معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقة تعــريف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع   خزانات الموقـع صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلاما

 

جمال حيمر

العمران الإسماعيلي: مقدمات وملاحظات عامة

 

 

 

 

 

        لعل أحدا لا ينكر الفائدة المرجوة من دراسة العمران في مدينة إسلامية كمدينة مكناس، غير أن الباحث الذي يخوض غمار هذا النوع من الدراسة يصطدم بعدة معضلات ليس من الهين حلها، بعضها مرتبط بالمادة المصدرية المعتمدة، ذلك أنه في ظل محدودية التقنيات الأركيولوجية وندرة إن لم نقل غياب، الدراسات الفنية التي تعني بالأساليب الهندسية والمعمارية يضطر الباحث إلى اعتماد مصادر غير مباشرة واستثمار إفاداتها على شح منها وتقتير في التفسير والبيان، ويتصل الصنف الثاني من هذه المعضلات بحقل المشهد المعماري ذاته من حيث التأسيس والتطور. وعلى العموم فالراجح أن يصادف الباحث ثلاث حالات تحيلنا إلى إشكالية التكامل أو التناقض بين المصدر الأثري والمصدر المكتوب، ففي أمثل الحالات وأحسنها تكون المنشأة المراد دراستها مازالت ماثلة بشكل مقارب لوضعها الأصلي، وأن المضان التاريخية المتصلة بها والمكملة لدراستها متيسرة كما هو الشأن لمعلمة باب منصور العلج بمدينة مكناسة، وفي ثاني الحالات تكون المنشأة ما تزال قائمة على حالها الأصلي أو أقرب ما يكون إليه غير أن المصادر التاريخية المرتبطة بها معقدة بشكل يكاد يكون مطلقا، وثالث الحالات وهي الأكثر استعصاء تتجلى في توفر مصادر تاريخية متنوعة وموثوقة تؤرخ وتصف بدقة معلمة ما لكن الباحث لا يعاين أثرا قائما ومجسدا لهذه المعلمة في الوقت الحاضر ([1]).

        وغنى عن البيان ما لدراسة أنماط العمارة من أهمية فائقة باعتبارها تمثل مظهرا من مظاهر الإبداع لدى الإنسان. وعنصرا هاما من عناصر الهوية الثقافية، كما أنها يمكن أن تشكل مرجعية علمية وأساسا تقوم عليه أعمال ترميم وصون المآثر التاريخية شريطة أن لا ينظر إلى هذه الأخيرة كمجرد نسق معماري أو تراث يتصل بالماضي بل كشاهد ملموس على ذلك الماضي، فعلى سبيل المثال إذا تناولنا الأسوار الإسماعيلية باعتبارها عنصرا بارزا من عناصر العمارة العسكرية في عهد السلطان المولى إسماعيل، يحق لنا أن نعدها أبلغ بيان وأوثق دليل على ما انتهت إليه المدينة من أسباب الحضارة، وأنها هي ذراع السلطان ورمز سيادته وهيبته، وأنها في نفس الآن تشكل حدودا أقيمت لإحكام العلاقة بين المجال الحضري والمجال البدوي حتى تكون علاقة انضباط مؤسس على قيام مصالح متبادلة، وهذه الأسوار وإن شيدت أصلا لغرض الحماية ودرء الأخطار. فإن تلك الوظيفة لا تغرب عن بالنا البعد الجمالي الذي يعكس المستوى الحضاري لمشيدي هذه الأسوار ([2]).

ولامراء في أن شغف السلطان المولى إسماعيل بالبناء كان أمرا محققا، شغف الخلق والتشييد الذي يتطلع إلى العظمة والاكتمال، والذي ارتبط برمزية السلطة القائمة على التملك، وهو أمر موضع إجماع المصادر العربية والأجنبية التي تخبرنا أن المولى إسماعيل لم ينقطع عن تشييد حاضرة مكناس منذ توليه العرش إلى حين وفاته، ويقول صاحب البستان في هذا الصدد "... وأقام السلطان بمكناسة يقف على بنائه وكلما أكمل قصرا أسس غيره" ([3]). وكان من ثمرات هذا الورش المفتوح أن شهدت مكناس نهضة معمارية مكثفة ومتنوعة همت مختلف المؤسسات الدينية والثقافية والاقتصادية والعسكرية، وإذا كان من المتعذر وضع تحقيب كرونولوجي مضبوط لحلقات البرنامج المعماري الإسماعيلي، فإنه من المؤكد أن الطور الأول من هذا البرنامج تمثل في إنشاء قصبة مخزنية تكون له مستقرا وحصنا حسبما يستفاد من قول الزياني في البستان "... ورجع السلطان لمكناسة واشتغل ببناء قصوره بها بعد أن هدم ما يلي القصبة من الدور وأمر أربابها بحمل أنقاضها وبنى لهم سورا على الجانب الغربي وأمرهم ببناء دورهم به وهدم الجانب الشرقي كله من المدينة زاده في القصبة القديمة ولم يبق أمامه إلا الفضاء فجعله كله قصبة وبني سور مكناسة وأفردها عن القصبة..." ([4]) إن قراءة هذا النص تفضي إلى القول إن أية محاولة للإحاطة الدقيقة بملابسات نشأة هذه المدينة ستجعلنا لا محالة في مواجهة بعض الأطروحات الاستشراقية التي أكدت على عفوية المدينة الإسلامية، أي أنها لم تكن مبنية وفق تصميم منتظم ومسبق، وأن نموها الأول والمتسم بالسرعة قد تم دون شعور واقعي بالعناصر الشكلية للتخطيط ([5]).

وواضح أن هذه القضية لا تخلو من أهمية لأن الأمر يتعلق بالتحقق من وجود إرادة تمصيرية ظهرت منذ البداية وصدرت عن السلطة، ومعرفة ما إذا كان السلطان المولى إسماعيل يشعر بكنه مدينة جديدة، وهل طرح على النظر مشكل الاستقرار في بداية الأمر؟

إن الإجابة رهينة بتقدم الأبحاث الأركيولوجية، لأنه مع الأسف على الرغم من وفرة النصوص التاريخية فإننا لا نعثر على ما يسعفنا على مراجعة هذه الأطروحة مراجعة علمية، غير أن معاينة إجمالية للنسيج الكلي للقصبة، ولما بقي ماثلا من آثارها حتى الآن، توحي بترجيج القول أن بناء القصبة كان مسبوقا بإعداد تخطيط للمجال المركزي كما يتضح من الهيكل العام للقصبة، وكما يبرز في أهمية نسق الشوارع المتقاطعة على شكل زوايا.

ومهما يكن فإن القصبة الإسماعيلية تمثل بامتياز نموذج ما اصطلح عليه بالمدينة السلطانية أو المدينة الأميرية اعتبارا من أن بناءها تم بأمر من السلطان، وهي عادة ما تكون مشتملة على عدد من العناصر المتنوعة المخصصة لاستعمال السلطان وكذا لكبار الموظفين، وتلك الخاصة بالجند وعائلاتهم، وأيضا تلك المخصصة لمختلف أصناف الخدم.

وإذا كان المقام لا يسمح بالتعرض لكل مرافق هذه القصبة، فإننا سنكتفي بتحديد بعض المواصفات العامة التي تهم أحد أهم هذه المرافق ونقصد به الدار الكبيرة.

تشغل الدار الكبيرة مجالا يقدر بـ 320م طولا وحوالي 420م عرضا، تتكون من القصور الواقعة في حي سيدي النجار والتي لا تزال تحافظ على أسمائها القديمة أمثال زنقة قصر مولاي زيدان وزنقة قصر الشعشاع وزنقة قصر الكشاشي وزنقة سوارت الكعبة تتخللها أزقة مستطيلة كما أن قصر النصر وقصر الستينية وما جاورهما معدودون ضمن هذه الدار، وبذلك فهي تمتد من قصر الستينية بحي للاعودة وتنعطف يسار الحي الإسماعيلي وحي سيدي النجار ثم تنعطف وتذهب موازية ممر الدريبة حتى قصر النصر المجاور للستينية ([6]).

إن الوضع الحالي لهذا القصر يمثل مظهرا سديميا، فسكان المدينة وكذا بعض كبار الأعيان من أقرباء السلطان قاموا بغزو البنايات وذلك قبل حكم السلطان محمد الثالث، والأكثر من هذا فإنهم نهشوا وبشكل فضيع كل هذه الثروات المعمارية مغيبين بذلك الكثير من عناصر البناء والزخرف حيث أصبحت حاليا مطمورة تحت بقايا النباتات.

وتعوزنا القرائن القاطعة لمعرفة تاريخ تأسيس الدار الكبيرة اللهم إلا إذا استثنينا ما هو مدون أعلى باب هذه الدار كتاريخ الفراغ من بنائها والمحدد بسنة (1090/1679)، لكن يبقى السؤال مطروحا فيما إذا كان الأمر هنا يتعلق ببناء الدار الكبيرة برمتها أم الباب فقط.

وبالمقابل وعلى حد تعبير الزياني، فالدار الكبيرة كانت أول إقامة شيدها المولى إسماعيل بمكناسة بعد اعتلائه العرش سنة 1672 بعد أن عمل على هدم الجهة الجنوبية الشرقية من المدينة وأقام ساحة الهديم. كما أن مويط Mouette الذي كان أسيرا بمكناس ما بين 1670 و1681 لا يشير إلى الدار الكبيرة، ولكنه يعطي رغم ذاك وصفا لا يمكن إلا أن ينطبق على تلك المعلمة. هذا في الوقت الذي يشير إليها جوزيف دي ليون الذي زار مكناس في الفترة الموالية للعهد الإسماعيلي ([7]).

 ومعلوم أن مصطلح الدار الكبيرة من المصطلحات المتداولة في البيئة الحضارية المغربية، وبهذا المعنى فهو يكتسي في حد ذاته دلالة تاريخية حيث تخصص هذه التسمية في المغرب للإقامات الكبرى، وواضح أن التمركز الحضري الخاص بالدار الكبيرة يجيز قبول الأقدمية التاريخية لبناء الدار الكبيرة بالمقارنة مع باقي القصور والمنجزات العمرانية الإسماعيلية، ومع ذلك ينبغي التأكيد على افتقار معطيات وشواهد تسمح بتقديم افتراضات حول التحقيب الزمني الداخلي لبنيات هذا المجمع.

ويؤكد أكثر من كاتب معاصر للفترة الإسماعيلية على وجود ثلاثة نطاقات من الأسوار تحيط على الأقل وجزئيا بالمجمع الفخم للدار الكبيرة، يقول مويط "... ولهذا القصر ثلاثة أسوار من جهة الشمال الشرقي عرض الأول ستة أشبار وعلوه من الخارج أزيد من ستة باحات وهي محصنة ببروج مربعة ومسننة، بين هذا السور والسور الثاني ساحة كبرى مربعة تدعى الروامزين... ويوجد على جانب هذا السور جداران صغيران... يستعملان لوضع الحراس السود الذين يقيمون في البروج وفي مأمن من الداخل والخارج ويمكنهم من أن يدوروا حول الحصن دون أن يراهم أحد أما السور الثالث فيصلح كسور للحريم وهو أعلى بكثير من الأولين..." ([8]).

وانطلاقا من المجالات الفارغة بين الأسوار المحصنة يتبين حرص السلطان الدائم على ضمان حماية فعالة، حيث شيد المجموع على نحو يجعله في مأمن من كل الأخطار المحتملة في المقام الأول. وبالتالي فإن تلك الأسوار حسب ما تذهب إليه بعض الأبحاث كانت ترمي إلى فرض الشخصية والقوة أمام الأجانب، أكثر من كونها نابعة عن اهتمام تجميلي ([9]).

ويجرنا هذا لختم هذا المقال بالحديث الموجز عن الأسلوب المعماري والفني المميز للعمران الإسماعيلي. وسنكتفي بالإشارة إلى المواد المستعملة في البناء والتي لم تتطرق إليها الكتابات بشيء من التدقيق والتمحيص عدا ما ورد على شكل شذرات ونتف، ثم العناصر الشكلية للزخرف وإليها تشير بعض الكتابات بصفة عامة حين تناولها لخاصيات الفن الإسماعيلي.

لقد تميز المعمار الإسماعيلي باستعمال مواد تختلف من حيث جودتها ومكانتها في الهيكل البنائي، ومن بين هذه المواد الأساسية المستعملة تجدر الإشارة إلى التراب المدكوك والأجور والحجارة ثم الخشب ([10]).

كما حظيت القصبة الإسماعيلية باهتمام أكيد من لدن مشيديها الذين خصوا الجانب المتعلق بالزينة بكامل العناية لا سيما داخل القصور وعلى الواجهات الخارجية للأبواب، وهو ما يجعل الزخرف يحتل مكانة متميزة في هندسة مكناس خاصة الزخرف الكتابي لكونه لعب في زخرفة الحاضرة العلوية دورا هاما إلى جانب الزخرف البنائي والهندسي. لقد أدت هذه العناصر الزخرفية خاصة النقوش الكتابية وظيفة دينية وتاريخية وتزينية جمعت بين الشعر والدين والتاريخ كشاهد يستحضر ما بلغته المعالم المعمارية التي كانت تحفل بها الحاضرة الإسماعيلية بين أمهات المدن المغربية.

 


 


[1] - ناصر الرباط، دار العدل: قصة منشأة إسلامية قروسطية مجلة الاجتهاد/ العدد 22 شتاء 1414/1994 بيروت. 

[2] - أحمد التوفيق، مقدمة لقراءة أسوار المدينة: ملتقى تيزنيت حول أسوار المدن العتيقة 1989 نشر بجريدة أنوال 24 يونيو 1989، ص. 15.

[3] - أبو القاسم الزياني، البستان الظريف في دولة أولاد مولاي الشريف، دراسة وتحقيق الأستاذ رشيد الزاوية. مركز الدراسات والبحوث العلوية الريصاني. مطبعة المعارف الجديدة الطبعة الأولى 1992، ص. 154.

[4] - نفسه، ص. 148.

[5] - لمزيد من التعمق راجع الفصل الذي خصصه هشام جعيط لمناقشة الأطروحات الاستشراقية بخصوص المدينة الإسلامية في كتاب عن تاريخ الكوفة وانظر كذلك كتاب محمد عبد الستار عثمان. المدينة الإسلامية. عالم المعرفة (128) الكويت.

[6] - راجع محمد المنوني، دليل القصبة الإسماعيلية، مجلة دعوة الحق، العدد الرابع، السنة العاشرة 1386 – 1967.

[7] - Marianne Barrucand: L'architecture de la Qasba de Moulay Ismaïl à Meknès in: Etudes et Travaux d'Achéologie Marocaine VI 2 Vol 1979 (1981)                   

pp. 52 - 53.                                                                                                             

[8] - مويط رحلة الأسير مويط ترجمه إلى العربية د. محمد حجي د. محمد الأخضر، مركز الدراسات والبحوث العلوية الريصاني 1990، ص. 73.

[9] - Marianne Barrucand: L'architecture de la Qasba de Moulay Ismaïl à             Meknès, pp: 46 - 65.                                                                                              

[10] -Marianne Barrucand: Structures et décors des charpentes Alaouites à partir   d'exemple de Meknès, in Bulletin d'archéologie marocaine XI 1978,                  

 pp: 115- 156.                                                                                                        


 

 

 

 

 

 

 

 
 
 

 

 
 

ضيوف الموقـع

 

جمال حيمر

 

 

 

 

 

 

 

  ا

معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقة تعــريف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع   خزانات الموقـع صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

موقع سعيد بنگراد - تاريخ الإنشاء: نونبر 2003