تحولات المكان.. والنص والشاعر
هل ثمة من متسع للشهقة خلف سراب القصيدة؟
هل ثمة من متسع للخطوة على الدرب الذي يلتف كحلزون حول الكاحل؟
هل ثمة متسع للريح أن تصفر في جيوبي الخاوية؟
كل هذا
!! ولا شأن لي باللهاث الأسود المنكوء الجراح..إذ ينز الدَّم من
الحلق.. وبين الأسنان وحدقات العينين!!.
هل ثمة متسع أن يترجل الشاعر راكبا خطواته الرميمة مع المصادفة.. تلك
التي تجعلني أحس وكأنني "غريب كصالح في ثمود".
أترفع عن تفكيك الخطوة والشارع والمسافة.. لأن الشاعر حينما يفكك
فإنه في الواقع يبني أو يعيد بناء ذاته على نحو جديد..
كيف لي أن أبني ذاتي ونصي وقصيدتي على نحو جديد؟!
والمدينة أمامي وبين يديَّ طوال اليوم، تتنفس في ضلعيّ وتحرق شوقي
إلى دخول الأشمل فيها والأعم.
لست أعمى .. لأرى؟!
لست أبكم.. لأسمع؟!
كل شيء أمامي بالتمام والكمال يتجسد: نوافير ماء، أكواب عصير تخترق
الشارع مقبلة شفاه امرأة خطوتها فرحة .. جذلى لكن المكان لا يتسع لكل
هذا الفرح، ربما!!
والمكان في حقيقته إندلاق الخطى في الممرات، نبوغ الخطوة في الطيش،
لهاث التعب عن المنعطف وبكاء الباكيات في زوايا المقاهي.
المكان دعة المجهول في الوقت، رهينة الإرتجاس في الوصول .. هروب
الدمعة من العين، لقاح الأشياء بالأشياء، بكاء الثمر المر، نزاع
الشيطان والإله!!
المكان خراب ظلمة الروح في وضح النهار، منارة الإنكواء في الطيش، زيت
محروق اندلق على ثياب المدينة.. تلك التي كانت تتزيا لأحلى احتفالات
أعياد:
رأس السنة!!
والشاعر على حاله
بل زادت بقع الدم في سعاله
ليس من جرح في الحلق، وإنما من قهر لا يعرف كيف يظهر ويعبر عن نفسه،
لكنه مؤمن بحقيقته الرحبة كشاعر يظهر ويعبر عن نفسه "صنو الأنبياء
والصديقين".
-
ولماذا يهرب مني المكان دائما وأبدا إذاً؟!
-
أليس هناك صيغة مثلى للتصالح مع المكان .. الأمكنة؟
-
- نعم إذا كانت هي متصالحة مع جغرافيتها.
-
حينما لا تمد لسانها سخرا معرية ثياب الغريب.. والغريبة. حينما لا
تشمر عن سواعدها النقي صباحا .. ولا تلجم فرس التدرب على المشي
مساءً.
-
إذا كيف لي أن أعرف المكان على نحو لا يلفظني إلى السماء السابعة؟!
-
المكان رقة المنحني في شارة الوقت الخجول. هواء العفة في تدابير شؤون
الخلق.
جنائز لا تودع أحبابها إلا إلى الولادة ثانية، ومن جديد حدائق مزروعة
في جبين الغد ..
المكان متعة روح التحدي وبهاء الحكمة في المقاومة، جديلة عذراء تخنق
بلمعانها الأسود، مكامن العفة في هواء الفجر، شعائر التصوف في دموع
الكهولة، وظلمة المنحني بعد الخطوة الثانية.
المكان ضحكة أولاد هربوا من القبلة، بكاء صبية في تودد القمر، رسوب
العمر في امتحان الحب، حب ماله معنى.. ومعنى ماله حب، ضالة الجنون في
معنى النقمة.. وفراغ الهدوء في تراجع النفس للتذكر الصارم على عتبات
الذكريات.
والشاعر لا يتحد بنبوءاته، الدم أسود أسود.
بلون الليل، ببهاء أكثر صخبا من هدوء المعنى، ومعنى ضائع بين أشهر
القهر.. والولادة. فمن يا ترى يدلني على رعشة المكان في القصيدة تلك
التي ارتهنت للزمان.. الزمان وحسب، وغابت عن المكان بقضها وقضيضها..
حتى بدت مقطوعة الرأس لا يحدها مكان.. أو جغرافيا، رغم احتفائه
النبوئي بجغرافيا المكان! كأن المكان كان منزرعا في شرايين وعروق
القصيدة، ولكنه لم ير نفسه فيها لأنها كانت تسير إلى أبعد من
المكان..والزمان.. إلى اللامكان .. واللازمان، فهناك بهاء الكلم
والعفة والدفء الإنساني الذي كان ذات يوم يلتف على روحي كخيوط
العنكبوت، ولكنه مع الزمن تحولت هذه الخيوط إلى سلاسل من نار تلتف
على وروحي، تشع بنيران الإنكواء حتى غدا الدم يتدفق مع سعالي الوحيد
نصيري على التنفس الصعب.. وعلى العيش الصعب في المكان الصعب..
والزمان الصعب.
هل يتصالح الشاعر مع المكان؟!
أم يتصالح المكان مع الشاعر؟!
هل يتصالح النص مع المكان؟
أم المكان يتصالح مع النص؟
لا جواب على هذه الثنائية الضدية التي تقف في طرفي تحارب وتصارع.
من منهما يصرع الآخر ويجهز عليه تماما:
النص؟
أم المكان؟
المكان؟!
أم الشاعر؟!
ومن هذا الاستهلال التساؤلي البسيط تبزغ شموس وأقمار ونجوم ليالي سود
لا نعرف كنهها إلا إذا ارتهنا إلى تجربة واقعية معاشة، كأن أنقل تعبي
وانجرافي مع \ وفي المكان، أو يخط المكان تفاصيلي العلنية.. والسرية
في أبهاء النهار وبين مرتع الوجد وصراخ الأبجدية.
لكن القصيدة كلما اتسعت استطاعت أن تستوعب المكان! أما إذا إستطاع
المكان أن يكون فسيحا أكثر من اتساع القصيدة، فإنه يبتلعها إلى غير
رجعة!!
وربما لهذا السبب..ولهذه القناعة بالذات، دائما نحس أن النص أوسع من
المكان.. ولا أجد غضاضة في القول أنه يجب على القصيدة أن تبتلع
المكان.. حتى لا يتم هضمها وتغييبها وتهشيمها بل وتلاشيها في المكان.
لكن عراقة القصيدة مستمدة أيضا من عراقة المكان.. ونبوغها مستمد أيضا
من ألوان ودماء وعروق المكان.
لكن، لنصل الآن إلى صيغة تصالح فضلى مع المكان..
هل يتصالح المبدع مع المكان؟!
وهل تتصالح القصيدة مع النص؟!
هل يتصالح المكان مع النص؟!
مهما حاول المبدع والقصيدة على السواء التصالح مع المكان، فإن الأخير
يظل متطلباً متشوفاً عليهما، أنه لا يرضى أبداً أن يتم حشره في
النَّص، أو في روح المبدع، لأن ثمة تفارقات وتعارضات في المكان، سواء
كانت صحيحة أم خاطئة إلا أنه يحبذ البقاء في يوم تفاصيلها وشجونها
وحزنها..فرحها وقهرها.. وعكذا فإن المكان يتمرد دائماً، وفي كل مرة،
على المبدع وعلى القصيدة أو النص في آن.
ولولا هذا التمرد، لفقد مكنوناته كمكان، ولكن الشاعر أو النص يتمرد
بدوره أيضا .. وهكذا بين تمرد النص.. وتمرد المكان، تظل الدائرة
مفرغة، وهي بوح السباق بينهما، لكن هذا السباق في كل مرحلة من مراحل
عمر المكان وعمر النص وعمر المبدع، يظل ينتج الجميل، الخالد والمبدع
الحقيقي.
لعلني أتمنى هنا أن يحتلني المكان ليلغني أو يقهرني على نحو ما، لأنه
لا يملك أبداً وسيلة التصالح معي، فهو في كل يوم يفاجئني بالجديد
وغير المتوقع..
ذاك الصادم.. الهادم الذي لا أحتمله أبداً..
ولا تحتمله روحي على الإطلاق!
|