معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقة تعــريف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع   خزانات الموقـع صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلاما

 

عبد الفتاح الحجمري

      الرواية والتاريخ

 

                    

                 

                                            

                    L’histoire n'est pas une science , c’est un art .

                        On n'y réussit que par l'imagination .                     

Le jardin d’Epicure ( Calmann - Lévy ) , Antoine France .               

  

 

1 . عن علاقة معرفة بمعرفة

    يبدو من الممكن بحث بعض الفرضيات الموجهة والحدود التي تربط الرواية بالتاريخ انطلاقا من الوضع النظري الذي يميز سؤال الكتابة في علاقته بالواقع والتخييل ، أو الحقيقة والزيف . ويتضمن سؤال الكتابة ، كذلك ، إمكانية إدراك بعض مستويات التشخيص الأدبي للواقع ودور المحتمل في إثراء منحاه المعرفي حين يسهم في تشييد اللغة والإيديولوجيا الملازمين لكل تخييل مهما تنوعت شروط إنتاجه اجتماعيا وثقافيا ورمزيا .

    تقيم الكتابة الأدبية ، عبر التخييل والأسلوب والرؤية الجمالية ، علاقة جدلية مع التاريخ ، لا بوصفه عالما قائما بل بوصفه عالما ممكنا هو الماضي والراهن والمستقبل . والحقيقة الأدبية هي في جزء منها حقيقة تاريخية ، والموضوع الأدبي موضوع تاريخي من حيث الماهية والوظيفة ، لأن التاريخ هو المجتمع ذاته كتعيين أنطولوجي قائم بين الأدب والحياة ، على أساسه لا يغدو الأدب متعاليا ولا كليا ، ولا يصبح مفهوم التاريخ مثاليا أو ميتافيزيقيا ، ما دامت تقاليد السرد في التاريخ قادرة على تجاوز التقابلات الكلاسيكية بين الحقيقة والتخييل ، ومنحنا إمكانية معرفة السبل التي يشبه فيها التاريخ التخييل أو يختلف عنه ؛ وفي حالة الاعتراف أن هناك اختلافا بينا بين الأحداث الواقعية والمتخيلة ، عل هذا الاختلاف هو الصفة الوحيدة التي تميز التأريخ عن المتخيل ؟ ( 1 ) .

    لقد اعتبر التاريخ ، منذ نهاية القرن الثامن عشر ، جزءا من الأدب بمعناه الواسع ، وتقاسم مع الأشكال التخييلية تراث البلاغة الكلاسيكية التي استقى منها طرق تنظيم موضوعه وتقديمه ... وبعد أن هجر المؤرخون البلاغة لكي يقدموا الحقيقة دون زخرفة ، زادوا ، بحلول القرن التاسع عشر ، ابتعادهم عن الأدب الصرف بمحاكاة مناهج علمية ، ومع ذلك ، ظل التاريخ مموضعا بصعوبة بين الإنسانيات والعلوم الإجتماعية ( 2 ) .

    معنى هذا ، أن للرواية والتاريخ علائق وطيدة في القرن نفسه الذي شهد ازدهارهما الكبير، والصلة العميقة الرابطة بينهما هي بناء عالم مكتف بذاته ، يصنع أبعاده وحدوده ، ويتصرف بوقته وفضائه وسكانه ، وبمجموع أشيائه وأساطيره ( 3 ) .

    وعلى هذا الأساس ، تكون علاقة الأدب بالتاريخ علاقة معرفة بمعرفة تبني كل واحد منهما ، في المحصلة ، موقفا من الوجود الاجتماعي والثقافي والسياسي ... والموقف هنا ليس سؤالا قبليا ، بل إ،ه محكوم بتصور للموضوع وشكل للتعبير ، مما يعني أنه لا ينحصر في قيمة استطيقية قارة أو محددة بصيغة نهائية . لذلك ، لا تنشغل هذه الدراسة بتقديم تعريفات للأدب الروائي والتاريخ أو تهدف استخلاص قوانين معيارية لخطط وأهداف هذا الحقل المعرفي أو ذاك ، لأنه لا توجد هناك دلالة أحادية موسعة ومتكاملة تظهرها نظريات السرد ومناهج العلوم الاجتماعية والإنسانية ، كما أن تصور خلفيات ومقاصد التعريفات يمكن أن يتحول إلى وصفة جاهزة ( سرعان ما يخبو وميضها ) ولا تسهم في إعادة طرح أسئلة جوهرية لمجالي النقد والفكر . وهذا اعتبار يقودني – في الفقرات الموالية – إلى التذكير ببعض المنطلقات التي تخص فهم علاقة الرواية والتاريخ من الناحية النقدية والأدبية : 

    2 . عن تصور النص وحقيقته

    أضحى من المعلوم اليوم أن المباحث الخاصة بعلم النص تعتني بدراسة الشروط العامة لوجود النصوص مستفيدة في ذلك من الإمكانات التي توفرها نظريات اللغة والدلالة والتداول ، مما يعني أن البحث في علم النص يندرج أيضا ضمن علوم التواصل بمعناها العام ( 4 ) ، وأن صفة " العلمية " تستند في تحليلها للخطاب الأدبي على وصف مختلف البنيات والوظائف التي تتمتع بها هذه النصوص أو تلك التي تسمح لها بإقامة روابط ، شكلية ودلالية ، مع الواقع والمجتمع والثقافة ( 5 ) ، كما أن التفكير في " دراسة علمية للسردية الأدبية " ( 6 ) تتميز بافتراض معطى نظري يفتح تصور النص على ثلاثة مظاهر تأخذ بالاعتبار :

 أ . التصنيفات اللسانية واللغوية في التحليل والقائمة أساسا على موجه التواصل .

 ب . التصنيفات اللسانية التوزيعية والراصدة لبعض المكونات النصية .

 ج . التصنيفات الخاصة بفلسفة للغة والتي تفتح النص على علامات متفق عليها من القصد والنية لدى متكلم يهدف توصيل رسالة وإنتاج أثر .

    يبين هذا الإجراء النظري العام أن توفير معرفة خاصة بالنص الأدبي يظل رهين امتلاك تصور ل " حقيقة " النص ، لا بوصفها معطى تجريديا أو مثاليا ، بل بوصفها حقيقة غير منفصلة عن المجال الثقافي والاجتماعي والتاريخي المتحكم في الإنتاج والتداول ، ثم إن قراءة النص ، هي أيضا ، قراءته ضمن سياقه الخاص ( 7 ) حيث يصبح معطى فكريا لما هو سائد ومألوف ونمطي .

    3 . التاريخ في النص : أفق للممكن والمحتمل

    يبدو لي التذكير بهذه المعطيات مهما بغاية تبيين بعض الحدود النظرية التي تميز وضع النص الروائي في علاقته مع الواقع والمرجع والحقيقة وغيرها من المقاصد التي يمكن أن يدل عليها التاريخ بمعناه الثقافي والفكري العام ، والمحدد لهوية نصية ذات خصائص وسمات تخص ( هنا ) تحديدا : الرواية التاريخية ، أي تخص مستويات من الخطاب توفر لشكل تعبيري يفتح المعرفة التاريخية على أفق الممكن والمحتمل .

    صحيح أن النص يوجد دوما في موقف تاريخي ، أي في موقف إيديولوجي ضمن الاستقلالية الضيقة للنسق التأويلي الذي ينشده ( يفترضه ) ، أي أنه يتحدد عبر العلاقة الجدلية التي يقيمها تاريخيا بين الواقع وقراءته ؛ وبهذا الحافز ، لا يفهم التاريخ – بالنسبة للنص – إلا في إطار العلاقة التي يقيمها هذا الأخير مع " الحقيقة " السياقية ( 8 ) ، سواء أكانت لفيفا من الأحداث والوقائع ، أو أطوارا من حياة ماضية يكتسب التاريخ فيها معنى : ما تحقق في الزمن وتواشج مع تجارب الوجود . ولذلك ، فإن تسمية الزمن قرينة مباشرة لتقريب الصلة بين النص والتاريخ ، إنها ميثاق إحالة لنقل الحقيقة المفترضة إلى دائرة الحقيقة القابلة للتصديق مهما تباعد الحاضر عن الماضي : أن نقول مثلا : " اليوم 20 شتنبر 1874 " يعني إجبار تفكير القارئ على ألا ينظر إلى الحكاية إلا بوصفها " تاريخا " ، أي إلا باعتبارها تخيلا. وبالفعل ، فإن التزمين يفيد تحويل الرواية إلى " تاريخ " مع تقوية أبعاد التخييل والايهام ( 9 ) . وهذا ما انتبه إليه أرسطو بوضوح حين قال بأن المحتمل لا يعني علاقة الخطاب بمرجعه ( علاقة الحقيقة ) ،  بل علاقة  الخطاب  بما  يعتقده القراء  أن يكون حقيقيا ( 10 ) .

    تسمح الرواية التاريخية ، عبر التفكير في الحقيقي والمحتمل ، بإعادة تصور سؤال الواقعية في الكتابة ، وعدم حصره أو اختزاله ضمن معيار الانعكاس أو المحاكاة ، مادام هذا السؤال في هذه الرواية منفتحا على توقعات القارئ حين لا يشيد عوالم الحكاية من انشغاله بمدى مطابقة الحدث مع مرجعه ، بل يشيدها انطلاقا من اعتبار استعادة الماضي ممكنة في الحكاية الروائية والتاريخية . من هنا ، لا ترتهن الرواية التاريخية بوصف ماض منقض ، بل يكون بإمكانها كذلك أن تصف حاضرا مستمرا . وإذا كانت كل رواية تقترح على قارئها خطابا حول العالم ، فإن العمل الروائي – شأنه في ذلك شأن كل ملفوظ – يمكن أن يصلح وثيقة لدراسة المجتمع الحديث ، بيد أنه وثيقة على المؤرخ أن يعالجها باحتياطات جمة ، مهما كانت درجة " الواقعية " ( 11 ) ملائمة لتقاليد الكتابة وقيم المتخيل الاجتماعي .

  4 . هل الرواية التاريخية جنس أدبي ؟ 

    قد يبدو سؤال الواقعية في الرواية التاريخية بدهيا ، بيد أنه إشكالي نظريا وتطبيقيا حين يوفر للباحث إمكانية اقتراح نمذجة مستندة على تعددية الأشكال السردية في علاقتها بتجارب الكتابة وخصوصية الشرط الواقعي المتحكم في النشأة والانتساب : من رواية القصة الغرامية إلى رةاية التقاليد والغرائبية ، والفلسفية والترسلية والتاريخية . إن تحققات الجنس الأدبي موسومة دوما بالدينامية وعدم الثبات ؛ وهذا مصدر أساسي بموجبه تنتمي الرواية إلى الأدب، وتنتسب في الآن ذاته إلى أنواع أدبية تمكن من توفير تصورات تعيد اكتشاف الحقيقة من خلال الرومانيسك : بما هو وظيفة نصية وحكائية لتحقيق اكتشاف حقل التجارب المتخيلة والتي ليست بالضرورة مستنسخة من التجارب الواقعية ؛ بهذا يعبر الرومانيسك عن ثلاثة أوجه : يركز أولها على خلق لعالم ما ، وثانيهما على تأويله ، وثالثهما يخص اللغة ذاتها من حيث هي لعب يكتشف بوصفه عالما قائما بذاته . معنى هذا ، أن الرومانيسك سواء أكان أسطوريا  أو  اجتماعيا أو تاريخيا ، أو من طبيعة أخرى ، يتحقق عبر اللغة ليغدو واقعا جديدا ( 12 ) ، تتوازى فيه التجارب مع ما يناسبها من تعابير أدبية ، والنصوص مع ما يناسبها من أنواع أدبية ، والأنواع مع ما يناسبها من حركات واتجاهات أدبية .

    هل الرواية التاريخية جنس أدبي ؟

    تتطلب الإجابة على هذا السؤال استخلاص حصيلة أولية لما توفره النظرية الأدبية الحديثة والمعاصرة من عناصر إجابة لعلها لم تنجز بشكل كامل وشمولي ؛ وهي حصيلة تتوزع بين تحليل الأعمال الأدبية وما واكبها من دراسات نقدية ، وبين اعتماد مسلكيات التاريخ الأدبي الخاص بتصنيف النصوص وتحقيب الأجناس الأدبية .

    وتمدنا – في هذا المجال – الدراسة الرائدة لجورج لوكاش الرواية التاريخية ( 13 ) ببعض عناصر الإجابة : فقد سعى إلى تبيان كيفية تكون وتطور الرواية التاريخية في علاقة بالتحولات الاجتماعية الكبرى التي عرفتها الأزمنة الحديثة ، غايته من ذلك حصر مختلف معضلات الشكل الأدبي بما هي انعكاسات فنية لتلك التحولات السوسيو- تاريخية ( 14 ) .

    يتجه لوكاش ، وهو يسائل تلك التحولات ، إلى الاقرار بأن الرواية التاريخية قد تكون ولدت مع بداية القرن xix ، بالرغم من أننا يمكن أن نجد روايات ذات موضوعات تاريخية خلال القرنين xvii  و xviii  تعود أصولها إلى التاريخ القديم وأساطير القرون الوسطى ، وهي نصوص سوابق عن الرواية التاريخية . وبهذا ، ينطلق لوكاش من تصور بالغ الأهمية والعمق لأنه يعيد رسم الحدود بين تصور معنى التاريخ بوصفه وقائعا وأحداثا تنتمي إلى الماضي ، وبين الحوافز الواقعية التي تعين الزمن الحاضر . وهذا ما تجليه – مثلا – الروايات  التاريخية للقرن xviii  عبر اختيار الموضوعات واللباس ، بيد أن سيكولوجية الشخصيات والعادات تنتسب لزمن الكاتب ( 15 ) . هكذا ، لا يكون قدر الرواية التاريخية معادلا للزمن الماضي ، بل إن الزمن الحاضر يشكل أيضا قصديتها . ولأن مفهوم التاريخ يصبح مشبعا بنزوع الديمومة ، ومفهوم الأدب الروائي موسوما بالتحول ، يفترض لوكاش أن الرواية التاريخية – ويقصد تحديدا روايات والتر سكوت -  هي استمرار مباشر للرواية الاجتماعية والواقعية للقرن xviii  .

    هكذا ، يحرص جورج لوكاش على اعتبار الرواية التاريخية شكلا أدبيا يستمد قيمته الفنية من تعلقه بسياق اجتماعي وسياسي يفتح لحظات الماضي على الحاضر ، أي أن خطاب وشكل الرواية التاريخية يتحدد من خلال ما تقوله لا من خلال ما تنقله ، ولا يهم تكرار سرد الأحداث التاريخية ، بل إحياء وبعث الكينونات التي كانت شاهدة على تلك الأحداث وسيكون مهما أن نحيا ثانية البواعث الاجتماعية والإنسانية التي قادت الناس إلى التفكير والإحساس والتصرف بهذه الطريقة أو تلك كما هي في الواقع التاريخي ( 16 ) . هذه العلاقة بين الخطاب والشكل تمكن الواقع التاريخي القائم – عبر التجريب والمفارقة – من تحويله إلى تجربة وجودية أخرى ممكنة ؛ ويكون على الرواية التاريخية – في هذه الحالة – أن تبين بوسائل فنية معينة أن ظروفا وشخصيات قد وجدت بالفعل بهذه الطريقة أو تلك ( 17 ) . بهذا المعنى ، لا تتوفر الرواية التاريخية على مركزية فنية ثابتة مصدرها زمن ماض ، لأننا نجد أن الروايات التاريخية الحديثة اليوم تبدو مرتبطة ارتباطا قويا بالمشاكل الكبرى لزمنها أكثر مما هي متعلقة بمشاكل أزمنة أخرى ( 18 ) .

    5 . رواية تاريخية أم تخييل تاريخي

    تعتبر الأفكار السالفة أساسية لتقديم بعض حدود التصور الخاص بخطاب وشكل الرواية التاريخية بصرف النظر عن التصنيفات النصية التي تهتم بها نظرية الأجناس الأدبية ، ما دام كل تساؤل عما هو الجنس الأدبي يظل ، في الجوهر ، متصلا بسؤال آخر أزلي : ما هو الأدب ؟ كما أن استخلاص المعايير الأجناسية تظل ، في المجمل ، تجريدية ووصفية تخص فهم هوية انتساب النص إلى الجنس ، وإرجاع النصوص الفردية إلى تحديد أجناسي يكون أساسا تحديدا لمضمونها المثالي ( 19 ) . من هنا ، حين نلمح لعلاقة النص بالجنس الأدبي في حالة الرواية التاريخية ، فلأنها عموما سرد يهدف – عبر شكل من التخييل – إعادة بناء فترة زمنية من الماضي ؛ وفي هذه الحالة ، تتداخل الشخصيات التاريخية مع الشخصيات الخيالية وتساهمان في تشخيص أحداث معلومة . هكذا يبدو استعمال " التخييل التاريخي "  أكثر شمولية من " الرواية التاريخية " بحيث يمكن أن يشمل كل السرود التي تدور وقائعها في عصر آخر غير ذاك الذي يعيش فيه المؤلف ، كما يشمل الروايات التي تمنح للإطار التاريخي موقعا أوليا ويمكنه أن يكون معاصرا للمؤلف نفسه . يتعلق استعمال " التخييل التاريخي " ، إذن ، بنصوص الخيال العلمي التي تموضع الأحداث في زمن مستقبلي وضمن سياق تاريخي متوهم ، في حين أن ذات السياق في الرواية التاريخية هو بالضرورة حقيقي ومنتسب إلى الماضي . هذا التوزع بين " رواية " التاريخ و " تخييله " عادة ما حصرته الدراسات النقدية الحديثة ضمن بحثها في / عن أدبية الرواية التاريخية ، أو اعتبارها جنسا أدبيا تحتيا sous genre  أو أدبا دونيا litterature mineure  ( 20 )  محتميا بما يمكن نعته بالأدب الموازي la paralitterature  .

    نستخلص مما سبق ، أن أي بحث في تصور الرواية التاريخية يظل متصلا بحصيلة إسهامات معرفية متنوعة من الثقافة والمجتمع والتاريخ ، وبإنجازات استطيقية وتأويلية خاصة بالأدب ، وتفضي إلى إضاءة ماهية الرواية التاريخية من زاوية موجهات الكتابة في علاقتها بوظائف المجالات الثقافية وحقب التاريخ ، أو العلاقات المتبدلة بين زمن الحكاية وزمن الكتابة . من المرجح أن تكون العناصر التعريفية للرواية التاريخية متعلقة ، كذلك ، بالموضوع التاريخي المرتبط بحدث متوهم ، و ب" المصادر " و " الوثائق " التي تسمح بتقديم عالم ما ، ومتعلقة كذلك ب " إيهام العتاقة " و ب " زمنين " ( الحاضر والماضي ) ، وبالدلالة التاريخية للبنيات الحكائية والأسلوبية ( 21 ) .

    6 . عن الرواية التاريخية في الأدب العربي

    أجل ، إنه وقد توفر للرواية العربية اليوم من التراكم النصي ما يسمح بمساءلة نظرية ونقدية تهم تصور الجنس الأدبي وتعدد أدوات التعبير الكاشفة عن تلوينات متنوعة من أشكال الكتابة وبناء المتخيل ، أصبح بوسع المنشغلين بالسرد الروائي العربي – بموازاة تطور مناهج النقد ونضج التفكير المفاهيمي – بحث وتأمل وفحص قضايا أدبية ذات طابع فكري وثقافي عام تجنبا لكل وجهة نظر ثبوتية أو خلاصة واثقة أصبحت من قبيل المسلمة التي حصرت هذه الظاهرة الأدبية أو تلك ضمن أطر خارجية عنها اتخذت أحيانا ميسم الخلفية الإيديولوجية، وكانت أحيانا أخرى قرينة التفسير الآلي والجامد لعلاقة الأدب بالواقع والمحيط .

    من هذا المنظور ، يبدو بحث وضع الرواية التاريخية في الأدب العربي مهما لأكثر من مقصد وغاية ، ويهمني أن أضيف إليها اعتبارات أخرى حسب ما يلي :

  1 . لأنه يعني بحث العلاقة الرمزية والثقافية والجمالية التي تقيمها الرواية مع التاريخ الفعلي بغاية تشييد تاريخ متخيل يكون قادرا على تجسيد مفارقات الواقع وتجارب الذوات ومكنونات الذاكرة والكينونة ؛ وراء كل رواية تاريخية واقع تاريخي يسند تخيليتها و تاريخيتها، فما تراهن عليه نظرية الرواية التاريخية هو تعريف لاستطيقا الماضي ( 22 ) .  

    2 . يعني بحث موضوع الرواية والتاريخ بحث علاقة خطاب بخطاب ، وهما معا موسومان بسياق ثقافي واجتماعي مشبع بقيم إنسانية تنتصر لأفق التجربة والهوية وتوترات الحياة . فالتاريخ ، بهذا المعنى ، ليس " حدثا ماضيا " ، بل إنه " الحدث الحاضر " الذي تكتبه الرواية تخييليا بحثا عن زمن بديل يعيد فهم العلاقة بالماضي والحاضر  على حد سواء ؛ ومادام العالم الذي  يشغله  كل  عمل  سردي  هو دوما عالم زمني ( 23 ) ، فإنه يكشف عن " مرجعية متقاطعة " أساسها حقيقة تاريخية وأخرى تخييلية ( 24 ) .  

    3 . يتعلق الأمر ، إذن ، ببحث مدارات التفاعل النصي القائم بين الحدث التاريخي والحدث الروائي ، ودوره في تشكيل معمارية النص وتضميناتها للأساليب واللغات والمفارقات الساخرة ومختلف أشكال اللعب البلاغي لتوليد الأكوان التخييلية . لا يتعلق الأمر هنا بالبحث عن المطابقة بين الحدث التاريخي والحدث الروائي ، بل بافتراض جسور قائمة بين التأريخ والتاريخ وجعل السرد الروائي قادرا على الانتقال من الحكاية التاريخية إلى الحكاية الممكنة حيث الأزمنة والأمكنة والشخصيات تشخص أحداثا محايثة تخرج النص من دائرة الاستنساخ وتقوي ملمحه الإيهامي .

    من التشكيل النصي إلى حكاية الحدث التاريخي ، يسمح موضوع الرواية والتاريخ بحث مشكلات السرد والتخييل والميتا – تخييل وعلاقتهما بتعدد صيغ التعبير في السيرة الذاتية والرواية الواقعية والرواية السياسية ورواية الفانطاستيك ...

    لحظات أساسية بصمت علاقة الرواية العربية بالتاريخ الاجتماعي والسياسي والثقافي للأمة على الأقل منذ نهاية القرن التاسع عشر وصعدا . تمكنت الرواية من أن تستثمر التاريخ ضمن سجلات نصية وأجناسية متنوعة إما بحثا عن هوية بعد مجابهة الشعوب العربية لاستعمار أجنبي ، أو استعارة لسردية كتب التاريخ والقصص الشعبي بعد هزيمة 1967 وما تلاها من خيبات . وسواء ارتهن التخييل الروائي إلى استيحاء التاريخ القديم أو التاريخ الحاضر ،  فإنه  لا يكون فقط عنصرا  فنيا  متعلقا   بالحدث  والزمن  والمكان ، بل  أيضا  ( وأساسا ) اعتبارا فلسفيا يستبطن أنواعا من الوعي والرؤيات للعالم لولاها لما أمكن للرواية أن تكون خطاب معرفة منصت لنبض المجتمع والعصر ، وممتلك لقدرة النقد والكشف عن مفاهيم جديدة للأدب وجدوى كتابته .

    هذا الاعتبار الفلسفي هو الذي يجعل العالم الروائي مؤسسا على زمن تاريخي يكون القيمة والمعنى بالنسبة لزمن آخر منشود ومحلوم به .

    هذه ثلاثة اعتبارات تسترعي الاهتمام وتيسر تقديم مسار تحليلي مستوعب لموقع الرواية التاريخية في الأدب العربي وتوزعها بين لحظة افتراضية بكر وأخريات متلاحقة بتلاوين أدبية وثقافية متباينة تجربة ومادة تأليف . لقد بين جورج لوكاش في دراسته للرواية التاريخية أثر التحولات الاجتماعية والسياسية للمجتمعات في بروز وعي بشكل للتعبير قادر على امتلاك مفهوم ما للأدب . وانتبه في نهاية دراسته إلى أن الرواية التاريخية ، بفضل طابعها الشعبي ، بإمكانها أن تظهر شكلا متميزا خاصا بالقوانين العامة اعمل ملحمي شامل ( 25 ) . يبدو أن هذا الطابع " الشعبي " و " الملحمي " هو ما مكن المستعرب إكناتي كراتشكوفسكي 1883 – 1951 من افتراض علاقة ثقافية بين الرواية التاريخية والأدب الشعبي لما اعتبر أن أصل المؤلفات العربية ومنبعها هو " أيام العرب " وهي قصص عن أبرز الأحداث في أقدم العصور القومية ، و " سيرة عنترة " ملحمة تتجمع أحداثها حول الشخصية التاريخية للشاعر الجاهلي البطل الذي تحول هنا تحت تأثير الإبداع الشعبي إلى شخصية أسطورية ( 26 ) ، وبالتالي يجب اعتبار " سيرة عنترة " مؤلفا شعبيا محضا لا يجوز البحث فيه عن وقائع تاريخية ( 27 ) ، كما أنه لا يجوز البحث عن الوقائع التاريخية في " سيرة أبي زيد الهلالي " بالرغم من أن موضوعها يدور حول تاريخ فبيلة بني هلال العربية وزحفها نحو شمال إفريقيا في القرن الحادي عشر الميلادي : إن هذه الرواية حافلة بصراعات خيالية مع الفرس وتيمورلان ، وبغزوات قرب أعلي نهر النيل وبحصار طنجة ومراكش ( 28 ) . ويعتبر كراتشكوفسكي ، كذلك ، أن رواية " سيرة سيف بن ذي يزن " تتميز باقترابها من الواقع التاريخي ، فالبطل هنا شخصية تاريخية وهو أحد ملوك القبائل اليمنية ، ويتجلى الواقع التاريخي في أسفار هذا الملك إلى الحبشة ، وهي أسفار متشابكة بحكايات عن مغامرات مختلفة يشارك فيها الجن والسحرة ( 29 ) .

    التاريخ ، في هذه اللحظة التاريخية البكر ، مصدر للحكاية الشعبية التي تؤثت مدارات الاحتمال على عدة مغايرات نصية وثقافية تهم : الأخبار – الأسطورة – البطولة – الصراع الحضاري ، وهي مدارات تساهم في إثراء المادة التاريخية للحكاية الشعبية وجعلها موضوعا من موضوعاتها المحورية . ويؤكد كراتشكوفسكي أن على كل باحث يرغب في فهم ظروف نشوء الرواية التاريخية أن يرجع إلى بداية الأدب العربي الحديث وبالضبط إلى نهاية النصف الأول من القرن التاسع عشر حينما بدأ ينتشر نشاط أهم ممثلي هذا الاتجاه ( 30 ) ، ضمن تيار روائي يجمع " ما بين التعليم والتسلية والترفيه " ، ويكون جورجي زيدان أبرز ممثل لهذا التيار ، فقد كان لا ينظر إلى التاريخ على أنه مجرد أحداث سياسية ، وإنما يهتم إلى جانب ذلك بالناحية الحضارية ، وساعده ذلك على تصوير الأخلاق والعادات في رواياته ( 31 ) .

    7 . نصوص من الرواية وفسح من التاريخ   

  رواية عن لغات التاريخ

     لا يسلّمنا الاعتقاد ، بعد قراءة رواية أحمد التوفيق ( جارات أبي موسى ) ، إلى القول بأنها رواية تاريخية بالمعنى المتعارف عليه والذي يستحضر المادة التاريخية المتحققة في الواقع الفعلي ويستثمرها في صنعة التخييل  . لا شك أن اعتبارا من هذا القبيل يعيد طرح بعض الأسئلة المبدئية المتعلقة بخاصية الكتابة الروائية في علاقتها بفضاءات التجنس المتعددة،  وفي ارتباطها أيضا بالمرجعية الواقعية لتحقق الأحداث واحتماليتها ، وكذا في تماس أفعالها ووقائعها مع قصدية التخييل وإيحاءاته : اليومي - التاريخي - الفانطاستيكي …

    لأجل ذلك ، ينفتح سؤال الكتابة الروائية على خصوصية التفاعل النصي ووظائفه الحكائية على مستوى الأشكال واللغات الأدبية ، مثلما ينفتح أيضا على مستويات " السردي "، أي على مجمل الاختيارات التي تجعل من نص سردي ما نصا سرديـا بدءا مـن " مادة " الحكاية وصولا إلى محتواها .

   ويحقق هذا الملمح السردي أحد الأشكال  الممكنة للتفكير في " صيغ سردية " عادة ما يستدعيها بناء الدلالة الروائية .

    نعلم الآن أن الاهتمام بتحليل الرواية التاريخية كنوع أدبي يقتضي الانطلاق من فهم قوانين وشروط تحقق النوع الأدبي ، وكذا تسمية مراجع المعرفة التاريخية واستخلاص مستويات الخطاب التي تضبط موضوعها .

    ومما لا شك فيه أن دراسة الرواية التاريخية تستند على جملة من المبادئ النظرية والمنهجية التي بالإمكان اختبارها انطلاقا من الخصوصية النصية . إن حصر مظاهر تلك الخصوصية يرتهن بتعيين إجراءات بناء الخطاب ويدعّم الحدود المتحركة لإشكال الجنس الأدبي .

    أن نعتبر رواية ( جارات أبي موسى ) رواية تاريخية أو لا نعتبرها كذلك أمر يحيل على الشرط التحديدي المتعلق بتناول الرواية التاريخية كنوع أدبي.  لأجل ذلك ، يبقى هذا الشرط مقترنا على نحو الإجمال بما يلي من اعتبارات :

 1 . ضرورة الاهتمام بإمكانية تحديد الخصائص المجردة والعامة التي تخصص الرواية التاريخية كنوع أدبي .

 2 . استدعاء البنيات الأدبية للرواية التاريخية وتحويلها إلى قواعد عامة تبيّنها مقولة النوع .

 3 . الاهتمام بتوقعات القارئ ودوره في تقبّل عوالم الحكاية الروائية و عوالم الأحداث التاريخية .

    ثمة بموازاة مع ما سلف من اعتبارات أسئلة بدئية لا بد من استحضارها :

 - لماذا يجب أن تكون الرواية التاريخية وفيّة للتاريخ وبطلها متخيل وحبكتها متخيلة ؟

 - حين يختار الروائي حدثا تاريخيا،هل يريد أن يطبق الرواية الحديثة على العصور القديمة ؟                      

 - كيف توهمنا الرواية أن أحداثا وأشخاصا وظروفا تاريخية وجدت بالفعل بهذه الطريقة أو تلك في الماضي ؟     

ـــــــــــــــ

 تخييل لغوي …تخييل حكائي

ـــــــــــــــ

    استعادة ذاكرة تاريخية متخيّلة ، خلق مسارات إيهامية بواقعية الأحداث عبر وصف لغات مشحونة بملاحقة التفاصيل ، استحياء أزمنة لأوعاء شخصيات ذات أحلام وأحاسيس تقاوم النسيان والتباسات الواقع المختل ، المألوف والغريب . تلك بعض دلالات الحكاية في رواية ( جارات أبي موسى ) لأحمد التوفيق ، وهي دلالات تؤكد تحوّل المصائر في أزمنة وأمكنة معينة لدى ذوات تهرب باستمرار من تشابكات الأحوال المحيطة بها حين تعجّ بالتحوّلات والمنافي . لذلك ، تبدو " عتمات المصير " الخيط الوحيد المسعف على لملمة تلك التفاصيل رغم تنوع منظوراتها وحكاياتها :

    أ لهذه الغاية تتمثل اللغة الروائية صوت المؤرخ وتشخص الذاكرة الحكائية بوقائع محتملة عن أزمنة سالفة ؟

   سؤال مركزي يلفت النظر إلى إحدى خصائص الحكاية في رواية ( جارات أبي موسى ) :

   تخييل لغوي خال من الرتابة أو الاستطرادات الفجة، ومنفتح على سؤال كتابة صافية ومشدودة إلى تداعيات للحكاية تقودك لقراءتها دفعة واحدة . ولأنها كتابة مشهدية بامتياز ، فإن اعتماد أحمد التوفيق على السرد المنسّق والمتتالي أكسب روايته نكهة نوعية .

ــــــــــــ

 ارتياد فضاءات للقيم

ــــــــــــ

    مع ( شامة ) بطلة الرواية وزوجــة ( علي ) الإسباني الحديث العهد بالإسلام ، ترصد الحكاية مصائر حيوات ووقائع تبحث عن إمكانية الانفـلات من انكسـارات العابر مـن العلاقـات . و( شامـة ) شخصية  شبه أسطورية ستقيم مع زوجها بفندق الزيت بعدما أقامت في قصر ابن الحفيد وبدار الجورائي في فاس وبدار أم الحر في قصر السلطان ، وهي التي ولدت ونشأت في خيمة رعاة الأسياد ، ستعرف أسرار ربات القصور وستعيش حكاية الحريم، جبهات الحرب،   ستشهد الموت والترمّل ، وستنجو من مصايد الخناسين . إن الإقامة بفندق الزيت لحظة تحوّل جلية في مصائر عدة سير لا تعرف غير التردد والانعزال والحيرة : بواب الفندق - أبو موسى - شامة وزوجها - الجارات : تودة ، خوليا بنت بيدرو ، بية ، إجا ، ملالة ، كبيرة ، رقوش ، مماس . لكل شخصية من  شخصيات الرواية سيرتها الذاتية ، ولكل مكان توهّج  ينبض بلحظات نادرة من اللقاء أو السكينة أو المكيدة  . وهذا ما يجعل الرواية متلاحقة وكاشفة لأوعاء لم تستطع التحرر من وصاية الأقدار والمعتقدات والكرامات   . فلا تقدر هذه الشخصية أو تلك فهم حاضرها إلا بارتياد فضاءات قيم أصيلة ونبيلة تنسيها أحوال اليأس أو التهميش والاحتقار .

ـــــــــــ

 واقعية هادئة ومشوّقة

ـــــــــــ

    بهذا المعنى تهتم الحكاية في روايــة ( جارات أبي موسى ) بتأمل التجربة الإنسانية واستدعاء موضوعات العشق والإيمان والكرامة من أجل قيم أضحت مفتقدة وسط عالم مليء بالخديعة والفجيعة .

    ثمة ، إذن ، حضور إنساني يمنح شخصيات الرواية شعورا بالمغامرة ، فهي لا تستكين إلى الماضي أو الذكريات الحارقة ، بل تعيش لحظة وجودها برغبة متواصلة ومتجددة باستمرار .

    ويمكن القول ، نتيجة لما سلف ، أن الحكايـة في ( جارات أبي موسى ) تنسج تفاصيلها بواقعية هادئة ومشوّقة يعرف أحمد التوفيق كيف يجعل حبكتها متدرجة في السرد والاستبطان.  ولأنها حكاية عن الإنسان والمصير ، فهي تختار للوحاتها ومشاهدها مواقف متنوّعة لمحاورة الذاكرة والوجدان ، مقتربة أكثر من تشخيص متخيل موصول بأزمنة وأمكنة وأحداث  تستلهم تاريخ الكائن ، لغاته ، وأحلامه الدفينة والمصادرة .      

                 

     

           في " فاتحة " رواية ( العلامة ) لسالم حمّيش ما يفيد أن حكاية الرواية تودّ أن ترصد لنا جانبا من سيرة وحياة عبد الرحمان ابن خلدون المغربي في علاقته بأهل الدولة وعلماء العصر . ويؤكد السارد أن من أواخر  الحلقات المظلمة بين حكام العصر وعالمنا حلقة جلوسه ببرنسه المغربي قاضيا للمالكية بالصّالحية بين القصرين  بتعيين من السلطان الظاهر برقوق سنة 786 .  ويخبرنا السارد ، كذلك ، أن من طبع الرجل الصّبر والتحدّي للعزل واللّائمة . وما حدث له حين غرقت أسرته الصغيرة في البحر مصاب جلل لم يكن في الحسبان . وكدأبه في ذكر مآسيه الخاصة ، لم يشر عبد الرحمان إلى مصابه ذاك إلا على جناح العجلة والاقتضاب .  فاعتزل في بيته القريب من الصّالحية ، المطل سطحه على النيل ، لا يدخل عليه من الناس كلّ يوم إلا خادمه شعبان .  ذات يوم - وبعد أكثر من عامين  - سيأتي إليه حمّو الحيحي  وزوجته ليفكّ خلافا بينهما . والحيحي هاجر إلى مصر بعد أن تزوّج من زوجته في فاس ، وعاش معها في هناء ،  رغم أنهما لم يرزقا مالا كثيرا ولا بنين . والخلاف الحادث بينهما لا ينفع فيه إلا حكم فقيه ومفاده : أن زوجة الحيحي تريده في التنزه معها على ضفاف النيل والساحات جنبا إلى جنب ، أما هو فيعسر عليه طلبها لأن قامته لا تطيقه . كيف يمشي الرجل إلى جانب زوجة تعلوه بذراعين ؟ سيعرض عليهما عبد الرحمان حلاّ : سيصحب خادمه شعبان للاّ أم البنين في خروجها مقابل أن يقبل السّي حمّو كتابة إملائه بتعويض يقدره له عند متمّ كل شهر . سيقبل الزوجان بهذا الحلّ ، وسيكون حمّو الحيحي كاتب ابن خلدون وجليسه في اللّيالي السّبع المشكلة للفصل الأول من هذه الرواية : ليلة متمّ صفر - ليلة متمّ ربيع الأول - ليلة متمّ ربيع الآخر - ليلة متمّ جمادى الأولى - ليلة متمّ جمادى الآخرة - ليلة متمّ رجب - ليلة متمّ شعبان .

    يرسم الفصل الأول من الرواية لقاءات عبد الرحمان بكاتبه والتي كانت تتمّ غالبا في غرفة مكتبه الذي أثثه على الطريقة المغربية . وكانت المواعيد ، في العادة ،  بعد صلاة العشاء بساعة . ولم تكن هذه الجلسات الشهرية مخصوصة للإملاء والتقييد ، بل كان يتخللها كذلك كلام الرجلين  في موضوعات شتّى متفرّقة .

    تستوقفنا في هذه الليالي جملة مواقف كان عبد الرحمان يطلب من كاتبه تسجيلها وتدوينها بعد تأمّل وتفكير  من قبيل كونه لا ينفر من الحكايات الممتنعة، ولا يشهّر باستحالة مدلول لفظها إلا حين يراها مؤثثة أمهات المصادر في التاريخ ، جائلة صائلة من دون راع محقق ولا ناقد مدقق . وكان يطلب من كاتبه كذلك تسجيل أحلامه لأنه ليس من ناكري كنه الحلم والعجيب ، بل من مستطيبيه عند مقامه الأنسب والأرضى .

     لقد رغب ابن خلدون دوما أن يتعمّق في المعرفة، وأن يرصد سنن التبدّل والانقلاب . في إحدى حواراته مع حمّو يكشف  له عن بعض سهواته وكبواته ، منها أنه تعبّد بعصبية النسب وأن ذنبه البليغ  قد اقترفه في بعض كلامه عن صوفية أبرار . ولذلك ، فهو لا يتوانى في انتقاد رسالته ( شفاء السائل ) ووصفها بالعمل الفج والهزيل ، لأنها عمل محكوم باستجابة لدعوة سياسية إلى مناهضة فشو التصوّف الشعبي والزوايا .

    ويعترف عبد الرحمان بمعاطبه وزلاته في السياسة وشواغلها ، فقد كان جيله يتلوّن بألوان الظروف والملابسات .

    ويركز عبد الرحمان حديثه على مفهوم التاريخ الذي ظلّ يلاحقه أثناء مدد خلوته واعتزاله.  منهجه في التاريخ " لا يلهو فيه بالحديث عن الحدث ولا بالحدث عن الحديث " . قيّد حمّو أن عبد الرحمان قطع حول التفكير في معضلة العبرة من التاريخ طورين على الأقلّ : طور أطول من عهد فتوّته حتى كهولته الأولى ، وطور هو الحاصل يشكّ في قدرة أولي الأمر وأرباب الدّول على مكاشفة التاريخ .

    ويدعو عبد الرحمان حمّو لكتابة رأيه في الاستبداد والخلافة ، وعلاقة السلطان بالرعية وبلوى العصبية ، وأسباب نجاح المالكية في المغرب إلخ …

    ويخبرنا السارد في نهاية هذا الفصل عن استعداد عبد الرحمان للحجّ  . ويلفت انتباهنا إلى رؤيا منامية غريبة ، رأى  نفسه فيها وهو يودّع أم البنين - زوجة حمّو الحيحي - وقد صارت زوجته ؛ ثمّ سيرحل إلى مدينة شرقية يقابل حفيد جنكيزخان تيمور الأعرج . بعض مسارات هذه الرؤيا المنامية ستحققها الوقائع الحدثية للفصل الثاني تحــت عنوان دال : ( بين الوقوع في الحب والحصول في ظلّ الحكم ) .

    إذا كان ضمير الغائب هو المنظور السردي الذي يعرض للأحداث وتفاصيلها في الفصل الأول من الرواية ، فإن ضمير المتكلم هو الصوت السردي الذي ينقل لنا الوقائع في هذا الفصل الثاني . عبد الرحمان يتكلّم : يبدأ سرده من رحلة الحجّ التي استغرقت زهاء ستة أشهر ذهابا وإيابا . كان خلالها غارقا في بحر من الشرود والتوهّمات . يبدأ عبد الرحمان " سرده الذاتي " منذ وصوله مصر لاجئا والوقوف  بين يديّ السلطان برقوق في القصر الأبلق بقلعة الجبل الأحمر ( مع وصف دقيق للدركاه والإيوان : ص 102 - 105 ) ، ونعرف أن السلطان هو من سيخبر عبد الرحمان بموت كاتبه الحيحي .  سيلتقي عبد الرحمان بأم البنين بعد عودته من الحجّ .  ومع مرور الأيام والليالي أضحى بحثه من جانب أم البنين " لا تحكّم فيه إلا للقلب واندفاع الأحاسيس . أفتح عيني في الصباح فأجدهما ما زالتا رطبتين برؤية التي بتّ أنشغل بها وإليها أحنّ ، هذا فضلا عن حضورها الطيفي في لحظات التيه الوجداني والشرود الجنسي (ص114) ".

    وبالإمكان اختصار بقية الوقائع المسرودة للحكاية في رواية ( العلاّمة ) ضمن ما يلي من مسارات :

 -  قدرة أمّ البنين على أن تعوّض عبد الرحمان فقدان زوجته الأولى التي استأثر بها البحر صحبة ولداه ، وإن كان عبد الرحمان قريب من الستين وأمّ البنين لم تبلغ الثلاثين ، فهي أهل للعشرة ولكلّ خير .

  - عبد الرحمان يخطب أمّ البنين من أخيها سعد يوم فاتح رجب تسعين وسبعمائة .

  - أمّ البنين حبلى ، والبتول قادمة .     

  - تعيين عبد الرحمان في تدريس الحديث بالمدرسة الصرغتمشية ، يليه تعيين على رأس نظارة خانقاه بيبرس .

  - يعدّ العلاّمة العدّة لتلقي أخبار المغول عامة وملكهم تيمور خاصة .  

  - عودة عبد الرحمان إلى مصر بعد موت برقوق وبعدما حقق حلمه القديم بالصلاة في المسجد الأقصى.

 - عودة عبد الرحمان من رحلته الدمشقية إلى المحمودية بمصر ليخبره خادمه شعبان برحيل أمّ البنين وابنته الباتول إلى فاس .

  - قدوم أمّ البنين إلى مصر بعد أن تجدد اللقاء بينهما بصعوبة وترتيب الأمور من أجل العودة إلى فاس .

  - عبد الرحمان يقنع أمّ البنين بالعودة إلى فاس لوحدها ليتمكن من ترتيب أموره ، لكن الموت لن يمهله .

 

 ــــــــ

   تعليق ومناقشة

 ـــــــــ     

 

    هل رواية ( العلاّمة ) رواية تاريخية ، أم سيرة روائية خيالية  لحياة المؤرخ عبد الرحمان ابن خلدون؟  لماذا نهتمّ ، في العادة ، بتصنيف النصوص؟ حين نصنّف نصا ما ضمن خانة نوع أدبي هل للأمر علاقة بشروط القراءة ومبرراتها ؟ أليست الأنواع الأدبية - في نهاية الأمر - مجرّد وسيلة نظرية لتصنيف الكلام الروائي إلى مجرد أشكال من الخطاب ؟

    أطرح هذه الأسئلة لأعرض لبعض الأفكار العامة التي تمثل في نظري حدّا أساسيا من الحدود المتعلقة بسؤال الكتابة الروائية وطريقة ابتداع الحكاية :

    يستطيع الأدب الروائي أن يجعل من " الماضي " ومن " تفاصيل الحاضر " موضوعا محببا من مواضيع الكتابة الروائية ، مكّن الروائيين من صياغة أشكال متنوّعة من السرود والأكوان التخييلية . بل إن القصد الكامن وراء هذا الاختيار أو ذاك ساهم في تشييد العديد من المواثيق الخاصة بالنوع الأدبي وإجراءاته السردية والخطابية ، وتقديم معرفة قادرة على وصف واقع مضى وآخر قائم بالقوّة أو بالفعل من غير الارتهان إلى يوتوبيا المحاكاة ويقينيات كتابة وثوقية تنشد المحتمل وتستدعيه .

    لكلّ مادة حكائية شكل تعبيري . لكل مادة حكائية صور من السرد و" تفاعل نصّي " يتخذ عدة أشكال ومظاهر لبيان علاقته بالمرجع وأحوال الموضوع وصيغ الأداء وفعل القراءة .

    يؤكد جورج لوكاش في دراسته الرائدة حـــول " الرواية التاريخية " أن أهمّ الروايات التاريخية المعاصرة تظهر ميلا نحو السيرة أو ترجمة الحياة الشخصية . معنى ذلك ، أن الشكل السيري يغدو أحد ممكنات الحكاية في الرواية التاريخية . ورغم ذلك،  فإن الأحداث في روايـة ( العلاّمة ) بما هي رصد بيوغرافي لمراحل من حياة عبد الرحمان ابن خلدون، ليست قصدا ملزما للكاتب بقول الحقيقة ، والقارئ ليس ملزما - أثناء القراءة -  بالبحث عن إمكانات المطابقة أو المقابلة بين عالم النص وعالم الواقع . هذا القصد هو ما يمنح للسيرة بعدها الخيالي ويجعل من صورة عبد الرحمان ابن خلدون في الرواية "كينونة مفترضة " لها أجواؤها الوجودية والاجتماعية والثقافية الخاصة .

    هكذا ، تمنحنا رواية ( العلاّمة ) الاعتقاد بأنها تعيد كتابة صور من حياة عبد الرحمان ابن خلدون وتعيد إثبات تاريخها المنسي أو المهمل . وهذا - في نظري - ما يجعل الحقيقي متعلقا بالوهمي ، والمونولوجي بالحواري ، والواقعي بالخيالي .

    لهذه الكينونة المفترضة في رواية ( العلاّمة ) وظيفتين أساسيتين :

    1 . إن ما يهمّ في الرواية ليس إعادة سرد أحداث واقعية متحققة ، بل إعادة فهم الدوافع الاجتماعية والثقافية والإنسانية المتحكمة في تشخيص واقع تاريخي محدد .

    2 . يمكن للرواية التاريخية أن تصبح وثيقة تاريخية ذات قيمة علمية .  لكن : ما هو هدف الرواية التاريخية ؟ إنه تصوير المصير الفردي الذي يكون بإمكانه أن يعبّر مباشرة وبشكل نموذجي عن مشاكل عصر ما .

    حين اختار سالم حميش سرد سيرة ابن خلدون روائيا ، فإن أفق الحكاية ينقل صورة ابن خلدون من سياق زمنيتها المباشرة إلى سياق بطولة تخييلية تمتلك قدرة  تحويل الحادثة التاريخية إلى حادثة روائية تعيد تركيب خبايا الحياة ومكاشفات الواقع وأسرار التاريخ. 

    يفترض هذا الافتراض العام ، إذن ، إلحاق سمات الكتابة بمسألة التجنيس الأدبي مما يسمح لنا بقراءة السيرة الروائية لابن خلدون بحسب تحفيــــزات " خطاب المؤلف " التي تعود إلى الماضي من أجل قراءة الحاضر ، وتستوحي سيرة الذات في أبعادها الشخصية والوجودية المحتملة .

    ينفتح البناء الروائي في نصّ ( العلاّمة ) على جملة من الوقائع المسرودة ألمحت إلى بعضها في الفقرات الأولى من هذا التحليل ، وقائع تتقاطع منظوراتها الحدثية مع أشكال من الكتابة تعتمد وساطة الحكاية والرحلة والشعر لتشخيص الأفق التخييلي لموضوع السيرة ، وهو أفق لا يجسّد فقط صورة وعي الذات وعكس بعض تجاربها الشخصية والحياتية ، بل تجعل من البناء الفني للرواية اختيارا ممكنا لإعادة نسج الخيوط الرابطة بين التجربة الذاتية لعبد الرحمان ابن خلدون على مستوى وقائع المعيشي والفكري .

    تصوير الحالات النفسية والفكرية التي تتساكن حينا وتتصارع حينا آخر في مخيلة الشخصيات الروائية ، الإيهام بحكاية الماضي البعيد وتحويل الوقائع المسرودة إلى ماض قريب محكوم بمفارقة ساخرة في تخيّل الحدث والحبكة ، تشكّل موضوعا مركزيا من مواضيع رواية  ( العلاّمة ) في بحثها عن صورة ممكنة لشخصية متخيّلة توجّه تدفّق الحكاية وتقاطع خطابها مع خطابات التاريخ أو التحليل الاجتماعي

    يتخذ البناء الروائي لنص ( العلاّمة ) من مكوّن السيرة موضوعا حكائيا يركّب شكل السرد وصيغ تأليف صورة  " الأنا " ، كما تعلن عنها شخصية عبد الرحمان ابن خلدون مؤرخا وساردا وفق مواضعات اجتماعية وسياسية وثقافية تنظم وعيها ووجدانها وسلوكها حسب توصيف معيّن لأفق الحكاية يبرز الإقامة بمصر - اللقاء مع حمّو الحيحي - القصة الغرامية- الرحلة إلى تيمور إلخ .

    هكذا لا ينبني أفق الحكاية في رواية ( العلامة ) على التأريخ بقدر ما يبتدع تخييلا تاريخيا يعيد اكتشاف أحداث الماضي وتقديمها بحسب تنظيم خاص بسرد الماضي يجعل الرواية والتاريخ متطابقان ضمن خطاب واحد . وبهذا يبرز سرد الماضي ميلا واضحا نحو الإيهام بالحدث الحقيقي والمزيف في صياغة الحكاية . ولذلك ، فإن العالم الروائي في روايـــــة ( العلامة) يكون " صادقا " بالقدر نفسه الذي يكون فيه " كاذبا " . يقترن الصدق والكذب - بحسب هذا الفهم - بمنظور الصّوت السردي الذي يؤثث تفاصيل عالمه الحكائي بعدّة أحداث تصل السرد التاريخي بالرواية التاريخية .

    تجلّي رواية ( العلامة ) لسالم حمّيش جملة من الصور الحكائية التي تفسّر تشعّب السرد على مستوى الأصوات الساردة والأزمنة والفضاءات ، يضاف إلى ذلك تداخل أساليب الكتابة واعتمادها على بنيات سردية يتضمّنها تركيب متنوّع يهمّ : { الفاتـحة } - { الإمــــلاء } - { الليالي } - { الحاشيـة } - { التذييل } وهي بنيات تركّب الخطاب السردي للرواية وتنظّم صيغه ، ممّا يعني أن سؤال الكتابة الروائية يجعل من هذه التعددية السردية إمكانية تعبيرية تفتح التخييلي على التاريخي وتحرّر معمار الرواية من وثوقية الأساليب واللغات ووقائع الماضي الذاتية والموضوعية المقترنة " بوعي تاريخي للواقع " لعلّه أساس التحديد الذي بموجبه تعبّر الحكاية عن مصدرها الواقعي والخيالي أيضا .    

 

 

 

 

      

 

 

     

   

   

 

                         

 

 

 

 
 
 

 

 
 

ضيوف الموقـع

 

عبد الفتاح الحجمري

 

دراســات

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقة تعــريف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع   خزانات الموقـع صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

موقع سعيد بنگراد - تاريخ الإنشاء: نونبر 2003