم وأحلام وطموحات.

 

         ومهما يكن من أمر، فإنني سأقوم في الصفحات التالية بتحليل عدة إشارات تـاريخية منتقاة، تشـكِّل مجموعة من القواسم المشتركة بين الشعراء الفلسطينيين، أو تحليلها لأهميتها التوظيفية في دواوين الشعراء باعتبارها تعبيراً عن رؤاهم الإبداعية، وعن وعيهم الذاتي والحضاري والإنساني بها.

 

1-شخصيات تاريخية عامة

 

تشتمل الشخصيات التاريخية العامة على عدة شخصيات أطلق عليها د. علي عشري زايد "الأنموذج التاريخي"(16) ، مثل: الخليفة والملك والمماليك والتتار والسجان والجلاد والروم والفرس وكسرى وقيصر…الخ، وقد شكَّل حضورها في الخطاب الشعري الفلسطيني أبعاداً دلالية مهمة، استحضر من خلالها الشعراء ملابسات الواقع الراهن، واستكناه أبعاده لخلق حالة فكرية أو نفسية جديدة، تعمل على تعميق دلالات النص الشعري والانطلاق بها إلى آفاق إنسانية واسعة.

 

         تستحضر فدوى طوقان في قصيدتها "رسالة إلى طفلين في الضفة الشرقية" ، " شخصية "التتار" ، للكشف عن معاناة الشعب الفلسطيني في ظل الاحتلال الصهيوني. تقول:

                            الله يا بيسان!

                            كانت لنا أرض هناك

بيَّارة، حقول قمح ترتمي مد البصر

                            تعطي أبي خيراتها

                            القمح والتمر

                            كان أبي يحبها، يحبها

                            كان يقول: لن أبيعها حتى ولو

                            أعطيت ملأها ذهب

                            …واغتصب الأرض التتر!!

                            ومات جدك الحزين يا صغيرتي

                            مات أبي من حزنه

                            كانت جذوة تغوص في قرار أرضه

                            هناك، في بيسان (17)

         ترتكز الأبيات في إنتاج دلالاتها إلى محورين ، يعتمد المحور الأول على إطار زمني ، يحضر فيه الفعل "كان"، باعتباره حداً فاصلاً بين هناءة العيش في ظل احتضان الأرض الفلسطينية للفلسطيني متمثلاً في "بيسان" من جهة، واغتصاب اليهود للأرض بعد هزيمة 1967م من جهة أخرى، وبذلك يفصل الفعل "كان" بين زمن "الما قبل" وزمن "الما بعد" ، ويضعنا وجهاً لوجه أمام صورة من صور العذابين المادي والنفسي، يعانيهما الإنسان الفلسطيني حتى الموت "ومات أبي من حزنه". إن انشطار الزمن إلى قسمين ، وتلاحق هذا الانشطار وتتابعه في حضور الفعل "كان" في جسد النص، ينم عن غليان داخلي أسفر عن حضور مأساوي. فالزمان إذن على حد تعبير "ميرهوف" هو "الصورة المميزة لخبرتنا، إنه أعم وأشمل من المسافة "المكان" لعلاقته بالعالم الداخلي للانطباعات والانفعالات والأفكار ، التي لا يمكن أن تضفي عليها نظاماً مكانياً"(18). هكذا تتحدد الأبعاد الزمانية وتحيل إلى درامية الحياة الفلسطينية.

 

أما المحور الثاني فيتمثل في حضور "التتار"، الذين اغتصبوا الأرض باعتبارهم معادلاً دلالياً للاحتلال الاستيطاني الذي اغتصب "بيسان" رمز الأرض الفلسطينية ، وبذلك أخرجت الشاعرة "التتار" من دائرة التعميم باعتبارهم أنموذجاً تاريخياً عاماً، إلى دائرة التخصيص التي تشير إلى "الاحتلال" المعاصر، ومزجت بينهما في ضفيرة دلالية واحدة، يستدعيها الفكر بمجرد ذكر كلمة "التتار"، التي ارتبطت في الشعور واللاشعور العربي أو الإسلامي بالهمجية والبدائية على اعتبارهم شعباً بلا حضارة، كما ارتبطت بالطبيعة التدميرية التي لازمتهم وخاصة التدمير العلمي لمظاهر الثقافة والحضارة الإنسانية ، حين أغرقوا مكتبة "بغداد" في نهري دجلة والفرات. إن محاولة الذات الشاعرة إضفاء هذه الصفات التدميرية على التتار/الصهاينة، بوصفهم رمزاً من رموز التدمير، جعل النص الشعري يكتنـز بشبح الخطيئة الإنسانية التي مارسها الاحتلال ضد الوجود الفلسطيني التاريخي على أرض فلسطين، كما جعله يمحو العلاقة بين الأزمنة والأمكنة في رحلة تجاوزية، توحِّد بين الطرفين رغم بعد الشقة الزمانية والمكانية بينهما، لتستعيد الذاكرة الإنسانية أحداث التاريخ باعتبارها رمـزاً  تسكن فيه مأسـاة
الإنسان الفلسطيني والعربي والمسلم على حد سواء.

 

         وتحضر شخصية "السلطان" في قصيدة محمود درويش "نشيد إلى الأخضر" ، باعتبارها رمزاً من رموز القتل والموت. يقول:

                            جدد أيها الأخضر موتي

                            إن في جثتي الأخرى فصولاً وبلادْ

                            أيها الأخضر في هذا السواد السائد، الأخضر في بحث

                                      المناديل عن النيل وعن مهر العروس

                            الأخضر الأخضر في كل البساتين التي أحرقها السلطان

                            والأخضر في كل رماد

                            لن أسميك انتقال الرمز من حلم إلى يوم

                            أسميك الدم الطائر في هذا الزمان

                            وأسميك انبعاث السنبله (19)

         يأخذ دال اللون "الأخضر" في الأبيات وفي جسد القصيدة عامة أبعاداً دلالية، ترتكز على علاقة التضاد ، حيث يتم تجسيده أو تشخيصه في صور متعددة : الأولى، قدرته على الحضور والشمول والتغلغل في كل شيء من أشياء العالم، يقابل هذا تفرده ووحدته وغربته عن العالم . والثانية، سيرورته الزمانية والمكانية باعتباره أول الأشياء، وبدء العالم والخلق، وخالق الأشياء والوجود الإنساني، لكنه في الوقت نفسه مخلوق "طفل" يدخل العالم من باب الخيانات. وأما الثالثة، فتتمثل في إشارته إلى زمن "الأخضر" ، وهو زمن القمح والخصوبة والتجدد والانبعاث، يقابله زمن الموت والقتل والزفاف الدموي. وبهذا تؤطر بنية "التضاد" النص الشعري، وتجعل منه نصاً مفتوحاً على كل الاحتمالات، لأن دلالة "الأخضر" لا تنحصر في إطار الدلالة اللونية فحسب كما قد يفهم من ظاهر اللفظ، بل هو انبعاث كوني، وتجسيد للسيرورة الزمانية والمكانية، يتحول فيها "الأخضر" إلى إشارة عائمة تعتمد على الانزياح الدلالي، وتحمل قيمة جمالية ليست مطابقة للدلالة المألوفة، ولا تبقى محكومة بالإطار الضيق لمحمولات الألوان ، التي تتسم في الغالب بطبيعة شخصية خالصة في كثير من الأحيان.

 

إن تعدد الدلالات التي ينتجها اللون "الأخضر" ، وتعدد صوره الحسية والمعنوية، يبدو في رأي جان كوهين "تحدياً مقصوداً في وجه العقل. إن العالم الرمزي عالم مضلل. ولهذا نجد القمر وردياً، والعشب أزرق،والشمس سوداء، والليل أخضر…تلك هي الألوان التي لم نشـاهدها أبداً، والتي تختلط بأشكال غريبة،

وبأصوات لم تسمع، هي ما يكوِّن عالم الشاعر الذي يبدو عجيباً"(20)، وهذه في الحقيقة سمة من سمات الشعر الجديد التي امتاز بها عن الشعر التقليدي، حيث اكتفى الشعراء التقليديون "الكلاسيكيون" في الغالب بالدلالات المألوفة للألوان .

 

         ويتعمق الحس المأساوي للتضاد والمفارقة بحضور "السلطان" في جسد النص، لينقلنا من العالم اللوني اللامتناهي الذي شكَّل سيرورة الوجود الإنساني، إلى القمع الدموي الذي يقتل براءة "الأخضر" فينا، ويحرق "البساتين" رمز الحياة والاخضرار والوجود الإنساني الفاعل في الكون، مما يؤدي إلى تعطيل الحياة الإنسانية، وإيقاف عجلة الكون، والقضاء على كل مظهر من مظاهر الولادة والانبعاث والتجدد . وبذلك تتعمق الرؤيا الشعرية الداخلية ، وتفاعلاتها الدرامية الناشئة من حضور "السلطان"، باعتباره رمزاً من رموز القتل، وقوة فاعلة مدمرة تصنع الموت وتوزعه على أشياء العالم ، مما يؤدي إلى القضاء على الوجه المشرق للحياة.

         ويستحضر سميح القاسم في قصيدته "العودة إلى جبل الله" شخصية "قيصر" ، باعتبارها رمزاً من رموز القسوة والتنكيل وسرقة أراضي الآخرين وأموالهم، كما يستحضر شخصية "المسيح" من خلال آلية "القول" "دعوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، ويمزج الشاعر بين شخصية "قيصر" وقول "المسيح" عليه السلام ، للتعبير عن مأساة الواقع الفلسطيني الراهن في ظل الاحتلال الصهيوني ، متمثلاً في قريتين فلسطينيتين احتلتا سنة 1948م، هما "اقرث وكفر برعم" وغيرهما من المدن والقرى الفلسطينية الأخرى. يقول:

نبضنا على جبل الله

                            جيلاً يجيء ويمضي وجيلاً يجيء

                            نبضنا عتابا وزيتونة طيبه

                            وليمونة في صباح الحواكير تلمع

                            ومسكب خس ونعنع

                            ولو أطفأ الله مصباحه في أماسيِّه المتربه

                            نبضنا عناقيد كرم تضيء

                            لجيل يجيء

                            على جبل الله جاءت كتائب قيصر

                            وراحت كتائب قيصر

                            وكان الجُباة الغلاظ يقصُّون من لحمنا…ما لقيصر

                            وما للاله –وأكثر(21)

         يعكس الشاعر في الأبيات زمناً ملحمياً، يتجلى فيه الانكسار العربي في صورة بشعة ذات أبعاد فجائعية ، تجعل "كتائب قيصر" و "الجُباة الغلاظ" يعيشون على لحم الفلسطيني، ويقطعونه إرباً إرباً ليقتاتوا به وهم في هذا لم يكتفوا بمقولة "المسيح" عليه السلام، بل أخذوا ما لقيصر وما ليس له، وتجاوزوا ذلك إلى القتل وأكل لحوم البشر. كما يتجلى في الأبيات زمن الانتصار العربي والحضور الإنساني الفاعل، متمثلاً في حضور الفعلين "جاءت- راحت" ، وهذا يوحي بأن "قيصر" التاريخي الذي "جاء" إلى أرض فلسطين والعرب منتصراً ، قـد "راح" عنها مندحراً مهزوماً بقوة العرب والمسلمين، وهذا بدوره يشير إلى أن "قيصر الجديد" ، المتمثل في صورة الاحتلال ، سوف يؤول به الحال إلى ما آل إليه "قيصر" التاريخي . وبهذا يتحول الموروث التاريخي حسب رأي د. محمد فتوح أحمد إلى منهج في الإدراك ، وطريقة في التصور الإبداعي(22) ، يتفاعل فيها الماضي بأحداثه وشخصياته مع الحاضر في علاقة "تأويلية"، تستند إلى منطق التاريخ ، وسير حركته ، وتبدُّل دوله ورجاله، في إشارة إلى أن دوام الحال من المحال.

 

         إن استحضار جو التراث التاريخي في سياق الأبيات، ومحاولة تعديل بنيته بالنظر الاسترجاعي للزمن من ناحية، واستشراف الزمن واستباقه من ناحية أخرى، يعبِّر عن يقين الذات الشاعرة في التخلص من قيودها ومأساوية واقعها، خاصة أن "نبض" الإنسان الفلسطيني المتجلي في مظاهر الطبيعة والجغرافيا الفلسطينية منذ فجر التاريخ وحتى الآن، مازال حياً حاضراً في كل ذرة من ذرات الوطن، يسقي بنسغه أشجاره ويمدها بالحياة والتواصل الإنساني جيلاً بعد جيل، ويضيء عتمة العالم التي تركتها وراءها الاحتلالات التاريخية لفلسطين ودمرت ضياءها. إن نبض الفلسطيني يبث الحياة في أشجار الزيتون رمز التجذر والتمسك بتراب الوطن، ويضيء أشجار الليمون والحواكير وكروم العنب، ويجعل الشجر والبشر يتناسلون ليشكِّلوا بتناسلهم جغرافيا الوطن الفلسطيني وأبعاده الإنسانية والحضارية، التي سوف "تكنس" الاحتلال الصهيوني، وتطهِّر الأرض من دنسه ، كما "كنست" الاحتلالات التاريخية السابقة وطهَّرت الأرض من دنسها.

 

         ويستحضر توفيق زياد في قصيدته "فهد" شخصية "الملوك الراقصين"، ويشير "فهد" إلى شخصية "يوسف سلمان" القائد الشيوعي العراقي ، الذي أعدمته حكومة القصر سنة 1949م، انتقاماً لدور العمال العراقيين في وثبة الجسر سنة 1948م. يقول ساخطاً على ملك العراق "فيصل الأول" ورئيس وزرائه "نوري السعيد"، موجهاً خطابه إلى "فهد":

                            يا أيها الغافي على صدر الخلود

                            قم قبِّل اللهيب المزنَّر بالحديد

                            انهض من اللحد النديّ ترابه

                            واستقبل الفجر الملثم بالوقيد

وانظر أكف الشعب كيف تخضبت

                            بدم الملوك الراقصين على عمود

                            والفوهات الحمر تعزف ثأرها

                            لحناً على شريان فيصل والسعيد

                            هذا زمان! كل ملك رأسه

                            كرة تنقل بين أقدام "العبيد"

                            كانت سجاجيد الملوك جباهنا

                            وعيوننا الحمراء حبات العقود

                            فإذا جباههم السمان نعالنا

                            ودماؤهم…حنَّاء في لبد الأسود(23)

         إن نفس الشاعر الجريحة والثائرة في الآن نفسه، تصدر نفثات حارة، وتكشف عن روح النضال الشعبي "أكف الشعب" المتجسدة في "فهد"، باعتباره  مركز الثقل الدلالي، ثم تنفتح الذات الشاعرة على العالم الخارجي من خلال بنية "النداء" في قولها "يا أيها الغافي" ، وبنية "الأمر" في قولها "قم- انهض- استقبل- انظر" حاملة له البشارة بثورة الشعب العراقي في 14 تموز/يوليو ، وتخلصه من "الملوك" الذين استمرءوا الولوغ في دم شعوبهم خدمة للاستعمار الذي نصبهم ملوكاً . بذلك دافع الشعب العراقي بالتخلص منهم عن كينونته الإنسانية، وتحرر من العبودية، وتنقلت رؤوسهم بين أقدام "العبيد"، إذ لا سلام بين سادة وعبيد.

 

         إن بنيتي "النداء" و "الأمر" ، تشيران إلى الشقة الزمانية والمكانية الواسعة بين المنادي والمنادى، وبين الآمر والمأمور، وتحاول الذات الشاعرة من خلالهما بعث "فهد" من "غفوته" ، وليس من "قبره" أو "موته"، ليكون شاهداً على ما بذره في التربة العراقية من بذور الثورة والتمرد على الملوك المتواطئين مع الاستعمار، ولكي يرى بأم عينيه ثأر الشعب العراقي ممن دنسوا أيديهم بقتل الثوار ، الذين سعوا قبل استشهادهم إلى تحرير الإنسان من عبودية الإنسان . وبهذا يتحول "فهد" إلى رمز ثوري إنساني ، أو "مادة نضالية حية تتجدد من خلال وجدان الناس، وتعمل على تجديد هذا الوجدان، وتأخذ لون الزمان الذي تطابق أشواق أناسه دلالتها الإنسانية"(24) ، فسجَّل الشعب العراقي بثورته سفراً ملحمياً جديداً من أسفار التاريخ العربي المعاصر في سعيه نحو الحرية الإنسانية.

 

ويوظِّف معين بسيسو في قصيدته "في الأردن" شخصيتي "السجَّان" و "الجلاَّد"، ويصور من خلالهما أضغاث أحلام السجَّان والجلاَّد اللذين يعتقدان أن ربيع الفجر - رمز الثورة - والشعب الأخضر، يمكن كسرهما من خلال فتح أبواب المشانق لمن تسول له نفسه الخروج عليهما، ولكنهما يجهلان أو يتجاهلان أن دوام الحال من المحال، لأن الشعب الأخضر شعب تتجدد فيه روح النضال والثورة، وتتوق نفسه إلى المثال الإنساني المتجسد في الثورة والحرية والكرامة الإنسانية، ولذلك لن يهدأ أو يستسلم. يقول في أحد مفاصل القصيدة:

                            في الأردن جلاد يحلم

                            بالأردن يحلم في قمقم

                            سجن أبدي لا يحطم

                            سجن كجهنم

ثم يقول:-                 ويد السجَّان

                            تدمي مفتاح الزنزانه

                            وفم السجَّان

                            من جوع يمضغ قضبانه

                            في الأردن جلاد يحلم

ميت يحلم

ويجوع ويمضغ أكفانه (25)

وتأخذ صورة "الشرطي" باعتباره رمزاً من رموز القمع والقهر بعداً يمتلىء بسخرية جارحة، تجلو مرارة الواقع العربي وضعفه وانقسامه، تصل إلى حد النكوص عن المنجزات التي حققتها الأمة عبر مسيرتها الحضارية الطويلة منذ بدء الإسلام وحتى اليوم، وبالتالي تعيدنا إلى الوراء أربعة عشر قرناً من الزمان أو يزيد، حيث العصر الجاهلي، عصر القبائل العربية والعصبية القبلية . يقول عز الدين المناصرة على لسان "الشرطي":

                            ناداني شرطي بلله مطر حامض

                            أخرجت له وجهي، سمَّيت له بلدي المقروص

                            قال: اخرس…من أي قبائل حارتنا أنت؟؟؟

                            أطلقني حين تأكد أني قيد التجنيس!!

                            في شارع قوس المطر مشيت ورافقني

                            الشاطر أحمد والغول

                            أبكي في حلمي الراعش كالعصفور المبلول(26)

يستفيق الإنسـان الفلسطيني المنفي بين "قبـائل"العرب في العصر الحديث على حقيقة فاجعة ، تصوِّر

"وحشية" الحاكم، وهذه الحقيقة تتقاطع مع كل ما استقر في الوجدان العربي من قيم الوحدة العربية، والبنيان الإسلامي المرصوص في مواجهة التحديات المفروضة على هذه الأمة، وتضغط على عصب القلب وتطحنه كطحن الرحى للحبوب.

 

2- الحسين بن علي

 

         تشكِّل شخصية "الحسين بن علي" وموقعة "كربلاء" ، تراجيديا البطولة الساعية إلى تحقيق التغيير الحضاري في المجتمع الإسلامي في العصر الأموي، لكن مقابلة هذه الثورة بالقمع والتنكيل أدى إلى فشلها، وإلى موت مأساوي لبطلها ومشعل وقودها "الحسين بن علي"، ولم يكن سبب هذا الفشل نقصاً أو قصوراً في دعوة صاحبها أو مبادئه، وإنما سبببها أنها كانت أكثر مثالية ونبلاً من أن تتلاءم مع واقع ابتدأ الفساد يسري في أوصاله(27).

 

لقد كان "الحسين" صاحب قضيتين : سياسية وأخلاقية ضد الفساد الذي استشرى في المجتمع الأموي، ولذلك تسابق الشعراء ومنهم الشعراء الفلسطينيون في تصوير هذه الشخصية باعتبارها صاحبة قضية إنسانية كبرى تتسم بالأخلاق النبيلة، وترفض الواقع، وتقف وحيدة في أرض المعركة بعد أن تقاعس أشياعها عن نصرتها والدفاع عن مبادئها النبيلة، وهي صورة تاريخية يمكن اعتبارها معادلاً دلالياً لسلبية الأمة وتخاذلها عن نصرة الحق والخير في العصر الحاضر، وبذلك سقط صاحب هذه الدعوة شهيداً من "شهداء الحب" ، وهذا هو عنوان القصيدة ، التي يوظِّف فيها سميح القاسم شخصية "الحسين بن علي" ، حيث تبرز "كربلاء" في القصيدة باعتبارها رمزاً من رموز الدم العربي النازف في جسد العراق حتى اليوم. يقول:

                   في عقر دارك جزَّ الـروم ناصيتـي          وجـاوزت خيلهم أبواب حطين

                   لكن ظلم ذوي القربى أشـد على           روحي الجريحة من ظـلم يقاويني

                   ما كربـلاء! وفي بغـداد نـازفة            دمـاء شعبي من حين إلى حـين

                   يا دجلة الخير، فاجرف كل شائبة             واسق المحبين، واغسل إفك مأفون

ثم يقول:-        فما أقول إذا استنطقت عن وجعي            والجـرح جرحي والسكين سكيني

                   ويوم يزحم وجه المـوت ذاكرتي             أبكي عـراقي أم أبكي فلسطيني؟!(28)

يحشد الشاعر في سياق الأبيات أماكن وشخصيات تاريخية وأدبية "الروم – حطين – كربلاء – العراق – فلسطين – ظلم ذوي القربى" ، وهي ترتكز في إنتـاج الدلالة على بنية "التضـاد" التي تؤطِّر النص،

وتجعل دلالاته ذات أبعاد فجائعية ، حيث "الروم" بدلالاتهم التدميرية والاحتلالية، يتجاوزون الزمن العربي الإسلامي في صورة "حطين" بدلالاتها الإشراقية وعدالتها الإنسانية المستقرة في الوجدان العالمي، لكن الذي يوجع الذات الشاعرة ويقض مضجعها، وينغِّص عليها حياتها، ليس ما يقوم به "الروم" من تنكيل وتقتيل، لأن هذا الفعل يؤدي إلى صمود الأمة، وتمسكها بحقها، ويشد من أزرها، ويقوي ظهرها لمجابهة الأعداء، أما "ظلم ذوي القربي" ، فهو الذي يمثِّل الفاجعة الحقيقية، التي لا تستطيع الذات الشاعرة تصورها، وبذلك يأخذ جزء من "الأنا" الجماعية على عاتقه دور "الآخر" في التنكيل والتقتيل بجزئه الآخر، ويأخذ بعداً "تبادلياً" مع الآخر في تدمير الذات الجماعية وسحق وجودها، وهنا تتجلى "كربلاء" باعتبارها قرباناً من قرابين الحرية الإنسانية، ويتجلى "الحسين بن علي" باعتباره حاملاً لعبء النضال البشري، حيث يسير نحو جلجلته في رضى وسكون ، بعد أن تخلَّى عنه أشياعه وتركوه وحيداً "حاملاً جلال قضيته ، ونبالة إصراره على عدم التنازل"(29) . وبهذا يصبح "الحسين بن علي" بطلاً تاريخياً، ويصبح موته  مثالاً يحتذى به في التضحية والفداء من أجل القضية التي آمن بها.

 

ولا يقف الشاعر عند تصوير الواقعة التاريخية وأحداثها المأساوية فحسب، لكنه يتجاوز ذلك إلى بث مضامين معاصرة ، تجعل من قتل "الأنا" لنفسها جريمة كبرى تحققت على المستوى التاريخي، وما زالت تتحقق على المستوى الواقعي المعاصر، حيث تشبه الليلة البارحة، ولذلك تحضر "بغداد وفلسطين" لتجسيد هذا الموقف النفسي الفاجع الذي يدين العصر وشخصياته، ويؤكِّد رفض قتامة الحياة العربية المعاصرة، وتلاشى وحدتها.

 

         ويقف معين بسيسو من مقتل "الحسين" وعذابه في قصيدة "القمر ذو الوجوه السبعة" ، يقف موقفاً احتجاجياً يدين فيه الشعراء المنافقين ، الذين يرفعون سيوفهم مع "الحسين" ويشعلون نار الصراع، حتى إذا ما بدأت المعركة أخرجوا "قصائدهم" المنقوشة على السيوف في مدح "قاتل الحسين". يقول:

                            تموت في الخريف مرة

                            وفي الربيع مرتين

                            يستيقظ الشتاء في غصونها

                            ويأكل اليدين

                            رأيته في كربلاء

                            تحت راية الحسين

                            صهيل سيفه مع الحسين

                            وفوق سيفه قصيدة منقوشة

                            في مدح قاتل الحسين(30)

         تحضر الوقائع التاريخية والشخصية التاريخية للحسين ومقتله في كربلاء، لا لتصور الفاجعة في إطارها التاريخي فحسب، بل توظّف للدلالة على الخيانة والانتهازية والتخلي عن المبادىء الأخلاقية والقيم النبيلة لبعض الشعراء المعاصرين، الذين باعوا ضمائرهم وشعرهم، وهذا يؤدي إلى فقدان الكلمة الشعرية لمصداقيتها، وضياع "الموقف" الإنساني الصادق من قضايا العصر . وبهذا تخيم الخيانة بظلالها على الشعر، وتفقد "الكلمة" أهميتها بوصفها وسيلة من وسائل التغيير نحو الأفضل. إن طموح الشاعر إلى شعر الحقيقة في عصر التلوث والفساد والانحلال الخلقي، يمثِّل "صورة إبداعية مباشرة بشعة ، لحقيقة بشعة ، وواقع حقير ، ومعالجات فاشلة تافهة، إنه شعر الحقيقة"(31) ، وإظهار هذه الحقيقة مسؤولية أخلاقية على الشعراء نشدانها في شعرهم، وتمثُّلها في سلوكهم، لكن أكثر الشعراء أبدعوا شعراً مدجناً في حظائر السلطة الحاكمة، وصار كلامهم فارغاً من كل محتوى إنساني أو أخلاقي، يشرِّح عيوب العصر ومفاسده كمقدمة لتجاوز الأمة هذه الحياة الجوفاء التي يجب أن تكون الكلمة فيها أحدَّ من السيف، وبذلك "دفع تعفن العلاقات والسلوك ، وتناقض الظاهر والباطن الشاعر إلى تخمر ذاته في عصير الشعر وإحساسه بالانكسار والهزيمة، مما جعله ينظر للكتابة على أنها حلٌّ إشراقي، يحلِّق في فضاء اليوتوبيا وسحرها بدلاً من الاحتضار البطيء. إن تمرد الكلمة وصرختها الشريفة هي العوض عن الهزيمة والاحتضار"(32).

 

         ويوظِّف أحمد دحبور في قصيدته "العودة إلى كربلاء" ، مقتل الحسين في "كربلاء". يقول في مستهل القصيدة:

                            آتٍ، ويسبقني هواي

                            آتٍ، وتسبقني يداي

                            آتٍ على عطشي، وفي زوَّادتي، ثمر النخيل

                            فليخرج الماء الدفين إليَّ، وليكن الدليل

                            يا كربلاء تلمَّسي وجهي بمائك، تكشفي عطش القتيل

                            وتري على جرح الجبين أمانة تملي خطاي(33)

يستحضر الشاعر في الأبيات مأساة "الحسين"، وينادي كربـلاء" الروح، وبهاء الموت الذي هواه وأحبه ،  فجاء إليه رغبة في التطهر والفداء ، للاقتراب من لحظة الحقيقة التي "تملي" عليه خطـاه، وهذه المـأساة تشكِّل معادلاً دلالياً للإنسان الفلسطيني "الذي ووجه بالخذلان، وأدخل إلى نار المذبحة، وفار دمه ودم أهله، كما فار دم الحسين وأهله في كربلاء. إن الرمز هنا لكربلاء الفلسطينيين : الأسى والعطش والحصار والغضب والمأساة، إنه البحث عن ماء في زمن العطش، لقد وصل إلى كربلاء، رغم الطرق المغلقة، ورغم مشقة الطريق آملاً أن تكون البداية، ووجد الحسين نفسه وحيداً في المواجهة، بينما تقاسم الأخرون أسرارهم وثمر النخيل، إنهم الذين خذلوا الفلسطيني المعاصر"(34) . وبذلك تكون الذاكرة البشرية قادرة على استعادة مآسي التاريخ الجارحة، وجعلها صورة من صور العصر الذي تطبّق فيه شريعة الغاب، حيث الفلسطيني الذي فُرِضَ عليه الموت ليحيا، كما فُرِضَ الموت على الحسين ليحيا، ويتحول إلى "بطل التراجيديا" وليس مجرد "بطل التاريخ"، كما أصبح موته علامة وجوده المستمر(35) ، وبذلك يصبح "الحسين" فاعلاً في الزمان والمكان، ويمتلك ديمومة الحضور، وسيرورة الوجود، وخاصة بعد رفضه الاستسلام رغم تخلي أشياعه عنه، ورفضه مبايعة يزيد بن معاوية مقابل شربة من الماء تحييه، فاختار الموت بنفس راضية، وهذا ما يوحي إليه الشاعر في البيتين الثالث والخامس.

 

ويوظِّف المتوكل طه في قصيدته "ما لم تقله العرَّافة للرئيس" شخصية "الحسين" . يقول:

                            أبشِّركم بالبلد

                            ولا أي شيء بهذا البلد

                            سوى القتل سيّده والقَوَدْ

                            وأن الذي سوف يبقى

                            سيقتله ذُلّهُ والكَمْد

                            يقول: لماذا دماء الشوارع تسطع

                            للآخرين

                            وكل قتيل، هنا، كربلاء تنوح

                            وعنوان رعب

                            وأصل الكَبَدْ(36)

         يتمثل الشاعر في الأبيات أسلوب التعبير القرآني، ليضفي على المشهد الدرامي لقتل الفلسطيني/الحسين في شوارع فلسطين وكربلاء بعداً إشراقياً، يسطع فيه الدم ، ويضيء دروب الحياة وأزقتها، وهو بهذا المعنى يضيف سفراً جديداً من أسفار النكبات والمحارق الفلسطينية الكبرى في العصر الحديث، التي يمارسها الاحتلال الصهيوني ضد شعب أعزل وحيد، يدافع عما تبقَّى من وجوده ومبادئه الإنسـانية كالحسين

الذي قتل ظلماً وعدواناً، لعل هذا كله يحرك مستنقع الأمة الآسن، ويؤدي إلى محاولة الانبعاث والتجدد، والدفاع عن الإنسان.

 

         وعلى المستوى اللغوي ، ينحرف الشاعر عن الأسلوب النمطي، أو العبارات المسكوكة في إنتاج الدلالة، ويحضر الدال "أبشركم" في السياق الشعري الذي تبدأ به الشريحة ، ليتوقع منه القارئ دلالات "البشارة" المحببة إلى النفس، لكنه يفاجأ بكسر عنصر التوقع ، ليجد المتلقي نفسه أمام تراكيب شعرية، ودلالات بتشكيل مخصوص ، تشير إلى الطرف النقيض المتوقع، وبذلك ينقل الشاعر الدلالة من المتوقع إلى اللامتوقع ، ويبلور أسلوباً مفاجئاً يهز نمطية اللغة والدلالة، وينتج دلالة جديدة من الدال "أبشركم" تهز المتلقي، وتقلب المفاهيم اللغوية والدلالية رأساً على عقب، ولعل هذه المفارقة اللغوية ، تتضافر مع مفارقة تكرار الوقائع التاريخية نفسها من عصر "الحسين" إلى عصر "الفلسطيني"، أي أنها تعيد نفسها في الزمن الحاضر من جديد، وكأن الإنسان العربي لم يتعلم مما سبق، ولم يأخذ عبرة أو عظة من التاريخ ليمنع تكرار مأساة "الحسين".

 

3-صلاح الدين الأيوبي

 

يشكِّل حضور "صلاح الدين الأيوبي" في الشعر الفلسطيني المعاصر، دلالات معاصرة تمتص الدلالة التراثية، وتتسم بحركية متجددة وقابلية مرنة للدخول في علاقات جديدة متعددة الأبعاد، ومن ذلك قصيدة محمود درويش "الصوت الضائع في الأصوات" . يقول:

نعرف القصة من أولها

                   وصلاح الدين في سوق الشعارات،

                   وخالد

                   بيع في النادي المسائي

                   بخلخال امرأة!

                   والذي يعرف… يشقى(37)

         إن فعل "المعرفة" التاريخي الذي يستهل الشاعر به القصيدة، وينهي به الشريحة الأولى منها، يستدعي بطريق التداعي الحر سؤال "المعرفة" الأوديبي الذي شكَّل مأساة "أوديب" وشقاءه، وهذا يماثل "شقاء" الإنسان العربي المعاصر عندما يعرف ما آل إليه "صلاح الدين" و "خالد بن الوليد" من بيعهمـا بثمن بخس، وبهذا يميل

الشاعر إلى فضح الحاضر بإطفاء التوهج التاريخي، ويصنع مفارقة صارخة تسحق المحمولات التاريخية التي استقرت في الوعي واللاوعي العربي الإسلامي، حيث يكشف عن هوية متناقضة تماماً لشخصيتين من شخصيات المجد التاريخي، على أن الشاعر على حد رأي د. إحسان عباس ، لا يدين الماضي، وإنما يدين "تعهر" الماضي بين يدي السادة في الحاضر، ويميل إلى محاكمة الحاضر وفضح أساليبه(38). وبهذا يحاول الشاعر محاربة الشقاء من الداخل، وأعني بالداخل "الذات العربية" في بعدها الجماعي ، حتى تتطهر من أدران الإحساس بالهزيمة والانكسار على المستويات الوجودية والحضارية والإنسانية.

 

         ويحشد "سميح القاسم" في قصيدته "الميلاد" عدة رموز تاريخية ، هي "هولاكو – الصليبيون – صلاح الدين – حطين" ، التي تشكِّل بؤرة الأبيات ومرتكزها الذي يقوم عليه إنتاج الدلالة. يقول موجهاً خطابه الشعري إلى أبيه:

                            أبي… لا كتبْنا الملقاة تحت نعال هولاكو

                            ولا فردوسنا المردود فردوساً إلى أهله                                   

                            ولا خيل الصليبيين

                            ولا ذكرى صلاح الدين

                            ولا جندينا المجهول في حطين

                            تشد خطاي للأنقاض، للمنفى

                            فمن حبي لأطفالي

                            أشيد مصانعاً كبرى(39)

         يتبدى من الأبيات استنادها إلى بنية "النفي" المتبوعة برمز تاريخي سلبي ، يشكِّل نسيجاً متوازياً أو متقابلاً لرمز تاريخي إيجابي، بمعنى أن انفتاح الشاعر على "هولاكو – الصليبيون" بدلالاتهما السلبية، وطبيعتهما التدميرية للثقافة والمقدسات الإسلامية، يوازيها في الحضور الشعري والثقل الدلالي على المستوى الإيجابي الدال على التوهج الحضاري "صلاح الدين – حطين"، ثم يتداخل الرمزان في ضفيرة واحدة تفرُّ من قبضة الزمان والمكان، وتتجاوزهما باعتبارهما بعدين غير مؤثرين على سلوك الذات الشاعرة وفعلها الحضاري المتشبث بالأرض وتراب الوطن، وهذا يدل على قدرة الشعر على تحويل الزمن إلى لا زمن، ينفصل فيها الزمن عن الذات، فرغم الطبيعة التدميرية أو الطبيعة الإنسانية لطرفي المعادلة، فإن الذات الشاعرة تعرف طريقها، وتحدد سلوكها، وتخلق رؤيتها التصورية المنفصلة عن الأحداث التاريخية والزمان والمكان، وهي عدم القبول بالمنفى أو الرحيل باتجاهه والخروج من الوطن.، وتتقدم الذات الشاعرة خطوة أخرى في سبيل الوعي برغبتها في بناء "المصانع الكبرى"، وتشييدها على أرض الوطن باعتبارها رمزاً آخر من رموز الالتصاق بالأرض والاستقـرار عليها، وتقف ضد عمليات الاقتلاع والتهجير والنفي والعزل ومصادرة الحياة ، التي تمارسها قوات الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني. وبهذا يصبح الإنسان خالقاً للتاريخ، أو بتعبير أحد الباحثين يصبح الإنسان فاعلاً تاريخياً ، يصنع التاريخ سواء كان واعياً بدوره التاريخي أو لا(40). وبهذا استطاع الشاعر إعادة إنتاج الماضي بما يتوافق مع ثوابت الحاضر وأبعاده الموضوعية.

 

         ويوظِّف راشد حسين في قصيدته "يوميات دمشق" شخصية "صلاح الدين" ، رابطاً بين انتصار "حطين" وانتصار "أكتوبر/تشرين" سنة 1973م. يقول:

                            في اليوم السادس من تشرين

                            في قلب دمشق

                            ولدت ثانية حطين

                            في اليوم السابع من تشرين

                            قصفوا أطفال دمشق

                            لكن… كبر الأطفال سنين

                            كبرت… حتى الأشجار

                            كبرت… حتى الأخبار

                            كبر الشمع الصامد في قلب الغارات(41)

         يسهم التأريخ الزماني "تشرين"، والمكاني "دمشق – حطين" في انفتاح النص الشعري على أفاق دلالية رحبة، تتعاصر فيها الأزمان والأماكن ، لتعيد صورة المجد الغابر في صورة الانتصار الحاضر، ويصوِّر القضايا المصيرية التي يعيشها الإنسان العربي في الوقت الراهن، وهذا يعني أن التاريخ جزء لا يتجزأ من الحاضر  "فالأحداث التاريخية والشخصيات التاريخية، ليست مجرد مظاهر كونية عابرة، تنتهي بانتهاء وجودها الواقعي، فإن لها إلى جانب ذلك دلالتها الشمولية الباقية، والقابلة للتجدد – على امتداد التاريخ – في صيغ وأشكال أخرى"(42)، وهذا يعني أن التاريخ مصدر ثرٌّ من مصادر التجربة الشعرية ، التي يمكنها أن تعبِّر عن الحادثة التاريخية الواحدة برؤى متعددة، وتعيد تركيب الماضي ووقائع التاريخ بما يتوافق مع الرؤيا الشعرية المعاصرة المنبثقة من الوعي بالتاريخ، ولهذا حق للشاعر أن يقرن بين انتصار "تشرين" و مجد "حطين".

 

                وفي قصيدته "اسمه يحيى" ، يوظِّف أحمد دحبور شخصية "صلاح الدين" ، حيث تبرز "حطين" كما تبرز "القادسية" وسط ليل حالك السواد، تقصف فيه طائرات العـدو ودبابـاته مخيمات اللاجئين في لبنان . يقول:

                            (أدخل)

                            أين التقيتك من قبل سيدتي؟

-       هل تعمدتَ في النهر؟

فاضرب يُعِنْكَ الحريق،

ستسقط أعضاؤك الأولية،

من عادة النار طرح القشور السميكة،

فادخل –

ستطلبك الكتب الصفر،

لا تصل الكتب الصفر هذي الحرائق،

فادخل -

ستهدر حطين والقادسية،

ينضج قلب جديد على الجمر(43)

        يتبدى من الأبيات والقصيدة عامة ارتكازها على ثلاثة محاور، تنبثق منها الرؤيا الشعرية، وتشكِّل بنيتها المحورية، للكشف عن أبعاد الأزمة النفسية وخبايا الذات. أولها يرتبط بعنوان القصيدة باعتباره نواة دلالية، وامتداداً لحركة القصيدة في إنتاج دلالاتها، حيث يضعنا الشاعر منذ البداية أمام اسم "يحيى" ببعديه المرتبطين بالدين والحياة، لكن الشاعر لا يقف عند هذا الحد، بل يضع شيئاً شبيهاً بالتعليق الدلالي على العنوان فيقول بعده مباشرة "وكان ليلة القصف يخرج من بين الصلب والترائب"، مما يعزِّز هذين البعدين، ثم يقوم الشاعر بتوزيع الاسم "يحيى" في جسد القصيدة ، باعتباره رمزاً للانبعاث الفلسطيني رغم التنكيل والتقتيل والدمار الذي يصيبه من جراء القصف الصهيوني.

 

        أما المحور الثاني ، فيتمثل في توظيف أسلوب "الحوار"، وهو أسلوب يستمر من مستهل القصيدة وحتى  نهايتها، يتجاوز من خلاله الشاعر سكونية السرد إلى حركية الحوار ، كما يتجاوز أحادية الصوت إلى تعدديته، مما يؤدي إلى انفتاح النص الشعري على أفاق واسعة، وجعله دراما إنسانية تبوح فيها الأصوات بمكنوناتها النفسية ومعتقداتها الفكرية التي تشكِّل حياتها، باعتبارها جزءاً من الشعب الفلسطيني الذي يجب أن "يضرب" حتى وإن سقطت "أعضاؤه الأولية" من أثر القصف الصهيوني.

 

         ويتمثل المحور الثالث في "هدير" صوت "حطين والقادسية" ، ليس باعتبارهما حدثين ساكنين يعيشان في

"الكتب الصفراء" القديمة التي عفا عليها الزمن، بل لهما حضور وجداني دائم ومتجدد وقابل للدخول في صور 

شعرية جديدة، تنقل عصارة الموروث التاريخي في صورة عصرية، يعبِّر فيها الشاعر عن الجماعة وطموحاتها وأحلامها في تحقيق مستقبل أفضل. إن نمو التاريخ وحركيته ، تجعل من أحداثه أحداثاً معاصرة "ليس وصفاً لحقبة زمنية من وجهة نظر معاصرة لها. إنه إدراك إنسان معاصر أو حديث له. فليست هناك إذن صورة ثابتة جامدة لأية فترة من هذا الماضي"(44)، وبهذا تصبح "حطين والقادسية" ملهماً شعرياً، وأداة تشكيلية ذات قابلية للتفسير والتأويل بما يتناسب مع وضعية الأبعاد الراهنة التي تحياها الأمة.

       

ويشكِّل زمن "صلاح الدين" في قصيدة على الخليلي "يوم غائم" فاصلاً بين زمنين قبل "صلاح الدين" وبعده، وتتركز بؤرة الحضور العربي الإسلامي على مر التاريخ في الاقتراب من القدس في زمنه، ثم يغيب حضور القدس عن العرب والمسلمين قبل زمنه وبعده ، مما يؤدي إلى الاشتياق للقدس العربية الربَّانية المنسيَّة. يقول:

                           في مطلع يوم غائم

                           من قبل ومن بعد صلاح الدين

                           ومثل جميع الناس

                           نشتاق،

                                    ونشتاق

                           للقدس العربية

                           والقدس الربانية

                           والقدس المنسية

                                    والمذكورة

                           في كل كتاب

وكتاب

                                 وكتاب(45)

        يجسِّد حضور "صلاح الدين"، وتراوح "القدس" بين الحضور والغياب على المستوى المكاني مأساة الذات الشاعرة، وانكفاء الذات الجماعية وعدم قدرتها القيام بفعل حضاري تحقق من خلاله وجودها الإنساني أو الحضاري، وعجزها عن الدفاع عن مقدساتها المنسيَّة في الفكر العربي، والمذكورة في القرآن الكريم، وينتفي بالتالي الحس البطولي فيها. لذلك فإن الأمة العربية في حاجة ماسة إلى ظهور بطل ، يكون إفرازاً طبيعياً للمجتمع، تتطلع إليه الجماعة لتحقيق آمالها كما فعل "صلاح الدين"، فالبطل "يعزز اللُحمة بين الأفراد ، إذ هو يغذِّي بنسغه الأمة عامة، وبذلك يوحِّدها، ويقيم الانسجام، بل ويؤمِّن انفتاح الوعيات الفردية على هدف مشترك عام"(46) لانتشال الأمة من ضعفها، لأننا "نفتِّش دائماً عن بطل يعوِّض نقصنا، ويحقق أمانينا، ويبلسم الانحرافات والإخفاقات… نتذوَّت فيه فننتعش، وننتقم أو نحارب"(47) . إن غياب هذا البطل قبل "صلاح الدين" حيث الأمراء المتخاذلون، وضعف القوى الإسلامية آنذاك متمثلاً في الدولة العباسية والفاطمية والسلاجقة الأتراك ، وتناحرها فيما بينها، مكَّنت للصليبيين الاستيلاء على مدن الإسلام، كما أن تخاذل بعض أمراء البيت الأيوبي عن الدفاع عن المقدسات الإسلامية، جعل الصليبيين يعيدون الاستيلاء على بيت المقدس بعد أن حررها صلاح الدين سنة 583 هـ/1187م، وهذا يعني أن الحالة التاريخية التي عاشتها الأمة العربية الإسلامية بالأمس تكرر نفسها مرة أخرى في العصر الحديث، فلا نستطيع الذهاب إلى "القدس" لأداء الصلوات فيه ، ومن هنا كان "شوق" الذات الشاعرة إلى "القدس" ليس باعتباره مساحة جغرافية فحسب، بل لأنه تشكيل روحي وديني مشبع بالحضور التاريخي العربي الإسلامي ولا يمكن اقتلاعه من النفوس.

 

4-عز الدين القسَّام

 

يعدّ شيخ المجاهدين "عز الدين القسَّام" رمزاً من رموز التاريخ الفلسطيني الحديث، ونموذجاً من نماذج البطولة والثورة ضد الانتداب البريطاني لفلسطين ، بما يحمله من قيم أخلاقية وإنسانية ، أدرك الشعراء الفلسطينيون طاقاتها الشعرية والإيحائية ، فاستدعوها في خطابهم الشعري تعبيراً عن الهوية الوطنية والحضارية، فوسعوا بذلك دائرة الدلالة عندما أدخلوها في علاقات جديدة وبنى مختلفة ، للتعبير عن عمق الصراع المتوقد بين الإنسان الفلسطيني وقوى الاحتلال البريطاني والصهيوني.

 

استدعت فدوى طوقان في قصيدتها "أنشودة الصيرورة" الرمز "عز الدين القسَّام" ورمزاً بطولياً فلسطينياً آخر هو "عبد القادر الحسيني" . تقول عن أطفال فلسطين بعد هزيمة سنة 1967م:

                            منهم من كانوا صبيه

                            تحترف الشيطنة وتلهو بالألعاب الناريه

                            تطلق في الريح الغربيه

                            سرب الطيارات الزرق الحمر الخضر القزحيه

                            تتأبَّط كل شقاوتها في الأرصفة و في الساحات

                            تتشاكس تقفز تصفر تركض تحت عقود الدور الرطبه

                            تتراشق بالنكت العفويه

                            بقشور الفستق والضحكات

                            تتبارز بالأغصان الصلبه

                            تشهرها سيفاً أو حربه

                            تتقمص شخصيات كفاح أسطوريه

                            عنترة العبد الباحث عن حريته في درب الموت

                            عز الدين القسَّام الرابض في الأحراش الجبليه

                            عبد القادر في "القسطل"

                            يحيا ويمارس عشق الأرض(48)

         في هذا الجو المفعم باللهو الطفولي البريء، تبرز ثلاث شخصيات تاريخية تمتلك مقومات تعبيرية قادرة على إيصال جوهر الصراع الإنساني ضد قوى الظلام، تتحول في جسد النص إلى رموز ممتدة داخل الوجود الإنساني، ومحملة بشحنات انفعالية عالية، لكنها في الوقت نفسه تخفي وراءها مأساة ذاتية، فضلاً عن المأساة الجماعية.، حيث كان الرمز الأول "عنترة" عبداً منبوذاً غير معترف به في نطاق القبيلة، وهو في سياق القصيدة يتحول إلى رمز الإنسان الفلسطيني الرافض للعبودية، واستشهد الثاني "عز الدين القسَّام" في أحراش "يعبد" في مدينة "جنين" بالضفة الغربية سنة 1935م، واستشهد الثالث "عبد القادر الحسيني" في معركة "القسطل" على مشارف مدينة "القدس" سنة 1947م، دفاعاً عن تراب الوطن، ودفعا بذلك – القسَّام والحسيني- ضريبة عشق الأرض.

 

إن إعادة إنتاج التاريخين الفلسطيني والعربي في لحظة الهزيمة "النكسة" سنة 1967م، وجعل أطفال فلسطين يتقمصون في ألعابهم الطفولية البريئة "شخصيات كفاح أسطورية" ، يجعل من ديمومة النضال والثورة على المحتل الغاشم قدراً مكتوباً على هؤلاء الصبية ، الذين سيحملون في أعماقهم عندما يكبرون صور هذه الرموز الثورية، مما يؤدي إلى بقاء جذوة النضال الفلسطيني مستمرة، فيتحول هؤلاء الصبية إلى وقود الثورة الذي لا ينفد ما دامت الأرض الفلسطينية تنجب أطفالاً ، تنغرس في أعماقهم روح الوطن، وبذلك لن يستطيع الاحتلال الصهيـوني دفع وجودهم ووطنهم وترابهم إلى الغياب والنسيان، بل ستبقى ذاكرتهم الفردية والجماعية ، تستعيد في كل لحظة حكايتها الحزينة، وتعمل على تجاوزها حتى يقتربوا من لحظة الحقيقة ، ويحولوا الحلم الفلسطيني إلى واقع معيش .             

 

ويستدعي أحمد دحبور في قصيدته "رسالة شخصية جداً" شخصية "عز الدين القسَّام" . يقول:

                   طرَّزتُ لأمي مكتوباً من غير كلام

                            من يعرف منكم أمي؟

                            ضحكتْ يوماً، فتسابق في خَلَدي حَجَلٌ وحمامْ

                            وأكلت كفاف اليوم

                            وبكتْ فقرأت كتاباً أوصلني، بالقسر، إلى هذي الأيام

ثم يقول:                   ولأمي حزن يصلح في كل الأوقات

                            من أجل جدار لا يعلو إلا لينام

                            من أجل أخي المتروك وراء السُكَّر وتقطير الأحلام

                            وأخيراً من أجلي،

                                      وتراءى لي أني عز الدين القسَّام

                                      ناديت الأهلين

                                      صليت بهم في جامع شعب فلسطين

                                      وطلعنا نستوحي بالبارود الآيات

                                      وصلاة تصلح في كل الأوقات(49)

         إن إحساس الذات الشاعرة بفداحة حزن "الأم" على فقدان الوطن "الذي لا يعلو إلا لينام"، يشكِّل يقظة للضميرين الذاتي والوطني للذات الشاعرة، ويفتح وعيها على إدراك حقيقة الجرائم التي ترتكب بحق الشعب الفلسطيني، مما يدعوها إلى الدفاع عن كينونتها وهويتها بعد أن حولها الاحتلال الصهيوني إلى أشباح منفية خارج حدود الوطن، وخارج حدود الزمان والمكان، لذلك يتراءى للذات الشاعرة في أحلامها رمزاً من رموز المقاومة والنضال والثورة، فتحضر شخصية "عز الدين القسَّام" بقسماتها النضالية والدينية، التي تتقمصها الذات الشاعرة، حيث تجسِّد الأولى ثورته على الانتداب البريطاني لفلسطين، وتجسِّد الثانية حلقات العلم التي كان يعقدها في رحاب مسجد "الاستقلال" في "حيفا" لتوعية الجماهير الفلسطينية دينياً وثورياً، واستثارة روح الكفاح فيها.

 

         هكذا يشكِّل استلهام التاريخ الفلسطيني الحديث عنصراً من عناصر التجربة الشعرية، يستنفر الشاعر من خلاله، ويستثير روح المقاومة والنضال، ويوجِّه الوعيين الفردي والجماعي إلى الظروف التاريخية المتشابهة بين الماضي والحاضر، فيقوم ببعث شخصية "عز الدين القسَّام" من جديد لتوافقها مع أبعاد الواقع الراهن، وتوافقها مع القيم الحقيقية للإنسان الساعي إلى الخير والعدل ، وكف الظلم ، وتجسيد المثل الأعلى في مسيرة الإنسان نحو الخلاص الثوري والنقاء الديني .

 

         أما مريد البرغوثي فقد وظَّف شخصية "عز الدين القسَّام" في قصيدته "سعيد القروي وحلوة النبع" ،  ويتمثَّل هذا في دعوة "القسَّام" لزملائه المجاهدين إلى الشهادة بعد انكشاف موقعهم في أحراش "يعبد"، فكان لهم ما أرادوا من شهادة في سبيل الله والوطن. يقول الشاعر في مفصلين من مفاصل القصيدة بعد أن يضع لكل منهما عنواناً يحمل تاريخاً من تاريخ رحلة النضال الثوري للقسَّام:

سعيد القروي "تشرين الثاني 1935م"

 

                           سيدي القسَّام حوصرنا فما درب النجاة؟

                            زخة من قصفهم تتبع زخة

                            "سيِّدي القسَّام…آه…"

                            بعثرت صرخته جسم الفضاء

                            خرج القسَّام من خندقه

                            "كشفوا موقعنا يا شيخ هيا ننسحب"

                            جاء صوت الشيخ: "موتوا شهداء"

سعيد القروي، 1936م

 

                            أقفرت كل الشوارع

                            بدأ الفعل، دموعاً في وداعك

                            أمة من قبرها قامت تقاتل

                            منحتها حلوة النبع يديها وابتسامة

                            أوقدت في ليلها كل القناديل وقالت:

                            ولدت لي فيكم اليوم علامة.(50)

         تنهض الأبيات على حضور أصوات شعرية تثري الخطاب الشعري، وتكشف ما يجري في أعماقها، وما يتفاعل في نفوسها من نوازع وجدانية متناقضة ، تجعل منها أصواتاً / شخصيات إنسانية عادية ، وليست شخصيات مثالية أو نموذجية، وخاصة حين فكَّرت إحداها "بالانسحاب" من أرض المعركة ، ليس جبناً بل حفاظاً على وقود الثورة وبطلها "القسَّام"، الذي يأتي صوته حاسماً وحازماً "موتوا شهداء". ولعل هذه الدلالات  تكاد تكون مطابقة مع البعد الواقعي لهذه الحـادثة التـاريخية ، فضلاً عـن عنوان الأبيات تشرين الثاني/

نوفمبر 1935م. وفي هذا السياق يقول رجاء النقاش "حين انتقلت جماعة القسَّام إلى الريف أحس الجواسيس المكلفون بمراقبتهم أنهم غائبون، فازداد قلق السلطات المحتلة، ونشطت في البحث عنهم. وفي يوم 14 نوفمبر عام 1935م التقى نفر من جماعة القسَّام بجاويش يهودي وشرطي عربي، فقتلوا الجاويش، وتركوا الشرطي حياً، وقد أخبر الشرطي بما رأى…استطاعت القوات البريطانية أن تحكم الطوق على جماعة القسَّام الذين قاوموا مقاومة باسلة، ولكنهم كانوا في واد عميق، ولم يفكروا في التسلل والهرب، بل في المقاومة والاستشهاد، ولذلك فإن القسَّام حين طلب منه الاستسلام أجاب:"إننا لن نستسلم، إن هذا جهاد في سبيل الله والوطن" ، والتفت إلى زملائه وقال: "موتوا شهداء"(51). إن كشف الأبعاد النفسية للشخصيات في حوارها مع بعضها بعضاً، يجعل الخطاب الشعري ممتلئاً بالحيوية والتأثير لابتعاده عن السرد المباشر، ويجعلنا ندخل في سراديب النفس الإنسانية وما يعتريها من تناقضات، مما يؤدي إلى انكشاف أبعاد الموقف النفسي للشخصيات أمام المتلقي ، الذي يعاين عن قرب ما تقوله كل شخصية، وهذه الأبعاد في رأي د. عز الدين إسماعيل لم تكن لتظهر لو اكتفى الشاعر بالحركة في اتجاه واحد، واكتفى من الواقعة بالإخبار عنها، ولكن تجسيم الموقف، وتصوير المشاعر المتضاربة خلال ذلك الحوار ، قد جعله من غير شك أكثر تأثيراً وإقناعاً(52) ، وهذا بدوره يقرِّب القصيدة إلى النـزعة الدرامية ، التي يتجسَّد فيها الاستبطان النفسي والحوار الخارجي…الخ لاستجلاء مظاهر المقاومة والصمود في شخصية "عز الدين القسَّام" ، الذي لا يرهب الردى، ولا يحذر الموت الزؤام إذا عدا.

 

         ثم يأتي صوت "الراوي" في المفصل الثاني، ليؤكد شمولية الحزن الذي يلف الشعب الفلسطيني نتيجة استشهاد المجاهد "عز الدين القسَّام"، الذي حقَّق باستشهاده وجوده الكوني، ومجَّد الحياة باختياره الموت، واشترى بعمره حياة الجماعة، وبعث باستشهاده "أمة" من قبرها صحت على حقيقة فاجعة ، فقامت تقاتل. وبهذا استطاع الشاعر أن يقتنص لحظات تاريخية من حياة الشعب الفلسطيني، ويصوغها شعراً يرتبط بحياة الجماهير العربية ونضالها من أجل الحرية والاستقلال. لقد استطاع "عز الدين القسَّام" في رأي رجاء النقاش أن يجسد أفضل خصائص جيل عام 1936م وأعظمها وأكثرها أصالة وصفاء، ورغم أن القسَّام استشهد في أواخر عام 1935م إلا أن بعض رجاله قد عاشوا بعده وأسهموا في قيادة ثورة عام 1936م إسهاماً كبيراً، كما أن القسَّام كان بأفكاره الثورية التي نشرها في طول الأرض الفلسطينية وعرضها من أكبر الذين مهَّدوا لثورة عام 1936م، وأعدوا الشعب لها خير إعداد(53) . وبهذا لم يكن "القسَّام" فرداً، بل كان "أمة قامت تقاتل" أحيا فيها روح الثورة والحرية، وكان دمه الطاهر وقودها.

 

5-لينين    

 

وصل المد الشيوعي ومبادئ الاشتراكية اللينينية في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين إلى ذروته في البلدان العربية، ومنها المجتمع الفلسطيني، وخاصة في فلسطين المحتلة سنة 1948م، وكان من نتائجه تأسيس الحزب الشيوعي الإسرائيلي، الذي انضوى تحت لوائه عدد من الشعراء الفلسطينيين منهم : محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد، لما تتسم به مبادؤه من دعوة إلى حرية الشعوب واستقلالها، وكان هو الصوت الوحيد في داخل إسرائيل ، الذي يدعو إلى السلام مع العرب ، وحقهم في العيش بكرامة ، وقيام دولة فلسطينية حسب مقررات الأمم المتحدة . لكن انتماء هؤلاء الشعراء للحزب الشيوعي كان مثار جدل واتهام وطعن في انتمائهم الوطني والعربي. إن طبيعة الحياة العنصرية التي مارستها قوات الاحتلال الصهيوني على من بقي من عرب فلسطين متمسكاً بأرضه وبيته ، ولم يقبل الهجرة والمنفى كانت السبب في هذا الانتماء الجدالي. 

وفي بيانه الذي ألقاه في القاهرة سنة 1971م بعد خروجه من فلسطين المحتلة ، بيَّن محمود درويش أسباب انتمائه إلى الحزب الشيوعي ، ودافع عن هذا الانتماء الذي لا ينفي انتماءه الوطني أوالعربي أوالعالمي فقال: "وأنا مواطن عالمي. وقضيتي جزء من الحركة الثورية العالمية، وأفخر بانتمائي إلى أسرة التقدم والتحرر والاشتراكية، التي تمارس تأثيرها الفعال لتغيير العالم تغييراً جذرياً… إننا على الرغم من كل القهر والكبت ، ننتمي إلى الجانب المضيء من وجه عصرنا، ونشعر بسعادة غامرة وبفرح لا حد له بصداقتنا المصيرية مع الاتحاد السوفياتي، الذي يمارس دوراً رئيسياً في الحركة الثورية العالمية، ويقف في جبهة الصدام الأولى مع أعداء الإنسان ومعوقات ضرورات التقدم"(54) ، ثم يؤكد هذه المعاني مرة أخرى بقوله :" من المعروف لكم تماماً، أنني قادم إليكم من صفوف الحزب الشيوعي الإسرائيلي، الذي يخوض معركة سياسية مليئة بالضنى والشرف، وفي جو خانق من العنصرية والغطرسة الصهيونية والاعتداء الصلف على أبسط حريات الإنسان"(55). وبهذا يتضح أن انتماء هؤلاء الشعراء ومنهم محمود درويش ، كان انتماء من أجل الوطن وتراب فلسطين، وسعياً لتحقيق العدالة الوطنية والكرامة الإنسانية التي حرموا من أبسط مقوماتهما في ظل العنصرية الصهيونية .

 

استدعى سميح القاسم في قصيدته "إلى ميخائيل غورباتشوف" شخصية "لينين" ،جاعلاً "لينين" يقف موقفا إيجابياً يغبط فيه "غورباتشوف" على ما قام به في "البروستريكا" من ابتعاد عن الصيغ المستعادة والنظرة الواحدة، وهي إشارة موحية تشير إلى إيمان "لينين" بالقوميات التي كان يتكوَّن منها الاتحاد السوفييتي وباختياراتها القومية أو السياسية، التي رفضها "ستالين" عندما تولى رئاسة الحزب "البلشفي" والاتحاد السوفييتي فيما بعد. يقول:

إن لينين يحدجك الآن مغتبطاً

                   راضياً عن رضاه

                   هل تراه

                   جبهة تتألق عالية في سماء الجباه     

                   لا يريد الشفاه

                   لا يريد الغبار

                   إنه واثق من رؤاه

                   واثق من خطاه

                   لم يزل حالماً بانقلاب المدار(56)

لقد كشف "غورباتشوف" بدعوته إلى تحرير القوميات الروسية من عقال الاتحاد السوفييتي عن رؤيا إنسانية، كانت تشكِّل رغبة "لينين" في حرية اختيارات الإنسان، أي أنه أنجز بطريقة عملية حلماً من أحلام "لينين"، تحلَّقت حوله الأبيات، وشكَّل نقطة الارتكاز الرئيسية التي انبثقت منها هذه الدلالات مستخدماً أساليب فنية ولغوية، تؤكِّد هذا البعد وتعزِّز حضوره في جسد النص، ولهذا كان التوكيد بالحرف "إن" وتوظيف صيغة "النفي" خاصة، قد أوصل الشفرات التي تتردد في ثنايا الأبيات إلى حتمية النهاية، التي تمثل تحقيق الحلم بانقلاب المدار.

 

أما توفيق زياد فقد كان مفتوناً بالثورة الروسية 1917م وأبعادها العالمية، ولهذا رسم في دواوينه صورة تكاد تكون متكاملة عنها وعن شخصية "لينين" الذي "يعيش في القلوب"(57). أما قصيدته إلى "عمال موسكو" ، فيرسم فيها خارطة لأشهر أماكن الإنتاج في روسيا، حيث الصلب من "سيبيريا"، والقمح من "أوكرانيا"، والسفن من "ليننجراد"، والميج من "موسكو"، كما يذكر "لينين"والشعب الروسي بفخر وإعجاب. يقول:

معكم أنا

                            يا أخوتي العمال في موسكو أنا معكم…

                            لدهر الداهرين.

                            معكم… مع الحزب الذي نقل الرعاع

                            إلى قباب الكرملن.

                            ومع اللواء الأحمر العالي.. لوائك يا "لينين"

                            معكم… مع الشعب الذي

صان السلام أمام طيش المعتدين

                            وحمى ابتسامات الشعوب،

                            من الطغاة الطامعين

                            معكم أنا

                            يا سدنا العالي…

                            على موج الغزاة الزاحفين!!

                            بيني وبينكم أواصر طبقة،

                            أبقى من الفولاذ.. والصخر المكين(58)

تعدُّ افتتاحية القصيدة "معكم أنا" لازمة لغوية ، تكشف عـن ديمومـة العلاقـة الوجدانية والأخوية و"الطبقية" ، التي تربط بين المرسل/الشاعر، والمرسل إليه/لواء لينين وعمال موسكو، حيث أناط بهم القدرة على سحق الطغاة والطامعين، وإفشال مخططات الغزاة الزاحفين، فكان بناء "السد العالي" بمساعدتهم إعلاء لأواصر الصداقة والأخوة الساعية إلى اجتثاث جذور الظلم والاستبداد، وإيذاناً بمساعدة الشعوب الطامحة إلى التحرر والاستقلال بشتى أنواعه وأشكاله. فلولا مساعدة الاتحاد السوفييتي الذي أسسه "لينين" لاستفحل البوار في مصر، وجف نهر "بردى"، واستعمر العراق "شرذمة غريبة"، وقد جاء هذا كله في سياق القصيدة العام، ولعله لا يخفي ما في الأبيات من خطابية تحدد الدلالة، وتجبر السياق على البوح المباشر ، بحيث تفقد فيه الجمل شعريتها، ويعلن فيه الشعر عن الهوية الطبقية والانتماء إلى "الواقعية الاشتراكية" ، التي تهتم بالمناسبات والشخصيات والأحداث الثورية الكبيرة.

 

وقد وصف أدونيس هذا اللون من الشعر بأنه خالٍ من الثورة ، لأنه "يكتب باللغة الشعرية الموروثة التي ألفها القراء، ويكتب لجمهور يحمل ثقافة الماضي… يعتبر الثورة حدثاً خارجياً، يتخذها موضوعاً فيصفها ويهتـف لها ويغنيها"(59)، أي أنه لا يبدي اهتماماً بشعرية الشعر وتفجير اللغة، ليجعلها تحمل أبعاداً إيحائية رمزية ، تخاتل المتلقي ويخاتلها، وصولاً إلى عمق الدلالة الكامنة في أعماق اللغة.

 

         ويوظِّف معين بسيسو شخصية "لينين" ، "في قصيدته "قصيدة فلسطينية إلى لينين". يقول:

                            في نافذة في أحد شوارع هذا العالم.

                            كان لينين وكانت فوق أصابعه،

                            تتجمع كل الأشجار السرية والعلنيه

                            كانت لحظة إبداع العالم،

كانت لحظة إعطاء العالم

                            اسماً آخر.

                            والثورة شاعر.

                            كانت كل أصابعنا –أمشاط بيانو-

                            والعالم يولد من لمسة إصبع.

                            من طلقة مدفع.(60)

         استطاع "لينين" في سياق الأبيات تجاوز الأبعاد الدلالية المألوفة ليصبح "رمزاَ"، يعبِّر عن تجربة وجودية شاملة، قادرة على اكتشاف العالم وصياغته من جديد وفق رؤيا ثورية ذات أبعاد اجتماعية وسياسية، تقضي على القحط والجفاف والبوار الذي يكتنف روح العالم، ويتغلغل في مظاهر الطبيعة العقيمة ليجعلها خصبة، ويزرع فيها بذرة الحياة المتمثلة في الكلمة الشاعرة "والثورة شاعر" ، والفعل الأسطوري "والعالم يولد من لمسة إصبع" ، والفعل الثوري "والعالم يولد من طلقة مدفع". وبهذا عمد الشاعر إلى تفجير اللغة وتفريغها من محمولاتها الدلالية الموروثة، وتحميلها دلالات جديدة حافلة بجو التجربة الإنسانية الخصبة المكتنـزة بمضامين أسطورية، يمتد حضورها وتأثيرها داخل الوجود الإنساني جاعلاً اللغة تقول ما لم تتعود قوله . وبهذا أخذ الرمز "لينين" في السياق الشعري بعداً أسطورياً، ونموذجاً إنسانياً يجسِّد بحضوره الانبعاث الكوني، وليس غير الشعر يمكن أن يفعل ذلك في رأي د. أحمد كمال زكي "لأنه من حيث كونه لغة أداء فنية ، ينتمي حضارياً إلى المجتمعات الأولى، وأساليبه في أرفع مستوياتها تتعامل برموز البدائيين"(61). 

6- شخصيات تاريخية أخرى

 

استطاع الشعراء الفلسطينيون إنجاز قصائد شعرية متميزة بالارتكاز إلى شخصيات فلسطينية وعربية وعالمية قديمة وحديثة، شكَّلت لبنة عضوية في بناء القصيدة الحي –غالباً-، تم من خلالها إعادة النظر إلى العالم وفق رؤيا جديدة ، تجمع بين الذاكرتين الفردية والجماعية في بؤرة واحدة لإنتاج دلالة معاصرة، وتوحِّد بين التجربتين الخاصة والعامة للتعبير عن حقائق إنسانية، تجسِّد حلم الانبعاث الإنساني الطامح إلى الحرية والاستقلال والسلام، لكنها لا تمثِّل قطيعة مع النضال والجهاد والتحريض واستنفار الجماهير من أجل تحقيق هذه المبادىء الأخلاقية والإنسانية الشاملة، كما بثوا من خلالها مشاعرهم وأزماتهم النفسية ، التي كشفت عن نفثات حارة ، وعن خبايا الذات الرافضة للاحتلال الصهيوني والمعاناة الذاتية أو الإنسانية، ومن ذلك قصيدة

فدوى طوقان "آهات أمام شباك التصاريح" ، التي تستدعي فيها شخصية "هند بنت عتبة" . هذا وقد أثارت هذه القصيدة في حينها صخب المجتمع الإسرائيلي وصحافته، لما تحمله من دلالات تحرِّض على الاحتلال الصهيوني وتناهضه بقوة، كما كشفت عن أعماق اللاوعي الفردي المكبوت في نفسها وروحها بسبب فظاعة الممارسات الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني بعد نكسة يونيو/حزيران سنة 1967م، فأشارت في سياق القصيدة إلى "أكل أكباد مغتصبيها"، فكانت القصيدة انعكاساً للمأساة الفلسطينية، ورد فعل على المستويين  النفسي والطبيعي لما تقوم به قوات الاحتلال من تقتيل وتنكيل. تقول:

آه يا ذل الإسار!

                    حنظلاً صرت، مذاقي قاتل

                    حقدي رهيب، موغل حتى القرار

                    صخرة قلبي وكبريت وفوَّارة نار

                    ألف "هند" تحت جلدي

                    جوع حقدي

                    فاغر فاه، سوى أكبادهم لا

                    يشبع الجوع الذي استوطن جلدي

                    آه يا حقدي الرهيب المشتثار

                    قتلوا الحب بأعماقي، أحالوا

                                    في عروقي الدم غسلينا وقار!!(62)

يعدُّ حضور شخصية "هند بنت عتبة" المشهورة في التاريخ الإسلامي بـ"آكلة الأكباد" ، حضوراً متماثلاً مع ما تعانيه الشاعرة وقومها، لاتفاق المرأتين في الحقد والكراهية –مع فوارق دينية وتاريخية- حيث حقدت الأولى "هند" حقداً ذاتياً على "حمزة بن عبد المطلب" لقتله أهلها، وحقدت الثانية "فدوى طوقان" على "الاحتلال الصهيوني" حقداً شعرياً يدرك بوصفه صفة للجماعة التي تعاني مأساة الاحتلال. ونتيجة هذا الإحساس المأساوي بأكل أكباد الأعداء المغتصبين، ثارت ثائرة الصحافة الصهيونية، ولكنها لم تثر بالقدر نفسه حين عبَّر محمود درويش في قصيدته "بطاقة هوية" قائلاً:

                             سجِّل…برأس الصفحة الأولى

                             أنا لا أكره الناس

                             ولا أسطو على أحد

ولكني…إذ ما جعت

آكل لحم مغتصبي

                             حذارِ…حذارِ…من جوعي

                             ومن غضبي!!(63)

ويرجع د. صلاح فضل هذا ، إلى أن الشاعر محمود درويش يطمح بالفعل إلى تـأسيس الكينونة لا بمنطق الحجاج العقلي والتاريخي، ولكن بمنطق إيقاظ الحلم ، وتشعير الموقف الثوري، وتسمية الأشياء بالكلمات العارية البسيطة. كما يكمن في خلق السياق الملائم للجمع بين البراءة والخطورة من خلال أوضاع التعبير على وجه الخصوص. إنها تأتي هنا –لدى محمود درويش- باعتبارها ذروة لتحولات في أنساق اللغـة ، وأشكال الغضب المسند إلى المخاطب بإلحاح لا يلبث أن يفضي إلى انقلابه تجاه المتكلم، وتأتي مشروطة بالشرط الإنساني الدفاعي الذي لا يسع أحداً إنكاره، ومقترنة بكل أنواع التحذير الحضاري المسبق. فالوحشية حينئذ لا تصبح شهوة فلسطينية بقدر ما هي استجابة حتمية لوحشية الآخر المتشحة بشرعية الأمر الواقع (64) .

 

ويستحضر محمود درويش في قصيدته "أنا واحد من ملوك النهاية" ، يستحضر شخصية "أبي عبد الله الصغير" آخر أمراء أوملوك بني الأحمر في "غرناطة"، ويحوِّلها إلى رمز من رموز أفول الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، وبداية انحسارها بعد أن شهدت مداً جديـراً بالفخر والاعتزاز في القرون الماضية. يقول عن لسان القناع/الشخصية:

                    وأنا واحد من ملوك النهاية…أقفز عن

                    فرسي في الشتاء الأخير، أنا زفرة العربي الأخيرة

                    -لا أطل على الآس فوق سطوح البيوت، ولا

                    أتطلع حولي لئلا يراني هنا أحد كان يعرفني

                    كان يعرف أني صقلت رخام الكلام لتعبر امرأتي

                    بقع الضوء حافية، لا أطل على الليل كي

                    لا أرى قمراً كان يشعل أسرار غرناطة كلها

                    جسداً جسداً، لا أطل على الظل كي لا أرى

                    أحداً يحمل اسمي ويركض خلفي: خذ اسمك عني(65)

إن رفع "قشتالة" تاجها فوق مئذنة الله في سياق القصيدة، واعتراف الأمير "أبي عبد الله الصغير" بأنه آخر ملوك النهاية، وقفزه عن صهوة الفرس العربي، وعجزه عن الاستمرار في النضال من أجل البقاء، وزفره لآخر زفرات الحضور العربي في الأندلس، تشكِّل مأساة القناع /الشخصية ، التي تفر من نفسها واسمها وحضورها الفردي حتى لا يراها أحد، وهذا يعني أن أمير غرناطة "لم يكن أميراً مهزوماً فقط، بل كان أميراً "أخيراً"، كما أن هزيمته لم تكن نبيلة مدوية، بل كانت امتهاناً أسهم في صياغته هو، لقد تنازل عن أبهة الانكسار المحتوم ليختار بدلاً عنها صورة المستسلم عن حماقة أو جبن أو رضا. وهكذا سلَّم مفاتيح غرناطة إلى الملكة الإسبانية ليظل رنين هذه المفاتيح يتردد عبر الأزمنة"(66). لكن هذه الوقائع التاريخية التي يرويها "القناع الشعري" لا تقف عند حدود الذات الفردية فحسب، بل هي سمة من سمات الوجود العربي في العصر الراهن، يجمع من خلالهـا الشاعر بين الذاكرة الفردية التاريخية والواقع العيني في بؤرة واحدة، وبهذا يتماثل البعدان التاريخيان ، الشخصي والجماعي، الماضي والحاضر ثماثلاً مريعاً ومخيفاً، ويندمجان في علاقة متضافرة للتعبير عن مأساوية الماضي، وفجائعية الواقع المعيش ، وهذا بدوره يؤدي إلى توسيع دائرة الرؤيا الشعرية، للتعبير عن حقائق كلية كامنة في اللاوعي، وتحمل شحنات عاطفية تستجيب بحرارة لأعماق مشاعر الإنسان العربي.

 

         كما يوحي استهلال القصيدة بقول الشاعر على لسان قناعه الشعري "وأنا واحد" ، بفداحة الإحساس  الذاتي بالعار ، وهو ما يصنع "مفارقة"، أو بنية لغوية تستند إلى "علاقة التغاير" بين  صورة "الجماعة" وصورة "الأنا"، حيث تشكِّل الأنا "نواة " ، تنبثق منها الدلالات باعتبارها شخصية محورية تسيطر على حركة الصياغة، وتقوم بفعل السرد وعرض رؤاها وأحلامها، وتكشف عن هويتها التاريخية، مما يجعلها ذات أبعاد زمانية مغرقة في السيرورة والحضور الإنساني، تتجلى في صورة جماعية ، وذلك في قوله "أنا زفرة العربي الأخيرة". وبهذا تتشكَّل القصيدة/القناع عبر صور فردية وجماعية ، تعبِّر عن واقع الأمة وحاضرها المعيش، أي أنها تمثِّل الأنا الأعلى المستكن في ضمير المجتمع العربي والإسلامي، وهذا الأنا الأعلى يأخذ موقف المتقبل الذي ينتظر معطيات الزمن الماضي، دون محاولة التحرك إيجابياً لاستعادة هذا الزمن، أو بمعنى أصح استعادة مضمونه الحضاري (67) . وبهذا تصبح القصيدة كشفاً عن خبايا الذات، التي يحملها القناع الشعري بين جوانحه، وكشفاً عن بعد درامي يقوم على الصوت الواحد/القناع، الذي يستبطن ذاته ويحاورها، ويستكنه أبعادها الفردية التي تصب في النهاية في دائرة الأبعاد الجماعية.

 

أما توفيق زياد في قصيدته "نشرة أخبار" ، فيستدعي شخصية إفريقية معاصرة، هي شخصية المناضل السياسي الكونغولي "باتريس لومومبا" . يقول:

                            - الكونغو…

                            دم لوممبا ما زال يصيح

                            وجيزنجا يزحف مثل الريح

                            ويفوّر في غاب الأبنوس

والكونغو حمراء ككف عروس

                            وتقول وكالات الأنباء

                            إقليم "كساي" يحرر

                            رغم ذئاب الأمم المتحده

                            والعار المدعو "همرشولد"

                            والنصر سيعقبه… نصر أكبر!!(68)

         يحشد الشاعر في الأبيات عدة شخصيات وأماكن، يربط بينها لتوليد دلالة تسهم في تشكيل الدلالة الكلية-رغم المكاشفة الفنية والمباشرة- التي تقوم على "الفعل" بين صوتين/شخصيتين ، يمثل الفعل الأول أبعاد الثورة النضالية التي قادها "لومومبا" في حياته لتحرير "الكونغو" من نير الاحتلال الأجنبي، وحتى اغتياله سنة 1960م، مما شكَّل فاجعة ونكوصاً للثورة، لكن دمه قد ألهم الجماهير الشعبية في الكونغو التي صحت على فاجعة قتله، فقامت تقاوم من جديد لتحرر "أقاليم" الكونغو واحداً واحداً، فكان دمه بمثابة الجذوة الثورية المشتعلة التي تمد الثورة بالوقود اللازم للاستمرار. إن دم "لومومبا" الصائح في البرية ، يستدعي إلى الأذهان الأسطورة العربية "الهامة" ، التي تعدُّ رمزاً من رموز المطالبة بالثأر والانتقام من القاتل، وهذا بالضبط ما يطلبه دم "لومومبا" ، الذي ما زال يصيح في أرجاء الكونغو.

 

         أما الفعل الثاني ، فيتمثل في الفعل الثوري العلمي والتكنولوجي الذي حققه "الاتحاد السوفييتي" بإرسال "جيزنجا" إلى الفضاء لاستكشاف كوكب "الزهرة"، وبهذا يشترك الاسمـان في التعبير عن أبعـاد الفعل "الثوري" في تجلياته الإنسانية والحضارية، وتحويل الوهم إلى واقع.

 

         ويوظِّف معين بسيسو في قصيدته "من أوراق أبي ذر" ، يوظّف شخصيته "أبي ذر الغفاري". يقول في أحد مفاصلها:

                            وسار وحده ومات وحده وعاد،

                            يصيح متُّ لم تزل،

                            بقية من الكلام في فمي

                            نُفِيْتُ مرتين، مرة هنا،

                            ومرة هناك في الحديقة المعلقه

                            بلوت صحبة الملائكه

                            بلوتها سئمتها،

                            ضجرت من ولدانها المخلدين، حورها المزوقه

                            وخمرها المعتقة

                            وعدت يا معاويه

                            ألقي بشعرة الذئاب،

                            في مغازل العناكب المشرده(69)

         يسجِّل "أبو ذر الغفاري" هذه الكلمات على أوراقه بعد بعثه من جديد، ليصوّر تناقضه مع الواقع المعيش، ويرفع صوته عالياً في وجه الظلم السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وقد أدى ذلك إلى نفيه مرتين، مرة في الحياة الدنيا زمن "معاوية"، ومرة في الحياة الآخرة "الجنة" بعد ضجره وسأمه من صحبة "الملائكة" الطاهرة النقية، وكأنه كتب على نفسه دائماً وفي كل مكان يحلُّ فيه أن يصلح العيوب والمفاسد الإنسانية، فإذا كان المجتمع مجتمعاً "ملائكياً" بلا عيوب ملَّة وتركه بحثاً عن غيره ليجد فيه ضالته . إن الثورة التصحيحية التي يبتغيها جعلتـه يعود مرة أخرى ليعلن على الملأ أنه مازال "بقية من الكلام في فمه"، وأنه سيلقي بصورة عملية "شعرة معاوية في مغازل العناكب"، وهو في مسعاه هذا يصحح علاقته بالثورة بعد فشله من قبل في هداية "معاوية" إلى جادة الصواب.

 

         لا ريب أن التماثل الدلالي بين حياة "أبي ذر" وحياة الإنسان الفلسطيني المعاصر، ينتج دلالات جديدة منها الثورة، والسير وحيداً، والموت وحيداً، والنفي مرتين، ورفض البذخ والترف واكتناز الذهب والفضـة ، بالإضافة إلى القمع السياسي زمن "معاوية" ، مقابل الاحتلال الصهيوني زمن التخاذل العربي. وهذا كله جعل من شخصية "أبي ذر" رمزاً إنسانياً بدأ برفضه لموقف "عثمان بن عفان" من أموال الغنائم ، إلى اضطهاده ، ثم موته منفياً . ولهذا يستثمر الشاعر هذه الأبعاد ليعقد صلة بينه وبين الإنسان الفلسطيني، ويطلق صرخة احتجاج في وجه الأنظمة العربية المعاصرة التي تعيش حياة ترف وبذخ . ولهذا أعتقد أن د. خالد الكركي لم يصب عين الحقيقة عندما قال: "والإسقاط على التاريخ العربي واضح، وإن كان لا يتحول إلى إسقاط على الواقع الحالي المباشر. فالنص صورة فنية لأبي ذر الغفاري الغاضب، ومثل هذه النـزعة الاحتجاجية الغاضبة تحد من إعادة بناء الشخصية التاريخية درامياً"(70)، إذ القصيدة تتجاوز الإطار التاريخي ، وتعقد مشابهة موحية بين "أبي ذر" من جهة، والإنسان الفلسطيني المشرد والمنفي من جهة ثانية، كما أنها تتخذ موقفاً تاريخياً من الأمراء وغيرهم الذين يكنـزون الذهب والفضة في عصر "أبي ذر" وعصرنا الذي نعيش.

 

كما يوظِّف معين بسيسو شخصية "المعتصم" ، في قصيدته "الرصـاصة الأولى". يقول:

                            "سيرك فلسطين" سيفتتح الليله…

                            هاتوا مربوطاً بالأغلال-المعتصم-

                            وهاتوا في –قفص خالد-

                            هاتوا ملفوفاً في "النطع المتنبي"

                            محمولاً فوق بيارقه –سيف الدولة-

                            -سيرك فلسطين- سيفتتح الليله…(71)

         تزدحم الأبيات بشخصيات تاريخية وأدبية، شكَّلت في عصرها مشاعل مضيئة على المستويين التاريخي والأدبي، وكانت رموزاً عربية وإسلامية شامخة في ذرى الحضارة، ومعلماً من معالمها النضالية بالسيف والقلم، ترفض العبودية وتعمل من أجل حرية الإنسان وإنسانيته وكينونته التي فطره الله عليها، لكنها في سياق القصيدة تتحول إلى رموز معاكسة لما كانت تسعى إليه في حياتها، حيث يجعل الشاعر "المعتصم" مربوطاً بالأغلال، أما "خالد" فيجعل منه مسجوناً في قفص من أقفاص السيرك على أرض فلسطين الكارثة، وهكذا الحال نفسها مع "المتنبي" و "سيف الدولة". إن هذه المفارقة الحادة مع الواقع التاريخي، تكشف عما آلت إليه الأمة من انكسار وعبودية وهوان وصلت حتى العظم، وجعلت رموزها المضيئة هزءاً ، ومجالاً من مجالات التسلية والترفيه عن مشاهدي السيرك، حيث استعاض صاحب السيرك بمشاهدة هذه الشخصيات التاريخية في سجنها وقهرها النفسي أو الروحي بدلاً من مشاهدة الأسود أو النمور…الخ.

 

تتساوق دلالات الانكسار والعبودية في مشاهدة الشخصيات التاريخية مع ما تنتجه البنية الصرفية من دلالات، حيث صيغة "المفعول" في قوله "مربوطاً- ملفوفاً- محمولاً"، التي تدل على من وقع عليه الفعل، وبذلك تحولت هذه الشخصيات من كونها ممارسة للفعل في أفضل دلالاته الإنسانية، إلى شخصيات مقموعة مقهورة يمارس عليها الفعل في أعظم دلالاته اللاإنسانية ، إذ لا يوجد منطقة أخرى بعد العبودية، وبذلك تتعمق علاقة "التناقض"، وتضع المتلقي وجهاً لوجه أمام أسئلة فاجعة وهي : كيف حدث هذا؟ ولماذا حدث؟ وكيف يمكن تجاوزه؟ والإجابة عند هذه الأسئلة تكون بمثابة وضع المبضع على الجرح، ليتم بعد ذلك تشريح الحاضر بقصد معرفة بيت الداء المتغلغل في روحه وعروقه ودمه، وهذا بدوره يؤدي إلى انفتاح الخطاب الشعري على زمنين: الزمن الماضي والحاضر ليكونا مجالاً واسعاً من مجالات المقارنة، التي لن تكون في صالح الحاضر بأي حالٍ من الأحوال. ولعل قمة المأساوية في توظيف صيغة المفعول باعتبارها من الإشارات المشتقة، ما يؤكده د. عبد الله الغذَّامي من أنها تحمل الحدث وتدل على التجدد كالفعل، وهي في هذا تتميز عن سائر المشتقات الأخرى التي تدل على الثبوت لقربها من الأسماء الجامدة، أما هذه – ومنها صيغة المفعول- فإنها سابحة، لأنها إشـارات

محملة بحدث في زمان غير مقيد، حيث تسبح في السياق متوجهة معه حيث توجه زمانياً(72). إن القول بارتباطها بحدث متجدد زمانياً، يجعل من عرضها على المشاهدين في ليالي السيرك ، الذي يقيم عروضه على أرض فلسطين عملية دائمة غير منتهية ، حتى يأتي أحد ليخلّصها ، ويخلّص فلسطين مما ترسف فيه من قيود وعبودية.

 

         ويخرج عز الدين المناصرة في توظيفه لشخصية "طارق" في قصيدته "رخويات طنجة" ، إلى آفاق لغوية ودلالية رحبة، تعكس الواقع العربي المعاصر في تمسكه بقشور الحضارة، وانكفائه عن الفعل الإنساني على أرض الواقع، حيث لم يجد العرب المعاصرون/المرجئة عملاً يقومون به سوى تعداد الأخطاء النحوية التي ارتكبها "طارق بن زياد" في خطبته، وتحديد الفاعل والمفعول والخبر المتقدم وأحوال التنوين إلى غير ذلك من أمور، رغم أهميتها في ترجمة فكر المرسِل على اعتبار أن اللغة انعكاس للفكر، إلا أن هذا الاهتمام باللغة يصبح هو العمل الأوحد الذي يقوم به هؤلاء المتحذلقون اللغويون، وبالتالي يقتصر الجدال حول اللغة، ويغيب الفعل الحضاري ودور الأمة في نشر الرسالة التي آمن بها "طارق" التاريخي، وتتحول خطبته الجهادية في نصرة الإسلام إلى خطبة نتعلم من خلالها كيفية تطور الخطابة العربية ومبادىء اللغة والصرف كأي خطبة أخرى، وبذلك يضيع تميزها

الجهادي والإسلامي والحضاري باعتبارها خطبة – رغم قصرها – صنعت تاريخاً وحضارةً وصلت إلى آفاق

العالم . يقول:

                            إن شئت ملامسة الضوء سماع كلام الرعيان

                            عن خطبة طارق بين سماء النورس والخلجان

                            فاسمعني الآن، الآن، الآن:

                            اذهب للصخرة بين السفح

                            وبين البحر تراه

                            يروي أشعاراً ويعدِّل خطبته

                            ما بين صلاة…وصلاة

                            وفق كلام رعاة سمعوها شخصياً منه

                            ويحفظها البحر كما يحفظها الزيتون

                            كان – المرجئة – يعدون عليه الأخطاء النحوية

                            واحدة تلو الأخرى

                            ويقيسون مسافات البحر الغجري المجنون

                            ما بين الفاعل والمفعول

                            والخبر المتقدم والصرف وأحوال التنوين(73)

         أما أحمد دحبور ، فيصوِّر في قصيدته "أم الدنيا" مفاجأته لغياب صورة "أبي خالد" أو "جمال عبد الناصر" من بيت "عم خليل"، ويحاول استيضاح الأمر لعله يلقى جواباً ، يعيد إليه زماناً يضيء نفسه ويجلوها ، فيسأل "عم خليل"، الذي تكون إجابته بمثابة البلسم الشافي. يقول:

يا عم خليل

                            عافاك الله،

                            وإن تسمح فأنا أستوضح أمراً:

                            ألمح صورته عند الزملاء،

                            وفي دور الفقراء،

                            ومن عجب أني لم ألق هنا ما يحمل ذكراه

                            يا عمّ خليل

                            هل أنت إذن…

                            -لا…لا سمح الله

                            فليسبق موتي ساعة نسيان الرجل الماجد

                            في القلب أبو خالد

                            وتنهَّد وهو يتابع:

                            هل تدري يا عماه

                            المصنع؟ كل المصنع صورته،

                            والشارع صورته،

                            واليومان ال…(هل تفهم قصدي؟) صورته،

                            فلماذا الصورة؟(74)

         تنبني الأبيات على تمايز دلالي بين موقفين، يمثِّل الأول اعتزازاً وفخراً خارجياً بوضع صورة "أبي خالد" على جدران منازل "الزملاء والفقراء" ، باعتباره بطلاً وطنياً وقومياً، وهذا ما يجعله حاضراً في جغرافيا المكان، لأن "المصنع صورته" . ويمثِّل الثاني اعتزازاً وفخراً داخلياً لدى "عم خليل" على مستوى الذاكرة وأبعادها العاطفية والمادية، وهذا يجعله حاضراً في جغرافيا الروح حيث "في القلب أبو خالد"، وبهذا تتجلى صورته في أبدع تكوين فني وجمالي، وتؤسس لوجودها حضوراً متميزاً باعتباره رمزاً وطنياً وقومياً، وبانياً لمصر الحديثة.

 

         تسمح مقاربة الأبيات أيضاً باستشفاف علاقة تبادلية بين المبدع والمتلقي، إذ على المتلقي أن يقوم بدور المبدع بملء الفراغـات الطبـاعية في البيتين الثامن والسادس عشر إذا أراد للرسالة الشعرية أن تصل

كاملة، وهذا ما يحوِّله بصورة عملية إلى مبدعٍ ثانٍ لا يرتبط إبداعه بالتفسير والتوضيح وإضاءة النص فحسب،

بل بأخذ دور المبدع الحقيقي في ملء فراغات النص، ولذلك فإن "علاقة الجمهور بالأدب ليست علاقة تلقي إذن، بل هي علاقة تعامل منتج"(75) ، فإذا أردنا ملء هذا الفراغ بما يتوافق مع عملية الفهم والتلقي حسب الانطباع الشخصي والتفكر الذاتي، فإنه يسهل في الجملة الأولى التي تصبح "هل أنت إذن "نسيته"" وهو اقتراح مستمد من قول "عم خليل" حين يرد "فليسبق موتي ساعة "نسيان" الرجل الماجد". أما الجملة الثانية في البيت السادس عشر فهي تحتاج إلى "الحدْس" ومعرفة مدى توافقها مع الدلالة العامة التي يطرحها "عم خليل" في إجابته وتمتماته الشخصية، وهي رغم ذلك تجعل المتلقي في حيرة من أمره، لأنها "صمت مفعم بالمعنى"(76) ، لكنه مراوغ وعائم، ويمثِّل شفرة حرة تتسم بحركية متجددة، وقابلية مرنة للدخول في علاقات دلالية متعددة الأبعاد، ويصعب القبض عليها أو تحديدها بدقة.

 

         قد يتبادر إلى الذهن بصورة آلية عند قراءة الأبيات ، أن "اليومين" اللذين يتحدث عنهما "عم خليل" هما "يوم الثورة ويوم التأميم"، ولكن يتم التراجع عن هذا الاحتمال عندما نصل في قراءة القصيدة إلى قوله "كان عظيماً، لكنْ…سامحه الله" ، إذ غالباً ما يتوسط الحرف "لكن" بين متناقضين لا ينسجم ما قبلها مع ما بعدها، وهي بهذا تأخذ معنى "الاستدراك، كأنك لما أخبرت عن الأول بخبر خفت أن يتوهم من الثاني مثل ذلك فتداركت بخبره إن سلباً أو إيجاباً، ولابد أن يكون خبر الثاني مخالفاً لخبر الأول لتحقيق معنى الاستدراك، ولذلك لا تقع إلا بين كلامين متغايرين في النفي والإيجاب"(77). وبناء على الفهم السابق يمكن ملء الفراغ في الجملة كالتالي "واليومان "الحزينان" (هل تفهم قصدي؟)، صورته"، ولعلهما يوما النكبة والنكسة، أي نكبة فلسطين سنة 1948م لأن السائل فلسطيني، ونكسة حزيران سنة 1967م لأن المجيب مصري، وبذلك يشارك كل واحد منهما الهم الوطني للآخر. نتيجة لما سبق "لو جاء النص على هذه الحال لكان نصاً كاملاً نعم، ولكنه ساذج وبدائي، ولا يحمل تحدياً قرائياً ولا إنجازاً إبداعياً، وسوف يكون فحسب شعراً مكتمل المبنى والمعنى، ولا شيء فوق ذلك أو بعده"(78).ولهذا عمد الشاعر إلى تحقيق الحضور من خلال الغياب الذي شكَّل تجلياً إبداعياً له تأثيراته القوية التي حققت لمتلقي النص لذة الاكتشاف.

 

أما المتوكل طه ، فيرجع إلى شخصيات التاريخ في ديوانه "حليب أسود" مبتعداً عن التوظيف الخارجي لأبعاد الشخصية، مسلِّطاً الأضواء على دواخلها وأرقها النفسي، وما يعتمل داخلها أحياناً من عواطف إنسانية  متناقضة ، تجعل منها شخصيات حية خرجت من كتب التاريخ الصفراء، وهي ممتلئة بنوازع النفس وغربة الروح، وقلق الوجود، ولهذا فهي شخصيات عميقة الغور على المستوى الوجـداني، تحمل شفافية الكشف عن

كنهها، وتتجاوز بالقصيدة من إطارها الغنائي المحض إلى دائرة ما يعرف في الرواية بـ"تيار الوعي" ، حيث يشكِّل فيها "المونولوج الداخلي" و "الأحلام الكابوسية" ، التي تتجلى فيها النفس في أبعد أغوارها وأعمق أسرارها أمام المتلقي، لتشكِّل حالة من الهذيان والشعور بالذنب، وهذا ما حدث للخليفة "هارون الرشيد" في القصيدة التي تحمل اسم "هارون بعد المذبحة". يقول الشاعر على لسان الخليفة "هارون الرشيد":

أفزع من نومي كالملدوغ، وأمسح وجهي بالرحمن، وتأتيني

                            زوجي بالماء، وتنظر فاحصة وجهي…

                            -خيراً إن شاء الله

                            -خيراً… خيراً… عودي للنوم

                            ما زال فؤادي يسرع في الخفقان،

                            أقرأ ما أحفظ من قرآن،

                            أهبط نحو الشرفة، أفتح باب الغرفة، أتنسم برد الليل،

                            وأرجع لفراشي.

                            في اليوم التالي، تسألني أم المأمون:

                            -لماذا أصبحت كأوتاد السهم المشدود؟

                            هل تأتيك الروح المذبوحة في الأخدود؟(79)

         إن كشف نوازع النفس من خلال المناجاة الذاتية، والحوار بين الخليفة "هارون الرشيد" وزوجه "أم المأمون"، يجعل أبعاد شخصية الخليفة الداخلية والخارجية بكل ما تحمله من قلق روحي وتأنيب ضمير، بسبب قتله للبرامكة ، تجعل منه كتاباً مفتوحاً أمام المتلقي، وصورة للحياة الإنسانية ، تتضح فيها تداعيات النفس وتناقضاتها الوجودية من خلال "الحلم/الكابوس" الذي يؤرق الخليفة، ويقضُّ مضجعه ، فيفيق من نومه فزعاً، ويحاول أن يهدىء من روعه بتلاوة بعض آيات من القرآن الكريم ، الذي كان يشكِّل حالة "تناقض" صارخ معه بقتله للبرامكة. لكنه الآن – أي القرآن – يمثِّل له الملجأ الوحيد في التخلص من كوابيسه وآلامه النفسية والروحية والوجودية، مما يمنح القصيدة صفة الدرامية التي تجعل التأزم والقلق وتناقضات النفس سمات لا تتصل بشخصية الخليفة "هارون الرشيد" فحسب"، بل تنسحب إلى أعماق المجتمع الإنساني المعاصر الذي أصبح القتل بالنسبة له عادة يومية .

الهوامش

(1) هرنشو: علم التاريخ-ترجمة: عبد الحميد العبَّادي- مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر-مصر-1937م.(ص3-4)

(2) فازيليف: العرب والروم، ترجمة محمد عبد الهادي شعيرة-دار الفكر العربي-مصر-د.ت.(ص346)

(3) د. زكي المحاسني: شعر الحرب في أدب العرب في العصرين الأموي والعباسي إلى عهد سيف الدولة-دار المعارف-مصر-1961م.(ص195)

(4) انظر أرسطو: فن الشعر-ترجمة وتقديم وتعليق د. إبراهيم حمادة-مكتبة الأنجلو المصرية-مصر-د.ت. (ص114)

(5) هرنشو: علم التاريخ.(ص47-48)

(6) ما سبق. (ص50)

(7) ما سبق.(ص14 و 179)

(8)نقلاً عن د. شوقي الجمل: علم التاريخ نشأته وتطوره-مكتبة الأنجلو المصرية-مصر-ط2-1982م. (ص8)

(9) حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء-تقديم وتحقيق محمد الحبيب بن الخوجة-دار الغرب الإسلامي-بيروت-ط2-1981م.(ص39)

(10) ما سبق. (ص189)

(11) قاسم عبده قاسم: الشعر والتاريخ-مجلة فصول-المجلد 3-العدد 2-يناير، فبراير، مارس-1983.(ص236)

(12) د. جعفر العلاّق: الشعر والتلقي-دار الشروق-عمّـان-ط1-1997م . (ص83) 

(13) عبد الله راجع: القصية المغربية المعاصرة-منشورات عيون-الدار البيضاء-ط1-1987م.(ص279)

(14) حاتم الصكر: مرايا نرسيس، الأنماط النوعية والتشكيلات البنائية لقصيدة السرد الحديثة – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت – ط1 – 1999م.(ص215)

(15) رجاء عيد: الأداء الفني والقصيدة الجديدة-مجلة فصول-مج7-ع1،2-1986م . (ص59) 

(16) د. علي عشري زايد: استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر-دار الفكر العربي-مصر-د.ت. (ص132)

(17) فدوى طوقان: الأعمال الشعرية الكاملة-المؤسسة العربية للدراسات والنشر-بيروت-ط1-1993م.(ص380-381)

(18) هانزميرهوف: الزمن في الأدب-ترجمة د. أسعد رزوق-مؤسسة سجل العرب-مصر-1972م.(ص7)

(19) محمود درويش: ديوان محمود درويش-دار العودة-بيروت-ط10-1983م.(ص633-634)

(20) جان كوهين: بنية اللغة الشعرية-ترجمةمحمد الولي ومحمد العمري-دار توبقال للنشر-الدار البيضاء-ط1-1986م.(ص127-128)

(21) سميح القاسم: القصائد-دار الهدى-كفر قرع-مج2-ط1-1991م .(ص213)

(22) انظر د. محمد فتوح أحمد: واقع القصيدة العربية-دار المعارف-مصر-ط1-1984م.(ص151)

(23) توفيق زياد: ديوان توفيق زياد-دار العودة-بيروت-1970م.(ص79)

(24) د. خالد الكركي: الرموز التراثية العربية في الشعر الحديث-دار الجيل-بيروت-ط1-1989م.(ص154)

(25) معين بسيسو: الأعمال الشعرية الكاملة-دار العودة-بيروت-ط2-1981م.(ص132)

(26) عز الدين المناصرة: ديوان عز الدين المناصرة-المؤسسة العربية للدراسات والنشر-بيروت-ط1-1994م.(ص237)

(27) انظر د. علي عشري زايد: استدعاء الشخصيات التراثية.(ص121)

(28) سميح القاسم: القصائد – مج2.(ص393-394)

(29) د. علي عشري زايد: استدعاء الشخصيات التراثية.(ص123)

(30) معين بسيسو: الأعمال الشعرية الكاملة.(ص295)

(31) محيي الدين صبحي: شعر الحقيقة في عصر السقوط-شؤون فلسطينية-بيروت-ع96-1979م.(ص111)

(32) د. يوسف نوفل: تجليات الخطاب الشعري-دار الشروق-مصر-ط1-1997م.(ص116)

(33) أحمد دحبور: ديوان أحمد دحبور-دار العودة-بيروت-1983م.(ص257)

(34)د. خالد الكركي: الرموز التراثية العربية.(ص189)

(35) انظر ما سبق.(ص194)

(36) المتوكل طه: رغوة السؤال-منشورات دار الكاتب-القدس-ط1-1992م.(ص28-29)

(37) محمود درويش: ديوان محمود درويش.(ص288)

(38) انظر د. إحسان عباس: اتجاهات الشعر العربي المعاصر-دار الشروق-عمّـان-ط2-1992م.(ص114-115)

(39) سميح القاسم. القصائد – مج1.(ص167-168)

(40)انظر قاسم عبده قاسم: الشعر والتاريخ.(ص235)

(41) راشد حسين: الأعمال الشعرية-مركز إحياء التراث العربي-الطيبة-ط1-1990م.(ص479-480)

(42) د. علي عشري زايد: استدعاء الشخصيات التراثية.(ص120)

(43)أحمد دحبور: ديوان أحمد دحبور.(ص368)

(44) د. مصطفى ناصف: دراسة الأدب العربي – دار الأندلس – بيروت - ط3 - 1983م.(ص205-206)

(45) علي الخليلي: وحدك ثم تزدحم الحديقة-منشورات البيادر-القدس-1984م.(ص28-29)

(46) د. علي زيعور: قطاع البطولة والنرجسية في الذات العربية – دار الطليعة للطباعة والنشر – بيروت - ط1 - 1982م.(ص36)

(47) ما سبق.(ص35)

(48) فدوى طوقان: الأعمال الشعرية الكاملة.(ص437)

(49) أحمد دحبور: ديوان أحمد دحبور.(ص274-275)

(50) مريد البرغوثي: الأعمال الشعرية-المؤسسة العربية للدراسات والنشر-بيروت-ط1-1997م.(ص592-593)

(51) رجاء النقاش: محمود درويش شاعر الأرض المحتلة-دار الهلال-مصر-ط2-1971م.(ص60)

(52) انظر عز الدين إسماعيل: الشعر العربي المعاصر-دار الفكر العربي-مصر-ط3-د.ت.(ص298)

(53) انظر رجاء النقاش: محمود درويش شاعر الأرض المحتلة.(ص56)

(54) ما سبق. (ص271-272)

(55) ما سبق (ص272)

(56) سميح القاسم: القصائد-مج3.(ص366)

(57) توفيق زياد: ديوان توفيق زياد. (ص31)

(58) ما سبق (ص13-14)

(59) أدونيس: زمن الشعر-دار العودة-بيروت-ط3-1983م.(ص105)

(60) معين بسيسو: الأعمال الشعرية الكاملة.(ص585-586)

(61)د. أحمد كمال زكي: الأساطير-دار العودة-بيروت-ط2-1979م.(ص240)

                     (62) فدوى طوقان: الأعمال الشعرية الكاملة.(ص409)

(63) محمود درويش: ديوان محمود درويش.(ص76)

(64) انظر د.صلاح فضل: أساليب الشعرية المعاصرة-دار الآداب-بيروت-ط1-1995م .(ص149)

(65) محمود درويش: ديوان محمود درويش-دار العودة-مج2-ط1-1997م . (ص481-482)

(66) د. علي جعفر العلاّق: الشعر والتلقي.(ص110)

      (67) انظر د. محمد عبد المطلب: بناء الأسلوب في شعر الحداثة-1990م .(ص260)     

     (68) توفيق زياد: ديوان توفيق زياد. (ص92)

      (69) معين بسيسو: الأعمال الشعرية الكاملة. (ص259-260)

(70) د. خالد الكركي: الرموز التراثية العربية.(ص206)

(71)معين بسيسو: الأعمال الشعرية الكاملة.(ص400)

(72) انظر د. عبد الله الغذَّامي: تشريح النص-دار الطليعة-بيروت-ط1-1987م. (ص18)

       (73) عز الدين المناصرة: ديوان عز الدين المناصرة.(ص653)   

(74) أحمد دحبور: ديوان أحمد دحبور.(ص485-486)

(75) يمنى العيد: ممارسات في النقد الأدبي – دار الفارابي – بيروت – 1975م.(ص74)

(76)مالكم برادبري وجيمس ماكفارلن: الحداثة – ترجمة مؤيد حسن فوزي – دار المأمون للترجمة والنشر – بغداد – 1987م.(ص212)

(77)ابن يعيش: شرح المفصَّل-عالم الكتب-بيروت-ج8-د.ت .(ص80)

(78) د. عبد الله الغذَّامي: النص المضاد - المركز الثقافي العربي – بيروت – ط1 – 1994م.(ص97)

(79) المتوكل طه: حليب أسود-اتحاد الكتاب الفلسطينيين-القدس-ط1-1999م.(ص26)

 

 

 

 

 

 

 
 
 

 

 
 

ضيوف الموقـع

 

 
 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقة تعــريف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع   خزانات الموقـع صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

موقع سعيد بنگراد - تاريخ الإنشاء: نونبر 2003