معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

مؤلفــات بطاقة تعــريف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال   مواقـــع  خزانات الموقـع صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

سعيد بنگراد

 

عمرو خالد  : الهوية وسلطة السرد

 

عرفت ظاهرة عمرو خالد، الداعية الإسلامي الشهير، انتشارا واسعا في الوطن العربي كله. وهي ظاهرة لا تثير الاهتمام حولها من حيث بعدها الوعظي الإرشادي، فتلك ممارسة معروفة في الدين والأخلاق والاجتماع والسياسة أيضا، ومثيلاتها كثيرة في حياتنا بدءا من الدروس التي يلقيها الأئمة في المساجد، مرورا بأحاديث الإذاعة والتلفزيون، وانتهاء بتجارة الشرائط والأقراص المدمجة المرئية منها والمسموعة.

 إن الجديد في هذه الظاهرة شيء آخر، ونادرا ما يتم الانتباه إليه، أو إثارة الشكوك حوله. فما تقدمه " الجلسات " ليس وعظا حافيا يعتمد الخطاب التقريري المباشر في بلورة رسالته، بل هو أسلوب قصصي أداته المثلى في " النصح " و" التنبيه" و" التوجيه" و" التحذير " هي سرد حكايات تعيد صياغة حياة ماضية تقود حتما إلى بلورة " قواعد للفعل " كما يقتضي ذلك كل خطاب أُطروحي محكوم بغائية " مَثَلية " توجد خارجه. وبدون هذه الغائية لن يكون لهذا الخطاب أية قيمة، فـ" المَثَلية "، التي هي في الأصل تعميم لنموذج قيمي عام، تفرض على القصة الإحالة على عوالم توجد خارج أحداثها المباشرة، فهي دعوة صريحة إلى الانتماء إلى نوع أخلاقي عادة ما يكون مفصولا عن إكراهات الزمن ومقتضياته (1).

وعلى عكس الكثير من " الدعاة " المعاصرين الذين يبنون خطابا وعظيا قائما على الترهيب والتخويف من النار والسلاسل الممتدة طويلا في أرجل المارقين وأعناقهم، فإن عمرو خالد اختار سبيلا آخر يعتمد " المحبة " التي تبشر بجنات الخلد التي أُعدت للذين تطهروا في الأرض من كل الأدران ( يطلق على جلساته مع الجمهور " نلقى الأحبة"). لذلك، فهي ليست محبة إنسانية عامة، بل محبة موجهة ومبنية على نموذج أخلاقي واحد، لأنها تستند إلى وقائع مخصوصة أبطالها ينتمون إلى دائرة قيمية واحدة هي القاعدة الأساس في بناء سلوك طاهر ونقي تجسيدا لهوية لا يأتيها الباطل من أي اتجاه، فنماذجه السلوكية منتقاة من نبع صافي لا يعرف الشر. وإن وقع الخطأ، ونادرا ما يكون الخطأ خرقا كليا للنظام القيمي العام، فإن المخطئ يخضع لطقس استئناسي يعيد له سلامته الأصلية الجسدية والنفسية، كما هو الحال في قصة كعب بن ملك التي سنعود إليها في هذا المقال.

إن الخطأ في هذا النظام عرضي وطارئ وليس عنصرا داخل ثنائية تتضمن بالضرورة الحد ونقيضه، لذلك يجب ألا نعده جزءا من سلوك إنساني هو بالضرورة سلوك ناقص لاندراجه ضمن الزمنية الإنسانية. وهنا تكمن أهمية " الطابع المثلي " لكل القصص التي تُروى في هذه " الجلسات". و" المثَلية " هنا لها طابع خاص، فهي ليست معطاة من خلال وقائع القصة الأولى، بل يبنيها الفعل السردي الثاني ( صوت عمرو خالد). فالقصة الأولى ( المعطى التاريخي) ليست سوى ذريعة لرواية قصة أخرى هي مزيج من الوقائع القديمة وحالات النفس المؤمنة في زمننا الحالي وردود أفعالها، أي ما ينبثق عن خطاب الترغيب والتحريض على العودة إلى أصل يعيد للهوية بهاءها ونقاءها.

وكما سنرى ذلك لاحقا، فإن هذا الأسلوب منبثق من استراتيجية خاصة في الإبلاغ بمفهومه الدعوي. فالخطاب الديني في " الجلسات "  ليس خطابا قيميا يبني عوالمه استنادا إلى مفاهيم مجردة تدعو إلى هذا الفعل وتنهى عن ذاك، إن الأمر على خلاف ذلك. فالعوالم المشخصة (الحياة كما تكشف عن نفسها من خلال سلوك الأفراد والجماعات) هي التي تقود إلى صياغة القيم المجردة على شكل " خلاصات كونية " ( هي كذلك في سذاجتها)، يبلورها السارد، بمساعدة الجمهور السامع/الرائي، في نهاية كل جلسة، فيما يشبه لقاء معلم بتلاميذه.

ومع ذلك، فإن الحكايات المقصودة هنا ليست تخييلا خالصا يُبنى استنادا إلى عوالم ممكنة تتمتع بحرية كبيرة في التأليف وانتقاء العناصر المؤثثة للكون الممثل. وبعبارة أخرى، إنها ليست مجرد حكي بسيط يكتفي بسرد أحداث خاصة بحياة فرد أو مجموعة من الأفراد، بل يتعلق الأمر، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، باستراتيجية جديدة في التواصل الإنساني تعتمد أساليب إقناعية تبتعد عن الوعظ المباشر واستمالة القلوب وافتتان العقول استنادا إلى إكراهات الكون القيمي المجرد. إن اختيار القصة أسلوبا للوعظ والإرشاد، معناه اختيار السرد أداة للإقناع. وهو ما يعني الانحياز الصريح إلى نظام " المحتمل" بكل آلياته على حساب " الوصف الموضوعي" للعالم.

ذلك أن المحتمل لا يندرج ضمن ما تبنيه الحقائق الموضوعية أو تشير إليه وقائع التاريخ، كما لا يحتاج إلى برهنة المنطق وآليات الحجاج، إنه خطاب من طبيعة أخرى. فهو يعتمد الانفعال أسلوبا أمثل للوصول إلى لاشعور الآخر والتأثير فيه وتوجيهه. أو هو، بعبارة أخرى، إقناع لا يكشف عن آليات اشتغاله، إنه مقنع، فهو يتوارى خلف الجزئيات والعناصر البسيطة والأحاديث والتعليقات والأوصاف المتنوعة. وتلك طبيعة كل الإيديولوجيات التي عرفها التاريخ الإنساني : إنها لا تحضر في الوجود إلا مجسدة في وقائع مادية، تماما كما هو حال المعنى، إنه لا يمكن أن يوجد إلا باعتباره جزئية ثقافية نسبية مرتبطة بنسق مولد، و" النسق المولد هو سلسلة الإكراهات التي ننتج ضمنها الوقائع السلوكية ونتداولها ونستهلكها ". (2)

ولهذا السبب، فإن فضاءات الوجدان شيء آخر غير آليات الرقابة العقلية، إنها تتكون من حالات انفعالية مبهمة وغامضة تعشش فيها صور تتغذى من الحكايات والأساطير والأحلام والرؤى البعيدة، وكل العوالم التي لا تحتاج إلى تحليل منطقي يأخذ في الحسبان مقتضيات الزمن وإكراهات الفضاء ومتطلبات الحس السليم. استنادا إلى هذا، فإن الإقناع الذي يعتمد الأسلوب السردي ينزاح عن منطق الحجاج والبرهنة ليخاطب تلك المناطق المظلمة التي لا تستهويها أدوات العقل ومنطقه في رؤية الأشياء والاقتراب منها وتصنيفها.

وضمن المحتمل  يبني السرد كافة عوالمه، واستنادا إليه تبلور استراتيجيات الإقناع السردي آلياتها الخاصة في الوجود والاشتغال. فهذا الإقناع يعتمد بالأساس الطاقات الانفعالية التي تشتمل عليها الوضعيات الإنسانية المألوفة. وهي وضعيات لا يمكن إدراك مضامينها إلا من خلال ما يطلق عليه في السرد " حالات التحول "، وهي الحالات التي يُنظر إليها عادة باعتبارها مدى محسوسا نقيس من خلاله حركية الزمن الذي يتخلص، حين يتشخصن، من طابعه الكمي العام ليصبح وعاء لسلوك إنساني محسوس له حجم وامتداد وغاية.

 وتستمد الاستراتيجية التي يتبناها عمرو خالد " مصداقيتها" من السرد التاريخي ( الإحالة المرجعية التي يمكن إثباتها تاريخيا) لكي تسرب عبره " حقائق جديدة "، هي في واقع الأمر مجموعة من الأحكام الإيديولوجية والتصورات الخاصة بالهوية والزمن والسلف والخلق والامتداد والعودة والأصل الثابت، أي كل ما يقود إلى رهن الحاضر بالماضي، ورهن الحياة الفعلية بعوالم أخرى شبيهة بحياتنا لكنها موجودة خارج الزمن الإنساني.

إن كمية " التوتر" و" الإحساس الجياش"  و" الاندفاع" و" الشعور بالحزن أو الألم أو الندم "  لا يمكن العثور عليها في " المواقف الكبرى" و" الأوصاف العامة "، إنها تستوطن الشقوق الدقيقة والخيوط الرفيعة التي عادة ما لا تطالها يد المؤرخ، ولا تثير اهتمام الباحث في القضايا القيمية الكبرى. إلا أنها تعد قوة ضاربة في خطاب الوعظ الديني لداعيتنا. فهو يقوم، من أجل استثارة هذه الطاقة الانفعالية، بإعادة صياغة المشهد الموصوف من قبل السارد الأول وفق غايات جديدة هي " تأويل" و" قراءة " فيما تقوله" الملامح المتخيلة " لا ما ترويه الوقائع. يقول كعب بن مالك وهو يروي قصته:

 " وفي اليوم الأربعين جاء من يقول لي إن رسول الله يقول لك : إن الله يأمرك بأن تعتزل امرأتك، فقلت أأطلقها أم ماذا أفعل ؟ فقال لا تطلقها ولكن اعتزلها ولا تقربها، فقلت لها الحقي بأهلك وابقي عندهم ".

وعندما يصل الموقف الدرامي إلى حالاته القصوى، وتشتد الانفعالات يتوقف عمرو خالد، ويستعيد صوته ليكتب المشهد السردي من جديد بلغته الخاصة قائلا باللهجة المصرية : " ونا ناقص" ( ألا يكفي ما جرى لي ؟ )، مصحوبة بمجموعة من الإيماءات : حركات الرأس والعينين واليدين، وهي أدوات تواصلية قوية تشحن هذه الجملة بمجموعة من الانفعالات المتباينة في وقعها، فهي تشتمل على بعد مأساوي، وتشتمل على فعل الطاعة والامتثال لأوامر هي حالة استئناسية وليست تعذيبا ساديا، وهي الحالة التي من خلالها سيتم الربط بين حالة كعب كفرد معزول وبين حالات الجمهور الحاضر كحالة حضارية عامة.

فما يستميل السامع/الرائي هو هذا البعد المشخص الذي يحول القيمة المجردة إلى سلسلة من الأفعال المجسدة في مواقف " حزينة" أو " سارة " أو " درامية " أو مشوقة ". وهذه المواقف هي وليدة نفس سردي جديد يبلور قصة جديدة تبني وقائعها مما يفصل بين وقائع القصة الأولى. وبعبارة أخرى، إن الطاقة الانفعالية هي نتاج " مؤول طاقوي"، بتعبير بورس، ينقل أثر الوقائع على السارد الأول إلى الجمهور المشاهد من خلال ذات السارد الثاني ( عمرو خالد) : يعيره اللسان والجسد والقلب، ويستعير منه قيم الماضي التي عبرها يستعيد الحاضرون هويتهم : يكفي أن نشير هنا إلى أن عمرو، وبلغة الأستاذ، يسأل أحد الحاضرين أو الحاضرات ماذا كنت ستقول لرسول الله لو كنت مكان كعب، ليتحول المشهد كله إلى حالة جذب قصوى ينخطف فيها الذي يُسأل ويتوهم أنه حقا أمام رسول الله.

وبما أن السرد هو كل هذه العناصر وغيرها، فإن هذه الطاقة الانفعالية التي يضعها السارد على مسرح التمثيل تسلب من المشاهد آليات الدفاع والحماية. فالعقل في هذه الحالة، يتوقف عن العمل والمراقبة ويطلق العنان لآليات أخرى تفعل فعلها في غفلة من الرقابة وآليات الضبط. حينها يتحرر الفعل ورد الفعل من كل القيود، وتنتفي المسافات وتتقلص الأحقاب وتتداخل فيما بينها، ويصبح التاريخ كله لحظة واحدة وحيدة القيمة، وليس له من وجهة أخرى سوى العودة إلى هذا الأصل الصافي الذي يبدو بعيدا في الزمن، ولكنه قريب جدا على مستوى الحكايات. إن حقائق العقل ليست هي حقائق التمثيل المشخص، تماما كما أن حقائق التاريخ ليست هي الحقائق التي تبنيها العوالم الممكنة. لذلك فإن الهوية في مضمونها الأقصى تبنى على مستوى المتخيل لا على مستوى معطيات الواقع المباشر.

وهذا أمر بالغ الأهمية، فالسرد يتحدد عادة باعتباره أسلوبا في تمثيل عوالم " المحتمل " والكشف عن صوره المتعددة التي لا تكتفي باستعارة قضايا كبرى من واقع يشير إلى سلوك إنساني " معقول" أو ممكن الحدوث أو على الأقل قابل للتصور، بل يبني أيضا عوالم تستمد هويتها من الجزئي والعادي والمألوف. وهذا الترابط بين ثيمات التاريخ ومحطاته الكبرى، وبين جزئيات الفعل الإنساني كما تجسده القصص الخاصة هو السمة المميزة " للجلسات ". فما تقدمه " الجلسات" ليس أمرا مفصولا عن التاريخ، ( فالحكايات تحيل على وقائع وشخصيات يعرف عنها القارئ العربي الشيء الكثير)، ولكنه ليس من التاريخ في شيء، فالحكايات لا تستعير من هذا التاريخ سوى الإطار المرجعي العام، لتتعامل معه باعتباره قاعدة ارتكاز توجيهية من حيث التحديد الزمني ومن حيث إحالاته الإيحائية في الذاكرة المعاصرة ( الغزوات والبطولات والفتوحات التي لا تتوقف). لذلك سيكون من العبث البحث عن بنية الحكاية ودلالاتها المتنوعة في الواقعة التاريخية ذاتها. فالواقعة هنا للتضليل لا لإثبات الحقائق، فهي لا تحضر في الحكاية، وبشكل مفارق، إلا من خلال تفاصيل وجزئيات لا يدرجها المؤرخون عادة ضمن السرد التاريخي.

  إن التخلص من مقتضيات التاريخ وعبئه يمر عبر " تضخيم" الواقعة من داخلها، أي النفخ فيها من حيوية الفعل الإنساني المشخص. وهو ما يعني فصل الفعل عن بعده الزمني، لكي يصبح عابرا لكل الأزمان، وهي صيغة أخرى للتخلص ببساطة من الزمن ذاته. إن الهوية، كما سبق أن رأينا ذلك، هي، كما كانت دائما، استحضار لماضي، لا إسقاط لآت. إنها ليست سوى ذاكرة بمضمون زمني/قيمي ممتد نحو الماضي، إنها وعاء زمني يشتمل على وضعيات وأحداث ومواقف ورموز وكل ما يمكن أن يشتمل عليه متخيل أمة ما. لذلك، فإن استعادة الماضي " المجيد" لا يتم من خلال إحياء المفاهيم، بل يمر بالضرورة عبر تعميم للحكايات. ففي أغلب الحالات يتم بناء الهوية على مستوى المتخيل لا على مستوى الواقع، فالمتخيل وحده قادر على التحايل على الزمن الفيزيقي وتحويله إلى كميات يُشكلها السارد وفق هواة.

وتلك ميزة كل الحكايات التي تُروى في الجلسات، إنها قائمة على تمفصل مزدوج : انتماء إلى التاريخ من حيث الإحالات الزمنية، ومن حيث المضمون القيمي وثبوت الواقعة أيضا، وانتماء إلى عوالم التخييل من حيث الصيغ المعتمدة في التشخيص السردي، وهي صيغ تعيد سرد " مسرود" أول، أي خلق حالة تراكب بين " سرد أصلي" وبين " سرد تعليقي". فالانتماء الأول يحدد " الهوية " في بعدها الحضاري التاريخي المثبت في وقائع يمكن التأكد منها، ويدرجها الثاني ضمن عوالم المتخيل حيث تكتسب أبعادها الرمزية، وهي الأبعاد التي بها تحيى ومن خلالها تتخلص من الزمان، و بها تقاوم وتحمي الذات من الذوبان أيضا.

وهذا ما توضحه " قصة " كعب بن مالك المشار إليها أعلاه ( وهو ما نصادفه في كل حكايات الجلسات أو " نلقى الأحبة " كما تسمى). وهي القصة التي يرويها السارد الثاني ( إن الأمر كما رأينا يتعلق بقصتين لا قصة واحدة). فهذه القصة وثيقة الصلة بغزوة تبوك. ومع ذلك، فإن الأولى في حاجة لأن تروى كي تعرف وتُتداول، لأنها قصة فرد معزول يعيش حياة محدودة في الزمان وفي المكان، في حين لا تحتاج الثانية إلى ذلك، ويكفي ذكر اسمها والتذكير بها ضمن باقي أحداث التاريخ الإسلامي لكي يستحضر المتلقي كل ما يعرفه عنها وعن غيرها من الغزوات. إن القصة الأولى تنتمي إلى السرد الشخصي الذي يحكي تجربة تندرج ضمن نظام المحتمل، أي ضمن نظام العوالم الممكنة التي هي أساسا بناء ثقافي لا يستمد قيمته من الإحالات المرجعية المباشرة. أما الثانية فهي واقعة من التاريخ، يمكن أن نتحدث عنها من خلال كل ما يحيط بها، نتحدث عن زمنها وعدد الجنود المشاركين فيها، ونتحدث عن قتلاها وجرحاها وأسراها وعدد المفقودين والسبايا والغنائم وما شئتم من العناصر التي نعثر عليها بالضرورة في كل الغزوات. ولكننا لن ننسب إلى التاريخ " واقعة " من قبيل " ابتسم محارب في وجه فتاة مسبية "، أو " صرخ جندي صرخة عنيفة وقد أصابه سهم في القلب"، فهذه جزئيات لا يقبلها الزمن التاريخي، لأنه بطبعه " مبسط كبير" على حد تعبير فيسيلوفكسي  Vessélovski. ومع ذلك، ولأن هذه العناصر " غير التاريخية " من هذه الطبيعة، فإنها هي ما يشكل جوهر قصة كعب، وهي التي تجعل منها أحداثا جديرة بأن تروى، باعتبارها " حقائق" تنتمي إلى تاريخ متخيل.

فقد تخلف الرجل عن هذه الغزوة دون مبرر، بل تخلف عنها وهو في أحسن حالاته المادية والمعنوية، وكان بإمكانه أن يلحق بالركب ولم يفعل، ولم يجد شيئا في داخله يمكن أن يثنيه عن التخلف. إن هذه الحقيقة الجارحة التي برع السارد في التمثيل لها عبر إضافة جزئيات تنوع من وجوهها، هي الأساس الذي ستقوم عليه القصة، وربما هي مبررها الأول والأخير. فكل الشحنات الانفعالية الموزعة على مشاهد القصة تنبعث من هذه البؤرة ومنها تستخرج القيم وتعمم الخلاصات وتنتشي الذات بنفسها في حالة من أشد حالات الإشراق الإنساني، أو هكذا يصورها السارد.

كذب المنافقون الذين رفضوا المشاركة في الغزوة، وذكروا أسبابا واهية واستغفروا الرسول فغفر لهم. ولم يستطع كعب فعل ذلك، لقد قادته عزة النفس وصدق النية إلى أن يقول الحقيقة كما هي. ونفى أمام الرسول صراحة أن يكون عنده ما يبرر فعلته، وأُمر المؤمنون بمقاطعته وشخصين آخرين هما مرارة بن ربيع وهلال بن أمية وألا يكلمهم أحد لمدة خمسين يوما حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.

 كان عليه أن يتطهر تماما كما سيتطهر المشاهدون ( القريبون الموجودون في القاعة، والملايين الذين يتابعون القصة عبر فضائيات الخليج) من خلال التماهي الاستيهامي الذي يسميه إيكو " تشهي الإثم " (3)، والتشهي يأتي عبر ما يسميه إيكو أيضا " التهدئة" التي تقود إلى خلق " زمن للتشنج " (4)، من أجل تأجيل الحل الدرامي، أي الدفع بالانفعال إلى حالاته القصوى لكي يكون السقوط مدويا، ويكون التطهر قد وصل إلى أعلى درجاته. فتأجيل " الحل " لا يتم من خلال قصة كعب، لأن قصة كعب لا تحتوي إلا على القليل من الدرامية، أو على الأقل ليس لها نفس وقع القصة التي يرويها عمرو خالد، بل يتم من خلال " الإضافات" المتتالية، وهي سلسلة من التوقفات ( تقنية التهدئة في السرديات)، التي تمنح السارد فرصة إثارة انفعالات الجمهور الحاضر والمتفرج والتحكم فيها وتوجيهها في اللحظة المناسبة نحو الغاية المناسبة : يعطيهم شيئا قليلا ( قصة رجل أخطأ واعترف بخطئه )، ويأخذ منهم الشيء الكثير،( اعترافات عفوية ومباشرة)، وهي اعترافات شبيهة بتلك التي يبوح بها الخاضع للتنويم المغناطيسي كما يحدث ذلك في أساليب العلاج النفسي.

بل إن الأمر أكبر من ذلك، فقصة كعب بن مالك لا قيمة لها خارج سياقها التداولي الثاني. فهي لا تعدو أن تكون قصة من أخطأ واعترف بالذنب وتاب. أما قصة عمرو خالد فهي عابرة لكل قارات النفس" الإنسانية ". فكلمة واحدة " تخلف " ( تخلف عن غزوة) مأخوذة من قصة كعب بن مالك تصبح أداة لإثارة كل حالات " التخلف": تخلف الفتاة عن التحجب، وتخلف الفتى عن أوامر الله وربطه لعلاقة مع بنت الجيران، وتخلف الرجل عن الصلاة، وتخلف الغني عن إخراج الزكاة.... وما تشاؤون من المواقف التي لا تستقيم داخل النسق القيمي الذي يبلور السارد حدوده المشخصة.

وهنا يكمن الفرق بين ما ينتمي إلى التاريخ حقا، وبين ما يعود إلى السرد التخييلي، فما يرفضه المؤرخ هو ما يشكل القصة التخييلية، ومن هذه الكوة الضيقة جدا ( والواسعة جدا أيضا لأن السرد مكون أساس في التاريخ لأنه زمني) يتسرب عمرو خالد إلى القصة التاريخية ليحولها إلى أداة لمضمون هو شيء آخر غير دروس الدهر أو عبرة التاريخ، إنه مضمون لهوية تتطور خارج التاريخ وضد قوانينه. فالتاريخ ليس زمنيا، بل هو حالة حضارية استقرت على شكل هو الأصل النهائي والكلي لحياة لا تعرف فصلا دقيقا بين عالم أرضي وآخر سماوي. فالتقدم في التاريخ يتم من أجل العودة إلى نقطة البدء، والزمن يتطور وينمو ويتجه نحو الأمام بقدر اقترابه من نقطة البداية، والبداية أصل، إلا أن كل"  أصل " هو أصل اعتباطي، إنه نقطة في زمن يدور بلا توقف، فكل نسق يملك" نقطته الأصلية " ولا وجود لنقطة أخرى سوى ما يحدده النسق القيمي.

وهو ما يعلنه الخطاب التقديمي صراحة، حيث يتحدث السارد عن الجنة، التي خلقت خصيصا للمسلمين دون سواهم، وقد تحولت إلى شوارع ومنازل وحدائق غناء، يتجول فيها الناس كما يفعلون في الأرض، ويتبادلون فيها التحيات، ويروون أخبار الحياة، ويقيم عمر بن الخطاب مأدبة يدعو إليها من يشاء من الأحبة. ويتوجه السارد نحو الحاضرين، ويخاطب فتاة بالمفرد المخصص متحدثا عن الجنة :

- تخيلي نفسك ماشية مع السيدة سمية، وراجعة مع السيدة عائشة.

- معزومة على العشا.

- لك موعد مع عمر بن الخطاب لكي يحكي لك عن ولايته.

- عمر بن الخطاب عامل عزومة، وعازم فلان وفلان.

وهكذا تصبح الجنة في " الجلسات" هي ما عاشه الأوائل من المؤمنين في مكة والمدينة أيام الرسول حيث كان كل شيء جميلا، وحيث كان الناس يعيشون وفق مبادئ عامة ومجردة هي منتهى السمو الأخلاقي، لا وفق ما تفرضه حاجات الحياة الإنسانية على الأرض. فالسارد يقدم هذه المرحلة من خلال تصوير يفصلها كلية عن الزمن، فهي عنده حالة أصلية أولى لا تقوم سوى بمحاكاة ما يقع حقا في الجنة.

 إن الأمر يتعلق برغبة مأساوية في العودة إلى نقطة أولى عندها يبدأ التاريخ وفيها ترسم النهاية المؤكدة لهذا التاريخ. فمع البداية حددت النقطة النهائية التي لن تكون سوى عودة جديدة إلى أصل لا يتحدد من خلال الثنائيات المؤسسة للوجود الحالي، إن الأمر يتعلق بالعودة إلى عالم نقي صافي وطهراني، كل شيء فيه جميل، ومجرد التفكير في الشر يعد تأنيبا لضمير لا تأخذه سنة ولا نوم. إن الحالة التي يتم تصويرها شبيهة بما تحيل عليه مقولة " صدمة الولادة " التي تحدث عنها أوتو رانك في التحليل النفسي، حيث الولادة استفاقة من حلم جميل كان يعيش فيه الإنسان داخل عالم لا يعرف الشر ولا يعرف الحقد والجوع والعمل والتعب، كل شيء يُعطى له دون مقابل أو مجهود أو استجداء. وتلك هي الهوية الجديدة التي يبشر بها عمرو خالد، استقالة مطلقة للعقل والتفكير والوجدان الخلاق.

www.saidbengrad.com

 

هوامش

1- انظر Hugo Friedrich , in Karlheinz Stierle : L’histoire comme exemple, l’Exemple comme histoire, Poétique n 10 , 1972, ,p.182

2- Eleseo Véron : Sémiosis de l’idéologie et du pouvoir , in Communications 28, 1978 , p12

3- أمبيرتو إيكو :  ست نزهات في غابة السرد ، ترجمة سعيد بنگراد ، المركز الثقافي العربي ، 2005 ، ص 88

4- نفسه ص111

 

 

 

 

 

 

 
 
 
معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

مؤلفــات بطاقة تعــريف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال   مواقـــع  خزانات الموقـع صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

موقع سعيد بنگراد - تاريخ الإنشاء: نونبر 2003