معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

مؤلفــات بطاقة تعــريف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال   مواقـــع  خزانات الموقـع صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

 عبد العلي اليزمي - عــــــــلي كابوس

كتابة الرحلة ورحلة الكتابة

قراءة في " الطريق السيار " ل ح . الحميداني

 

تعتبر موضوعة الرحلة إحدى البنيات التخييلية الكبرى الأكثر التصاقا بمدارات الكتابة الروائية في الأدب الإنساني عامة، قديمه وحديثه. وهي بنية حكائية مفتوحة على الطريق الطويل الحافل بالمفاجآت والمحطات والحواجز. فنفس القوة التي تدفعنا بها الرحلة دفعا نحو المجهول والمغاير والخارج عن المألوف، هي ذاتها التي تقودنا إلى استحضار واستعادة الطقوس المسارية التأهيلية والتعليمية التي يسعى من خلالها الكائن للانتقال من حضيض الرغبات والأهواء، إلى مدارج علوية من الجهاد الروحي والفكري والحضاري.

ومن المواصفات الثابتة في روايات الرحلات تعاقب الأحداث وخطية الزمن وتوالي المشاهد الوصفية واللوحات التصويرية للآفاق البعيدة والتنقل في المكان والزمان والتراتبيات الاجتماعية.

في ضوء هذا الفهم الأولي يمكن الاقتراب من رواية حميد الحميداني " رحلة خارج الطريق السيار" للوقوف على الخصائص المميزة لمحكي الرحلة.

بدءا من العنوان يمكن القول إن الرواية تنحاز إلى محكي الطريق، إنه محكي ينصاع لمنطق الحركة والتنقل داخل اللحظة.ومن خلال ذلك تستجمع الرواية سرودها وتنثرها في المدى الفاصل بين انطلاق الرحلة ووصولها. فما يهم في الرحلة ليس لحظة الانطلاق ولا الإشباع الذي يحيل عليه الوصول، إن ما يشكل عمق الرحلة هو الحيز الفاصل بين بدايتها ونهايتها. إنه دائرة الفعل والتحول والحلم والترقب والهروب إلى الذات عبر مراقبة حركة الناقلة وهي تشق طريقها إلى نقطة نهائية تختلف طبيعتها من راكب إلى آخر. ولعل هذا ما يفسر تقلص الحد الفاصل بين زمن السرد وزمن المحكي إلى حد انصهار الأول في الثاني، فعبر هذا الانصهار تندفع الرواية في أتون زمن الرحلة الدائرية التي لا تنتهي عند نقطة بعينها. فعلى الرغم من الخطية التي تتحكم في الرحلة، وهي خطية في الزمان وفي الفضاء وفي الانطلاق، فإن الرواية تخلق لنفسها عالما ينكفئ على نفسه ليستبطن ذوات الركاب ضمن دائرة حكائية لا تؤثر هذه الحكاية على تلك، إنها تخلق نوعا من الانشطار داخل أزمنة نفسية استذكارية وأخرى استعارية ( كل رحلة تعقبها عودة وإلا لما كانت هناك كتابة الرحلة أصلا). وهذا اختيار واضح وحاسم : > عندما نختار أي طريق فإننا ننفي كل الاختيارات الممكنة الأخرى ونتحمل العواقب، وفي سبيل تحقيق الطموح لا بد من مواجهة المتاعب < ص 11. فالزمن يُجرد في الرواية من ملامحه الواقعية والتاريخية، ويضع المتخيل داخل زمن الوعي بالحاضر في قبليته وبعديته، حينما يروم إعادة تشكيل الواقع من جديد في زمن ذهني مبني على سلسلة من التقابلات والتعارضات بين الوعي القائم المتخلف عن الماضي والوعي الممكن المتطلع نحو التجاوز والتوغل في المستقبل.

تلجأ الرواية لتجسيد هذا الملمح إلى تغريب الواقع بمضاعفة الدلالات الرمزية لمكونات الرحلة ومحمولاتها، عبر سلسلة من الصور البلاغية الكاريكاتورية النزعة التي تعمد إلى تضخيم النعوت والأوصاف وإغراقها في التخريف الفنتازي، ولشحن المخلوقات الساخرة المتولدة من التقابلات والتعارضات. فالرحلة > ليست كالرحلات < ص 6، فهي > خطيرة< ص7 و> ملعونة < ص 27، وفي كل هذا فهي رحلة > خارج الطريق السيار<، وتأتي في سياق ظروف مناخية قاسية > الجفاف الذي يضرب بعض المناطق في البلاد < ص 28 و> خطر الجراد< ص 72.

إن هذا الوضع الذي يبشر بالكارثة لن يتولد عنه سوى حالة من الانحصار الاجتماعي والنفسي، تتفشى فيه البطالة ويعم البؤس الاجتماعي ( صور الهجرة الجماعية للقرويين) ويجتاح اليأس نفوس الشباب ( حالة الفتاة ) وتظهر حالات من الحقد الأعمى. وفي ذات الوقت فإن الرحلة تحيط بها أوضاع سياسية استثنائية كذلك ( الحراسة الأمنية في الطرقات )ص 13 - 62.

والمثير في الأمر حقا هو كثرة النعوت التي تسند إلى الناقلة، وهي نعوت تنتمي إلى حقل دلالي واحد : ما يشير إلى الاهتراء والتقادم، وبذلك يكون التوصيف في ذاته وظيفيا من حيث إنه يحاول منذ البداية تحديد المضامين الممكنة للرحلة، ما دامت الناقلة هي أداة الرحلة وعنصرها الرئيسي. إنها نعوت بالغة الدلالة، بل يمكن القول إنها بؤرة كل الدلالات الرمزية اللاحقة.

إن السارد ، منذ اللحظات الأولى للرواية، يخص الناقلة بوابل من الأوصاف المنفرة والداعية إلى الحذر. فهي تاريخ ممتد في الماضي،لأنها من مخلفات الماضي، وتاريخها تاريخ استعماري واضطهادي. فهي تبدو من خلال رسمها وأوصافها حافلة بالغة الغرابة فهي : " مارد خرافي" ص 5 " طاحونة مجنونة " ص 6" قذرة لا تساوي شيئا "ص15 " وحش مغبر " ص19" نعش خرافي"ص41 " سفينة نوح" ص43. كل هذه الأوصاف التي تشير إلى تهالك الناقلة ورداءتها وتؤكد تقويما سلبيا يشمل الرحلة برمتها.

إن التركيز على عتاقة الحافلة وقدمها، في مقابل الترتيب لرحلة لا يمكن أن تكون، بالمنطق والضرورة، إلا في الاتجاه الأمامي للزمن، يؤكد الطابع المأساوي للرحلة . فهي في الواقع حركة ارتكاسية داخل الزمان رغم تقدمها فيه. فلا يمكن فصل الأداة عن طبيعة الفعل. كما لا يمكن فصل الفعل عن غاياته. فرحلة تتم على ناقلة من هذا النوع لا يمكن أن تفضي إلى نقطة بعينها.

وهو ما يؤكده وصف الطريق أيضا. فإذا كانت الناقلة مهترئة ومتآكلة، فإن الطريق لا يقل اهتراء ورداءة. فهو مجرى ثابت يمتد في أرض الغربة الجماعية ويصفه السارد بأنه : " طريق جهنمية "، " رديئة"، " متربة "، "مغبرة" ، " فاحمة "، مليئة بالحفر والأحجار. إنها طريق "خارج الطريق السيار". أما محطات الاستراحة فتبدو مهجورة وقاحلة، في حين أن الضفاف المترامية على جانبيه تبدو من المرتفع " الجرف الطبيعي " أحجار سوداء" " تجاويف معتمة لا أثر للحياة فيها " ص 38، أما في المنبسط فتبدو الحوافي " الأرض المتشققة، الممتدة الآن كشريط على جانب الطريق " ص 42.

فالتقابلات المتوارية بين الخارج والداخل، الحاوية والمحتوية، الطريق التقليدي الثانوي والطريق السيار، تضعنا في مفترق الرؤية المزدوجة، تصحح فيه النسخة السالبة، الوجه الإيجابي للصورة، فتصبح فيه الرحلة برزخا بين عالمين وفكرين وطريقين متوازيين لا يتقاطعان، وهو اختلاف كما يتضح في الدرجة لا في النوع. فالرحلة بالفعل تتم خارج الزمن المتنامي في " مرحلة غابرة " ص 31 ، " مرحلة الخروج من التخلف " ص 32 ، رغم أن " البلاد أخذت تتطور وأننا دخلنا عصر الطريق السيار " ص 36، لذلك فهي تبدو من خلال مواصفاتها الظاهرة مرحلة غير واقعية، مادامت الدوافع والأهداف غير معروفة.

أما الناقلة بصورتها المزدوجة خارج النص وداخله، فهي تختزل في تناقضاتها كل التفاعلات الرمزية التي يمكنها أن تدفعنا إلى الحديث عن اهتراء الفكر العتيق الموروث عن الماضي، مادامت هي كذلك من مخلفات المرحلة الاستعمارية " الرومي بكى عليها بدموع حارة (...) كان يتمرغ يوم باعها لي مثل كلبة فقدت جرائرها" ص 10. في حين لا تبدو لنا المحطات المنظورة أو المرتقبة للرحلة هي المحطات القاطعة أوالفاصلة، لأن الطريق يأخذ في بداية الرحلة مسارا متصاعدا :" الطريق الصاعد في الهضبة " ص 27، " المسار جهنمي صاعد" ص 98، مادامت الناقلة محملة بكل أثقال العالم وفواجعه. فما إن تتخلص من نصف حمولتها ( القضايا الكبرى ) ركاب الدرجة الأولى حتى تأخذ الطريق في الانحدار نحو " السهل الأعظم ... عالم الخيرات " ص 103 وهي " تخترق" عالمين " المناطق المنكوبة" ص 34 و"المناطق المحظوظة " ص 47، أما الطريق السيار، رمز السرعة والحداثة، فهو " يفصل" بين ضفتي العالم الديني والدنيوي " عزل الربوة التي يقع عليها الضريح ". ص 72. وفي السياق ذاته تفصل الرحلة ككل بين زمنين : زمن المد الثوري الذي دخل " متحف التاريخ" ص 16 والواقع الجديد الذي يتمثل في " زمن المد الروحي" ص 31.

هذا هو المناخ الذهني والنفسي الذي ستدور في أجوائه الرحلة، وهو مناخ كما أسلفنا القول متأزم تلوح فيه كارثة وشيكة التحقق، فكل شيء كان يشير إلى ذلك ولعل أبسط تباشيرها زوابع الجراد القارض.

وعلى الرغم من اختلاف الشخصيات في البحث عن مكامن الخطر، ومحاولة تبرير هذا المنحى على حساب ذاك، فإن سالم، سائق الحافلة ، كان قطعيا في تشخيصه للخطر، ف"الرحلة ذاتها" هي الخطر(ص 7) لذلك فهو يحمل المسؤولية للجميع " نحن من يصنع الكارثة " ص 7.

وهناك ملمح آخر يميز الرحلة ويعطيها نكهة خاصة. فرغم تميز المصائر، واختلاف الأهداف ، فإن الرواية تصر على أن تقدم لنا بطولة جماعية، وهوملمح مهم ويعطي للرواية نفسا ملحميا، فكل الركاب مرتحلون ومهاجرون ومغتربون يأملون من وراء الرحلة الانعتاق من واقع يسحقهم. وهنا تتفرع الرحلة الجماعية إلى رحلات موازية تنحل في جميع الاتجاهات اطرادا كلما شارفت الرحلة على نهايتها. وهكذا يمكن أن نرصد ضمن سيرورة الرحلة العامة التي تقود مجموعة من الكائنات نحو مصائر مختلفة ومتباينة ، مجموعة من الرحلات الفرعية الخاصة بكل راكب على حدة :

- هناك رحلة الشيخ الذي يريد التكفير عن اللعنة التي تحيط به بتحقيق الرؤيا، تقوده زوجته خديجة، رمز الأنوثة الخصيبة التي تتشابك في أدغالها الوارفة الغواية والهداية.

- وإلى هذه الرحلة ينضاف صالح، السياسي السابق الباحث عن المياه الجوفية، الذي يعثر في طريقه على كنوز روحية لا تفنى ( الشيخ وزوجته ). وهي رحلة معكوسة نحو الماضي يتلبس فيها الدنيوي وجه الأخروي ويلتصق به. أما المناضل الهارب من القمع السياسي فرحلته تنتهي في الحاضر الذي تجاوزه.

- الصحفي يقوم برحلة تفقدية استطلاعية يراوح فيها مكانه بين رؤية الواقع المباشر والبحث عن منظار جديد يسبر أغوار الماضي والحاضر معا. في حين أن الفتاة المهندسة الزراعية الشابة الهاربة من عنت الأبوة فالرحلة عندها تستكمل في الاتجاهين ذهابا وإيابا. أما عثمان السابح في ملكوته الخاص فهو أداة القدر الأعمى والحقد المدمر..

- يبقى سالم السائق، وعبدون مالك الناقلة واحميدة المساعد ،كل واحد علق مصيره بمصير الناقلة ، والرحلة بالنسبة إليهم حركة دولابية بين نقطتين انتقاليتين تضيع فيها الرجولة المكسورة الجناح، والذهنية العتيقة المرتوقة، والتهور البهيمي النزى، ويتردد تفسخها دون أمل في العودة ولا في الرحيل من جديد.

أما الحالمون ب" الحقول الذهبية الصفراء " ص 18، القرويون والحصاودن ونساؤهم وأطفالهم ركاب الدرجة الثانية، بملامحهم الغائرة وراء مظاهر البؤس والجوع، فهم لا يشكلون في مجرى الأحداث سوى خلفية عامة تثبت عليه التناقضات والفوارق التي تعزل الوعي الفردي عن الوعي الجماعي. والرحلة بالنسبة لهؤلاء رحلة دورية تتجدد بتجدد فصول الحصاد، لذلك تمتد أمام المجموعة التي نزلت في مفترق الطريق الزراعي (حقول مترامية من السنابل العطشى ص 103).

من كل هذه المسارات الجانبية تتشكل رحلة الهروب الجماعي من الاغتراب في الحاضر والهجرة المعكوسة، من المدينة إلى آفاق جديدة بحثا عن سماء أكثر رحمة وهواء أكثر نقاء وصفاء.

وهكذا تنتفي داخل الرحلة الجماعية كل أشكال الرحلات الفردية وتنحل الرواية داخل محكي الرحلة بتناقضاتها وتأرجحها بين الخط الرئيسي والمسارات الفرعية .

إن الرحلة في الرواية رغم مركزيتها المتضخمة الفنتازية، لاتخرج عن المألوف مادام المنطق الذهني والإرادة الكلية للمؤلف-السارد تسهران بعيون صاحية على رسم الحدود بين الممكن والمحتمل، المتخيل والواقعي، الخاص والعام .

هذا في رأينا هو الحاجز الذي يقف دون استفحال العجائبي والفنتازي ويفسح المجال لنزعة تصويرية تعتمد على تغريب الواقع بتضخيمه في أجواء الفنتازيا وتفتت عناصره إلى صور وخطابات وأفعال وسرود منصهرة في تركيبة روائية جامعة، تسعى عبر المحاورات إلى تجريد التفاعلات النصية والمنطقية والصراعية وإغراقها في تركيبات ذهنية تكاد من فرط وضوحها أن تفرغ الواقع والمتخيل من حمولاتهما. فالرواية بعد أن استوفت محكي الرحلة، تعمد في النهاية إلى تكسير أفق الانتظار المحتمل وتنقلب على ذاتها من خلال وعيها بحدودها، غير أن ظهور رسالة الصحفي الملتبس بصوت السارد يضع حدا لكل التوقعات التي راكمتها الرواية ويفسخ بالتالي ميثاق القراءة لتهيمن الحوارات ذات الملمح الدرامي على المحكي الروائي تحركه كأوفاق مغلقة على دوائر الصراع والجدل، تستقطر داخلها خلاصة الدلالات الرمزية؛ وتستخلص منه العبرة، فيترك الأفق الروائي المجال المفتوح أمام الإيحاء بالخلفيات والأجواء المضللة والمناوئة وعكسية التخييل والتمثيل.فالرواية في نهاية المطاف، في بنيتها العامة ومن خلال منطق العلاقات الذي يحكم تفاعلات عناصرها ومكوناتها، لا تحيد عن اللاشعورية الرمزية المقنعة التي تمزج بين الأمثولة المجردة والمجاز العقلي القريب " المشكلة اهتراء الناقلة... أخشى أن تتفكك أجزاؤها وهي سائرة بنا فيجد كل واحد نفسه مستقلا قطعة منها < ص 50

وهذا ما وقع بالفعل، انحلت الرواية في محكي الرحلة وتفسخت هذه الأخيرة إلى مسارات جانبية منمطة ثم تبخر الكل في ذهنية التجريد لتمثيل عام والتصريح لشكل فارغ لأن الصياغة التجريدية للتمثلات المحسوسة هي التي تهيمن على ذات الخطاب الروائي بدلا من محمولاته.

 

 

 
 
 
معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

مؤلفــات بطاقة تعــريف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال   مواقـــع  خزانات الموقـع صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

موقع سعيد بنگراد - تاريخ الإنشاء: نونبر 2003