يجد المرء نفسه ،
في كل مرة ، يحاول فيها تعريف و " تبرير " فعل القراءة أمام سؤال
أبدي : ما هو الأدب ؟ ومع تطوّر العصور والمجتمعات والحركات الأدبية
بدأ يبرز في الأفق سؤال آخر لا يقلّ أهمية : ما جدوى الأدب في العالم
المعاصر ؟ . ولذلك ، ظل سؤال القراءة في تفاعل مستمر بين ما هو ذاتي
وما هو كلي وإن اختلفت مجالات وأزمنة التلقي الأدبي ، لأن فعل
القراءة يغدو - في هذه الحالة - نوعا من التفكير في " حقيقة " الأدب
وأشكال ابتكاره للعوالم والمعارف واللغات .
حقيقة الأدب هي أيضا جزء من تدريسه ودراسته ، وهذا أمر مهمّ يتيح
بيان أسئلة أخرى مركزية : ما القراءة ؟ وهل يمكن تدريس الأدب ؟
ولماذا ندرس الأدب ؟ …
تستدعي هذه الأسئلة ، وسواها ، بحث علاقة ( ات ) فعل القراءة
بالتصوّرات النظرية التي تجعل من نصّ أدبي نصا أدبيا حسب معايير
الجنس الأدبي ومواضعات الثقافة والمجتمع وفضاءات التداول وأزمنة
التلقي .
" لأي شيء يصلح
الأدب ؟ "
A quoi sert
la littérature ?
عبارة ندين بها لمترجم كتاب
Great Books
" الكتب العظيمة " لصاحبه دافيد دينبي * . ويعلن سؤال المترجم ، في
الجوهر ، وعيا عميقا وخصبا بممارسة فعل القراءة الأدبية لنصوص
متفرّدة من الحضارة الغربية : أدبية وإبداعية وفلسفية ونقدية وفكرية
وجمالية . لهذه الدراسة قيمتان أساسيتان :
1 . إنها دراسة تهتمّ بالتفكير في السؤال الأدبي من موقع السؤال
الفكري العام لإنتاج المعرفة في الحضارة الغربية .
2 . إنها دراسة تستعين في فهمها للنصوص " بلحظة القراءة " وبالراهن
الذي يضبط خلفياتها ومبرّراتها .
معنى ذلك ، أن النص الأدبي يستمدّ قيمته من طبيعة الفضاء الحضاري
الذي يساعد على إنتاجه . ومن الصعب أن يقابل تصوّر الأدب بمفهوم واحد
يسهل ضبطه بقصد أو بتواطئ ، لأن الأمر متعلّق بوصف تجربة ونقل رؤية
للعالم تغدوان إحدى إمكانات المعرفة الإنسانية . ولأجل ذلك ، تكمن "
حقيقة " النص الأدبي في " الممكن " الذي يعلنه خطابه وفي الأثر الذي
تخلّفه قراءته .
هذا اعتبار أساسي ومركزي أوقع المؤلف والمترجم ( كل واحد بحسب
استدلالاته ) في حبائل إغراءات البحث الأدبي وجدوى تدريسه ودراسته ،
مما يقرّب هذا الكتاب من إطار نظرية أدبية منفتحة على سياقات متنوعة
من التداول والتلقي للمفاهيم والنصوص. من هنا ، فإن إحدى إسهامات هذه
الدراسة ترتبط ببحث موضوع الأدب بتلازم مع المقاصد التي تجعل منه "
مادة " قابلة للتدريس . ينجم عن هذا أن العلاقة بين ماهية الأدب
ووظيفته وجدواه تتمّ من خلال النصوص والكتابات التي يمنحها المجتمع
قيمة فكرية مستقاة من الواقع والمتخيل والإيتيك والإستتيك ، أي
مستقاة من وعي يستوعب مفارقات الحياة عبر لغة متجددة وذوق أدبي رفيع
ومرهف .
حين عاد دافيد دينبي في خريف عام 1991 للمرة الأولى ، وبعد ثلاثين
سنة ، إلى جامعة كولومبيا وجد نفسه برفقة شباب يقرأ بجانبهم نفس
الكتب التي قرأها من قبل . قرؤوا جميعا هوميروس وأفلاطون ، سوفوكليس
وسانت أوغسطن، كانت وهيجل ، ماركس وفيرجينيا وولف ، نفس الكتب ونفس
الدروس التي تلقاها للمرة الأولى عام 1961 .
بدراسته لبعض الأعمال الكلاسيكية للآداب الأوروبية ، وفهم الخلفيات
الثقافية والمعرفية العامة للحضارة المعاصرة من خلال أعمال فلسفية
وأخرى متعلقة بالنظرية الاجتماعية والتاريخية ، يعرض دافيد دينبي في
هذا المؤلف لجدوى دراسة " الكتب العظيمة " التي تميز " الحضارة
الغربية " وتظهر قيمة التعبير الأدبي والفني والثقافي العام من منظور
خصوصية الكتابة ورهانات القراءة .
في ارتباط بما سلف ، لا يعرض دافيد دنبي في هذه الدراسة لانطباعاته
حول تلك الكتب العظيمة ولا يحرر دروسا بشأن ملخصات كتب حظيت بمكانة
خاصة في تاريخ الأدب والفكر الأوروبي ، ولكنه يقترح ( ضمنيا ) البحث
عن مبررات الحاجة إلى الأدب من غير التزام بإنتاج مفاهيم نظرية أو
إجرائية مستخلصة من النصوص الأدبية ذاتها .
ما الذي يجعل من الضروري إيلاء الحاجة إلى الأدب هذا الاهتمام
المنفتح على خطاب ثقافي وفلسفي وفكري ؟
هذا سؤال يثير ، في نظري ، وجهة نظر جديرة بالتأمل لأنه يقرن هذه
الحاجة إلى الأدب بسؤال وظيفة الأدب وخيارات القراءة الأدبية . وبقدر
ما يكون الأدب موضوعا للقراءة ، فإنه يكشف ، في الجوهر ، عن مفهوم
للأدب وللقراءة يخرجه من دائرة المعطى الإشكالي المشدود إلى منطق
علاقتهما بالواقع والتلقي ، ويلقي بهما في دائرة أخرى أكثر اتساعا
تسندها قيم الفكر والمجتمع والتاريخ والإيديولوجيا والتقاليد الأدبية
السائدة في الحضارة الغربية .
إن بحثا كهذا يثبت جملة من الإمكانات التي يمكن اقتراحها على محك
الطرح النقدي أسوقها فيما يلي من فقرات :
1 . عدم اقتران الحاجة إلى الأدب بمجرّد الرغبة في التحصيل ، ما دامت
فكرة القراءة ذاتها هي توسيع لأفق يعني أن إعادة قراءة النصوص
الأدبية يعادل اكتساب نمط من التفكير تغنيه المرجعية الثقافية
والاجتماعية .
2 . تستطيع كتب الأدب أن تدوم وتخترق الأزمنة والأمكنة ، وهذا دليل
آخر يمكن الاستعانة به في فهم قيم المجتمع والثقافة وإدراكها بحسب ما
يوافقها من حقائق الراهن.
3 . تفتح " لذة القراءة " الطريق نحو الفهم . وفي هذا السياق يكون
الانتقال من كتاب إلى آخر ، ومن مقطع موسيقي إلى آخر ، سبيلا لوسم
تلك اللذة بما يدعوه دينبي بروح الإبداع . وهذا توافق يحققه فعل
القراءة كمعادل موضوعي لفهم النص الأدبي انطلاقا من النص ذاته بصرف
النظر عن التعيينات الأنطولوجية التي يمكن إيجادها بين الأدب والحياة
.
لأجل هذه الغاية ، فإن دراسة دافيد دينبي تعرّف - من منظور ذاتي -
كتبا أدبية وفلسفية وثقافية عامة وتتناولها بالتحليل اعتبارا لقيمتها
الفكرية والتاريخية وتأكيدا لمكانة القراءة في المجتمع المعاصر أمام
هيمنة وسائل الإعلام والتواصل . وعلى هذا الأساس، يبيّن دينبي أن
مفهوم الأدب ليس " متعاليا " ولا " كليا " ولا يكتسب قيمته إلا من
اعتبار قراءته حوارا قادرا على تقديم " تفسيرات " ممكنة لأسرار
الحياة .
تفسير الأسرار يعني : أن كتابة الأدب تتمّ ، على نحو مفترض مسبقا ،
بقصدية توافق صلات الأدب بالمجتمع ، كما أن قراءته لا تكون فقط من
أجل المتعة ، بل من أجل أن نتعلّم كذلك كيف نحيى .
لقد أضحى الاهتمام بقراءة الأدب ، في العديد من الدراسات المعاصرة ،
أحد المصادر الأساسية التي تحرز للأدب تقديره الخاص حين يساعد على
بيان جدواه والقصد من تأليفه . كما أن الاهتمام بدراسته وتدريسه
يمكننا من فهم وظائفه الفنية والمعرفية بصرف النظر عن الزمن والمكان
الذي كتب فيه . لقد حاولت النظرية الأدبية على اختلاف مرجعيتها أن
تبين الكيفية ( ات ) التي تثبت - أولا وقبل كل شيء- أن الأدب موضوع
قابل للدراسة ليس باعتباره نصوصا معزولة ، بل بوصفه تصوّرات معرفية
ذات صلة بالواقع والحياة . وهذه إحدى الخلاصات المبدئية التي تجليها
دراسة دينبي ، ورغم طابعها التعميمي فإن فكرتها الأساس تعني أن
الإبداع الأدبي ينبثق من رؤى لا تكتسب وظيفتها الاجتماعية والثقافية
إلا من ضرورة " تفعيلها" في علاقتها بالحياة اليومية بعيدا عن
المواقف المثالية أو الميتافيزيقية . وبذلك ، تكمن قيمة دراسة دافيد
دينبي في كونها تعلّمنا كيف نجعل من قراءة الأدب نشاطا يوميا مثل
الأكل والنوم أو الذهاب إلى المسرح والسينما والكلام مع الأصدقاء .
إن الصعوبات
التي يواجهها المرء وهو يحاول الإجابة عن سؤال من قبيل : لأي شيء
يصلح الأدب ؟ تتعلق في جزء كبير منها بمقاربة جدوى الأدب والحاجة إلى
ضرورته . من هذه الناحية ، يؤكد دافيد دينبي أن قيمة الأدب لا تكمن
في محاولة بيان كيفية انتصار المثال على الواقع ، بل تكمن في العلاقة
التي يقيمها الأدب مع تعدد الواقع في الزمن والمكان بهدف بلورة "
موقف نقدي " على صعيد الثقافة والتنظيم الاجتماعي .
ليست هناك حقائق ثابتة أو مؤكدة يعلن عنها الخطاب الأدبي . معنى ذلك
، أن قراءة الأدب يمكنها أن تنبني ، من المنطلق إلى المحصّلة ، على
رؤية للعالم يعاد تمثلها وصياغتها كلما تنوّعت مصادر الفكر والثقافة
التي تسود خلال هذه الفترة من التاريخ أو تلك . ولذلك ، فإن الحديث
عن حقائق الأدب يفترض فيه أن يكون محكوما بفعل الكتابة والقراءة على
حدّ سواء ، أي أن يكون محكوما من جهة بتصوّر للكتابة ، ومن جهة ثانية
بإنجاز للقراءة يمكّن ذلك التصوّر من إقامة علاقات فكرية مع العديد
من السياقات الثقافية التي تفرزها أبعاد حضارية قائمة أو مفترضة .
هذه خلاصة
إضافية استنتجتها من قراءتي لبعض فصول دراسة دافيد دينبي ، وحين أقرن
من خلالها سؤال الكتابة الأدبية بسؤال قراءتها فلأن تحليلات دينبي
تتخلى عن الاسترشاد بالوصفات الجاهزة في قراءة الأدب ، وتوجّه
الاهتمام نحو قراءة ثقافية لا تتخلى عن روح العصر في إنجاز الفهم أو
التأويل وتنتفي فيها الحدود بين الزمن الماضي والمستقبل ، أي أن جدوى
الأدب والحاجة إليه لا يحدّها حيز اجتماعي وتاريخي جاهز أو معهود ،
بل إنهما دليل حياة ووجود وحقيقة كينونة : فكيف يمكن أن نجعل من
قراءتنا للأدب وسيلة من وسائل تجديد علاقتنا بوجودنا وتاريخنا
وبتقاليدنا الثقافية الموروثة والحاضرة ؟
مجرّد سؤال فقط …
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
·
DAVID
DENBY : A quoi sert la littérature ?
Robert Laffont , Paris , 1999
.
Titre original : GREAT BOOKS , 1996 .