"الهويّة
والسرد" لـنادر كاظم ــ
مركز
الشيخ ابراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة
- 2006
الإنتاج الفكري العربي
بين النقدين الثقافي والأدبي
جريدة البلد اللبنانية - الثلاثاء, 14
نوفمبر,
2006
وفيق غريزي
يمثل النص الفكري الغربي سلطة مرجعية
شديدة البروز في إنتاج العرب
الفكري طيلة العصر الحديث، ذلك أنّ
القراءات التي استندت إلى هذا النصّ بلغت من
التكاثر حدّاً يجعلها جديرة بالوضع تحت
سبر الدراسة واقتفاء الدلالات. وما من شك في
أنّ مثل هذه المظاهر كفيلة بإثارة العديد
من الاسئلة والافتراضات. وفي هذا السياق،
يأتي كتاب الدكتور نادر كاظم "الهوية
والسرد". وهو يسلك المسار الذي يفتحه النقد
الثقافي بما هو تعبير عن حاجة جديدة لا
يستطيع النقد الأدبي تلبيتها إلا بنقلة
جديدة في مفاهيم هذا النقد وأدواته
وطرائق توظيفها وفي الغايات من وراء النقد
أصلاً.
يشير المؤلف إلى ان السرد يتجاوز دلالته
التقنية التي تحصره في
أشكال السرد التخييلي المعهودة كالرواية
والقصة والملحمة، ليعبّر عن مفهوم انطولوجي
أوسع بما ينطوي عليه من فعالية تحكم كل
ما يحدث في الزمان ويتعاقب فيه وينتظم داخله
وفق صيغة معينة. فإذا كان الوجود لا
يتحقق إلا في الزمانية وفي الموقف التاريخي، أي
انه وجود متعين غير متعال، فإنه بحسب
ريكور وجود قائم بالسرد وبوساطته، لأنه لا
يتحقق إلا بطريقة سردية، أو هو بتعبير
آخر، وجود سرديّ. وهذه الطبيعة السرديّة هي
التي تميّز الوجود الانساني عن ذلك
الحيواني، وهي التي تميز الاحداث التاريخية عن
الاحداث الطبيعية التي تفتقر الى السردية.
ويتطرق المؤلف الى العلاقة بين النقد
الأدبي والنقد الثقافي، فيرى
أنّ العلاقة بينهما ليست على غرار
العلاقة بين النظريات العلمية والنماذج الإرشادية
في نظرية توماس كون. ففي هذه الأخيرة
نستطيع القول ان نظرية بطليموس الفلكية قد
استنفدت مع ظهور نظرية كوبرنيكوس حول
الأرض والفلك. يقول المؤلف: "ولكن من يستطيع
ان يقول ان نظرية أرسطو حول الحبكة قد
استنفدت؟ ومن يستطيع ان يقول ان كانط أو
إسبينوزا أو نيتشه أو فرويد أو ماركس أو
فوكو أو بارت أو دريدا... قد استنفدوا؟".
ان النقد الثقافي ليس علامة على استنفاد
النقد الأدبي، بل هو تعبير عن نقلة وتحول
حصلا على مستويات عدة في هذا الأخير.
الأدب
يعود أصل الجدل حول الأدب وحول تقرير ما
هو أدبي وما هو غير أدبي
الى قرون بعيدة. ولعل أرسطو هو أول من
عبر عن طبيعة هذه العلاقة بصورة أولية تتناسب
مع نظريته في "المحاكاة"، حين ميز بين
الشعر بوصفه تمثيلاً للمثل العليا أو رواية
للكليات، وبين التاريخ بوصفه تصويراً
للأحداث الواقعة أو رواية الجزئي. غير ان
ارسطو لم يكن نهائياً في تمييزه، فتاريخ
العلاقة بين الأدب وغيره من الإنتاجات
الثقافية تاريخ حافل بالتقلبات
والتغييرات. وينقل المؤلف عن بروكلمان رأياً يرى فيه
ان تضييق مفهوم الأدب ليقتصر على الشعر
والنثر الفني فحسب انما هو من نتاج العصر
الحديث، ومن المعروف ان مصطلح "الأدب"
بمعنى "الكتابة الابداعية" أو "الكتابة
التخييلية" مصطلح حديث نسبيا، إذ يرجع
تاريخه الى نهاية القرن الثامن عشر وبداية
القرن التاسع عشر، وهي المرحلة التي شهدت
تألق المذهب الرومانسي في الأدب
الغربي.
وكان النقد ما بعد البنيوية حسب اعتقاد
الدكتور نادر كاظم خطوة
أولى في طريق تجاوز الفصل بين النص
الأدبي والنص الثقافي، غير ان الخطوة اللاحقة
ستكون العمل على تجاوز النصوصية المفرطة
التي هيمنت على التفكير النقدي الذي أولى
الاهتمام المطلق بالنص ككائن لا يمت بصلة
الى ما هو خارجه.
قراءة
لا يجادل أحد بأن حدث القراءة يتضمن
قطبين أساسيين وهما القارئ
والنص المقروء، لكن هذين القطبين حسب رأي
الدكتور كاظم متشابكان مع أنساق وشروط
معقدة، فالقارئ فاعل له حضوره المشبوك
بعلاقات ثقافية وأدبية واجتماعية ومؤسساتية
معقدة، والنص المقروء كذلك له امتداده
الموصول بشروط انتاجه وبجملة القراءات التي
تعاقبت عليه. ومن هنا فالقارئ يقرأ النص
وهو متمثل سلفاً لأنساق سابقة للحظة
القراءة، وهذه الأنساق تلعب دوراً كبيراً
في توجيه فهم القارئ وتأويله.
وينتقل المؤلف من القراءات بوصفها حدثاً
أدبياً جمالياً الى
القراءة بوصفها فعلاً ثقافياً، أي
الانتقال من القراءة الأدبية الى القراءة
الثقافية، ويقول: "إذا كانت القراءة
الأدبية عبارة عن علاقة بين قارئ ونص أدبي،
تنعقد بهدف المتعة الجمالية أو بهدف
الكشف عن المكنونات الجمالية لهذا النص. إذا
كانت القراءة الأدبية كذلك فإن القراءة
الثقافية ستكون عبارة عن علاقة بين الإنسان
ــ القارئ وبين كل ما يمكن ان يكون
موضوعاً للمعرفة والفهم والقراءة من نصوص وبشر
وعادات وتقاليد ورؤى، سواء كانت تنتمي
الى ثقافته أو الى ثقافة أخرى". فإذا كانت
القراءة الأدبية محكومة بمتوسطات تنتمي
الى النوع الأدبي، فإن القراءة الثقافية
محكومة بالأنساق الثقافية "فنحن نقرأ" -
ومن ثم نتعامل مع البشر والأشياء - كل
النصوص الثقافية من حولنا من خلال
الانساق الثقافية التي نتمثلها ونمتثل لها لتعطي
لكل شيء معنى، ومن ثم لتعمل كآلية من
آليات الهيمنة على تفكيرنا
وسلوكنا.
"ان
القراءة تبدو حدثاً بسيطاً، لا يستلزم لحدوثه أكثر من توفر
قارئ ونصّ قابل للقراءة ومؤلف قابع هناك
خلف نصه. غير ان القراءة أكثر تعقيداً من
هذا التوصيف البسيط لعناصرها. فهي حدث
متشابك مع جملة أنساق وعلاقات ممتدة من
الشروط الخارجية ومن القراءات السابقة
ومن نظريات التأويل ومن الجماعات التأويلية
ومن أنظمة الانواع الأدبية ومن التفاعل
بين هذه العناصر كلها".
|