معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقة تعــريف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع   خزانات الموقـع صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلاما

 

عبد الفتاح الحجمري

لماذا لا أعود إلى الوهم الذي علّمني الكبرياء ؟

 

 

1

 

     بهذا السؤال يختتم سارد " الساحة الشرفية " حكايته والتي أتت إليه طوعا أو اختيارا من أعماق الذاكرة والوجدان ، ومما بقي عالقا في القلب والكيان. لكن عبد القادر الشاوي لم يكن يرغب في أن يظلّ سؤال سارده معلّقا بين الاستنكار والحياد ، لأنه يعرف جيدا أنه سارد لا يحب المراوغة ولا يودّ التخفي صنيع سراد آخرين لهم هموم تافهة؛ فقد جعله يبادر بختم الرواية بجواب اعترافي : " ... على الأقلّ لأحتمي بشيء ، ولو قليل ، من الضياع " .

     الاحتماء من الضياع : هذا هو منبع الكتابة ، الروائية تحديدا،عند عبد القادر الشاوي . ولذلك فهي كتابة يتسع صدرها لجمر ورماد السنوات القريبة الماضية،مثلما يتسع قلبها للشعر والعشق فلا تبغي عنهما بديلا.

     تسمح الرواية عند الشاوي للحنين بالتجدد ببهجة ، بحُنوّ ، وبقوّة . الحنين في رواياته لا يفنى. لا هو مكان ولا زمان ، بل طعم مرارة لم يغادر الحلق بعد ؛ تذوّقناه منذ " كان وأخواتها " وفيما تلاها من نصوص: في " دليل العنفوان " ، " باب تازة " ، " دليل المدى " ، " من قال أنا " ... كنت أتحدث عن الاحتماء من الضياع ، فإذا بي أتحدث عن الحنين ، ومن نسجهما يأتيني استحضار الأوهام الضائعة والخيبات ، وهشاشة الروح الموغلة في التنكر والعزلة ، ويأتيني الفقد ، أو الفقد وقد تحوّل إلى نسيان ، مغالبة الحزن،والانفعالات اليومية،واليأس العميق ، ومداراة الشكوك بالوهم ؛ يأتيني عالم من التخييل الذاتي لا يخفي أي سرّ في صدره ولا يتكتّم عليه، فأتيقن من أن عبد القادر الشاوي لا يكتب الرواية لمجرد تزجية للوقت ، أو للكلام . ليس هذا افتراضا مني أو تخمينا أو احتمالا . الرواية عند الشاوي : حقّ وحجة وحرية ومحبوبة . هي هكذا عنده . فمن يراهن ؟  

2

 

     في نصوص عبد القادر الشاوي الروائية رغبة تنطوي على حرقة سواء في الكشف عن شؤون خفية تمسّ فظاعات الوقت ، أو ملاحقة لحظات صفاء عابرة هي مزيج من اليأس والاستسلام .

   

     والحرقة سؤال .

     أقرأ في رواية " باب تازة " ما يلي : " كيف أجمع بين الكتابة والندب ؟ تلك حقيقتي حين أدرك ، في يأس تام،أن جميع الحقائق تلاشت في زمني ( ص 28 ) " .

     من هذا المنظور ، تبدو الكتابة المهرب الوحيد الممكن لإدراك الحقيقة . مهرب عصيّ وعصيب في آن. ولذلك، تحكي شخصيات الشاوي الروائية بلغة بسيطة ومباشرة وصاعقة مما يلوذ في النفس من أحاسيس أو مما تعيشه من ألوان المكابدة في الحياة. تحكي بفرح لا بقنوط أو يأس حتى وإن تحوّل الماضي عندها إلى ملاذ ( ص 36 ) ، أو أضحى المستحيل بالنسبة إليها الحقيقة الممكنة ( ص 36 ) .

     لا يحكي سارد الرواية ( أية رواية ) حكايته من أجل إمتاعنا ومؤانستنا ، أو من أجل مداواة جراح الماضي والطفولة البعيدة . لا يحكي من أجل التحليق في علوّ الخيال وأعالي المتخيل ، إنه  يحكي عن أسرار التياعه ويعرضها أمامنا طرية محبوكة ، فنتيقن من أن كتابته لا تكون إلا مدثرة باللوعة والحرارة والحنان . ومهما حبس السارد حرقته في نفسه ومضى ، فإن صوته وحده يبقى ناطقا بهذه الحكمة النادرة :

     " أنا أريد لهذه الرواية أن تخرج من حلقي لا أن تخنقني . أن تسير في مجرى الوقائع ، كما سارت روايات أخرى من قبل . لا أن تلبسني كفني . فلست ، في النهاية ، سوى سارد ضمه السرد إلى صدره الدافئ حتى لا يشهق ، في منتهى اللوعة ، بين الحرارة والحنان ( باب تازة،ص 29 ) ".

3

     الذين قرؤوا رواية " الساحة الشرفية  1999"  يتذكرون جيدا بطلها سعد الأبرامي وهو يختم الفصل الأول البديع من الرواية بقوله :

     " وفي لحظات كثيرة كنت أسألني : ألا أكون بهذا الهروب قد ظلمت نفسي؟ أأكون في امتحان لا يسعفه طقسي ؟ أما كان لهروبي أن يكون تسوية تنجيني من تعسي ونحسي ؟ ثم أعرف أنني أسائل روحا جفت من الأنواء ، فأخلد إلى السكينة الطيعة التي تهجم علي  ، غالبا ،  في لحظات  ملؤها اليأس ( ص 87 ) " .

     حتى الخلود إلى السكينة لا يكون ممزوجا إلا بطعم اليأس .

     ما باله سعد الأبرامي لا يهرب من سجن الماضي إلا ليدخل سجن المستقبل ، بعدما أنهكه ضياع الحاضر وسرق منه قطعة من الحياة هباء. يعترف سعد بصدق وبكلمات منسابة : " أنا من زمن آخر يبالغ في الجفوة ( ص 89 ) " .

     لكنك ، عزيزي سعد ، لا تبالغ . وإن أصررت على المبالغة ، بادرتك بالقول : كم هي عذبة مبالغتك لأنها فاضحة وشاهدة ، ولأنها تستعيد زمنها وتستعيدك مُكللا بوشاح حروف وكلمات عزّ نظيرها . ألست القائل: " أنا من زمن آخر يبالغ في الجفوة ( ص 89 ) " .

4

 

     ثمّ هناك من خلف الموعد معك ، يا سعد !

     الوطن .

     لا يمكنك أن تنسى ذلك ، وإلا نسيت نفسك .

     وطن لا يحتفظ لأبنائه بما بقي لهم من عمر ورماد الوقت . ولأنك ، يا سعد ، جوّاب متاه ، حمّال شجون ، هباط بلاد لم تلدك ، فتاح قلوب لم تكرم وفادتك ... فإنك لا تعثر على وطنك ( ص 92 ) الذي هو في خاطرك .

     للوطن عمْرٌ بل أعْمار هي  من صدأ، وصمت، وغبن، ومرارة، وقرف، وممّن تشبّثوا بالموت وقوفا .     ثم ها أنت يا سعد تهيّئ لنا سربا من أسئلة أخاذة لا تفارقك ولا يبغي ضميرك عنها بديلا : " أي وطن هذا الذي يسكفه الماضي ؟ كيف يميتني ويأتي إلي بالهدية الأخيرة طامعا في مغفرتي ؟ كيف يذلني وأشقى به؟ كيف يمجني وأشهد به ؟ كيف ينأى بي في الدوخة وأطاوع ذاكرته ؟ ( ص 92 ) " . 

5

     يصنّف عبد القادر الشاوي نصّ " دليل المدى " ب " تخييل ذاتي " ، أي بعبارة أخرى " سيرة ذاتية روائية " . لا أودّ أن أنجرف هنا مع السيل العرم لبعض ما كتب من تصوّرات نظرية حول هذا الموضوع والتي تعود إلى سؤال إشكالي أساس يخص صلة الواقعي بالخيالي . أترك هذا الأمر لمقام آخر. تراودني الآن هذه الخواطر:

     إهداء عمومي يتصدّر " دليل المدى " : ( إلى مرحلة ولّت ) .

     ثمّ يتقدّم الدليل إلينا راصدا أهمّ الانكسارات ومخلوقاتها المجتثة . يتقدّم الدليل برومانسية مثقلة بأحزان الخلية وبعنفها الذي أضحى غربة وتأوهات دفينة، ووحدة مطلقة على مسالك السرية التي يقتضيها عمل خلية نذرت نفسها للثورة الممكنة .

     كان المدى وجودا هشّا، وحلما قاسيا، وخوْفا باطنيا ، وهو اليوم قصيّ مثل الحقيقة ؛ يغالب كروب زمن جعل قلوب الخلية مكلومة ، لكنها قلوب من طينة أخرى ، تقيم الدليل عمّا وقع وفات ... وفي هذا الاتجاه ، فقط ، فهي تعرف كيف تلاعب لهوا من صفاقة الأيام علّه لا يكون ذاهبا بنا – مرة أخرى – نحو النفق ...

 

- من نص الكلمة التي التقديمية التي ساهمت بها في اللقاء التكريمي الذي نظمته دار النشر لوفينيك بالرباط يوم الجمعة 19 أكتوبر 2007 احتفاء بالكاتب عبد القادر الشاوي.

       

 

  

 
 
 

 

 
 

ضيوف الموقـع

 

عبد الفتاح الحجمري

 

دراســات

 

 

 

 

 

 

 

 

 

معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقة تعــريف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع   خزانات الموقـع صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

موقع سعيد بنگراد - تاريخ الإنشاء: نونبر 2003