معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

مؤلفــات بطاقة تعــريف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال   مواقـــع  خزانات الموقـع صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

 

فيصل قرقطي *

 

محمد علي شمس الدين :

كليم العشق والمدن

قراءة نقدية لأربع مجموعات شعرية

 

 

    الدخول إلى عوالم محمد علي شمس الدين الشعرية تقتضي التسلّح أولاً بنباهة وعي ، وحسن وذائقة شعريتين ليجاري مدّه واشتعالات روحه في أتون النص .

    فهو لا يركن أبداً إلى السهل ، أو العادي ، بقدر ما يكثّف ويجذّر تواصله الشعري في المنطقة غير المرئية من حيواتنا ليصل بنا إلى حرائق مشتعلة في أكمامنا .. حرائق لا تنطفئ أبداً ، غاذّاً السير بنا في رحاب لم تطأها أقدام بعد ، فاتحاً الدروب أمامنا لنصل إلى ظلمات الآبار في وحدة الشاعر الذي يحرث .. ويزرع ، وإلى حلم العنيد للطفل الذي يشاكس العالم ، وربما يخسر كل شيء ، لكنه أبداً لا يخسر طفولته وشاعريته .

إذ إن الطفل ذاك الذي يشرِّع الكون هو .. هو الشاعر الذي يقبض على جمر الحقيقة فاتحاً دروب الحلم للوصول إلى غابات من المآسي والأحلام التي تحطم الكثير منها على عتبات الواقع .. ومازال بعضها يضيء في سماءٍ من عدم ..

    لكن الطفل هو الذي يرفع صواري المأساة ليدلنا على طفولتنا تارة ، وعلى انكساراتنا أو انتصاراتنا فيها .

أما الريح .. ريح الحياة لا تترك لنا مجازاً لنستعر في أتون أرض واحدة .. محدودة  .. إنها الأرض التي تنهب من تحت أقدامنا ، والطفولة التي تُسْرَفُ منا في غالب الأحيان في كل نواحي الحياة .. لكنها تلك الطفولة العذبة التي تظل في القصيدة ، وتدلنا علينا .

    الرياح العاتية سرعان ما تثور لتطوح بأحلامنا الورقية .. أو الهفهافة .. بعيداً عن مساراتها وعن أيقوناتها الذهبية ليظل الشاعر محمد علي شمس الدين القابض على حجر القصيدة ، وعلى نار الطفولة المغدورة فينا .. وعلى شغب الرياح العاتية تلك التي تحاول أن تطِّوح أرواحنا  .. وأجسادنا .. بعد ما طوَّحت بالكثير من أحلامنا .

    وهذا الشاعر المغدور بالحياة أراه يصارع الوجد الكليم والمدن الكليمة والأحلام الكليمة ممتداً في مساحة الحياة رغماً عنها ، ليصل صوته إلينا عبر مجموعاته الشعرية صغيرة الحجم لكنها القابضة على الحياة برمتها … عبر شاعرية نزقة أحياناً وعصابية الألم أحياناً أخرى ، وباسمة ساخرة أحايين ثالثة .

وسأحاول هنا الدخول في المكاشفة والإيحاء والسّبر .. والفهم .. والتقصي عبر مجازفة نقدية ليست مضمونة النتائج .. لكن يكفيها فخراً إنها حاولت أن تقرأ .

وسأبدأ رحلتي في أربع مجموعات شعرية للشاعر محمد علي شمس الدين هي على التوالي حسب الصدور ، وهذه المجموعات هي المتوفرة لدينا شخصياً … وربما في فلسطين ، أيضاً .

1.   "قصائد مهرّبة إلى حبيبتي آسيا" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2 بيروت، 1983،وهي المجموعة الشعرية الأولى التي صدرت للشاعر عن دار الآداب العام 1975 في بيروت.

2.       "أميرال الطيور"، دار الآداب – بيروت، 1992 .

3.       "يحرث في الآبار" ، دار الجديد – بيروت ،1997.

4.       "ممالك عالية" ، دار الآداب – بيروت ، 2002 .

 

" قصائد مهربة إلى حبيبتي أسيا" :

مراجعة حاسمة لسدرة الأرض ، وغاب الماء، وطوفان الدم

    لايكتشف الناقد والباحث الإسباني بدرو مارتينيز مونتافيز أن الشاعر محمد علي شمس الدين قدم شيئاً مدهشاً وعميقاً ومقلقاً في هذه المجموعة وخصوصاً قصيدة " البحث عن إسبانيا" ويقول عنها: "منذ اللحظة الأولى التي قرأت فيها " البحث عن غرناطة" لمحمد علي شمس الدين شعرت بإرتعاش غريب، أو بوخز ، وأحسست أكيداً ، أني اكتشفتُ شاعراً أصيلاً " .

    ويصف هذا الشاعر أن به شيئاً من المجازفة، مكثف وصعب، لا سيما أنه عرضة لكل الأشراك .

ويضيف : " شعرت أيضاً بأن القصيدة تحمل حساسيات ورياحاً جديدة إلى الشعر العربي ، رغم أنها بطبيعة الحال ، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بحركات ونزعات وأسماء سابقة ، يتأتى أننا لا نستطيع أن نفصلها عنها .

واختصاراً ، فالأمر يتعلق بمثال واضح لما هو جوهري للشعر الحقيقي : إيقاع الاتصالية والتجديد.

    و أيّاً يكن الأمر إلاّ أن ديوان "قصائد مهربة إلى حبيبتي أسيا" ينبئ بالكثير : إاذ ما فردنا حياته ومعانيه وانفلاتاته النصية على شوارع الحياة ، إذ هو إلاّ اختزال لهذه الحياة أو تلك عبر هاته القصائد المهربة .

وسأتقصى الآن عبر هذه المجموعة ما هو مخفي خلف الروح .. وخلف الكلام .. تلك الينابيع التي تنبثق منها هذه القصائد من روح الشاعر . ولعني هنا لا أجازف الحقيقة في شيء إذا قلت أن شمس الدين ملوّع بانكسارات جمَّة .. إنكسارات تبدأ من الطفولة .. فالشباب .. فالحبيبة .. فالوطن .. فالمشروع العربي السياسي برمته .

    فهو يحس وكأنه مسؤول عن كل هذه الانكسارات محاولاً السفر في أحشاء تضاريسها ليصل إلى تبريراته الخاصة فيها مع العلم أن نصه الشعري ليس تبريرياً أبداً .. بل على العكس تماماً .. إنه اتهامي من طراز رفيع ، وجارح من طراز أرفع ، إذ في قصيدة الديوان الأولى "الطوفان" يعرّي العري والأرض .. والماء والدم على نحو يتغص فيه عذاب اللحم الآدمي عبر ثورية فنية خلاقة ، يكمن وراءها من خلال عتاب الطير . أو لنقل جعل الطير هو عنوان موضوعة الشعر .. ولكنه في الحقيقة إنما يعبر عن الإنسان .. الإنسان الشمولي برمته ، بكل أخطائه وعثراته .. بكل جحيم عشقه .. وتبرم أسئلته الوجودية وكذلك الأسئلة الماورائية لماهية الإنسان :

"عارياً كان يعدو على سدرة الأرض

والأرض تعدو على غارب الماء

والماء يعدو على صهوة الدم

والدم يطفو على بقعة في الشتاء

ناشراً لحمه للطيور الأبابيل تغدو خفافاً

وتنقضّ ساديةً

ثم تأوي إلى برجها في السماء" .

    والعري هنا ، ليس عري الجسد وحسب ، إنما هو عري الروح ، أيضاً .. أو عري الحياة .. الذي هو الانكشاف الفاضح ليس بالمعنى الديني الجسدي ، وإنما بالمعنى الحياتي الوجودي ، وكأن شمس الدين يريد أن يقول لنا إننا مفضوحون من طفولتنا حتى الأرض والماء والدم .. واللحم ، أيضاً . إنه عري إنساني لا يتطهر إلا بمراجعة تاريخية حاسمة وحازمة لسدرة الأرض وغارب الماء وطوفان الدم .

    نعم ، بهذه القراءة الأولية يبدأ الشاعر محمد علي شمس الدين قراءة الحياة العربية ، وفاتني أن أذكر قبل الدخول في هذه المجموعة إلى أن محمد علي شمس الدين في شعره يحتمل تعدد القراءات وتعدد المعاني ، وهذه ثيمة من ثيمات الشعر الراقي الذي يدوم .

    إن مفتتح العري له أولٌ .. وليس له آخرٌ ، إذ بعد ذلك يتعدى كل المألوفات والتعاريف والقيم والمجازات التي ألفناها في حياتنا العربية ، ليصل بنا إلى تمرد الثورة في الشعر من داخله .. ومن معاينه ومن تعدد زوايا قراءاته ، لكن ليس قبل أن يعطي الطفولة المسروقة .. المنهوبة  .. المنكسرة كل معانيها .. في صراخ تحت الجلد ينبض الشعر فيه أو هو ينبض في الشعر :

"يتناثر في حلمات الريح

ويدخل في سبلات الماء

وتسكنه الآبار

طفلاً ...

خبأتُ ملامح وجه الطفلِ

وأعلنت النرجس

ودخلتُ مدار الهلّة مهداً مذعوراً

خطفته طيور سابحة في الريح ترفّ جوانحها

وأنا

والريح تزملني

أتداخل بين غصون الليل أعرّيها

وأراه يضيء ويسقط في حلقات دمي

جذلاً

كالرعشة حين تغرد في رحم الغابات"

    وما يؤكد حقيقة العري هذه التي نحاول قراءتها عن الشاعر شمس الدين يكفي أن نلتفت إلى وجه التقارب والتباعد في بين مفردات وجمل شعرية مثل : "الريح تزملني" و"غصون الليل" و" أعريها" و"يضيء ويسقط في حلقات دمي" و"رحم الغابات" .. إنها مفردات وجمل شعرية تنقلك من أقصى العري إلى أقصى الستر الباحث عن نفسه في غصون الليل ورحم الغابات .. وحلقات الدم .

    على أن هذا العري ، كما قلنا ، لا يعبّر عن حلقة ماجتة ، بقدر ما يعبّر عن حالة انكشاف الضعف الإنساني العربي أمام الآخر ، وهو ما حاصلٌ فعلاً حتى اليوم :

"سلام على الخنجر البارد

عنقي يتفتح مثل الجمرة في ريح الفلوات

ويقدّس كل هواء الكون

يتقدّم بين الموت وظل الموت ويفتتح الظلمات

ويدّون في قديمه العشب

وبين يديه الماء

ويرسم ظلَّ أبيه على الطرقات

فأنا الصعلوك الهائم خلف أبيه وخلف حبيبته

ويقول سلاماً يا عشاق العالم

لا يسمع غير صدى يتماوج خلف صدى يتماوج

خلف صدى ... يتما ... ....

وسماء تغلق مصحفها

وعويل خيول

يبكي

ويقول :

في الأرض خيول عابرة للصحراء

وخيول عابرة للأحزان

وخيول عابرة للأصوات الكونية

وخيول يأكلها (البدو – الغربان) إذا جاعوا ".

    هنا تترصع المأساة وتتجلى بأسمى معانيها في أتون القول الذي يفضح ويعري .. ويجسد خاتمة ما كنا وصلنا إليها لو لم تبرد الخناجر ولم نترك الخنجر إلاّ للأعناق .

    إنه صوت جارح ، وحقيقي ، وشعري بامتياز ، يأخذك معه إلى هضبات التأمل .. تلك التي لا تصلها إلاّ معه ، ويتركك هناك تناشد أكثر من قراءة للقول الشعري .. فتحار فيها جميعاً لأنها كلها طالعة من حجر القلب ، وممن فضاء مفتوح على آفاق الرحب .. ذاك الذي تسبح فيه بامتياز في / وعبر الشعر الذي يعطيك أكثر مما ينبغي .. وتتأمل نفسك .. وروحك وتجاربك فيه ، فتحس إنه لك .. ومعك .. إنه يقولك .. يقول وجعك بكل صدقه ومرارته .. حزنه وجرأته .. بكاءه ولطمه .. إنه أنت حينما يقول :

"من سورة الرعد

وجهكِ الرعدُ

وقرآني اجتراح المطر

وأنا فيكِ نبي الرملة العطش

إمام الحجرِ

فهلمي

آية الوعد هلمي واقرعي

خشب الصدر اركعي وانفجري

واغمريني" .

إنها تتجلى هنا ثنائية الجرأة والتحدي ، الصدق والاعتراف .. الرعد .. والمطر .. والعطش ..

خشب الصدر ... والماء .. ثنانيات تتبارى وتتشاجر في روح الشاعر ليوصلنا بها إلى برِّ الأمان:

"يوم نصبتك في الغار عروساً للعبادة

وجلوتُ الصدأ الدهري عن سدرة عينيكِ

وعانقت الإله المستحيلا

كنتِ لي ظلاً وعنقود رطب

اطلعي الآن من الكهف إلى مرآة وجهي

واملئي كل التضاريس غماماً ونخيلاً

واغمريني"

    إنه هنا يفكك لحظات الارتعاش في الحياتي ولحظات الارتعاش ، أيضاً ، في المبدع ليوحّد بينهما على شكل نشيد قدّاسي ، قادم من سحر كلام مقدس أو من سحر تأملات تنبؤية أو نبوئية ليصل إلى كمال لحظة الانبعاث في ترابط الإبداعي والحياتي عبر شروط إنسانية مبنية على تأمل رسولي .. وأمر مهول في الالتصاق أكثر بصوفية شغفة بمن تحب ..

    إنه الإغواء الأكثر تبجيلاً في ألسنة الشعر المبدع ، بل لنقل أرسلته .. أي جعله رسولياً وله أهداف حياتية وعاطفية إنسانية ، ونبوئية ، تتعدى حدود ممكناتها لتصل فيما بعد ، في دواوينه القادمة أكثر ارتكازاً ، أو أكثر تخطياً لمرحلة الرسولية هذه عبر عباءات الممكن والمتجدد في آن.

    في مجموعته الشعرية الأولى : "قصائد مهربة إلى حبيبتي أسيا" يحشد شمس الدين جل مشروعه الشعري الحياتي بكثافة عالية تصل حدَّ تلخيص ما سيجيء بعدها من مجموعات .. ليس على شاملة التكرار ، كما سنرى لاحقاً ، وإنما على شاكلة الرسائل المشفرة التي تعطيك العناوين والاتجاهات المستقبلية لمستقبل شاعر .. وروح ووطن .. بل أوطان وعوالم لا تقف عن حدود .. ولا يحدها زمان .

فهو في قصيدة "أربعة وجوه في مرآة مكسورة" يداخل الأزمان عبرها والمعاني .. باغتراب الروح .. والرسالات التي يقف بين يدي رسوله الأكيد على نحو خاشع ومحب حدَّ النبوغ ، وهذا الوقوف يأتي على لسان الحجاج :

"وجمعت نفسي لترتيلة من رسول كريم

أتى صوته من وراء المحاريب عذباً

ندياً كغيبوبة العاشقين

أتى ناعماً كالسطوح التي فارقت ساكنيها

أتى واصطفاني إلى مسجد في جوار المدينة ".

    على أن هذه هي ليست النقلة الوحيدة في الوجوه التي تعبر المرآة المكسورة .. ثمة مفارقات شجنية وعاتية ، آسره .. ومتمردة حتى تصل بالعظام إلى منتهاها الطبيعي .

على أن تداخل هذه الوجوه الأربعة في المرآة المكسورة يجمع بينهما قاسماً مشتركاً ، وربما أكثر، إلا أنه على الأقل العظام التي نراها ترعد تارة .. وتستريح تارة أخرى :

وهذه الوجوه الأربعة التي تمثل : "وجه الحجاج" و"وجه ليلى" و"وجه أمي" التي هي الأم" الشمولية، و"وجه لحامد" الذي هو أحد أبطال "أم سعد" المجموعة القصصية للشهيد غسان كنفاني .

وأجمل ما في هذه الوجوه وتداخلاتها هي خلاصاتها التي يصل إليها الشاعر عبر فنية وشعرية عالية وحارة :

-        وجه الحجاج :

حدثني

يا شيخ الرايات السود

ويا وتر الغضب المحموم

وانظر

ما تبصر في قسمات الوجه المهزوم ؟

قال اسمع يا ولدي :

هذا زمن غلبت فيه الروم

فإذا ما اهتز السيف المرجاني

على عنق الطفل المفطوم

فاقرأ : (سبحانك)

ثم اغمس كفيك بساقية النيل المسموم

وتوضأ بالدم ...

اغسل وجهك بالزقوم

فالدم ...

الدم ...

الدم ...

هو الحي القيوم ."

أما خلاصة وجه ليلى فهي على النحو التالي :

"علّقتُ على باب الدنيا

قلباً مطعون

وصلبت جناح الطير على جذع الزيتون

ونقشت على عنقي سيفاً

وعلى هدبي سيفاً مسنون

وشنقت الشمس بأعتابي

وصفعت قفا القمر المفتون

لا قيس أحبَّ ، ولا ليلى

عرفت وجهاً للجنون ."

وكانت خلاصة وجه الأم على النحو التالي :

"فرشت أمي

ما بين الموتين لي الهدبا

فعبرت الجسر

غسلت ببحر اليرموك التعبا

وأقمتُ : وجذع الماء دمٌ

ودمٌ أرّخت به العشبا

صبّي يا أم على تعبي

زهر النارنج إذا التهبا

فالموت يمهّد لي سبباً "

وخلاصة وجه حامد هي :

"آه لو تسمع هذه الريحُ وهذا الليل

هذا الصمت وهذا الأبد النائي

وعيناكِ ندائي

فأنا أحفر في الريح ندائي

صرخة

تمتد في أروقة الذكرى

إلى سر بكائي

فإذا ما ارتج في وحشية الصمت

عذابي

أو جنوني

صحت من قاع أساطيري استقبلي

أمطري

أو فاستقيلي

يا سماء القرد والرب القتيل

أمطري

أو فاستقيلي

يا سماء القرد والرب القتيل

أمطري

أو فاستقيلي .

    لكن الصورة الدقيقة والمعبرة التي يعكسها عنوان القصيدة "أربعة وجوه في مرآة مكسورة" لهي الدليل الحي على تداخل النصوص الأربعة = الوجوه في انكسارات المرآة وتعرجات خطوطها بحيث وأنت تقرأ وجهاً منها تحس بأنك تكمل الوجه الأخر الذي يلي .. أو الذي سبق .. وهنا تكمن لعبة المقاربة في الإيحاء والتأويل ذاك الذي يعطي معنا شمولياً للنص برمته .

"أميرال الطيور" :

انفجار الأسئلة الصعبة

    مع مجموعته الشعرية "أميرال الطيور" يكون محمد علي شمس الدين قد وصل إلى منحى رفيعٍ في قوة الصوغ ، ودقته .. واختيار العبارة .. إذ أصبح التكثيف في المعنى المترافق مع اختزال في اللغة هو السمة الأبرز في قصائد هذه المجموعة برمتها :

"وتدور دماؤك في الأقداح

وتصعد

حتى تلمسَ وجه القبة

هذا أنت

وليُّ الدم

وقربان اللغة الصعبة

وأخيراً ...

ترحل عني ؟ "

وينفتح هنا القول الشعري عبر إيحاءاته ومراميه وأبعاده إلى آفاق تحتمل أكثر من قراءة واحدة ، إذ تتعدد المعاني في الجملة الشعرية الواحدة . وتنفتح ظلالها على مساحات أوسع في إطار النص الشعري الشمولي :

"يا أيها الجميل في مدار الموت

تدور حول نفسك المعذبة

كما تدور قطعة عمياءُ حول نفسها

وتنتهي في الصمت

كنقطة في جوف هذا العالم الضرير

فقم

إلى سريرها الأخير

وهزّه

كما تهز فارع الشجر

فربما

تساقط الثمر

من غصن هذي التينة البيضاء

وربما

نهضت في الصباح

من أحلامك السوداء

محتفلاً بالشمس

وقلت ، ماحياً

ما كتب الشقاء :

لا بد للجميل أن يعيش مرتين

لا بد للجميل أن يعيش مرتين ."

    إن هذا المقطع يعبّر عن المنطقة الوسط في النقلة الشعرية فنياً لشمس الدين ، إذ بدأت المفردات تتقلص لصالح تكثف المعنى على حساب الدفق الموسيقي ربما أيضاً، إذ أن الشعرية الكثيفة والدافقة المزروعة في ديوانه الأول "قصائد مهربة إلى حبيبتي آسيا" والتي كانت تسير كالمياه العذبة دفاقه في شرايين القصيدة ، نجدها هنا بدأت تأخذ شكلاً موسيقياً أكثر عقلانية وأقل دفقاً كما هو مبين بوضوح أشد هنا :

"يتكسر قلبي

في حضرة وجهك يا مولاتي

كالكوكب

كوكب طبشور

أو عصفورٍ متعب

مرميٍّ تحت سماء الله

وجهك يا مولاتي

ذي الأبواب السبعة والأقفال ."

    على أن هذه النقلة مع ما رافقها من انفتاح نافذ على المعنى الذي جاء بكل قوته ، والذي بدأ يتوحد في موسيقاه الخاصة ، ويأخذ منحنىً متفرداً في تميز شعرية الصوت واللغة والمعنى :

"لم تمت إلاّ كما يغُشى عليك

أيها الغائب في الوجد الطويل

***

فانهض الآن

وجسَّ الأرض

وجسْ نحو الأرض

تسمع نبضها

نبضها العالي

وميزان الفصول ."

    بدأ الخطاب الشعري هنا في هذه المجموعة ينفتح على آفاق أرحب من المعتاد .. والسائد ، ذاك الذي تحدده المفردة ، إنه غدا مثل فضاء سابح في المسافة ، فحيناً يصبح الحزن على الحبيبة مثل المسافة بين انفتاح الساعدين .. وتارة أخرى يتمدد ليصبح أو يصل إلى سقف السماء .. وهنا في هذا المناخ بدأت تتفجر الأسئلة الشعرية الصعبة ، تلك التي تفتح أبواب أسئلة أخرى ، وهذه أهم ميزات الشعر الراقي :

"كان لا بدّ أن أنتهي

مثلما قلتَ يا صاحبي

دونما كوكبٍ

هكذا جرّني حبّها من يدي

مرّة

مثل طفل جميل

فأمعنت في السير حتى انتهيت

ولا شيء خلفي ،

سواي

سواي ، ولكنني من أنا ؟

لستُ حتى خطاي

خطاي أو الظلَّ

ظلي هزيل

وفوقي عصافير منذورة للرحيل

إلى أين ؟ "

    لاشك أن الشاعر محمد علي شمس الدين قدم لنا في هذه المجموعة ، مثل غيرها من المجموعات، قصائد متميزة بحق أجمل ما فيها أنها تُحقق الإدهاش والإمتاع إبان قراءتها ، فضلاً عن أنها تنقلك إلى عوالمها .. عوالمه رغماً عنك لتتوحد فيها لاهثاً معه ، مبتسماً معه ، حزيناً معه ، صارخاً معه ، بحيث يتحقق الاندماج بين روح القصيدة وروح الشاعر من جهة ، وبين روح المتلقي من جهة أخرى .

"يحرث في الآبار" :
تمرد المغامرة .. واتساع الحياة

    ينطلق الشاعر محمد علي شمس الدين في ديوانه "يحرث في الآبار" الصادر العام 1997 من مفارقة البحث اللائب والدؤوب ضد الصعوبة واللا تحقق ، فهو شاعر يتحدى بكل ما لهذه الكلمة من معنى ، والتحدي مهما كان نوعه واتجاهه ، هو مغامرة لها جمالياتها الخاصة والمميزة .

فالحراثة في الآبار تنم عن فعل كبير الصعوبة ، بل فيه من الاستحالة مثلما فيه من وجع المغامرة ، فهو حرث على النقيض تماماً من حرث الأرض ، الذي هو على سطح الأرض من جهة ، وشاسع المسافات ، بينما الأول حرث شمس الدين ، عميق (لأن الآبار عميقة) وضيقة المساحة من جهة أخرى ، إضافة إلى الفارق العميق والأساس ، الحراثة في الماء ، تلك الحراثه التي لا تنتهي أبداً ، لأنها تعطي الماء .. بعد الماء ، وطبقات الماء هذه تلخص بمعنى ما ، مع رديفها الأساسي "التراب" العناصر الأولى المكونة للوجود .. إنه حرث وجع ، وكأن شمس الدين يحاول في ديوانه أن يصف الوجع ومرارته منذ بدء التاريخ :

"ميم

فلاح الغيب

وساقية الأسرار

يحفر أحياناً في القلب

ويحرث أحياناً في الآبار."

وبين "يحفر" و"يحرث" علاقة دلالية مرهونة بمصبها الأساسي ، فالحفر في القلب ، بينما الحرث من الآبار ، وهذا يقودنا إلى التوازي بين القلب والبئر ، وما بينهما من أسرار وطراوة وأعماق.

"أثلام الماء على سكّته

تنشف

فيخرج منها زبد مبهم

يأخذ "ميم" الماء بكفيه

كما يأخذ قمح الموسم

ويحدّق فيه

فيبصر صورته

تتماوج بين يديه

فيضغط حتى لا تفلت من بين أصابعه عيناه ."

    ولنتابع مع شمس الدين ، وهو صاحب تجربة شعرية مميزة وعميقة ، فتوازن الحفر والحرث بين القلب والماء والأرض من جهة وما ينتج عنه كحرث مجازي ، أشبه بإحداث كشوفات باطنية في المعاني والدلالات التي تشكل مفهوم الإيحاء الشعري عنده ، هذا الإيحاء الدال على تكثيف كبير على نحوٍ ما ، عندما تنشق "أثلام الماء" على سكته صورة معبأة بالوجع الإنساني ، بل حتى الوجع الإنساني بعينه ، وجع أشبه بغثيان لحظة ما قبل الموت .. وحتى يكتمل المعنى في قوته ودلالالته "يخرج منها زبد مبهم" هو زبد خلاصة الوجود من جهة ، وزبد النهاية ، تلك النهاية المبهمة زبد = نهاية لا تصل إلى شيء ، ولا توصلنا إلى شيء ، فتركنا معلقين بين الأرض والسماء ، لكن سرعان ما ينقذنا من هذا المشهد التراجيدي ،فلاح الغيب الذي يرعى ساقية الأسرار ( أنظر التماثل الرقيق بين "الغيب" و "الأسرار") ينقذنا حينما يتقدم في القصيدة ويأخذ الماء بكفيه ، كما يأخذ قمح الموسم أيضاً ، يتجذر التماثل ثانية بين "الماء" و"قمح الموسم" ، وما تحديق هذا الفلاح الذي هو "ميم" أي الشاعر نفسه ، ربما ، أو أي فلاح آخر ، الذي يبصر صورته تتماوج بين يديه ، إلاّ أن إحالة هائلة وعميقة لتداخل الإنسان بالأرض والماء والهواء والزبد والبداية والنهاية ، وكأن شاعرنا يريد بتمرد مغامرته أن يوسع من إطار الحياة التي تقودنا في ضيقها ، رغم اتساعها الجغرافي إلى "البئر" .

    لنعد إلى الصورة وتتابع معناها ، الصورة تتماوج في ضغط حتى لا تفلت من بين أصابعه عيناه ، هنا تدخّل عنصر بنائي جديد أضاء المشهد بكليته ، لأن العين هي الضوء والاتساع ، والبئر هو الضيق والظلمة من جهة ، إضافةً إلى أن الماء في البئر يتماثل بشكل ما ، مع العين التي تنبض بماء ضوئها .

    والمقارنة هنا بين الأضداد والمتقابلات في صراه حاد ودائم ، إلاّ أن هذا الصراع ، تارة ينكمش .. يضيق ، وتارة يتسع .. وينفرد على سطح الأرض إحدى دلالات الحرث المجرد ، وتارة أخرى يتعمق "الحفر في الماء" الذي هو حفر في القلب ،أيضاً .

ونواصل مع القصيدة مع اكتمال ذروتها ونهايتها :

"هذا الماء

جميل

وعميق

وأنا فيه

كنرجسة في النار

"ميم" الآن ينام على شفة الرؤيا

لا يهبط نحو البئر

ولا يصعد نحو الأمطار. "

    لكن هذا الماء "الجميل" الذي يغلق بدء التكوين الإنساني و"العميق" فلاح الغيب فيه كنرجسة في النار ، كأن الشاعر يريد أن يقول : جمالية التكوين الأول في الماء الأول العميق والمبهم بقراراته مثل الحياة تماماً يتسع لكل تنافضات الجمال والعمق والأسى والمرارات والحرائق ، فهو يتحول – كالحياة تماماً – إلى نيران ، وفلاح الغيب = الشاعر = الإنسان هو نرجسة الوجود ، لكن "ميم" يظل معلقاً في تناقضات الماء على شفة الرؤيا ، أيضاً ، موتاً على نحو ما لأشياء ما قبلها ، وقداستها التي تتماثل مع قداسة الماء والسماء ، ماء البئر ، وما المطر ، هذه القداسة المتواصلة ، يظل "ميم" الشاعر ، الفلاح = الإنسان معلقاً في بون المساحة الخاوية في نيران ماء البئر التي هي نيران ماء الحياة .

    هذه الكثافة في الدلالات وتشابكها على نحو متسلسل في صراع يلخص الصراع الإنساني منذ بداية الكون مع الحياة وأشيائها وعناصرها ، التي عي عناصر تكّون الإنسان نفسه ، وبالتالي هو صراع متواصل مع  الإنسان نفسه ، وهو ليس صراعاً مادياً ، إنه صراع يأخذ مساحة واسعة في الروح الإنسانية وانثيالاتها على عذاباتها وتحدياتها لمساحات وجودها المحدودة والمرسومة بدقة ، هنا يتجسد التمرد لكسر حدود الأشياء في الروح والحياة معاً ، لينتصر الإنسان الذي تتجسد صورته في كل الأشياء ، ولكنه انتصار هائم معلق في فراغ الصحو والنوم .. في فراغ يمتد بين آبار الأرض وأمطار السماء ، ولعل هذه القصيدة صورة واضحة عن كثافة شعرية محمد علي شمس الدين ورهافة روحه الوثابة .. القلقة النزقة ، الثائرة على حدود الممكنات والاحتمالات .. فنياً يكثف شاعرنا لغته باختزال جم ، لتتوازن مع المعنى عميق الدلالات للنص من جهة ، حاملة نبضه على نحو متميز ، إذا لا يمكن لعمق المعنى أن يتأتى بوساطة لغة مسطحة والعكس صحيح ،أيضاً.

"ممالك عالية":

قصة نبوغ القصيدة

    ينطلق الشاعر شمس الدين في ديوانه الأخير الذي وصل إلينا "ممالك عالية"، من التأطير الحياتي للنص على الأرض .. إلى الهيمان بالفكرة الشعرية وسط نبوءات ومخيالات لا تقنع أبداً  بما دون النجوم ، وهذه النصوص تشكل تحدياً ما مع الخلق .. تحدياً يجدر به أن يكون مع قوة الطبيعة، تلك التي لم تفلت منه أبداً ، لكن شمس الدين في النهاية لا يستطيع أن يتخلص من محسوساته الأرضية ، فهو يصارع بحق ، وبكل جدارة ، إلى رفع النص الشعري إلى منتهاه كوحي أعلى يسجل في مضامينه نبوغ فكرة القصيدة ، لكن القصيدة في النهاية هي تلك المرآة .. أو الأرض المفتوحة كل الاحتمالات بدءاً من المعاش القاسي ، الصلد ، المليء بتكهن الخديعة والمكر .. والانهزام والتلوي على فراش لم يكن أبداً ويثراً بقدر ما كانت تنبت تحت قطنة السيوف والخناجر ، بذلك راح يغذُّ التحليق في سماءات عالية أعلى من سماءات الممالك والملوك .. لذلك جاء الديوان تحت اسم "ممالك عالية" .. وهو في الحقيقة يحكي قصة نبوغ القصيدة ، ورفعها إلى مصاف سدنة البانثيون المقدس ، لذلك نجده يقول :

"شيّدت مملكتي

وأسدلتُ الغناء على قصوري

أعلى الممالك ما يشاد على الزهور

لا السيف : هذه حكمتي

منقوشة فوق السحاب

وفوق سارية الأثير

ونظرت نحو سمائها الزرقاء

فاحتشدت نسوري

في الجو

قال الله حين رأى مفاتنها

تعال وخذ إليك فمي

وإليك نوري

وتعال نلعب

كي نغيّر ما تقادم في الزمان وفي الدهور

من هذه الأرض التي هرمت

وزاحمت الكلاب على القبور

وقرعت كأسي بالذي برأ الحياة

وقال للأفلاك دوري

وجلست أكتب والنجوم شواهدٌ حولي

ومملكتي سطوري ."

    من هنا يبدأ النشيد ، ذاك الذي ينفتح على قصيد .. يتعجل الخلق .. لكنه هناك في الأعلى يقيم ممالكاً وحيوات .. وأساطيراً تلد الحياة على نحو جديد . إنه شعر يسطع في فلك الانفتاح الأعلى لنص يؤاخي ويزاوج بين كل متناقضات الحياة ليصل في النهاية إلى قصيدة الحياة .. تلك القصيدة التي لا تؤطر زماناً أو مكاناً ، أو ذكريات مهزومة أو منتصرة ، إنما هي قصيدة الحياة بما تعجّ من متناقضات الوجود والغرام المميت ، والسياسة القاتلة ، وتجارب الحياة المريرة .. بكل أسباب الحياة .

    قصيدة مفتوحة على آجالها وأسمائها الأخرى غير التقليدية ، ومفتوحة ، أيضاً على حيوات جديدة .. يصل الشاعر فيها إلى مكامن الضوء الإبداعي .. بعبقرية تحاول .. وتحاور انفجارها في اللغة لتصل إلى كمالها المؤقت .. تلك العبقرية التي لا تخلو من عبق الإنسان العادي .. وهموم وانكسارات حيواته العادية .

إذاً .. علينا إن نصدق الشاعر محمد علي شمس الدين في رحلاته الهذيانية في / وعبر ذاك الذي يكتبه بشكل استثنائي ، وعبر لحظات يكون فيها شمس الدين في معابر التمزق التام ، أو الخلق التام . لكنه يظل الشاعر الذي يحاور .. ويحاول القبض على  جمرة الحياة في الشعر .

"ها أنت تنهض من ظلام دمائك السوداء أبيض

عالياً

كالبدر مكتملاً ومشتملاً على أسماء من غسلوا

عذابك

لم تصطد بها طيراً ولكن أجمل الغزلان رأسك

في دوائره النبيلة حينما صوَّبت لم تخطئ ولم

يخطئ

جنونك يا جميل ويا مشعث يا جميل غلبت من عاشوا

بموتك شاهقاً كالنسر حين

يدق في صخر الجبال ضلوعه لعيش منتشراً

على الأكمات في لبنان منتشياً بريش جناحه

المنشور في الظلمات كل قلاقةٍ نجمٌ وكلُّ

دم تفجر من منابع هذه الأرض القديمة ."

     ويستمر التدوير المشحون في ألق المعاناة الإنسانية .. وصخب اللغة .. ونبوغ المعاني عبر لغة انسيابية محملة بكل طاقات الخلق لتصل إلى منتهى الشكِ والقين في آن .. لكن هذه اللغة التي تصارع جبالاً من الجليد في ركود الحياة ، أتفلح في تقصي ما هو مزيف وما هو حقيقي في إطار المعاش الحياتي ؟!

     لا يهم كثيرا الشاعر شمس الدين إن كانت هذه اللغة ستغير بعد حين أو بعد أعوام ، لكن ما يهمه أن يركز ويركن نبض هذه اللغة المتفجرة والمشحونة بكل أسباب التغيير في مكانة الصحيح في ميدان الروح الإنسانية .. إذاً المسألة ليست في الامتداد الزمني الأفقي بقدر ما هي في الامتداد الزمني العامودي ذاك الذي يحفر عميقاً في الروح واللغة في آن .. تماماً كما يفعل شمس الدين في نصه الحافل بكل أسباب العيش والنقاء والخلود . لأنه نص لا يجامل .. ولا يخادع ولا يتودد، بقدر ما هو نص يحاول صنع قرارات تمرد وثورة على الروح أولاً ، وعلى المفاهيم ثانياً وعلى كل ما هو سائد ثالثاً . لا محرم في الشعر عند شاعرنا شمس الدين .. ولا بانثيونات مرسومة ، ولا حبيبة مؤقتة أو زائلة .. إنها حبيبة واحدة .. ابتلى بها فقهرت البلاء ، خانت .. أو ابتعدت .. أو جارت .. وتجبرت ، لكنه ظلَّ يحفظ لها ما حفظ قيس لليلى العامرية .. لكنه لم يجن .. إنه وصل إلى منحى أبعد من الجنون .. وما بعد الجنون هي تلك المنطقة من جنون الجنون المفتوحة على منتهى التعقل والمفاضلة الروحانية بين إرث عاش فيَّ أو عشت فيه .. لذلك نراه المجنون الذي يتمتع بمنتهى العقلانية في نصه ذاك الذي يشيد ممالك عالية فعلاً في أتون الصخر والنار .. والتراب :

 "ملائكة سوداء تجوب شواطئ مملكتي

وفلول عناكب غامضةٍ تزحفُ نحو الغابة

قطعان الحبر تدافع عند مداخل رأسي عن

موقعها

فتموت

وتسقط منها الكلمات على ظهر الكلمات

يتدحرج شيء ما كالياقوت على الطرقات

جسدي ملقى في ما لا أعرفُ أينُ من العالم

ملقى في البئر أم القبر أم التابوت ؟

وأقول وقعت إذن يا ولدي

ووقعتَ ، وقعـ ...... ت َ فنم

نم حتى تسلم

كيف ؟ أنا كيف أنام

وأنا مذ ولدتني أمي لست أنام

جفناي اتّسعا بالألم الرباني

وفاضت بينهما الأنهار ."

     هكذا يتكوّن نشيده جارحاً .. وجارفاً ، تكتظ في ثناياه المعاني وتتزاحم الصور والتراكيب حتى لتحس سحر البيان يتمثل أو يتجسد في نصه الذي يعرف كيف يفتح ويفضح رغباته العامرة بشتى أسباب الحياة والتصالح مع الجمالية الماهرة في حيواتنا .

     بعد كل هذا ، لا أعتقد أن ثمة خاتمة ترتجى لتحدد الخصائص والنقاط المميزة لشعر شاعرنا شمس الدين ، إلا أنني كم بودي أن أقول صارخاً : تحيا القصيدة ، قصيدتك يا محمد .

 

  • شاعر وناقد فلسطيني يقيم في بيرزيت – فلسطين .

 

 

 

 
 
 

 

 

 

معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

مؤلفــات بطاقة تعــريف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال   مواقـــع  خزانات الموقـع صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

موقع سعيد بنگراد - تاريخ الإنشاء: نونبر 2003