تطمح هذه المداخلة لأن تشكل إسهاما متواضعا
في بلورة المعالم الرئيسية للتجربة الإصلاحية التي شهدها المغرب في
ظل عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمان (1859-1873)، ويبدو من
الضروري تحديد بعض المنطلقات الأولية التي في ضوئها يتم إدراك طبيعة
هذه التجربة وتقويم أبعادها وحصيلتها.
*
إذا كان مفهوم الإصلاح يكتسي عدة دلالات ويتداخل مع مفاهيم أخرى
كالتجديد والتحديث والنهضة، فإننا آثرنا توظيف التعريف الذي حدده علي
أومليل في دراسته عن "الإصلاحية العربية الوطنية" إذ ميز بين منطق
الإصلاح الإسلامي القديم والإصلاح الإسلامي الحديث من حيث أن الإصلاح
الثاني يختلف عن الأول بإيحالاته إلى الآخر. واتجاهه إلى الغير
(أوربا) في تصوره ومباشرته لعملية الإصلاح وصياغة مشاريعه.
*
إن أية رؤية موضوعية لهذه التجربة تجنب نفسها السقوط في إصدار أحكام-
قيمة، لابد وأن تستبعد تصورين يختلفان في الحكم والتقويم ويلتقيان في
المنطق المعتمد، التصور الأول الذي قد يستصغر من شأن هذه الإصلاحات
باعتبارها مجرد تدابير سطحية وجزئية
([1])،
مما يوحي بالاعتقاد أنها غير قمينة بالبحث والدراسة، والتصور الثاني
المناقض للأول، وهو تصور يعلي أكثر من اللازم من شأن هذه الإصلاحات
ويحملها أبعادا تفوق بكثير حجمها الحقيقي.
*
إن هذه التجربة التي خاضها السلطان محمد الرابع – ويصرف النظر عن
مردوديتها السلبية- تمثل في اعتقادنا محاولة جادة تثبت الإرادة
الإصلاحية لهذا السلطان وتعكس رغبة أكيدة لتجاوز الحالة المتردية
التي أصبحت عليها الهياكل الإدارية والعسكرية وتستهدف تقوية هذه
الهياكل لمواجهة تحديات القوى الأوربية الاستعمارية. غير أن هذه
الرغبة اعترضتها عوائق داخلية وخارجية حالت دون تحقيقها بصورة فعالة،
وافتقدت المناخ المناسب الذي يمكنها من التبلور وتحقيق الأهداف.
*من
الصعب ربط إصلاحات محمد الرابع ربطا سببيا بجملة من البواعث والمصادر
المحددة، حسبنا التأكيد على أنها كانت وليدة تفاعل واحتكاك شروط
مميزة لوضع داخلي يتسم بتأخر شامل في هياكله وبنياته. تقابله شروط
وضع خارجي يتميز بتقدم بنياته العسكرية والاقتصادية والعلمية.
بعض معالم شخصية السلطان العلمية
يستفاد من مصادر المرحلة أن نشاط السلطان محمد بن عبد
الرحمان لم يكن مرتبطا بمدة توليه العرش فحسب، بل شمل فترة ما قبل
وصوله إلى الحكم حيث كان خليفة لأبيه في مراكش وشارك في معركة ايسلي،
مما أهله لاكتساب خبرة في تنظيم أمور الدولة جعلته جديراَ بالمسؤولية
وقادرا على قيادة البلاد.
وتمدنا المصادر
المغربية والأجنبية على السواء بمعلومات تفيد أن السلطان محمد ابن
عبد الرحمان كان رجلا متنورا ومتفتحا إلى حد بعيد ([2])،
حريصا على المزيد من الاطلاع على مجريات الأوضاع الأوربية، كما اشتهر
بشغفه بالعلوم التجريبية والعقلية ([3]).
وكان "متشوقا لعلم الهندسة والتنجيم والهيئة" ([4]).
وساهم بنصيب وافر في بعث هذه العلوم وتشجيع تلقينها ونشر كتبها يقول
أحمد بن المواز "... وأحيا ما اندثر بالمغرب من العلوم كالحساب
والتعديل والهندسة والنجوم... " ([5]).
بالإضافة إلى أنه كان ذا إلمام نسبي باللغة الفرنسية ([6]).
حيث أشرف على تعريب بعض الكتب العلمية خاصة في ميدان علم الفلك (كتاب
بيروم لالاند) ([7])،
ولعله اخترع بعض الآلات الفلكية. كما ساهم رفقة عدد من الأساتذة
الفلكيين والحيسوبيين كأبي العباس الصويري وإدريس البلغيتي في تدريس
الرياضيات والتوقيت والهيئة والتنجيم بالمدرسة التي أسسها جوار القصر
السلطاني بفاس ([8])،
وقد كانت هذه "المدرسة الإدارية" كما اصطلح عليها أحد الباحثين
([9])
تعد بمثابة مؤسسة إعدادية حيث أرسل عدد من خريجها بصفتهم "مهندسين"
في بعثات طلابية لإتمام وتعميق دراستهم بالمعاهد الأوربية، هذا فضلا
عن تأسيسه لمدارس أخرى بكل من مدينتي الصويرة وآسفي ([10]).
وتعزز هذا النشاط بإنشاء أول مطبعة بالمغرب سنة 1864.
أخيرا لا ننسى دوره في
توثيق الصلات العلمية بين المغرب والمشرق، وذلك بإيفاده بعثات إلى
مصر قصد تعلم فن الطباعة وعلوم الطب والرياضيات والفلك والجغرافيا
([11]).
جوانب من السياسية الإصلاحية
المستوى العسكري
سجل حدث احتلال
الجزائر من طرف الجيش الفرنسي سنة 1830 بداية مرحلة جديدة بالنسبة
لكل شمال إفريقيا باعتبار أن الحدث لم يخص الجزائر وحدها، بل إن
الدول المجاورة قد تحملت صدمة ذلك الاحتلال ([12]).
إذ أن تدخل المغرب لمساعدة الجزائر أقحموه في مواجهة عسكرية بينه
وبين الجنود الفرنسيين في إيسلي سنة 1844 مُني خلالها بهزيمة شنعاء
كشفت عن مدى ضعف الجيش المغربي وهشاشة تنظيماته أمام جيش نظامي مجهز
بأسلحة فتاكة تتحرك وفق إستراتيجية محكمة وما لبثت إسبانيا أن ألحقت
بالمغرب هزيمة أخرى في حرب تطوان (1859-1860) لم تكن أقل تأثيرا من
الأولى بل زادت من تعزيز النفوذ الأجنبي في البلاد وأرهقت الخزينة
المغربية التي أفرغت من كل محتوياتها ([13]).
وهكذا تحت وطأة هاتين الهزيمتين عزم السلطان محمد بن
عبد الرحمان إصلاح المؤسسة العسكرية بإعادة هيكلتها وتحديثها وفق
النمط الحديث. وهو عمل كان قد شرع فيه أيام خلافته عن والده بعد
عودته من ايسلي. ومباشرة بعد توليه مقاليد الحكم كان أول ما قام
به هو استشارة عشرة من
العلماء بغية إضفاء المشروعية على تدابيره التحديثية ([14])،
وعمل على تزويد الجيش بأسلحة (بنادق – مكاحل..) مستوردة من عدة بلدان
([15]).
كما أوفد حوالي مائتي جندي إلى جبل طارق للتدرب
العسكري ما بين سنتي (1870-1873) ليصبحوا ضباطا للجيش النظامي.
وفي سبيل التخلص من شراء المعدات الحربية، أنشأ نواة صناعية للإنتاج
السلاح (دار السلاح) بمراكش.
المستوى الاقتصادي
استهدفت هذه الإصلاحات ترميم الهياكل الاقتصادية
وتقويتها بتطوير وسائل المواصلات وتجهيز الموانئ واستحداث وسائل
تطوير القطاع الفلاحي والصناعي.
ففي ميدان الأشغال العمومية ركزت مجمل مشاريع السلطان
محمد الرابع على شق الطرق ومد سكة حديدية
للربط بين أهم المراكز التجارية كما قرر اقتناء جسر حديدي من
بريطانيا لوضعه على أم الربيع بهدف تيسير الربط بين دكالة والدار
البيضاء ([16]).
وظهرت مشاريع لتزويد المراسي بالمرافق الضرورية
وتحقيق السواحل وتجهيزها (آسفي- الصويرة- البيضاء)، وتم تطوير إنارة
السواحل كما يشهد على ذلك إنشاء منار سبارتيل وإقامة منارات صغيرة
بالدار البيضاء. واستلزم تزايد وفود التجار الأجانب على المراسي بناء
المخازن وتوفير الديار لفائدتهم، وتوسيع مستودعات الجمارك.
أما المشاريع الفلاحية
والصناعية فقد سعت إلى تنمية القطاعات التي كان المغرب يعاني فيها من
التبعية للخارج، ففي ميدان الفلاحة حاول الاستغناء عن استيراد بعض
المواد بإنتاجها محليا، فأنشأ لذلك معملا للسكر بمراكش قرب أكدال
([17]).
كما أمر بزراعة مساحات كبيرة لقصب السكر ([18])،
وتتحدث الوثائق عن محاولته إنشاء مصنعين للقطن أحدهما بمراكش والآخر
بالرباط ([19]).
وأمر بإعداد دراسات حول إمكانية زراعة القطن وقصب السكر ببعض المزارع
المخزنية واستخدام الآلات العصرية بها، وتم جلب مطحنة للحبوب تعمل
بالطاقة البخارية إلى طنجة تمهيدا لإدخال مثيلاتها إلى باقي المدن
المغربية([20]).
المـستوى الإداري
بموازاة الإصلاحات التي مست الميدان الاقتصادي والعسكري. عمد السلطان
محمد الرابع إلى إصلاح الهياكل الإدارية وذلك بالقضاء على بعض
التعسفات، وسد بعض الثغرات وضمان تسيير أفضل للشؤون العمومية بواسطة
تنظيم دقيق للعمل الإداري، ولما كان جشع الموظفين وخصوصا موظفي
المالية من عوامل فساد الإدارة وتدمر السكان، فإن السلطان حاول
معالجة هذا الوضع بإعادة تنظيم جباية الجمارك وبإعطاء رواتب منتظمة
للأمناء ومنعهم من مزاولة أي نشاط تجاري مع تعيين مفتش مكلف بمراقبة
استقامتهم ([21])
على أن أهم ما يستلفت النظر في هذه المشاريع الإصلاحية هو الاعتماد
الكلي في إنجازها على الخبرة الأوربية بشريا وتقنيا. وذلك لافتقار
المغرب إلى أطر وطنية مكونة تكوينا حديثا. فمثلا معمل السكر قد تم
تجهيزه بآلات انجليزية (آلة البخار من نوع ويلسون Wilson
لتصفية السكر) وأشرف على إنجازه المهندس (جون كلاركسون غي
John
Colarkson Gruy)،
كذلك الشأن بالنسبة لمعمل القطن لمراكش الذي كلف بتسييره المهندس (فيرلي
Fairlie)،
في حين تولى (فيليب كرايون) مهمة تشغيل المطحنة التجارية بطنجة
([22])،
أما في مجال إصلاح الجيش، فقد اعتمد السلطان على خدمات بعض
الأوروبيين الفارين من بلادهم لأسباب مختلفة وكان أبرزهم الفرنسي
الأصل عبد الرحمن دوصولتي (Abderhman
DESAULTY) الذي
كان يتمتع بحضوة لدى السلطان ويعمل كمستشار له ([23]).
إن رهن مصير هذه
التجربة التحديثية بالاعتماد على الخبرة الأوربية يعبر عن مأزق
الإصلاح الرسمي والمتمثل في الدوامة التي وجد فيها المخزن إذ لم يكن
بمقدور السلطان مقاومة الضغوط التي تمارسها الدول الأجنبية إلا
بتقوية الجهاز الدفاعي وإصلاحه، ولم يكن بالإمكان تحقيق هذا الإصلاح
إلا باللجوء إلى أوربا والاستعانة بخبرتها ([24]).
خـلاصـة
لقد باءت هذه
التجربة الإصلاحية بفشل شبه كلي إذ لم تكن النتائج تتناسب وطموحات
السلطان وهمته، وجاءت دون مستوى ما استلزمته من نفقات باهضة، بل تم
إخفاق بعضها قبل إنجازه، وتوقف بعضها الآخر ([25]).
وقد يطول بنا الحديث
إذا رمنا رصد عوامل الإخفاق رصدا تفصيليا تكفي الإشارة إلى ما كان
لعامل التدخل الأجنبي المتزايد من دور في إفشال هذه المحاولات ([26])
بل العمل على تحريفها وتوجيهها الوجهة التي تخدم مصالحه، يقول البير
عياش مبرزا آثار هذا العامل في شل المجهود التحديثي "ولو لم يكن
العالم آنذاك عبارة عن غابة متوحشة لاستمرت عملية التحديث التي
ابتدأت من عشرات السنين عبر الاتصالات المتكررة بالعالم الخارجي
وتبعا لوثيرة تتلاءم وعبقرية الشعب المغربي" ومن جهة أخرى فإن جل هذه
التدابير لم يعد لها الاستعداد اللازم. ولم تكن مرفوقة بأي تجديد في
الفكر والثقافة، كما أنه لم يتم إعداد الرأي العام الذي لم يكن ينظر
بعين الرضى إلى أي خطوة تحديثية ويعتبرها مخالفة لروح الإسلام. بل
بتحمله لعبء المصاريف التي تطلبتها الإصلاحات اقتنع أن مصدر الأزمة
يكمن في تكاتف العلاقات مع أوربا. وينضاف إلى موقف الرعية هذا تحفظ
بعض العلماء والأوساط المخزنية وضيق أفقها([27]).
يؤكد فشل هذه التجربة أن أية محاولة تروم إدخال بعض
عناصر التحديث على بنيات اجتماعية وذهنية تقليدية دون أن توازيها
عملية تحديث شامل وكلي. ودون أن تكون منبثقة من تطور داخلي تبقى
محاولة محكومة بإخفاق متواصل وغير قادرة على إحداث تحول حقيقي.
[1]
-
زنيبر محمد هل هناك مصادر داخلية للإصلاح- ندوة: الإصلاح
والمجتمع المغربي في القرن التاسع عشر، منشورات كلية الآداب
الرباط 1982،
ص
327-328.
[2]
-
أورد مييج شهادات عديدة لممثلين أجانب تؤكد على قناعات السلطان
الليبرالية ومدى تفتحه. انظر: J.L MIEGE, Le Maroc et l'Europe
1830 -1894, Tome III, Edition de la porte Rabat 1989, p
112-113.
[3]
-
محمد بن الأعرج السليماني، زبدة التاريخ وزهرة الشماريخ، ج2،
خ.ع. رقم د 3449-3657.
[4]
-
محمد المشرفي:
الحلل البهية في تاريخ ملوك الدولة العلوية، مخطوط خ.ع. د
1463، ص 221.
[5]
-
أحمد بن المواز: المقالة المرضية
في الدولة العلوية والتوسل بالنسب الطاهر للعلي القادر.
مخطوط خ.ح. رقم 493، ص 25.
[14]
- J.L MIEGE, Une Mission Française
à Marrakech 1882, Publication des Annales de La Faculté
des Lettres Aix-en provence 1960, p 3912.
[15]
-
ابن زيدان: النهضة العلمية في عهد
الدولة العلوية عدد أوراق 123 خ.ح.11781، ص 56 و 96. وقد اعتبر
المرحوم عبد الله كنون متخرجي
البعثة الطلابية إلى مصر
العريقة إلى مصر عبد السلام العلمي
والجغرافي أحمد شهبون من الطلائع الأولى للنهضة العلمية المدنية
بالمغرب.
[16]
- Laroui (A), Les origines sociales et
Culturelles du nationalisme Marocain (1830-1912), Maspero,
Paris 1977, p
237.
[17]
-
جرمان عياش: جوانب
من الأزمة المالية بالمغرب الغزو الإسباني سنة 1840، مطبوعات
معهد الدروس العليا المغربي، الرباط 1989، ص 26.
[19]
-
لمزيد من التفاصيل
انظر ثريا برادة الجيش المغربي.
[20]
-
حيمر جمال، البعثات التعليمية في
عهد السلطان الأول، دبلوم الدراسات العليا 1988،
كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر
المهراز،
فاس. انظر الفصل الخاص بمقاصد
البعثات.
[21]
-
راجع ابن زيدان، الإتحاف، ج3 MIEGE (J.L), Le Maroc et l'Europe,
op.cit, T. III, p.
556-565.