معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقة تعــريف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع   خزانات الموقـع صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلاما

 

جمال حيمر

التاريخية حول

تصورات مغربية للمدنية الأوربية

من خلال الرحلات السفارية

 

 

 

 

اللافت للانتباه في تطور الاسطوغرافيا المغربية الحديثة هو أنه إذا كان موضوع صورة المجتمع المغربي كما صاغتها خطابات الأجانب على اختلاف جنسياتها وتخصصاتها قد حضيت بنصيب وافر من اهتمامات الباحثين المغاربة الذين يلتقون حتما بعناصر جزئية من هذه الصورة في إطار موضوع أشمل، فإنه خلافا لذلك فإن الصورة المعكوسة نادرا ما اجتذبت فضول الدارسين، نقصد صورة المجتمع الأوربي كما أنتجتها نصوص فئة من مثقفي مغرب القرن التاسع عشر، ومن ضمنها نصوص تقارير الرحلات السفارية.

ويمكن أن نعزو سر هذه المفارقة إلى هاجس الرغبة الوطنية، الذي يحرك كل باحث مغربي للتحرر من عقدة الأسطوغرافيا الاستعمارية وتعرية خلفياتها التي غالبا ما عمدت إلى تشويه معالم صورة الكيان المغربي، هذا بالإضافة إلى ضخامة الإنتاج الأجنبي الذي ورتثه الأسطوغرافيا الوطنية، إذ يصادف الباحث أمامه ركاما هائلا من نصوص متعددة ومتفاوتة القيمة من مونوغرافيات ومؤلفات الرحالة وتقارير البعثات العسكرية والدبلوماسية، وهي كلها تشكل مادة غنية تغري وتسعف الباحث المغربي في إنتاج خطاب تاريخي نقدي ومضاد لخطاب الآخر. بينما نرجع عزوف الدارسين عن دراسة موضوع تصورات النخبة المغربية لأوربا إلى عامل فقدان ما يكفي من التآليف([1]) التي تسمح للدارس أن يخضغها لتحليل يتيح استخراج عناصر الأفق النظري الذي كان يتحرك فيه تفكير أصحابها، هذا فضلا عما تتسم به هذه النصوص – في نظر البعض – من ضحالة فكرية ([2]) وخلوها من أي سعي نظري جاد، إذ لسنا حيال كتابات من صنف ومستوى كتابات رواد النهضة أمثال رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وغيرهم، والتي شكلت موضوع قراءات عديدة ومتباينة في منطلقاتها ونتائجها.

وإذا كنا نعتقد بصحة هذه العوائق، فإننا نسلم في نفس الآن بقيمة ما تكتسيه تقارير الرحلات السفارية. وهي قيمة تكمن بالأساس في فاعليتها الإصلاحية، ومن هذا المنظور يرتبط اهتمامنا بها.

ولا شك أننا لو انطلقنا من تصور ضيق الأفق. فقد يتبادر إلى الذهن التساؤل حول مشروعية العودة إلى نصوص تنتمي إلى حقبة ماضية، وعن الفائدة التي يمكن أن نجنيها من وراء مساءلة هذه النصوص وتحليلها.

تلك أسئلة تتجاوز حدود هذا العرض، ولا ندعي القدرة على تقديم أجوبة شافية لها، يكفي التأكيد على أن مبرر هذا العودة يستمد أساسه من الحوار الذي يفرض استمراريته بين الماضي والحاضر، ومن الجدل الذي يبقى قائما باعتبار أننا نحيى حاضرا تاريخيا مأزوما مازال يعاني مما حاولت نخبة القرن الماضي مباشرة التفكير في سبل تجاوزه.

إن طموحنا من وراء استقراء نماذج من تقارير الرحلات السفارية طموح جد متواضع، لا يتعدى حدود معرفة دور هذه التقارير في تعميق الوعي بضرورة مطلب الإصلاح الذي لم يكن نتاج مرحلة اقتضاها التطور الذاتي للمجتمع وقواه الخاصة به، بل اقتضاه ضغط خارجي وتهديد استعماري، فأصبح مطلبا للرفع من المستوى المادي والحضاري للمجتمع المهدد، وليتمكن من المواجهة والتطور معا ([3]).

لقد تمت صياغة هذه التقارير ضمن سياق تاريخي معين لم تعد تخفى تفاصيله على أي مؤرخ، لذا تجنبا لاستعادة معطيات تاريخية معروفة يحسن الاكتفاء بالإشارة إلى العناوين البارزة لهذه الظرفية، ونقصد تعرض المغرب لهزيمتين عسكريتين (إيسلي – تطوان) سجلتا بداية مسلسل من النكسات اللاحقة زعزعت المعطيات السياسية والعسكرية والاقتصادية، ومهدت الطريق للاستعمار الأجنبي.

غير أن الوجه الآخر للهزيمتين كونهما شكلتا صدمة قوية رجت وعي المغاربة أو على الأقل نخبتهم السياسية والعالمة، فجاءت مواقفها عبارة عن ردود فعل على تأثير هذه الصدمة، واكتست في الغالب طبيعة سيكولوجية، حيث تباينت مواقف النخبة بين الرفض والامتناع عن أي تعامل أو حوار مع الآخر الكافر، وبين الاعتدال والانفتاح  والميل إلى الاقتباس منه، ويعنينا التعرف على مواقف مؤلفي تقارير الرحلات السفارية الذين عاينوا مباشرة مظاهر المدينة الغربية، وضمنوا خطاباتهم أفكار أو آراء شكلت في حصيلتها رؤية حضارية مغربية لأوربا.

فلنتعرف في عجالة على الشروط الخاصة التي تبلورت في إطارها هذه الخطابات، فمن المعلوم أن تكاثف العلاقات مع أوربا وما ترتب عنها من مشاكل تحولت إلى أخطار تهدد الكيان المغربي، جعل المسؤولين يبذلون جهودا متعددة ومتواصلة لدرء هذه الأخطار، ولم يكونوا على استعداد للدخول في مغامرة حربية مع إحدى الدول المتنافسة على المغرب قد تكون عواقبها أعمق مما خلفته هزيمتا إيسلي وتطوان. وهو اختيار عكسته أراء بعض العلماء الذين آثروا تجنب كل اصطدام مباشر مع القوى الأوربية ([4]) على نحو ما عبر عنه أحد الحجاج المغاربة بقوله: "... ومن يحاج النصارى ويغالبهم لعلو كلمتهم وقوة شوكتهم في البحار والمراسي وفي كل الثغور..." ([5]).

ومحاولة من سلاطين المغرب لتطويق الأزمة وتفادي المواجهة المباشرة نهجوا سياسة متحايلة اتجاه الدول المتصارعة وقتذاك فيما بينها في حرب باردة بهدف بسط نفوذها على المغرب ([6]). وقد تبلور جانب من هذه السياسة فيما شهده المغرب منذ سنـة               

1845 من حركة دبلوماسية مكثفة تمثلت في توجه عدة سفراء مغاربة إلى جل بلدان أوربا مكلفين بتسوية قضايا خاصة قد تتعلق بتصفية بعض المشاكل الترابية أو لطلب تأييد مواقف المخزن أو للاقتراض، وقد يتعلق الأمر فقط بزيارة مجاملة لتوطيد العلاقات بين البلدين، وإن ظل في الغالب موضوع السفارة مسكوتا عنه لأن السفراء كانوا يرون أن ذلك من أسرار المخزن التي من واجب أمثالهم كتمانها ([7]).

        وليس من شأننا في هذا المقام الخوض في تقويم الحصيلة السياسية لهذا النشاط الدبلوماسي، بل ما يستوقف الباحث هو ما نتج عن هذا النشاط من إنتاجات فكرية صيغت على شكل تقارير قد تكون من تأليف السفراء أو ممن كانوا يرافقونهم من كتاب وأدباء، وإذا كان بعضها في غير متناول الباحثين ([8])، فإن المتوفر منها كاف نسبيا لتقديم تصور عام حول رؤية ومنظور مؤلفي هذه التقارير لمخترعات المدنية الغربية ومواقفهم إزاء مظاهر التقدم الأوربي الحديث، وسنقتصر في قراءتنا على بعض النماذج من تقارير المرحلات السفارية.

- " رحلة إلى فرنسا" من تأليف محمد بن عبد الله الصفار التطواني الذي رافق بصفته كاتبا سفارة الحاج عبد القادر بن محمد أشعاش عامل تطوان إلى فرنسا ابتداء من سنة 1845.

"تحفة الملك العزيز بمملكة باريز" لمؤلفهما إدريس ابن إدريس العمراوي عن سفارة توجهت برئاسته إلى فرنسا سنة 1860.

- "التحفة السنية للحضرة الحسنية بالمملكة الاصبنيولية" من تأليف أبو العباس أحمد الكردودي عن سفارة كان عضوا فيها قصدت إسبانيا سنة 1844 برئاسة عبد الصادق أحمد الريفي.

وقبل أن نعرض نماذج من تصورات مؤلفي هذه الرحلات نسجل الملاحظتين التاليتين:

* بالرغم مما يمكن أن يلاحظه قارئ هذه النصوص من تباين في دقة الأوصاف وحجم المعلومات التي نقلوها إلى الدوائر المخزنية، ومستوى إدراك مظاهر التقدم الأوربي وتفسير أسسه ومقوماته، فإنه يجوز اعتبار هذه النصوص نصا واحدا كتب بعناوين مختلفة بالنظر إلى أن الأفكار المعبر عنها تشترك في كونها تعكس رؤية واحدة للكون لدى أصحابها، رؤية الكون المنشطر إلى دار إسلام ودار حرب.

* حرص مؤلفي هذه الرحلات على تقديم صورة تكاد تكون شاملة ومفصلة عن مختلف جوانب الحياة الأوربية حيث اهتمت أوصافهم بالتعريف بأهم منجزات التقدم التقني وخصائص العمران، كما اعتنت برصد أوجه النشاط السياسي كحديثهم عن المؤسسات السياسية القائمة ووظائفها واختصاصاتها، وعن تشريع القوانين ودور الصحافة أو كما سماها أحدهم "الأوراق اليومية"، كما أولوا اهتماما للتنظيمات الاقتصادية والتكنولوجية ودور الدولة في الحياة الاقتصادية وعلاقتها بالطبقة البورجوازية، دون أن ينسوا نقل بعض المعطيات عن النشاط العلمي ومؤسساته ودوره في تحريك اقتصاد البلاد. كما لم يفتهم تسجيل ارتساماتهم عن الأخلاق والعادات الاجتماعية التي كانت تسود الأوساط الغربية، على أن ما استرعى انتباههم أكثر هو كل ما يرتبط بالمجال العسكري حيث أسهبوا في وصف مؤسسة الجيش، ومكوناتها وتنظيماتها وقوانينها وأساليب تكوين الوحدات العسكرية، وإذا كانت هذه المعلومات المتنوعة قد وردت متناثرة ومتفرقة لا يضبطها ناظم منهجي، فإنه بوسع الدارس أن يلم شتاتها ويركبها في بناء متكامل يطال المسألة العسكرية والسياسية والتكنولوجية والاقتصادية والثقافية.

وإذا كانت بعض مصادر المرحلة تؤكد على نحو ما سجله العربي المشرفي من أن أغلب الذين زاروا أوربا قد عادوا يستعظمون أنظمتها وينوهون بضبط الأحكام ونفوذ الكلمة ([9])، فإن من شأن العودة إلى النصوص وإخضاعها لتأمل نقدي، يكشف عما طبع خطاب كتاب السفاريات من توتر خفي باطن وملازم لهذا الخطاب، توتر يكمن في تقديم صور متعددة لأوربا، صور ملتبسة ومتناقضة، حيث جسدت أدبيات هذه التقارير تعايش نزعتين، محافظة ومتفتحة، تمثل في تأرجح هذا الإنتاج بين الدعوة للانغلاق والانطواء، والميل إلى الانفتاح والاقتباس، وهو تأرجح يجد تفسيره في المنطلقات النظرية التي يصدر عنها، إذ لابد من استحضار ثقل الموروث الديني التقليدي الذي كان يحرك صياغة هذا الخطاب.

ويحسن أن نعرض بعض الأمثلة من هذه التصورات التي تعكس مواقف متقدمة وتفيد إعجاب أصحابها ببعض مزايا الحضارة الأوربية.

وأول ما نلمس مثل هذه المواقف في تفسير بعض كتاب السفاريات لدواعي كتابة تقاريرهم، يقول الصفار في مستهل رحلته "... وكان من الحزم لمن تغرب عن وطنه ونأى أن يعد كل ما سمع ورأى لما قد يوجد في ذلك من العلوم والعبر، وما حصلت جم الفوائد إلا من مخالطات البشر..." ([10])، وهو نفس الموقف الذي نجده عند الكردودي معبرا عن أمله في اللحاق بالركب الأوربي حيث كتب وهو مشرف على ختم تقريره "... هذا وقد ألمحنا في هذا التقييد العجيب ببعض ما شاهدناه من الأعاجيب، واقتصرنا على ما لا بأس بذكره للعلم به، ومعرفة جملته وتفصيله قصد المزيد للاستعداد بأفضل منه، والسعي في تحصيله" ([11]).

ويبدي الصفار في كثير من فقرات تقريره نوعا من الإعجاب ببعض التنظيمات التي شهدها، ومن ذلك على سبيل المثال ما جاء في معرض وصفه لمظاهر السكن العمراني بنوعيه الحضري والبدوي "... اعلم أن هؤلاء القوم ليس عندهم في مساكنهم لا إخصاص ولا خيم ولا نواويل، وإنما يعرفون البناء لا غير، إلا أن بناء البوادي متميز عن بناء الحواضر، فقراهم في الحقيقة من جملة المدن يوجد فيها ما يوجد في الحاضرة من الأسواق وما يباع فيها وغير ذلك، وقد رأينا في طريقنا هذا ما يشهد شهادة حق لأهل هذه البلاد بالاعتناء التام والتبصر العام بأمور دنياهم وإصلاح معاشهم وإتقان تدبيرهم" ([12]).

ولم يكن محمد بن داوود مبالغا في استنتاجه من وصف الصفار لميزانية الدولة الفرنسية ومداخيلها ومصاريفها، إذ كتب معلقا على هذا الوصف "... وقد أسهب (الصفار) في هذا الموضوع إسهابا ولعله كان يود لو كان شيء من ذلك النظام المالي موجودا في بلده أيضا..." ([13]).

ويستنتج  من حديث إدريس العمراني عن نشاط التجار الفرنسيين ومكانتهم في المجتمع كون هذا الأخير يوجه نقدا غير مباشر للتجار المغاربة حسبما يؤكد تنويهه بدور البورجوازية التجارية في النهوض باقتصاد فرنسا، "... واعتناء دولتهم بأمور التجارة كبير وذلك لأن مستفادهم جلها منهم، فكلما صلحت تجارتهم كثر الدخل على خزينتهم، وكل ما بين النصارى من الحديد وأخبار السلك (التلغراف) ومواكب وغير ذلك، فالتجارهم الذين يقومون به والمخزن إنما يشد عضدهم ويعينهم بالكلمة لا غير..." ([14]).

وإذا كانت أوصاف كتاب السفاريات لمنتجات ثوره أوربا الصناعية (البواخر – القطارات – أجهزة التلغراف – ميزان الطقس) قد تميزت بنوع من الدهشة والانبهار الغيبي، فإنهم لا يخفون شعورهم بتأخر مجتمعهم في هذا المجال. إذ لم يتردد بعضهم في الإفصاح عن إعجابه ببعض هذه المخترعات كوصف إدريس العمراوي لآلة الطبع      "وهذه الآلة التي اتخذوها للطبع هي في كل الأمور عامة النفع معينة على تكثير الكتب والعلوم، وقد اتخذوها في جميع بلاد الإسلام، واغتبط بها مشاهير العلماء الإعلام، ويكفيك من شرفها وحسن موقعها رخص الكتب التي تطبع بها، وقد اعتنوا بتصحيحها وبالغوا في تهذيبها وتنقيحها مع جودة الخط وإيضاح الضبط ..." ([15]).

 

 

وإذ يقتنع العمراوي بمزايا جهاز المطبعة، فإنه لا يلبث أن يعرض صراحة على الجهات المسؤولة فكرة إنشاء هذا الجهاز بالمغرب لما ارتأى فيه من منفعة وفائدة "... ونطلب الله بوجود مولانا أمير المومنين أن يكمل محاسن مغربنا بمثل هذه المطبعة، وتجعل في ميزان حسناته هذه المنفعة ..." ([16]).

وعن سير الحياة السياسية فإن ما يستوقف الدارس في رحلة الصفار هو وصفه الدقيق لنظام الصحافة ودورها، ووظائف المؤسسة البرلمانية بلهجة إيجابية توحي بالتبني. حيث كتب معلقا على سير عمل نواب الأمة "... ومن وظيفتها (أي القمرة مجلس البرلمان) تجديد قانون مفقود أو إبقاء قانـون موجود على حاله، والفرق بينهما (أي القمرة الصغيرة والكبيرة) أن القمرة الكبيرة تحامي عن الملك ورؤساء الدولة وتعضد أمرها والصغيرة تحامي عن الرعية وتنصرها وتطلب حقوقها،... وأما أحكام النوازل والجزئيات فهي عندهم مدونة في الكتب ولا يستقل السلطان وحده بحكم من الأحكام ..." ([17]).

ولم يفت العمراوي هو الآخر أن يضمن تقريره ارتسامات تفيد مدى إعجابه ببعض مزايا النظام السياسي الفرنسي، يقول: "... ومن عوائدهم السياسية التي جرى عليها عملهم أن يجتمع في كل سنة بباريز ستمائة رجل من كل مدينة من مدنهم، وعدد معين من التجار والفلاحين وأرباب العقار، فيعقدون مجالس ثلاثة في ثلاثة أيام في دار معلومة لذلك... يحضر فيها معهم الوزراء وسائر رؤساء الدولة يتذاكرون فيما يصلح بلادهم، ويذكرون ما وقع في سائر السنة الماضية، فيحسنون الحسن ويقبحون القبيح، وسيالون عن موجب كذا وما ألجأ إلى كذا، ويبشرون بما يصلح في المستقبل... ويحاسبون الدولة على ما دخل عليها، وما خرج من يدها، فإن وجد عليها دين أحدثوا ما يخرج منه، وإن وجدوا زائدا عينوا له مصالح يصرف فيها…" ([18]).

ويخبرنا أحمد الكردودي أن وصول السفارة التي كان عضوا فيها إلى إسبانيا قد صادف وفاة ملك إسبانيا، وأنه توقع حدوث اضطراب وفتنة عقب هذا الحدث: "وخشينا من اضطرابهم ووقوع الفتنة بينهم، فوقانا الله مما توخيناه  ولم يصدر شيء مما ظنناه"([19]) ولا نجازف إن اعتبرنا تخوف الكردودي أنه صادر عن مقارنة ضمنية بما كان يحدث في الغالب من اضطراب في المغرب مباشرة بعد وفاة السلطان ولقد فسر هدوء واستقرار الوضع بمزايا وحسنات النظام السياسي المتبع في إسبانيا ومنها "… أن يكون النظر في الأمور للوزراء وليس على متولي الحكم إلا الإمضاء…" ([20]).

وبالنظر إلى أن آثار الهزيمة كانت ما زالت عالقة بذهن كتاب السفاريات، فقد أولوا اهتماما بالغا بالأمور العسكرية، فزاروا معامل صنع الأسلحة، ووصفوا بإسهاب صناعة الكرطوشات والمدافع، وعاينوا التمرينات العسكرية وأشاروا إلى أن الفن العسكري علم يكتسب بالكتابة ([21])، كل هذه الاهتمامات شكلت قاسما مشتركا عند أغلب هؤلاء الرحالة مما يعكس رغبتهم في تحصيل أسباب التفوق العسكري الأوربي، يتأكد استنتاجنا هذا من خلال الوقوف على تنويه العمراوي بتنظيمات وقوانين الجيش الفرنسي كقوله: "… أما قاعدتهم في ضبطه فقرروا أحكاما ككل جريمة تجري على فاعلها حتما، وقطعوا الطمع على أن يتولى أحد مرتبة فيه برشوه أو شفاعة … ولم يطلقوا للمتولين اليد في العسكر بالتعدي والضرب والحيف …" ([22]). وواضح أن العمراوي يصف حالة الجيش الفرنسي بعين تستحضر في ذات الوقت وبشكل ضمني مساوئ تنظيم الجيش المغربي والفوضى السائدة في صفوفه، وما يترتب عنها، مما ينم عن رغبة دفينة في اقتباس هذه التنظيمات وإدخالها إلى المغرب، نفس الانطباع يمكن أن نلحظه لدى الكردودي في تعليقه على زيارته لمصنع المدافع بإشبيلية "... وهذه الدولة وإن اقتفت أثر غيرها في ذلك فإنها لم تبلـغ بعض البعض مما استنبطوه، ولا علمت من صناعتهم مثل ما صنعوه، ولكنها لم تهمل ذلك إهمالا كليا ولا جعلته وراءها ظهريا، بل جدت في إدراكه فأدركت ما تيسر من ذلك وهم جادون فيما سلكه غيرهم من تلك المسالك..." ([23]). فالكردودي كان على وعي تام يتأخر إسبانيا بالقياس إلى باقي الدول الأوربية، لكنه لم يفته التأكيد على محاولة الإسبان وسعيهم الجاد في سبيل اللحاق بهذه الدول، وكأن الكردودي بتأكيده هذا يتمنى لو أن المغرب حذا حذو الدولة الإسبانية.

وإذا كانت هذه الأمثلة التي عرضناها تعكس إيجابية مواقف أصحابها وانفتاحهم على بعض مظاهر الحضارة الأوربية ورغبتهم في اقتباس بعض منجزاتها، فإن هذه المواقف سرعان ما تنقلب إلى أضدادها، ويتحول الإعجاب إلى نوع من المناجاة الداخلية ([24]) وتعزية الذات بأحكام نكوصية تعويضية.

إن إعجابهم لا يثير أية موافقة خلقية، ومن هنا لا مبالاتهم اتجاه تأقلم ممكن مع هذه الحضارة واكتفائهم بالوصف الظاهري المشوب بالدهشة والحذر، دون أن يرتقي إلى مستوى التقصي وتفسير عوامل ظهور وتطور هذه المخترعات ([25])، ويبقى التفسير الممكن أسير النظرة اللاهوتية ([26])، يأتي في شكل نص فرعي انبثق من نص أصلي هو النص الإلاهي، حيث اعتبروا مشاهد التقدم التي عاينوها من قبيل إمهال الله للكفار وبرهانا منه على قدرته على إجراء الأمور عكس ما ينبغي أن تكون ([27]). هكذا لا يرى ابن إدريس العمراوي في إتقان المخترعات الأوربية وفعاليتها التي وقف أمامها مذهولا إلا علامة على انحدارهم الذي هو وشيك الوقوع، كتعقيبه على وصفه لاختراع التلغراف "... وفيه أدل دليل على أن أمورهم بلغت الغاية وتجاوزت النهاية، وأنه في الحال يعقبها الانحلال، وتأخذ في الانعكاس والاضمحلال، فمعلوم أنه ما بلغ شيء من الغاية إلا ورجع، ولا نال منتهى الصعود إلا اتضح ..." ([28]) إنه التبرير الجاهز منذ زمن بعيد على حد تعبير العروي ([29])، ومجرد نسخ على منوال بأسلوب جديد وإعادة إنتاج لخطاب مقدس، نفس الاستلهام يمكن إدراكه عند أبو الجمال محمد الطاهر الفاسي، إذ بعد تعرضه الدقيق لمختلف الإنجازات الحديثة التي شهدها، يستخلص في نوع من التبرؤ من كل ما سبق أن وصفه، أن الفكر الظلماني هو الذي يسمح للأوربيين للوصول إلى هذه المخترعات لإغراقهم في مزيد من الكفر والزندقة ([30])، "... العقل على قسمين ظلماني ونوراني، فالظلماني به يدركون هذه الأشياء الظلمانية، ويزيدهم ذلك توغلا في كفرهم، والنوراني به يدرك المؤمن المسائل المعنوية" ([31]) واضح أن الحكم السلفي القيمي قد طبع خطاب كتاب السفاريات، إذ رغم اعترافهم الضمني تارة والصريح تارة أخرى بتفوق المدنية الغربية خاصة في صيغتها العسكرية، فإن ذلك لم يزعزع إيمانهم الراسخ بقوة التنظيمات المحلية، من ذلك قول الكردودي "... وأين ذلك من ترتيبنا الذي لا يزدريه إلا خائن في دينه مريب، فإنك ترى خيولنا العربية متى أخرجت من أماكينها وبرزت عن مكامنها واصطفت صفوفا وصارت ببسيط الأرض وقوفا عليها فرسان لا يدرك شأوهم في الفروسية، أولئك حزب الله هم المفلحون" ([32]).

        إن خطاب كتاب السفاريات يجمع بين الحث والنهي، بين التحفيز والتراجع بين التأكيد والنفي، ينطوي على توتر حاد يعكس مأزقه، وقد يكون من باب التقصير الاكتفاء بعامل أثر المنظور الفقهي التقليدي في تفسير تأرجح هذا الخطاب بين الانطواء والانفتاح، بل لا ينبغي أن يغرب عن بالنا أن جل هؤلاء الكتاب كانوا مرتبطين بالدوائر المخزنية، مما قلص من إمكانات التعبير الحر عن آرائهم خاصة في المجال السياسي، كما لا ننسى أن هذا الغرب لم يكن يقدم نفسه في صورة واحدة كما يذهب الجابري، لقد كان ولا يزال بحمل بالنسبة لمشروع النهضة مظهرين متناقضين، مظهر يجسد الغزو والعدوان والسيطرة. ومظهر يمثل العلم والحرية والتقدم، من هنا ذلك الموقف المزدوج الذي اتخذه كتاب السفاريات من أوربا، الموقف الذي اتسم بالتناقض الوجداني. الإعجاب والكراهية في نفس الوقت. الإعجاب بثمرات المدنية الأوربية وتنظيماتها والدعوة إلى اقتفاء أثرها والأخذ بأسباب تفوقها. والكراهية لنفس أوربا التوسعية الذي يجب الحذر منها والوقوف ضد مطامعها([33]).


 


[1] - الجابري محمد عابد، تطور الانتلجنسيا المغربية، الأصالة والتحديث، ضمن أعمال ندوة الانتلجنسيا في المغرب العربي، المجموعة بإشراف عبد القادر جغلول، دار الحداثة، الطبعة الأولى، بيروت 1984، ص. 7.

[2] - Laroui (A), Les origines sociales et culturelles du nationalisme Marocain        (1830 - 1912) Maspero, Paris, 1977, p. 219.                                                         

[3] - أومليل علي، الإصلاح والديمقراطية تجربتا المغرب والمشرق، الاتحاد الاشتراكي، الملحق الثقافي، العدد 160.

[4] - لا ننفي وجود بعض العلماء الذين عارضوا سياسة الصلح والمهادنة مع الدول الأوربية ودعوا في كتاباتهم إلى مواصلة الجهاد.

     انظر ما جاء في مخطوط محمد الدرقاوي المدغري، منشور يدعو إلى الحرب.خ.ع.ر. رقم  د 3353.

[5] - الغيغائي محمد بن عبد الله، رحلة الغيغائي، خ.ع.ر. رقم ج 98.

[6] - مبارك زكي، من أدب الرحلات تحفة الملك العزيز بمملكة باريز للكاتب الأديب الحاج إدريس العمراوي، مجلة البحث العلمي، العدد 31، السنة أكتوبر 1980، ص. 69.

[7] - داوود محمد، تاريخ تطوان، المجلد الثالث، المطبعة المهدية، تطوان 1962، ص. 298.

[8] - لا يستبعد العروي إمكانية توفر تقارير رحلات سفارية لم يكشف النقاب عنها بعد. ومن الرحلات التي لم تستغل بعد نذكر.

     رحلة لأبي عبد الله محمد بن الحاج محمد بن السعيد السلاوي (ت 1310هـ/ 1892م) إلى بلاد فرنسا حوالي سنة 1868م/ 1283 بأمر من السلطان محمد الرابع تقع في سفر صغير توجد عند حفدته بسلا.

     - انظر ابن سودة، دليل مؤرخ المغرب الأقصى، الجزء 2، طبعة دار الكتاب الدار البيضاء، 1960، ص.ص. 352 – 353.

     - انظر العروي، مرجع سابق، ص. 215.

[9] - المشرفي العربي بن علي، الحسام المشرفي، خ.ع. ر. ضمن مجموع رقم ك 2276،      ص. 321.

[10] - الصفار محمد بن عبد الله التطواني، رحلة إلى فرنسا، مخطوط خ.ح. ر. رقم 113،       ص. ص. 24 – 25.

[11] - الكردودي أبو العباس أحمد بن محمد، التحفة السنية للحضرة الحسنية بالمملكة الاصبنيولية، مطبوعات القصر الملكي، الرباط 1963، ص. 92.

[12] - الصفار محمد بن عبد الله التطواني، رحلة إلى فرنسا، ص. 29.

[13] - داوود محمد، تاريخ تطوان، ج 3، ص. 308.

[14] - العمراوي إدريس بن إدريس، تحفة الملك العزيز بمملكة باريز، الطبعة الحجرية الموجودة بالخزانة العامة بالرباط تحت رقم 23440 دون تاريخ، ص. 95.

[15] - العمراوي إدريس، تحفة الملك العزيز ...، ص. 54.

[16] - العمراوي إدريس، تحفة الملك العزيز...، ص. 55.

[17] - الصفار، رحلة إلى فرنسا، ص. ص. 133 . 134.

[18] - العمراوي إدريس، تحفة الملك العزيز...، ص. 92.

[19] - الكردودي أبو العباس، التحفة السنية للحضرة الحسنية بالمملكة الاصبنيولية، ص. 43.

[20] - نفسه، ص. 44.

[21] - عبد الله العروي، الأصول... ، ص. 217.

[22] - العمراوي إدريس، تحفة الملك العزيز، ص. ص. 105.

[23] - الكردودي أبو العباس، التحفة السنية...، ص. 90.

[24] - عبد المجيد القدوري، صور أوربا في نوع من الكتابة المغربية، الرحلة مجلة المشروع، العدد 10، السنة 1988، ص. 130.

[25] - العروي، الأصول، ص. 219.

[26] - نفسه نفس الصفحة.

[27] - الجابري، تطور الانتلجنسيا المغربية الأصالة والتحديث، ص. ص. 15 – 16.

[28] - العمراوي إدريس، تحفة الملك العزيز، ص. ص. 61 – 62.

[29] - عبد الله العروي، الإيديولوجية العربية المعاصرة، دار الحقيقة، بيروت 1970، ص. 45.

[30] - عبد الله العروي، الأصول، ص. ص. 216 – 217.

[31] - أبو الجمال محمد الطاهر بن عبد الرحمان الفاسي، الرحلة الإبريزية للديار الإنجليزية، تحقيق محمد الفاسي، منشورات المعهد الجامعي للبحث العلمي الرباط، ص. 68.

[32] - الكردودي أبو العباس، التحفة النسبية...، ص. 92.

[33] - الجابري محمد عابد، العرب والغرب على عتبة العصر التكنولوجي، مجلة الفكر العربي المعاصر، العدد 3، السنة 1984، ص. ص . 44 – 45.

 مغرب القرن19

 


 

 

 

 

 

 

 

 
 
 

 

 
 

ضيوف الموقـع

 

جمال حيمر

 

 

 

 

 

 

 

  ا

معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقة تعــريف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع   خزانات الموقـع صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

موقع سعيد بنگراد - تاريخ الإنشاء: نونبر 2003