معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقة تعــريف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع   خزانات الموقـع صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلاما

 

عبد الفتاح الحجمري

                            المغرب والغرب

 

                    

                                         

    ــــــــ

      في المستهلّ

    ــــــــ

    ما هي أبرز مظاهر علاقة المغرب بالغرب الأوروبي خاصة منذ نهاية القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر وصعدا ؟

    كيف تمثلت النخبة المغربية آنئذ منجزات النهضة الأوروبية ثقافيا وحضاريا ؟

    وما هي أهمّ المبادئ الإصلاحية التي حفلت بها كتابات مرحلة انشغلت بدعوات التحديث الاجتماعي والسياسي وتشييد دولة وطنية معاصرة ومتطوّرة ؟

    هذه أسئلة تسترعي الاهتمام كلما أراد المرء النظر إلى أحوال النهضة والسلفية ، والتقدم والتأخر ، والإصلاح والانفتاح على الآخر ، وفوائد ومفاسد الحداثة الغربية . ولذلك ، سأهتمّ في هذا العرض بتقديم وصف عام ومجمل لأبرز المظاهر الفكرية والتاريخية والاجتماعية التي رافقت تصوّر رحالة مغاربة إلى أوروبا عن طريق سفاريات وبعثات دبلوماسية . ولعلّ ما يحفز على تقديم هذا الموضوع جملة اعتبارات متداخلة أحصرها على سبيل التمهيد في ما يلي:

    1 . بيان صورة العالم الآخر كما تمثلتها كتابات المغاربة مما عاينوه في رحلاتهم .

    2 . الكشف عن المناحي الثقافية لتلك الكتابات وأشكال التأثير والاحتواء التي ميزت مرجعياتها الفكرية .

    3 . الإحاطة بأنواع الوعي الاجتماعي والسياسي الذي رافق تلك الكتابات والمشاهدات .

    هذه اعتبارات تضع هذا البحث ونظائره مما يهتمّ بدراسة صورة الوطن في المتخيل الغربي، أو صورة الآخر في الوعي الجماعي للفرد والأمة في ملتقى تحليلات متنوّعة ومتداخلة ومتشعبة : الأدب المقارن - النقد الأدبي - التاريخ الأدبي - سوسيولوجيا الثقافة - الأنثروبولوجيا الأدبية - تاريخ الأفكار - إلخ يضاف إلى ذلك ، أن تحليل الصورة الأدبية اكتسب في الدراسات المقارنة أهميته من إجراء الصورولوجية Imagologie بحسب قصد نظري ومنهجي محدد يستطيع الباحث إلحاقه بعدة مباحث تتقاسمها العلوم الإنسانية والاجتماعية والفنية والجمالية . هكذا ، يصبح هذا البعد المقارن لإجراء الصورولوجية مفيدا لمعرفة الأبعاد الثقافية والفكرية المصاحبة لإنتاج الكتابة الأدبية وسبل تلقيها كذلك ، لأن موضوع الصورة الأدبية المقارنة لا يسهم فقط في تصوّر ماهية الكتابة ضمن فضاءين ثقافيين مختلفين ، بل يسهم أيضا في معرفة أشكال الخطاب السائدة وألوان التعبير المتاحة في تمرير الأفكار وتشييد الوعي الثقافي ضمن : الفهارس والمذكرات والرحلات  والوثائق التاريخية والترسل الأدبي والروايات  … 

    ـــــــــــــ

    خطاب الرحلات السفارية

    ـــــــــــــ   

    تقع هذه الدراسة من الناحية النظرية في ملتقى عدة خطابات ، ولعلها تستدعي بالتالي عدة مقاربات . وحين تنطلق من وقائع تاريخية محددة أو تستحضر بعض القضايا الاجتماعية والسياسية المهيمنة خلال حقبة معلومة ، فلأنها تودّ وتقترح إعادة تأمل الاسهامات الثقافية العامة التي بدأ يعرفها المجتمع المغربي منذ نهاية القرن الثامن عشر وخلال القرن التاسع عشر وحتى أوائل القرن العشرين . يتعلق الأمر بإنشاء كتابات راهن أصحابها ، بحكم مواقعهم الثقافية ومهامهم السياسية ، الانخراط في حركية تاريخ اجتماعي أملته شروط نهضة مرجوّة وإصلاح مأمول نتيجة تفاعل حضاري مشرقي وغربي . من هنا أهمية المنحى الثقافي لتشكل صورة الغرب في وعي المغربي ، أو علاقة الأنا بالآخر والهنا بالهناك كما يفرزها خطاب الرحلات السفارية أو الدبلوماسية بمختلف تقديراتها الذاتية والموضوعية والقائمة أو الممكنة . بهذا المعنى ، يغدو خطاب الرحلة واقع حال يتخذ من المناظرة والتقرير والتأريخ والتنظير سبيلا ، صريحا حينا ومضمرا حينا آخر ، لتبرير الغاية من الرحلة والسفر ، وبيان وظيفة الكتابة ومقصديتها المبينة لكيفية الانخراط في " الأزمنة الحديثة " بهوية حضارية قائمة على الأخذ والعطاء وعارفة بسبل الحفاظ على مقوّماتها الذاتية وكيانها الخاص ؛ ولأنها رحلة تحاور الفكر الإصلاحي ، فإنها تجعل من التخلف والنهضة إشكالا للإجابة على سؤال : لماذا تقدم الغرب ؟ وكيف السبيل للخروج من الانحطاط ؟

    وحين نقرأ اليوم هذه الرحلات السفارية التي كتبها أدباء ومثقفون مغاربة تتبدى لنا صور من الوعي أبان أصحابها عن دفاعهم على هويتهم الوطنية والإسلامية ، وعبروا في الآن ذاته عن ضرورة الانفتاح على منجزات النهضة الأوروبية . وقد شكّل هذا الوعي بداية تأسيس خطاب النهضة بالمغرب بما يعنيه ذلك من وعي بقيمة الانخراط في الزمن الحاضر ، وتحديث مؤسسات المجتمع والتشبث بهوية وطنية قادرة على التوفيق بين الأصالة والمعاصرة ، والمادي والروحي ، والتقليدي والحداثي .

    وعلى هذا النحو ، يلمس الباحث في ما أنتجه أعلام النخبة المغربية خلال الحقب السالفة الذكر ، تركيز مرجعية خطابها - بحكم خصوصية المراحل التاريخية - على تعلّق الثقافي والفكري بالسياسي ، لأن دعوتهم الإصلاحية أظهرت لدى الجيل الأول من النهضويين المغاربة نزوعا نحو ثقافة التحديث وإقامة أسس جديدة لدولة وطنية منفتحة على ما يناسب هويتها من تصوّرات المدنية الغربية ومنشغلة بالحفاظ على ثقافتها الإسلامية المترسخة . ثمّ إن مبادئ هذه الدعوة الإصلاحية ستصبح لدى رواد الحركة الوطنية خلال النصف الأول من القرن العشرين دعوة لإثبات هوية وطنية تناهض الوجود الاستعماري وتطالب بالاستقلال والسيادة .

    سأتخذ في هذه الدراسة من الرحلات السفارية التالية موضوعا للتحليل وتأطير المقاربة :

    1 .  أحمد بن قاسم الحجري أفوقاي  :  ناصر الدين على القوم الكافرين   تحـقيـق :    ذ .  محمد رزوق ، منشورات كلية الآداب الدار البيضاء 1 / 1989 .

    2 . محمد بن عثمان المكناسي : الإكسير في فكاك الأسير  تحقيق : الأستاذ محمد الفاسي ، منشورات المركز الجامعي للبحث العلمي ، جامعة محمد الخامس ، الرباط 1965 .

    3 . أبو الجمال محمد الطاهر الفاسي : الرحلة الإبريزية إلى الديار الانجليزية  تحقيق : الأستاذ محمد الفاسي ، مطبعة جامعة محمد الخامس ، الرباط 1967 .

    4 . إدريس بن محمد بن إدريس العمراوي : تحفة الملك العزيز بمملكة باريز  تحقيق  :  ذ . زكي مبارك ، مؤسسة التغليف للطباعة والنشر ، طنجة 1989 .

    ـــــــــــــــ

    صورة الغرب بشروط تاريخية

    ـــــــــــــــ  

    تظهر هذه الرحلات السفارية صورة الغرب لدى النخبة المغربية وكذا حدود الوعي بتجليات الحضارة الأوروبية على عدّة أصعدة وميادين . وقد اقترنت هذه الصورة بشروط تاريخية وحضارية يمكن بواسطتها التأريخ لمسارات معينة من تطوّر الفكر في علاقته بالوجود الاجتماعي وتحوّلاته ، وبالتالي قياس درجة النهضة والتحديث بالنظر إلى اعتباري التقدم والتأخر .

    يكاد أغلب المؤرخين ودارسي الفكر المغربي يجمعون على أن احتلال فرنسا للجزائر عام 1830 ، وانهزام الجيش المغربي في معركة إيسلي نواحي وجدة شرق المملكة أمام بضعة آلاف من الجنود الفرنسيين المجهزين والمدربين بطريقة منظمة ، في الوقت الذي كان فيه الجيش المغربي خلال الواقعة المذكورة قوامه حوالي " ثلاثون ألف فارس تزيد قليلا أو تنقص"، تنضاف إلى ذلك حرب أخرى مشهورة بحرب تطوان عام 1860 والتي كان من نتائجها احتلال المدينة لأكثر من سنة . كانت كل هذه الوقائع كافية لبداية شعور المغاربة بالتفوّق الأوروبي وخطر الغزو ، وكانت أيضا بداية لتشكل هياكل الدولة والتفكير في إصلاحها وتأهيلها سياسيا واقتصاديا وتنظيميا للدخول في زمن التمدن .

    هذه معطيات بحثها المؤرخون وفسروا مبرراتها ومسبباتها ونتائجها ، والتلميح إليها ضروري لفهم المنظومة الفكرية التي آمنت بها النخبة المغربية لمّا تيسّر لها الانفتاح على مختلف مظاهر الحضارة الغربية . لم يكن الأمر يتعلق فقط بالبحث عن مشروع ممكن لإصلاح المجتمع والخروج به من دائرة التخلف والهزيمة ، بقدر ما كان الأمر يتعلق بتصوّر إطار فكري ملازم لمتطلبات " يقظة " سياسية واجتماعية فرضتها أوضاع تاريخية جديدة .

    ــــــــــــــــ

    بين ناصر الدين والقوم الكافرين

    ــــــــــــــــ

    شكلت رحلة السفير أحمد بن قاسم الحجري أفوقاي منذ القرن السابع عشر الميلادي بداية تمثل تلك المنظومة الفكرية بين دار الإسلام و دار الكفر والحرب ، أي بين المغرب وتركيا العثمانية وأوروبا . نعلم أن أحمد بن قاسم الحجري الأندلسي لما عاد إلى المغرب هاربا من محاكم التفتيش الإسبانية عمل بديوان الترجمة على عهد السلطان أحمد المنصور الذهبي وزيدان وولديه عبد الملك والوليد . وكان على رأس البعثة السفارية التي أرسلها السلطان زيدان إلى كل من فرنسا وهولاندا من أجل قضية المورسكيين المطرودين من الأندلس . هذه هي المهمة الرئيسية للرحلة : ردّ الاعتبار للأقلية الموريسكية المهجّرة واسترداد ما نهب منها من قبل أصحاب السفن في البحر بعد الخروج من الأندلس ما بين 1018 و 1020 . وتكمن أهمية هذه الرحلة في وصف الحجري أفوقاي لمختلف مظاهر المدنية الأوروبية وإدارته على أساس مناظرات وسجالات ومحاورات فكرية ودينية بين ناصر الدين والقوم الكافرين . هكذا ، اتخذت المناظرة بين المسلم والنصراني صورة الجهاد في سبيل الدين الإسلامي ، ولأنها تناولت مسائل الوحدانية والتثليث والتشبيه والتجسيم ، والخطيئة والاعتراف ، وشرب الخمر وأكل لحم الخنزير ، والزواج بأربع وتحريم الزواج على الرهبان ، وحجاب المرأة والصوم والتصوير إلخ فإن كل مناظرة كانت تجلّي صورة المسلم في مخيلة الأوروبي عبر معرفته المسبقة حول الدين والمجتمع .

    إن قراءة المناظرات التي أدارها الحجري أفوقاي مع رهبان وأحبار وبعض النخب الحاكمة في فرنسا وهولاندا تبين أساس الاختلاف بين دار الإسلام ودار الكفر . بعبارة أخرى ، لم يكن الاختلاف بين الدارين من ناحية التمدّن والتقدم العسكري يشغل بال السفير ، بقدر ما كان الدفاع عن الدين والعقيدة همّه الأول والأخير . ولذلك ، كان مناظرو ومحاورو الحجري أفوقاي يعلنون عن دهشتم من كونه مسلما ويمتلك كل هذه الثقافة الواسعة والمعارف الخصبة : "  تعجّبنا منك تحفظ الألسن وتقرأ الكتب ، وسرت في المدن وأقطار الدنيا ومع هذا تكون مـسلما ( ص 53 ) " ، أما الحجري أفوقاي فقد كان حريصا فقط على تأكيد تفوقه الذي يعني تفوّق الإسلام على الكفر ، وذلك ركن من أركان الجهاد في سبيل نصرة الدين والعقيدة فرضه توتر تاريخي وحضاري وصراع ديني قبل أن تفرضه أنظمة الحكم . والمثير للانتباه أن هذا التوتر والصراع التاريخي والحضاري طبع أيضا العلاقات الإنسانية وأدخلها في دائرة الخصام مع النفس والشيطان . حكاية طريفة يوردها الحجري أفوقاي أنقلها كما يلي :

    " قالت لي : أعلمك تقرأ بالفرنج . وصرت تلميذا لها ، وأخذت في إكرام أصحابي . كثرت المحبة بيننا حتى ابتليت بمحبّتها بلية عظيمة .

    قلت : قبل ذلك كنت في خصام مع النصارى على المال ، وفي الجهاد على الدين ، والآن هو الخصام مع النفس والشيطان ( ص 69 ) " .

    ــــــــــــ

    والأندلس … دار إسلام

    ــــــــــــ

    قام الكاتب والوزير محمد بن عثمان المكناسي برحلته إلى إسبانيا عام 1780 أي زمن حكم كارلوس الثالث والسلطان محمد بن عبد الله . واتسم السياق التاريخي الذي تمت فيه هذه الرحلة السفارية بالتوتر :  هناك - من جهة - انشغال إسبانيا بمشاكلها في أمريكا اللاتينية ونزاعها مع إنجلترا حول جبل طارق ، واحتلالها - من جهة ثانية - لسبتة ومليلية رغم مطالبة المغرب بهما وحصاره مليلية حصارا شديدا سنة 1774 سجل السفير في رحلته بعض أطواره وأحـواله . ولما عجز المغرب عن استرداد المدينتين سيقبل طلب كارلوس الثالث بعقد الصلح والمهادنة ، هذا ما كانت تتوخاه رحلة المكناسي فضلا عن سعيه إطلاق سراح الأسرى الأتراك والجزائريين بهدف تعميق معاهدة الصداقة بين المغرب وإسبانيا وبين بقية الدول الأوروبية . يبدو المكناسي في رحلته كاتبا منشغلا بقضايا مجتمعه وعصره . وتمثلت معرفته لتقاليد المجتمع الإسباني في رغبته وحرصه أن يعرف المخزن أوضاع مدينة سبتة من الداخل ليستفيد منها متى قرر محاصرتها . والأندلس في عرف السفير المكناسي أيضا دار إسلام ، لأنها تاريخ وتراث الأجداد . لذلك ، نجده يعتني بإبراز مختلف معالمها من أسوار وأبواب وأزقة ومساجد ونقوش وزخارف . وكان كلما دخل مدينة قال : " أعادها الله دار إسلام " . وإذا كان المكناسي يهتمّ بمناقشة تقاليد الديانة المسيحية ، إلا أنه لا يجعلها على هيئة المناظرة أو الجدل كما هو الأمر عند الحجري أفوقاي ، لأنه وجّه عنايته إلى وصف الصناعات والاختراعات الجديدة : الورق - الأسلحة - معاصر الزيتون - صكّ النقود - الساعات - البريد إلخ   هكذا ، ضمّن السفير المكناسي رحلته حديثا مسترسلا عن مختلف مصادر المدنية الحديثة وأوجهها المتنوعة مما أعجب به أو أثار فضوله . ولم يفت المكناسي أن يدوّن عادات الإسبان في إقامة الحفلات واعتنائهم بحفلات السيرك ومصارعة الثيران وتشييد المسارح ، كتب واصفا المسرح ما نصّه :

    " دار عظيمة لها أربع طوابق . وقد أوقدوا فيها من الشمع ما لا يعد ولا يحصى ، وأصحاب آلات الطرب والموسيقى في أسفل الدار . وقد هيئوا لنا موضعا في إحدى الطبقات مقابل للموضع الذي يكون فيه لعبهم وطربهم . وشاهدنا من العجب في تلك الدار ما لا يمكن وصـفه من أنـواع التصاوير والبناءات والـحيوانات الـتي تخيل لـلناظر أنها قائمـة الذات ( ص 23  ) " .    

    ــــــــــ

        متخيل التقنية

    ــــــــــ

    لما توفي السلطان مولاي عبد الرحمان عام 1859 وبويع بعده سيدي محمد بن عبد الرحمان ، كانت فرنسا قد احتلت الجزائر وبدأت تتطلع إلى احتلال المغرب ؛ في الوقت الذي عملت فيه إسبانيا على احتلال المناطق الشمالية المغربية عبر مدينتي سبتة ومليلية ، وفيما بعد احتلال مدينة تطوان عام 1860 . أثناء هذه الحقبة شعر المغاربة بأطماع الدول الاستعمارية فصرفوا النظر عن الدخول في حرب أخرى تؤدي بهم إلى مزيد من التنازلات . ولذلك ، نشطت " المساعي الدبلوماسية " وتوجه العديد من السفراء المغاربة إلى دول أوروبية لإبرام معاهدات أو بحث سبل تعاون مشترك عسكري واقتصادي يخدم مصالح الطرفين . ولمّا بويع السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمان ملكا للمغرب وجه سفارتين إلى كل من فرنسا وإنجلتـرا ، وجعل على رأس السفارة التي توجهت لمقابلة نابوليون الثالث إدريس بن محمد العمراوي ، وعلى رأس السفارة التي توجهت لمقابلة الملكة فيكطوريا كلا من عبد الرحمان الفاسي ومحمد الشامي يصحبهما الأديب محمد الطاهر بن عبد الرحمان الفاسي .

    ينقل لنا الأديب العمراوي في رحلته تحفة الملك العزيز بمملكة باريز أحوال المجتمع الفرنسي إبان عهد نابليون الثالث . ولذلك ، يهتمّ في الرحلة بوصف أوضاع المجتمع الفرنسي مبرزا مشاعره من الحياة الباريزية والتنظيمات التي تضبط إيقاع عالم التجارة والصناعة . ونجده يعرّف بمختلف الاختراعات الحديثة ولا يخفي اندهاشه مما صادفه من الأمور الغريبة والعجائب المحيرة للأذهان . والتحفة ، بهذا المعنى ، نصّ يقابل بين مجتمع عصري وآخر تقليدي . نفس المقابلة يضمّنها عبد الرحمان الفاسي في نصه الرحلة الإبريزية إلى الديار الإنجليزية حين يصف مشاهداته ويدوّن انطباعاته وارتساماته بخصوص ما شهدته الحضارة الأوروبية من تقدّم ومدنية همت عدة ميادين يكاد وصفها يكون مشتركا بين الرحلتين :  وصف دار السلاح - الطباعة - السلع والأثاث - أخبار السلك والتلغراف - الصحافة أو الأوراق اليومية - تكوين الجيش - حديقة الحيوان - محطة السكة الحديدية - معمل الزجاج

    في تحفة العمراوي والرحلة الإبريزية للفاسي اهتمام ملحوظ بوصف الصنائع والحداثة التكنولوجية : من " بابور البحر " و " بابور البر " إلى أخبار السلك والتلغراف ، استطاع الإنسان الأوروبي أن يفرض تفوّقه وينتهج سبلا أيسر في الحياة وقضاء المصالح . لقد شكل تدبير التقنية في الرحلتين بداية الاعتناء بعقلية المجتمع الصناعي . يقول العمراوي :

    " وقد أقمنا بهذه المدينة { يقصد مرسيلية } يومين للاستراحة وخرجنا منها قاصدين باريز على طريق الحديد المبتدعة عندهم .

    وهي من عجائب الدنيا التي أظهرها الله في هذا الوقت على أيديهم تحير فيها الأذهان ويجزم الناظر إليها بديهة أن ذلك من فعل الجان وأنه ليس من طوق إنسان ( ص 44 ) " .

    وفي سياق مماثل يعلّق الفاسي في الرحلة الإبريزية  :

    والحاصل أنهم - دمرهم الله - يستعملون أشياء تدهش ، سيما من رآها فجأة ، وربما اختل مزاجه من أجل ذلك ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، كيف تحيّلوا على إصلاح دنياهم ، حتى أدركوا منها مناهم ، واستعملوا لذلك قوانين وضوابط ، وفي كل ما يقربهم منها غوابط ، وفيه إشارة إلى أن طيباتهم عجلت لهم ، وذلك نصيبهم وحظهم ، وفيه إشارة أيضا إلى أن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة ، قال عليه الصلاة والسلام : " لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها جرعة ماء " والله يحفظ بيضة الإسلام ، ويحميها من كل مكروه ، بجاه نبيه عليه السلام ( ص 19 ) " .

  

 

    ــــــ

        تركيب

     ــــــ  

    ما هو الهدف من وقوفنا عند هذه الرحلات السفارية ؟

    إنها نصوص اخترتها لأوضح بعض الخصوصيات التي ميزت تاريخ المغرب وثقافته وفكره . صحيح أن ثمة أهدافا معلنة وأخرى ضمنية شكلت مبررا لتدوين الرحلة وتوضيح الغاية منها ، وهذا - في تقديري - ما يرفعها من مستوى التقرير الدبلوماسي إلى مستوى الخطاب الفكري الذي يجعل من صورة الوطن إطارا لإيجاد مشروع اجتماعي وإصلاحي يحقق نهضة ضرورية لتجاوز عوالم التقليد . هذا المؤمّل ، لكن ماذا تحقق من ذلك المشروع ؟  الظاهر مما سلف ، أن كل تفكير في علاقة المغرب بالغرب تدور ، في هذه الرحلات السفارية، حول محاور ثلاثة : الدين والعقيدة - التقدم والتأخر الاجتماعي - التنظيمات والقوانين واختراع التقنية .

    من هذا المنظور ، ليست هذه النصوص تقارير واستطلاعات أو حتى مجرد سرد رحلي ، إنها نصوص أدبية وفكرية تقدم معرفة عن الذات والآخر والعالم المعاصر والمادي والروحي . ولذلك ، فهي تدافع عن هوية ثقافية وتقترح ما تراه مناسبا من أجل التقدم والتطوّر السياسي والاجتماعي . ولذلك ، فإن نهضة الأمة لا يمكن أن تستقيم إلا على قواعد سياسية واقتصادية ، من هنا انتباه هذه الرحلات السفارية إلى إيجاد العلاقة الضرورية بين الفكر والمعرفة ، وبهذا   يمكن إصلاح نظام الحكم والخروج من دائرة الانحطاط إلى دائرة الرقي . تبدو هذه الرحلات السفارية حاملة لخطاب النهضة والإصلاح حين تحاول الإجابة  ضمنيا عن هذا السؤال :  كيف السبيل للوصول إلى قوة الغرب وتقدمه وعلمه واختراعاته ؟

    تهتمّ هذه النصوص ، كذلك ، بتفكير النخبة الثقافية والسياسية المغربية بأسباب نهوض الأمة ، وهو تفكير وإن لم يتخلص بعد من جدلية التجديد والماضي السلفي ، إلا أنه يظهر وعيا بضرورة الاستفادة من عدة قيم وتقنيات لا غنى عنها لمن أراد التقدّم والتحضر . إن استفادة من هذا القبيل  تدافع  - في الرحلات السفارية السالفة -عن أربع أطروحات :

    1 . استمرار تأثير الثقافة الدينية لدى النخبة المغربية مما يفيد تعميم مفهومها للوطن ضمن مفهوم أشمل : دار الإسلام .

    2 . الوعي بضعف الأمة عسكريا واقتصاديا نتيجة ظروف اجتماعية وتاريخية معينة . ولذلك ، انفتحت هذه النصوص السفارية على معادلة وجودية صعبة : تأكيد حاجة المجتمع إلى فكر إصلاحي يستفيد من مختلف عطاءات الغرب ، وحاجته للإبقاء على استقلاليته .

    3 . الوعي بضعف الأمة تقنيا وعلميا وتبرير الاستفادة من مختلف اختراعات الغرب بما يوافق مقتضيات الشرع .

    4 . لعلّ أكبر رهان تحكّم في تخصيص المرجعية الثقافية والفكرية العامة لهذه الرحلات السفارية ، على اختلاف أزمنتها وأمكنتها ، مصدره هذه المفارقة : كيف أحافظ على هويتي وأستفيد في الآن ذاته من تقدّم الغرب ؟ 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إحالات

 * تركيب مُجمل للعرض الذي ساهمت به في الأيام الثقافية المغربية بالجمهورية العربية السورية خلال الفترة الممتدة من 22 إلى 27 شتنبر 2001 .

 

 * استفدتُ في تحرير هذه الفقرات من عدة دراسات وأبحاث قيّمة يحسن العودة إليها لاستكمال مختلف المحاور التاريخية والاجتماعية والسياسية والفكرية المتصلة بالموضوع . وقد سعيت في هذه الورقة تقديم إطار ييسّر فهم علاقة المغرب بالغرب الأوروبي خلال فترات تاريخية متلاحقة سجلتها نصوص معلومة من الرحلات السفارية بتساؤلات ومفارقات ومجالات ثقافية و معرفية لافتة للنظر . من بين تلك الدراسات والأبحاث أشير إلى ما يلي :

 * أبحاث تضمنها العدد 5 من مجلة بصمات التي تصدرها كلية الآداب والعلوم الإنسانية ابن مسيك الدار البيضاء لكلّ من :

  - عبد السلام حيمر : صورة الآخر من خلال تقارير الرحلات السفارية .

 - عثمان أشقرا : في أصول الفكر المغربي الحديث .        

 - عبد الإله بلقزيز : الإصلاح ، التحديث والاجتهاد في التداول المغربي الحديث .   

 * محمد الفلاح العلوي : النخبة المغربية بين الانغلاق والانفتاح في أواخر القرن 19 وبداية

                          القرن 20 ، ضمن مؤلف جماعي : العولـمة وأسئـلة الهويــة ،

                           منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية ابن مسيك 2000 . 

 * محمد سبيلا : النخبة المغربية ومتخيل التقنية ( بين منتصف القرن 19 والربع الأول من

                  القرن 20 ) ضمن : مجلة بصمات العدد 4 ، كلية الآداب ابن مسيك .  

* عبد الله العروي : مفهوم الدولة ، المركز الثقافي العربي 1981 .  

* سعيد بنسعيد العلوي : الاجتهاد والتحديث / دراسة في أصول الفكر السلفي في المغرب ،

                          مطبعة النجاح الجديدة ، الطبعة الثانية 2001 .

* عبد المجيد قدّوري : المغرب وأوروبا ، المركز الثقافي العربي 2000 .

* عبد القادر الشاوي : التخلف والنهضة / حول الفكر الإصلاحي بالمغرب في بداية القرن       

                        العشرين ، منشورات الموجة 1998 .

 

 * LAHJOMRI Abdeljlil : L’image du Maroc dans la littérature française

           ( de Loti à Montherlant )   SNED 1973    

 

 Le MAROC des heures françaises  , Marsam 1999 : LAHJOMRI Abdeljlil

 

*      Le Maroc dans le regard de l’autre , ANTHOLOGIE , Textes choisis  

et présentés par : RACHID SABBAGHI et STEPHANIE OUENI

      EDITION  Banque commerciale du Maroc1994 .                         

 

 

 

       

           

    

 

                         

 

 

 

 
 
 

 

 
 

ضيوف الموقـع

 

عبد الفتاح الحجمري

 

دراســات

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقة تعــريف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع   خزانات الموقـع صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

موقع سعيد بنگراد - تاريخ الإنشاء: نونبر 2003