معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقة تعــريف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع   خزانات الموقـع صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلاما

 

عبد الفتاح الحجمري

كاتب زمانه

 

                    

 

عزيزي رشيد بوجدرة، ليس من عادتي أن أكاتبك، لكنني قرأت لك ما تيسر لي من إبداعك الروائي· أبادر إلى كتابتك اليوم، ومن هذه الزاوية، لأجل التحية وإبداء الرأي حول بعض سديد مواقفك الأدبية وعوالمك الحكائية، ومواصلة حديث بدأته وإياك رفقة صديقنا المشترك عبد الحميد عقار بفضاء الدلفين الشهير بالدار البيضاء المحروسة منذ أيام معدودات· واسمح لي أن أستهل هذا الخطاب بهذه العبارات، هي لك ومنك:

السلام علي؛ فقد حل الليل، وخيم السكون حول هذياني الجنوني الأبدي· وأما رفاقي في الزنزانات الأخرى، فإنهم يعرفون أنني لست محكوما علي بالهذيان أبد الدهر، ولهذا فعلي أن أستمر في الصمود وقتا ما ··· (رواية : التطليق)

لعل الكثيرين من قرائك يعرفون هذه الكلمات، إنها لكاتب ينتمي لزمرة قليلة من المبدعين العرب والمغاربيين الذين جعلوا من الأدب أفقا ثقافيا لتأمل علاقة الفرد بالمجتمع بفكر نقدي يغالب مظاهر الاستبداد، وينشد قيم التحرر والمسؤولية، وإخراج التعبير الأدبي من واقعيته الفجة· ولأنك علم من أعلام الأدب الروائي الجزائري المعاصر، وأحد المجددين في أشكاله ومضامينه، فإننا نتنسم ملامح التجديد والإضافة والخصوصية منذ نصوصك الأولى وعبر أعمالك السردية اللاحقة بانتظام وثراء·

آمل ألا نكون قد أتينا إلى هذه العبارة الاستهلالية متأخرين ··· نأتي لا لنستكين إليها أو نتدثر بعالمها الرمادي، ومدى ما يحمله الكائن من صبر ومقاومة للظروف والمآسي الذاتية والاجتماعية ··· ثم إني وجدت في هذه العبارة حكمة فلسفية عميقة علي أن أستمر في الصمود وقتا ما ··· ، أي علي أن أستمر في الكتابة لوقت ما ··· ومن أجل عالمين خصصت لهما العديد من أعمالك: الطفولة والكرامة · عالمان لا تملكهما الكتابة، لكنها تتوق إلى ذلك ذهابا وإيابا بين الثقافات والمشاهدات تصنع لغتها الخاصة في كل مرة تودّ أن تعيد صياغة الوجود والموجود· لذلك، فإن كل ما رويته وترويه من حكايات هو نتف من ذكريات حيوات عن أزمنة جزائرية بسيطة ووعرة: بسيطة لأنها ترجيع صادق للحظات حزن متصل وفرح منقطع؛ وهي أزمنة وعرة لأنها تعيد تحريك الأقدار وسبر أغوار مسالك العتمة التي اجتازها المجتمع والأفراد غداة الاستقلال بخصوص معنى الهوية والانتماء إلى تاريخ ووطن·

بهذا المعنى، اخترت الكتابة الأدبية وأنت على وعي شديد بجدواها وقدرتها على الانتقاد وتخطي مظاهر الخيبة والتخلف؛ أي أن الكتابة الأدبية لديك ليست شعارا لمرحلة هو فقط صدى لحسرة وتنهد عابرين· ويعلم المتتبعون والمنشغلون بالأدب الجزائري الحديث غنى ذخيرتك الإبداعية الخصبة، ومواقفك الثقافية النيرة بما هي جوهر نفيس لبعض ما عانيته من تجربة وسبيل لطرق باب الأسئلة المفتوحة والمشغولة بفهم الواقع، أو بالأحرى المبادرة إلى ذلك· إنك من المؤمنين، كمثقف ومراقب لما يحدث من حولك، أننا نحن معشر العرب لم ندخل إلى مرحلة الحداثة بعد، ولا نمثل طرفا حقيقيا في الحضارة العالمية للقرن الحادي والعشرين· وقد وجدتك تبرر هذا التخلف بمنظور شمولي يفسّر أننا نحن العرب بعيدون كل البعد عن الموجة القوية للرأسمال العالمي الجديد أو الذي جدد نفسه ويجدد نفسه باستمرار· فاقتصادنا متخلف، وكذلك يظل الفكر العربي والإبداع والفن والعلم الذي ننتجه على مسافة كبيرة مما ينتج خارج دائرتنا، ومما هو مطلوب، ومما تفرضه علينا قوى أو تجمعات سياسية واقتصادية قوية جدا·

هكذا، لا تخفي، عزيزي رشيد بوجدرة، مواقفك ضمن خطابات رمزية ومضمرة، وعن التأخر والتخلف تصرح: وباختصار يمكننا القول إن الدول العربية لم تتقدم ولم تحقق نهضتها إلا بعد قرون من التخلف والعديد من الحروب المدنية وخارجها، والعرب لم يبدأوا نهضتهم إلا منذ منتصف الخمسينيات والطريق ما زال طويلا أمامنا ونحن متعطشون للتقدم والتنوير، ونريد أن نسارع الخطى نحو ما نريد تحقيقه ·

إنك مثقف ملتزم، والالتزام لديك انخراط في قضايا العصر وإنصات لمشاغل الناس· ولذلك أجدك في كل ما أبدعت منسجم مع مشروع حياتك الأول والأخير: الكتابة· وهذا أعظم إخلاص لمن يؤمن مثلك بشرف الأدب، ويتخذ منه فضاء للحوار والتحرر من رتابة الواقع عبر الحلم واللعب وابتكار اللغات والأساليب ·

أعرف أنك مجادل بليغ، لا تجادل من أجل مجادلة مجانية وعابرة، تتكلم حين يستدعي المقام ذلك، وتصمت حين تجد أن الصمت أبلغ من احتراف مهرجانات الكلام·

إن غنى وتنوع الإبداع الأدبي الذي أنجزته يعني انخراطك في الزمن الاجتماعي والثقافي للجزائر، كما أن الأداء الفني والجمالي لكتابتك يجعل نصوصك منفتحة على قيم إنسانية تقاوم الوعي المغلوط وقمع السلطة وكل متاعب الأيام المرعبة· لأجل ذلك، كانت الكتابة لديك مقترنة بالحياة ومعادلة للوجود، قلت ذات يوم عبارة شهيرة : أعتقد أن الكتاب الحقيقيين هم من يمتلكون معجما حقيقيا خاصا بهم، ورؤية للعالم ، واستيهاما مهما وأساسيا يجعلهم يتحركون ويمتلكون هذه الرغبة في الكتابة · صحيح هناك ألف وسيلة لامتلاك تلك الرغبة، لكن هناك مسافة بين من يمتلكها بوعي إبداعي متميز، وبين من يجعل منها مجرد وسيلة لتلفيق الكلام واستنساخ العبارة· وأنت من الكتاب المغاربيين القلائل الذين يمتلكون وعيا إبداعيا عميقا ومرفوقا بسؤال ضاغط وخفي في مجمل كتاباتك : من أنا ومن أكون ؟ كتابتي لن تكون إلا لتتحرر الكينونة، وتتحرر العبارة أيضا·

الكتابة لديك ليست إطلاق الكلام على عواهنه، والإحساس بأن تكون كاتبا في عالم اليوم معناه أن تكون للكتابة قيمة رمزية لمقاومة المتردي من القيم والسلوك، وتكون ممتلكة لشرط إنساني لا منكفئة على ذاتها· قدر الكتّاب أن يواجهوا المواجع أكثر من المسرات، ولذلك فإنهم لا يكتبون إلا من إحساس أو هاجس، وبوعي وموقف يكون مبررا لمواصلة الكتابة ومعانقة الخيال أمام زحف الخيبة والذل وتعاظم أخبار الحمقى والمغفلين من مختلف أرجاء هذا الوطن العربي· عبر الكتابة المتواصلة والمسترسلة يتحمل الكاتب كل شيء بحرية ومحبة وبدون مساومة أو مقايضة، يصغي أحيانا ويجهر أحيانا أخرى· قلت أيضا ذات يوم قولتك : كتبت منذ التطليق العديد من الروايات لأنني لا أود أن أموت؛ بيد أن كل كتاب كان يصدر لي يعلمني أكثر فأكثر بأن هذه المحاولة هي مجرد وهم (أو إيهام) ، لأنني أيضا كنت أموت في كل كتاب أكتبه ·

والكتابة لديك، أيضا، متعة ومعرفة؛ وأحسب أن هذا الرأي يعكس تصورك للكتابة الروائية ويشيّد في الآن ذاته ماهية الأدب كما تؤمن بها بحيث تظل موصولة بحقائق الحياة أكثر من خضوعها للواقع والايديولوجيا·

يتحدد العالم الروائي عندك بثلاثة مدارات حكائية مركزية:

1 . تتكشف في نصوصك ظلال من الذكرى ومواقع الحنين إلى عوالم الطفولة ومصائر البسطاء في حياتهم اليومية والمألوفة وهم يقاومون السلطة والموت والفقر (التطليق) ·

2 .مقاومة الإحباط والإخفاق وتجاوز مناخات التخلف والتقليد في المجتمع (الحلزون العنيد ) ·

3 .تشخيص فني محكم للعلاقة بين الأنا والآخر وتخطي كل محظور ومهمش( ليليات امرأة آرق)·

بهذه الاعتبارات أستطيع القول، إن نصوصك تمتص أيامك، فهي استعارة كبرى لهواجسك واستفهاماتك وأشواقك ومخاوفك· وللتعبير عن كل ذلك بعمق يحتاج الكاتب إلى قدر كبير من الدعابة والتواضع؛ وهو حين يلقي بشخصياته إلى عالم الاغتراب وتمزق الأحاسيس وحتى الشعور بالضياع أحيانا ، فلكي يمكّنهم من الحديث بدون أدنى نزوع بطولي متوهم، بل بواقعية الحديث عن المحرم - مثلا - بلا تردد وبألفة·

إنك من الكتاب والمبدعين والروائيين الذين لا يكتبون رواياتهم من أجل بيعها، بل يكتبون من أجل الحصول على انسجام ووحدة في الحياة ، لأن الكتابة لا تكون إلا ضدا عن الفناء · يترك الكاتب نصف عمره من أجل شرف الكلمة، والنصف الآخر من أجل شيء واحد: أن يستمر في الكتابة بأمل يذكر، وبتوق إلى توحد النفس مع العالم ·

الكاتب لا يملك إلا هذا الأمل وهذا التوق هما جناحاه للتحليق بعيدا في سماء الخيال والحلم والبلاغة ·

 

 ودمت متألقا

 

 

                         

 

 

 

 
 
 

 

 
 

ضيوف الموقـع

 

عبد الفتاح الحجمري

 

دراســات

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقة تعــريف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع   خزانات الموقـع صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

موقع سعيد بنگراد - تاريخ الإنشاء: نونبر 2003