معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

مؤلفــات بطاقة تعــريف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال   مواقـــع  خزانات الموقـع صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

 

فيصل قرقطي

 

 

  رحيله شوكة في القلب:
 
القيسي شاعر "حمدة" والجلزون والوطن
 
عشت غريبا .. ومت غريبا، رغم أنك لم تعش أبدا كما ينبغي، ولم تمت كما 
ينبغي، 
لأنك الطالع علينا دائما من بين ثنايا المكان، واحتشاده في المعاناة. 
الطالع 
علينا من بين أنين المسافات.. وجراحات الانتظار.. لست أدري لماذا دائما، 
كنت 
أحسك عمودا من الانتظار؟ ولي ما يشفع في هذا.. إذ لطالما كنت أراك واقفا، 
في 
الزوايا، والمنحنيات، وعلى أبواب الأمكنة الكبيرة المعروفة ذات العناوين 
الصارخة.
لعلك دائما كنت منتظرا شيئا مجهولا، كلمة "جميلة" تلف في ثنيات حروفها 
رحيق 
امرأة هناك تفهمك أو قصيدة عذراء، ولكن هل يتقن الشاعر مهنة أخرى غير 
الانتظار؟! أن ترى الشاعر منتظرا، هذا يعني أنك ترى الشاعر يستنزف روحه 
لبناء 
مجد الحياة.
رأيتك في رام الله، كنت وديعا مثل فراشة، وحادا مثل سهم، وعفيفا كايقونات 
النبلاء.. وأنت ابن مخيم الجلزون الذي لم تنصفه أبدا. ولهذا كانت "حمدة" 
عالما 
متكاملا بالنسبة إليك لأن "حمدة" أمك هي ليست حمدة مجردة، وهي ليست أمك 
فحسب، 
وإنما هي حمدتنا جميعا وهي أمنا جميعا.
هذا المخيم الطالع من بين ثنايا المحاريث ليصل الى قبة الأقصى.. المشدود 
بين 
وتدين عميقين: أرض الضفة الفلسطينية، وأرض فلسطين الفلسطينية.
هذا المخيم الممتد من طنجة حتى بحر العرب ومن الخليج حتى حدود تركيا، هذا 
المخيم الذي يعانق رسائل الغيم لأحبة الشعر وأحبة الحياة في الحياة 
المنهوبة من 
مكانها الطبيعي.. أو جغرافيتها الطبيعية. به تحس أنك لاجئ، وهذا امتياز قد 
لا 
يحسه الآخرون، وبه تحس أنك انسان لفداحة الظلم الذي تتحمل يوميا، وبه تحس 
أنك 
تحكي حكاية ليست ككل الحكايات، وإنما هي حكاية متفردة.. حكاية مخيم، حكاية 
شعب 
قامت قيامته، ولم تقعد بعد، رغم انشغال البيوت البيضاء والحمراء والصفراء 
والخضراء بإرث هذا المخيم الذي لم ولن ينتهي أبدا. مخيم ترك لهاثه على كل 
دروب 
الأرض وشعّب صراخه في كل حجرات السماء، ودون سيرة الصبا والشباب.. وكتاب 
"حمدة" 
في أعالي المخيم هناك، عند كتف المقبرة.. فماذا أقول لك يا محمد  وأنت 
محاصر 
بحيوات "حمدة" والمقبرة والمخيم؟ فماذا يمكن أن يكون أقسى من ذلك؟!
لذلك قطرت لنا من أواخر ما أنتجت "ماء القلب" وهو كتاب ضم أربعين قصيدة حب 
لامرأة واحدة كأنك تستكثر على إمرأة واحدة أن تلتهم هذا الكم الصغير من 
القصائد.
فهل يشبع غرور المرأة، يا أخي محمد مئات القصائد؟!
ربما.. وربما لا يشبعها نار من القصائد المثقلة في أكمام الجمال وفي أهداب 
الغيم وفي نسيم الغروب، أو طوالع النسمات في الأصباح.
لعلك يا صديقي صرفت عمرك ثمنا لقصيدة بدأت من هنا، من مخيم الجلزون ولم 
تنته لا 
في قصور اسبانيا وحدائقها المعلقة، ولا عند أبواب الصين وسورها العظيم.. 
ولا في 
الدفاع عن كل المظلومين، وكل الأمهات في العالم، ودفاعا عن كل الأوطان 
المحتلة.. أو المضطهدة في العالم، باحثا عن نسمة حرية تجعلك راكبا قطارات 
الاغتراب من الدرجة الأولى، ومنتظرا من الدرجة الأولى لقصيدة الأم، أو 
الشبح، 
أو الحبيبة، أو الوطن.
ها أنت تتسكع في المنارة ودوار الساعة لتصعد الادراج لاهثا الى مقهى 
الأصيل 
ترتمي على المقعد المجاور مستلا مقاطع جديدة من قصيدة جديدة على ورق أصفر، 
لتقرأ ويهدأ الهواء في الرئة مشعلا الدم في العروق وراسما بكفك السمراء، 
التعبى 
جنائز الوحدة والحنين والاغتراب والحب والوصول والوطن.
ها أنت في رام الله تروي ظمأ روحك بمشاهد كانت أقرب الى ذكرى بعيدة أو 
أطياف 
حلم كنا نعتقد أنه عسير التكرار لكنه أتى.. أتى الحلم وهبط أدراج الذاكرة 
ليستقر في الخيال ثم يتجسد في الواقع، في رام الله وأريحا وغزة ونابلس 
والخليل 
وبيت لحم وقلقيلية وجنين وطولكرم والقدس.
ها هو ينثال بخطاك المترعة بكل ارتعاش الحنين.. وصوتك باذخ العطاء.. 
والغضب.. 
سريع النسيان والفرح.
صوتك المديد في عراء الروح ليلثم السهول والجبال والمدن والقرى والمخيم.
من أي جهات
وفد إلينا الريفيون ضحى
بسراويلهم الفضفاضة
ودمايات الكتان، وقد جعدها الوقت
ومن أي جهات وفدوا
بالقفف الملآنة بالتين الأسود والأخضر
بسلال العنب الناضج
من أي حقول جاءوا بالنعناع
وأكياس الباذنجان
الى سوق الجلزون
(سوق الجلزون، ديوان ماء القلب ص89)
 
هذا الاحتفال بطقس التفاصيل الصغيرة، كان دائما ينمو ويترعرع في حنجرة 
القيسي 
ليشير الى أبعد من شؤونه الصغيرة عبر انفتاح الحياة على معانيها الأولى:
ثمة نايات نائية في الأشجار
مزامير بلا بوح العزلة
في أحراش القصب
هنا
وهناك
ثمة ريح في العطفات
فمن أين تهاديت حفيف فراشات
وتواشيح
وليلك
(ص100)
 
ويرجعنا القيسي وراء كثافة تعب الحياة الى الملامح الأولى للوجود والانسان 
ومعاناته الصعبة ومكابداته الوحشية.. اذلا يشقى إلا في الاغتراب، الموغل 
في 
المعصية، والعذاب، ولا يفرح ويجد ضالته إلا في هذا الاغتراب ذاته لأنه 
يريه.. 
ويرينا تعبنا وتفاصيله على نحو جلي بالضبط مثلما يرينا نزقنا وفرحنا في 
استمرارية الوجود فينا.. وحولنا:
وتكونين السهل الضارب في أعماقي
وطبول الغابة
خوفي الخناس
على أوتاري أن تصدأ
عوزي في هذا البرد
الى الورد
وأسباب نقوشي المنسابة
في نهرومي
وأكون ابن التيه أنا
وأكون علاقة أسرتك المرتابة
قال وقال وقال لها
ما قال،
على أن الريح الدوارة في الخارج
ظلت تضرب أغصان البستان
ويزداد النقر على افريز الشباك
وظل يقول الى أن
أطبق ظلُ الليلِ عليه
وأغلقَ بابه
 
دائما .. هكذا النهايات مفتوحة على أحوالها فهي عند الشاعر القيسي، لا 
تستسلم 
عند حد ولا تولد في أي حد، هي هكذا مأسورة في فولاذ القلب، وبريق العيون 
المتعبة، لكنها تؤسس لعالمها المثالي من أبسط الأشياء وأبسط البدايات 
لتوغل في 
معصية الكشف ذاك اللاهث في أوردة.. وشرايين التفاصيل تلك التي تبدأ من 
نقطة 
معنوية.. وزمنية محددة وتبدأ بالانفتاح أكثر.. فأكثر على العالم لتوصلنا 
وتصل 
فينا الى مكامن المعنى التي هي في دواخلنا نحسها ولكن لا نستطيع التعبير 
عنها.. 
فيريحنا القيسي في أنه يمسك بأيادي قلوبنا وأعيننا ليوصلنا الى فرح منسي 
وطور 
مائي منسي أيضا. ويتركنا وحدنا نتلذذ بلمعان هذا الضوء ورذاذ هذا الفرح 
الذي 
كان بنا ولكننا لم نكتشفه إلا على يديه:
خطا نحوها خطوتين
وأدخلها ثغر أضلاعه، ارتعشت
خفقا في جمال من الموت
كانت أصابعه في طواف الغياب
تداعب خصلتها
التحما زهرة في براريهما
التحما عائلة
وبكت
حين أرخى يديه على الكتفين وعاد يعانقها
يا إلهي، وحيدين كانا
وحيدين ما من عزاء
وما من نشيد
يعالجُ دمعتها السائلة
(ص 44 – 45)
 
على أن المحور الرئيسي في شعر القيسي يتجسد في فقر وغربة ونرجسية ما 
بالانسان 
وجنسويته وتميزه الكامل بين البشر، وهذه العناصر تستشف من هنا:
قد نعدُّ الطعامَ من العشبِ
والسلطاتِ الخفيفة
نهوي معا في غرام عناصرنا
وتضوعُ بنا زهرةُ الجنس ريانة
نحنُ خير الثمار
سننجبُ أجمل أطفالنا الميتين
وننجبُ في إثرهم
مفرداتُ المراثي
أغاني المسرات في الحسرات المقيمة
يا أيها ذا السريرُ السماوي
كيف تواصلنا دون أحزاننا
كيف نزجلُ حرين هذا الفضاءَ
ونهدك زوجي حمامْ
هو الحب يبكي..
ونحنُ نهدهدهُ بالترانيم،
حتى ينام
(ص40 – 31)
 
خلاصة القول إن محمد القيسي كان شاعرا عذبا.. ومعذبا، فرحا.. ويائسا، 
هادئا .. 
وصاخبا، ذا حكمة وجنون في آن.. يرتهن الى الظل ليثور عليه ويثوره في بوح 
النور.. ولا يستسلم لهذا النور إلا لكي يفككه الى عناصره الأولى فيبدأ من 
جديد 
تفكيك ظلمة العالم، لا تبهره الأضواء، مثلما لا يستسلم الى الظل لذلك جعل 
من 
أمه "حمدة" أما جمعية لشعب يكافح ويناضل من أجل حريته، وكذلك جعل من 
انتظاره 
لحبيبته التي لا تأتي انتظارا لحرية سنصل اليها ذات يوم، في الوطن ومع 
الحبيبة 
الأسيرة في براهين الشك والارتياب، وكذلك أيضا جعل من تفاصيل عناوين 
لمراحل 
حياتية وسياسية بعينها، إذ نحن لا نستطيع أن نفصل أبدا بين قصيدة سوق 
الجلزون، 
ومرحلة النكبة في الخمسينات إذ يصور لهاث الناس والباعة والمواطنين على 
نحو 
آخاذ إذ ما جدوى البقدونس في الخمسينات في السنة الأولى للنكبة.
عاصر القيسي أناسا.. وأماكن.. ومدن وعواصم لكنه ظل ابن الجلزون بامتياز. 
وابن 
"حمدة" بامتياز والجلزون هو مناحي الوطن.. مثلما هي حمدة تمثل نبض الشعب 
الفلسطيني ومعاناته، بل أم الشعب بامتياز فهنيئا لحمدة به وهنيئا لوطنه 
به.
لكنه رحل غريبا.. وبصمت لم يهتز رحيل لجفنه الا من أحبوه وعرفوه، وهو 
الشاعر 
سارق النار والغبار والمعاناة والاغتراب رحل دونما صرخة واثبة في الوطن أو 
في 
رام الله.. أوفي الجلزون نفسه، لكننا دائما نتذكر الأشياء بعد فوات 
الأوان، 
سلاما عليك واليك يا محمد.. ويكفيك أن حمدة أمك أمنا جميعا وشوك منارة رام 
الله 
للذين يتحسسون رهف الكلمة وايقاعها ونبض قلبها. يا ذا القلب اللدن.. 
الطاهر.. 
التعب الممزق القلب الذي لم يستطع تحمل عناء الشعر.. والاغتراب، لكن رحيلك 
شوكة 
في القلب
 

 

 

 

 

 

 
 
 

 

 

 

معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

مؤلفــات بطاقة تعــريف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال   مواقـــع  خزانات الموقـع صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

موقع سعيد بنگراد - تاريخ الإنشاء: نونبر 2003