التأويل
بين إكراهات "التناظر" وانفتاح التدلال
يولد النص بقرار خاص، إنه حصيلة قصد مسبق يقود إلى رسم حدود مرئية هي ما يحدد عادة
حجم القصيدة وامتدادات الرواية وبداية العرض المسرحي ونهايته....فالإبداع الفني هو
امتلاك القدرة على بناء " عالم " استنادا إلى عدد محدود من الملفوظات، أو رسم لوحة
استنادا إلى تأليف محدود من الألوان والموتيفات. وغير ذلك لا يمكن أن يدرج ضمن
المعايير التي يحتكم إليها النص في تجليه وتلقيه على حد سواء. وتشكل هذه الحدود
المدخل البدئي لتلمس " انسجامه ومعقولية عوالمه". ذلك أن معاني النص ليست
سوى العلاقات، الضمنية منها والمتحققة، القائمة بين وحدات يتم استنادا إليها توليد
مسارات للتأويل تتحقق وفق هذه الاستراتيجية أو تلك.
ولهذا السبب، فإن لتلقي النصوص الإبداعية وضعا خاصا. فما يبحث عنه القارئ في هذه
النصوص ليس معنى جاهزا مستقلا بذاته، ف" الحقيقة " لا توجد بشكل مطلق في النص
الغفل.
ولا يشكل النص ذاته، في جميع الحالات، سوى فرضية للقراءة، يشهد على ذلك ويؤكده تعدد
القراءات وتنوعها.
إنه، بخلاف النص العلمي، لا يعرض لمفاهيم مجردة تقتضي حيادا، وإنما يقوم بتصريف
مصور لانفعالات لا تستهويها سوى الوضعيات الإنسانية بكل تنوعاتها.
إن مثوى " الحقيقة" التي تبلورها النصوص هي السياقات التي يمكن بناؤها مع توالي
القراءات في الزمان وفي المكان، وهذه السياقات ذاتها هي فرضيات للقراءة وليست معطى
قابلا للمعاينة الموضوعية. إنها تتشكل استنادا إلى معطيات النص الأولية، ولكنها
منفصلة عنها من حيث قدرتها على توليد قصديات جديدة ليست مدرجة بالضرورة في الوجه
المباشر للنص. إن ما نقرأه حقا هو تحققات ممكنة للظواهر النصية من خلال فعل
التأويل، إن الأمر يتعلق بعوالم خاصة يولدها استقبال النصوص المتجدد باستمرار.
وتشير هذه العناصر الأولية إلى بعض الثوابت الأساسية في تصور المعنى وقياس حجمه
وامتداداته. فالنص ليس كذلك إلا إذا
كان خزانا لمعاني
بعضها من المؤلف وبعضها من النص وبعضها الآخر هو حصيلة ما تأتي به الذات التي تقرأ
وتؤول. بل إن القصديات الثلاث المتعارف عليها : قصدية المؤلف وقصدية النص وقصدية
القارئ لا تستمد كامل قوتها الإجرائية إلا من الضرورة التي يستوجبها تحديد بؤر
المعنى ومظانه الأصلية. وكل بؤرة من هذه البؤر تحدد توجها خاصا في التعاطي مع
دلالات النص الممكنة.
لذلك لم تكن كل مجهودات منظري الفن ومؤرخيه وفلاسفته، منذ بدايات التاريخ الأدبي
والفني إلى الآن، سوى محاولات متجددة لإرساء قواعد تأويلية تقودنا إلى فهم أفضل
للنصوص. فسيرورات التعرف على المعطى المباشر وفهمه هي ذاتها التي تقودنا إلى خلق
حالات التنويع السياقي الحامل للمعاني المتنوعة، كما هو مسجل في تراث الهرموسية* أو
في اقتراحات التفكيك وممارساته.
ومع اعترافنا بتعدد دروب التأويل وسيروراته، وهو تعدد يمليه تعدد التصورات النظرية
الخاصة بالمعنى، فإننا لن نتوقف في هذه الورقة سوى عند مفهومين يعدان، في الوقت
الراهن، من بين أكثر المفاهيم أصالة في النقد الأدبي وفي النظريات الخاصة بفهم
الظواهر الدالة وتأويلها وتحديد معانيها. ويتعلق الأمر بمفهوم " التناظر" (
isotopie)
كما نحته وصاغ مضمونه كريماص في النصف الثاني من القرن الماضي، واستثمره أتباعه في
دراسة أبعاد نصية جديدة. فالتناظر يشير إلى وجود جذع دلالي مشترك يوحد عوالم النص
ويمنحه انسجامه من خلال الحد من فوضى المعانم* وإمكانية انتشارها في كل الاتجاهات
بلا ضابط ولا رادع.
ويتعلق الأمر ثانيا
بمفهوم السميوز (
sémiosis)
( التدليل )
كما بلور حدوده شارل سندرس بورس في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين
ضمن رؤية سميائية شاملة للممارسة الإنسانية بكل أبعادها ولغاتها. وهو مفهوم يدل على
السيرورة التي يشتغل من خلالها شيء ما كعلامة، إنه مبدأ التحول من الشيء المادي إلى
وجهه المجرد الدال على رمزية الوجود الإنساني. أما أصوله الفلسفية فتعود إلى نظرية
المقولات، وهي أساس فينومينولوجي لقياس الظواهر وفهمها كمدخل أساس لفهم الإنسان
وتبين تجاربه ومحيطه.
ومع أن هذين المفهومين ارتبطا منذ لحظات صياغتهما الأولى بطريقة تحليل النصوص ( وكل
الوقائع الدالة )، إلا أنهما يتجاوزان من حيث أبعادهما الإبستمولوجية هذا المستوى
لكي يحددا نمطين مختلفين في التعاطي مع " الحقيقة " الإنسانية، النظرية منها
والعملية على حد سواء.
يعد المفهوم الأول جزءا من جهاز نظري ضخم (السميائيات السردية وعلم الدلالة
البنيوي) يدعي القدرة على الإمساك ب" معنى النص " من خلال استعادة العمليات الخفية
التي تعد شرط وجوده، وهي العمليات التي يتضمنها ما يطلق عليه كريماص وتلامذته
المسار التوليدي(1). ويتكون هذا المسار من شبكة من الترابطات المعقدة بين مستويات
متمايزة عن بعضها البعض، مهمتها ضبط التحولات الممكنة للمضامين المستثمرة في النص،
بدءا من العلاقات غير الموجهة، وانتهاء بحالات التجلي من خلال مادة بعينها، مرورا
بمستوى التوسط الذي يرصد التحولات من الوجه المجرد للنص إلى الحالات المصورة.
فانطلاقا من محور دلالي بسيط من قبيل: حياة (م) موت يمكن توليد عدد هائل من
الحكايات تعد جميعها وجوها مشخَصة للقيم المجردة التي يتضمنها هذا المحور بشكل
احتمالي.
أما المفهوم الثاني فهو من طبيعة مغايرة. إنه لا يشكل سوى تصور عام لشكل وجود
الدلالة ونمط اشتغالها. فالعلامة، وفق تصور بورس، تشتمل على علاقات ضمنية هي أساس
وجود المعنى وأساس انتشاره اللاحق في سيرورات غير محدودة نظريا. وتعد السميوز
اختصارا لهذا النشاط بوجهيه الفعلي والمحتمل. لذلك لا يمكن النظر إليها باعتبارها
جوابا إجرائيا، أو وصفة يعتمدها المحلل في فهم الظواهر، إنها رؤية خاصة لموقع
الإنسان داخل الكون وفق مبدأ الامتداد الدال على وجود روابط لا متناهية بين الإنسان
ومحيطه.
وعلى الرغم من أن المفهومين يشيران كلاهما إلى نشاط تأويلي ينطلق من مسلمة وجود
قصدية أخرى غير ما يشير إليه النص بشكل مباشر ( التقابل الكلاسيكي بين معنى حرفي
وآخر إيحائي )، إلا أنهما لا يتضمنان تصورا موحدا لهذا التقابل، ولا تسندهما
الخلفية المعرفية ذاتها. فبينما يشير التناظر إلى معطيات موضوعية مهدها النص في
المقام الأول ولاشيء سواه، هناك تسليم بوجود مادة دلالية مجسدة من خلال علاقات
بعينها، فإن السميوز، على العكس من ذلك، فرضية لاحقة تعد " تصرفا " ذاتيا في هذه
المعطيات وإعادة تشكيلها وفق أهواء ليست متوقعة في القصدية الأولى. وهي بذلك تدرج
القارئ، ضمن إنتاجية النص وتلقيه، باعتباره أحد الأطراف الرئيسية في إنتاج الدلالات
وتنويعها. وذاك هو أساس الاختلاف البين بين المفهومين، فهما طريقتان مختلفتان في
تقدير معاني النص وسبل الوصول إليها، وطريقة انبثاقها من العلاقات المشخصة في وجهه
الحدثي. وهذا ما سيأتي بيانه في الفقرات التالية.
I
وكما سنلاحظ ذلك فيما سيأتي، فإن كل التعريفات الموضوعة للتناظر لا تخرج عن دائرة
تحديد وظيفته في توفير الضمانات الأساسية التي يتم عبرها الإمساك بانسجام النص من
خلال تقليص حجم امتداداته وضبطها وتوجيهها وفق غاية دلالية متضمنة في قصديته"
الأصلية ". وتتبدى التباشير الأولى لهذه القصدية في ثنايا المحور الدلالي العام
الذي لا يشكل النص المتحقق سوى وجهه المشخص. فبالإمكان استعادة هذا المحور من خلال
عمليات تجريدية متتالية ترد الحد المشخص إلى وجهه المفهومي الأول. حينها يمكن أن
نحدد " بدقة " معنى النص. وهو ما يعني، حسب كريماص، التعرف على التناظر الدلالي
العام الذي تعود إليه كل الحلقات المبثوثة في جزئيات نصية تبدو ظاهريا بلا قيمة.
والأمر يعني، بعبارة أخرى، القول إن النص يشتمل على " معنى معلوم"، ولا يقوم القارئ
سوى بالتعرف عليه والكشف عنه. وهو ما تدل عليه العبارة التي ترد بكثرة في أدبيات
السميائيات السردية القائلة بضرورة " التعرف على التناظر وتحديده". و" التعرف" يشير
إلى وجود " أساس موضوعي" يمكن لكل القراء الحاذقين، بقليل أو كثير من الذكاء،
الوصول إليه.
إن التناظر وفق هذا الإجراء التحليلي هو " الحضور المتواتر لقاعدة دلالية مكونة
من معنم سياقي من طبيعة تراتبية. ويمكننا هذا الحضور من تنويع وحدات التجلي وذلك
بفضل انفتاح الإبدالات التي توفرها المقولات المعنمية السياقية. وعوض أن يتسبب هذا
التنويع في تدمير التناظر، فإنه لا يقوم سوى بتأكيده " (2). فجملة من قبيل: " الجو
حار " تعد متناظرة لأن هناك انتقاء سياقيا ممكنا يحيل على مستوى خاص بسلمية تقويمية
طبيعية تربط بين " الجو" و"الحرارة". إن الجملة متماسكة من حيث البناء ومنسجمة من
حيث الإحالة الدلالية لوجود روابط دلالية صريحة بين وحداتها. فالمعنم السياقي "
طبيعي"، الذي يطلق عليه كريماص الكلاسيم، هو المسؤول عن هذا الانسجام، ف" الوجود
الموضوعي " للحرارة لا يمكن أن يكون إلا في الجو بما يتضمنه من أجسام وأشياء
وكائنات.
إلا أنه يعني أيضا القدرة على استبدال هذا المعنى السياقي بآخر في حالة تحويل
السلمية التقويمية من الطبيعي إلى " سياسي "، إذا كان القصد من الجملة هو التعبير
عن توتر سياسي في بلد ما. بل يمكن الحديث أيضا عن إحالة أخرى تشير إلى الكلاسيم "
جنسي"، إذا كان المراد من هذه الجملة التعبير عن وضع مثير جنسيا، وغيرها من
السياقات المتضمنة بشكل احتمالي داخل هذا الملفوظ.
إن التناظر في هذه الحالة " يشكل مبدأ أساسيا لضبط العوالم الدلالية. وعلى عكس ما
تبدو عليه الأشياء في الظاهر، فإن افتراض وجود تناظر هو الذي يقود إلى تحيين
المعانم لا العكس، فالمعانم المعطاة لا يمكن أن تشكل تناظرا " (3). فافتراض المعنم
السياقي " الطبيعي " أو " السياسي" أو " الجنسي" في الجملة السابقة هو الذي يقود
إلى تحيين الوحدات الدلالية الصغرى المرتبطة فيما بينها وفق تناظرات بعينها، هي ما
يمنح الجملة انسجامها وتماسكها.
لذلك أمكن القول إن" كل معنى، حتى في الحالة التي يتعلق فيها الأمر بأبسط الوحدات
الدلالية، هو نتاج سلسلة من العمليات التأويلية، وهو بذلك رهين في تحققه بوجود
استراتيجية مسبقة " ( 4).
إلا أن هذه الإحالات ليست مفتوحة إلى ما لا نهاية، وهذا أمر ممكن في تصورات أخرى،
أما هنا فإنتاجية القراءة أمر مستبعد، بل مستهجن في الكثير من الأحيان (5).
فالتوالد الدلالي في سياقنا هذا محكوم بغاية محددة وخاضع لإكراهات تحد من الانتشار
غير المضبوط للمسارات التأويلية. والاعتراف بوجود دلالات محتملة لا يقود إلى القول
بالتعددية الدلالية للنصوص، إنه يشير فقط إلى حقها في الوجود وإمكانية تحققها ضمن
سياقات نصية أخرى. فما يشكل " المعنى الحقيقي للنص " هو المضمون الذي يشير إليه
التناظر الرئيسي لا تطوراته الجانبية الممكنة.
إن التقليص من هذه الإمكانات والحد من توالدها يتم من خلال استحضار فكرة "
التراتبية " المشار إليها في التعريف السابق. إنها جزء أساسي من التعريف، وقد لا
نتمكن من استيعاب المضمون الحقيقي للتناظر إذا نحن استبعدنا الروابط التراتبية بين
الطبقات الدلالية التي يشتمل عليها النص. فالتراتبية في هذا التعريف معناها أن
التناظرات الفرعية تتجمع طبقة طبقة من أجل تشكيل تناظر كلي هو الذي " يهدي " إلى
معنى النص. لذلك هناك اختلاف بين الجملة المعزولة وبين النص الذي يبني وحداته
استنادا إلى الانتقاءات التي تقود إلى استعادة " أصله الدلالي ". فالجملة مفتوحة
بالطبيعة، أما النص فيبنى وفق إكراهات الانسجام والوحدة. وهو ما يطلق عليه عادة "
بناء عالم " ، أي الاستنبات التخييلي لكيان فني مقتطع من موسوعة ثقافية شاملة، ولا
يمكن لهذا الكيان أن يشتغل بصفته تلك إلا إذا وضع بين " بياضين دلاليين "، أي ضمن
حدود تمنحه وجودا مستقلا.
وهذا التقليص هو
ما يوضحه التعريف الثاني الذي يضعه كريماص للتناظر. فالتناظر " هو تواتر مجموعة من
الوحدات
الدلالية الضامنة لقراءة منسجمة للمحكي كما تتحقق من خلال
القراءات الجزئية التي تعمل على إجلاء الغموض الذي تتضمنه الملفوظات. والغاية من
هذه
القراءات هي الوصول إلى قراءة واحدة للنص " (6). و" أحادية القراءة "هي المعادل
الذي يأتي به التحليل تعبيرا عن وحدانية المضمون الممثل في النص. إنها تعني التسليم
بوجود ترابط " واع" بين المؤلف وبين كل جزئيات النص الذي ينتجه. فالجزئيات قابلة
للتجميع التدريجي من خلال التبسيط المتتالي الذي يقود من المركب إلى البسيط إلى
الأبسط وصولا إلى استعادة ذلك الكل الدلالي الضائع في التفاصيل، يكفي في ذلك أن
نقوم برفع الالتباس عن الملفوظات المكونة للنص من خلال التقليص من الممكنات التي
تتضمنها وربط المتحقق منها ب " نية " المؤلف في تبليغ رسالة بعينها هي ما يشكل "
المضمون المطروح " بلغة كريماص.
فالتراتبية الدلالية ( التناظر الرئيسي في علاقته بتطوراته الفرعية المحتملة ) هي
ذاتها التي تحكم الوحدات السردية ، أي ذلك الوجه الحدثي لما يُمكن أن يستعاد من
خلال مفهوم مجرد. وهو ما تحيل عليه مقولة " المسار التوليدي ". فالتسليم بوجود
منطلق مجرد خارج كل السياقات،" جلي" في وعي النص أو وعي المؤلف، معناه التسليم
بوجود مركز أصلي تنتهي عنده كل الوحدات الدلالية. وبإمكاننا من خلال تحليل منطقي
التعرف على هذا المركز من خلال القيام بسلسلة من التبسيطات المتتالية التي تقود إلى
التعرف من جديد على " البنية الدلالية البسيطة". والأمر يتعلق بمحور دلالي ( ما
يطلق عليه في اللغة غير المتخصصة: " الفكرة التي تدور حولها الأحداث ") ينفجر في
وحدات مشخصة يمكن احتواء ممكناتها من خلال التناظر الدلالي العام الذي يمكننا من
تحديد القراءات " الصحيحة للنص".
وهنا أيضا يعبر كريماص بعمق عن تلك الرغبة الدفينة التي نعثر عليها في كل أعمال
البنيويين الأوائل. لقد كان هؤلاء مسكونين بهوس الوصول إلى نقطة ختامية تنهي رحلة
البحث وتضع حدا لكل المغامرات التأويلية. فالوصول " إلى السنن الذي تنتهي عنده كل
الأسنن " (7) هو ما تترجمه فكرة " التعرف على التناظر الكلي" الذي يمثل عمق النص
وجوهره ويمكن من استعادة هوامشه. فالنص يتضمن حقيقة كلية بالإمكان التعرف عليها
وتحديدها من خلال ثنائية أصلية هي أقصى ما يمكن الوصول إليه. إن الأمر شبيه
بالإيمان اللاهوتي الذي يضع المعرفة المحايثة في ذات عليا هي النقطة التي تضمحل
وتتفكك عندها كل المتناقضات.
والأمر يشمل كل الوقائع الدالة، ومنها في المقام الأول المقامات التي يولدها
الخطاب السردي. فالتناظر الدلالي الأصلي هو الشرط الأساسي لوجود حكاية، وهو كذلك
أيضا من أجل توقع إمكانات تطورها،" فلكي يكون للحكاية معنى، يجب أن تكون كلا
دلاليا، وهو ما يعني وجوب مثولها أمامنا باعتبارها بنية دلالية بسيطة. والحاصل أن
التطورات الثانوية، التي لا موقع لها داخل البنية البسيطة، هي مجرد عناصر تابعة من
طبيعة ثانوية. وعلى هذا الأساس، فإن السرد، باعتباره كلية، يشكل بنية مضمونية ذات
طبيعة تراتبية" (8). وهو ما يعني، بعبارة أخرى، أن الأساس في الحكاية هو تلك
الوحدات التي تشكل عصب السرد ومضمون القصة. ويتعلق الأمر بالوحدات " الوظيفية"
الكبيرة التي يسميها كريماص الملفوظات السردية. إنها المقابل العام للقرائن ذات
الطبيعة الخطابية التي تعد فواصل بين لحظات حاسمة في الحكاية، ولا وظيفة لهذه
العناصر سوى إضافة تلوين ثقافي خاص هو ما تأتي به عادة الملفوظات الوصفية.
وهذا تصور قد يغري بدقته العلمية ( وهي كذلك في واقع الأمر )، ولكنه لا يمكن أن
يجيب عن إشكالات البناء الدلالي في النصوص الإبداعية حيث لا ترتبط الوحدات بالضرورة
بسجل واحد على امتداد نص هو بالطبيعة مختلف في اشتغاله عن منطق الجملة المعزولة،
كما هو مختلف أيضا عن نص " تقريري " يتحدث عن " كيفية تحضير وجبة حساء " حيث
التوزيع العاملي معطى بشكل صريح بدون أي التباس مع الوصفة المحددة لمستلزمات
التحضير، تماما كما هي محددة بدقة كل البرامج السردية الأساسية منها والفرعية التي
تشكل " الكل الحكائي " (9).
استنادا إلى هذا لن يكون غريبا أن تشكل الإشكالات الخاصة ب" التعريف " منطلقات
أساسية سيستند إليها كريماص في بلورة تصوره للتناظر. وهي إشكالية تندرج ضمن
الاشتغال الميتالغوي للخطاب باعتباره يتضمن عددا هائلا من المعادلات التي تقود من
المفصل إلى المكثف ضمن تبادل مستمر للمواقع (10). وإذا كان التعريف مرتبطا في الأصل
بوحدة معجمية مفردة ( كلمة مثلا )، فإنه يمكن أن ينسحب على النص أيضا،
فالعالم يتسرب إلى
النص على شكل أحكام وصفات وتصنيفات مسبقة. إنه، بعبارة أخرى، بؤرة لسلمية ثقافية
تحتويها التعريفات في المقام الأول. فبالإمكان منح كل الأشكال التصويرية معادلات
مكثفة، كما يمكن تحويل كل وحدة مجردة إلى مسار تصويري يشرح مضمونها.
وهو ما يدل عليه الوصف التحليلي الذي ينطلق في تصوره للنص، باعتباره تحولا من
المجرد إلى المشخص، من مسلمة وجود المعادلات التصويرية للعلاقات المدرجة ضمن عالم
غير موجه ( التقابل بين الخير والشر خارج كل السياقات الممكنة مثلا). فبإمكان
المحلل إسقاط مفهوم بسيط قادر على استعادة جوهر ما هو مدرج في النص بشكل مفصل،
ومستبعدا في الوقت ذاته ما يسميه كريماص " المعرفة الفطرية " التي قد تشوش،
بطبيعتها، على " صفاء " التناظر العام. فأن تعرف الله باعتباره سيد السماء
وباعتباره المهمين على كل شيء، وباعتباره الواهب والمجزي، معناه افتراض معرفة سابقة
تحيل على تصور خاص هو صورة الله في تعاليم الديانة المسيحية، (11) والإسلامية أيضا.
وبدون هذه المعرفة لا يمكن أن نقول عن الله أي شيء. وبناء عليه، فإن التعريف ليس
استحضارا محايدا لخصائص موضوعية مفصولة عن السياقات الثقافية كما هو الحال في
العلوم الدقيقة مثلا، إنه في حالتنا تكثيف لمجموعة من التمثلات الثقافية للوجود
بأشيائه وكائناته.
وعلى الرغم من أن التعريف يفترض وجود هذه المعرفة السابقة على الوصف الدلالي، وهي
مجموع العناصر الثقافية التي يعتمدها التعريف في بناء حدوده الدلالية، كما في
التعريف السابق، أي" الكون الدلالي المخزَّن " في الذاكرة، فإن التناظر قادر – ضمن
الحدود التي يفرضها النص – على رفع الالتباس الدلالي والتخلص من هذه المعرفة
المسبقة من خلال ربط النص بكون دلالي جديد لا يستمد مضمونه إلا من المرجعية
الداخلية للنص. و" لهذا الإجراء أهمية منهجية كبيرة في الوصف الدلالي. فمن خلاله
يمكن التخلص من أحد أكبر المعيقات وأكثرها جدية، والشروع في بناء تناظر ستلتف حوله
الصور حتى تلك الموغلة في الغرابة أو الأقل توقعا " (12). "
إن التخلص من " المعرفة الفطرية " هو طريقة أخرى للقول إن التحليل ينطلق من ضرورة
الانفصال عن المرجع الخارجي وإدراج النص ضمن منطق يمكنه من بناء عوالمه الدلالية
ضمن حدوده هو، تلك التي لا يمكن أن ترتبط بأي رابط مع عوالم أخرى، " فلا خلاص لنا
خارج النص " حسب التعبير الشهير لكريماص. " فالتسميات التي يتضمنها النص محددة من
خلال التعريفات التي يتضمنها ومن خلالها فقط، حينها سيشكل النص كونا دلاليا مصغرا
منغلقا على نفسه. إن هذه الخاصية الدلالية للخطاب ستمكننا من القيام بإجراءات وصفية
جزئية من خلال إرساء ما يشبه المعادل بين النصوص المحدودة وبين الأكوان الدلالية
المنغلقة على نفسها " ( 13).
إن التحليل – الكشف عن المضمون الدلالي للنص- يتم كما لو أن الأمر يتعلق بالانتقال
الطبيعي من تعريف مفصل إلى تسمية تستعيد بشكل مكثف مجمل العناصر التي يشتمل عليها
هذا التعريف. إن الأمر يتعلق باختصار يجب أن يقود إلى تحويل ما يحضر أمام القارئ من
خلال شكل تصويري ما إلى معادلاته المجردة، أي سلسلة من المفاهيم التي تعيد الحياة
من جديد إلى التقابلات أو الاستقطابات الثنائية المشكلة لها. وهو ما يعني بصريح
العبارة أن النص مكتف بذاته، وأن دلالاته في بطنه، وبإمكان المؤلف أن يستحوذ على
اللسان وأن يستعمله بشكل واع من بداية النص إلى نهايته وفق غاية دلالية مرسومة بدقة
ويمكن استعادتها بالدقة نفسها من خلال تحليل علمي دقيق لا يلتفت إلا للأساسي الذي
هو المقصود في النص وفي نفس قائله على حد سواء.
والحال أن الأمر ليس بهذه الدقة العلمية. فالطاقة الانفعالية التي يتم أسرها من
خلال فعل الإبداع لا تشكل ترجمة مباشرة لوعي صاح، ولا تعد معادلا صريحا لمضمون من
طبيعة منطقية. إن الانفعال الفني لا يسكن هذه الوحدات إلا بشكل عابر، أو لا تشكل
هذه الوحدات، ضمن حالات تحققه، سوى وجهه العرضي. إن الانفعال عادة ما يختفي في
القرائن، وهي مجموع التفاصيل والجزئيات التي تكسو الحدث وتخصصه. وكما سنرى لاحقا،
فإن التأويل لا تستوقفه الوحدات الكبرى إلا باعتبارها ما يقود إلى ما هو " أساسي "،
وهو ما تشكله العناصر التي اعتبرت، في جزء كبير من التقليد البنيوي، عناصر عرضية
بلا قيمة، وهو تصور سبق أن شكك فيه ليفي شتراوس في مقاله الشهير " البنية والشكل "
في الخمسينيات من القرن الماضي وهو يرد على مقترحات بروب ( 14).
وليس غريبا أن يلغي التأويل المستند إلى التحليل النفسي مثلا من حسابه كل المضامين
المرئية بحثا عن مضامين جديدة هي الوجه الرمزي لما يمثل أمامنا من خلال حدود
مألوفة. إن الأمر لا يتعلق بالانتقال من المشخص إلى المجرد كما تقتضي ذلك لعبة
التناظرات الدلالية، بل الغاية من التأويل في هذه الحالة هي البحث عن معادلات بين
عوالم رمزية وبين وجهها " الحدثي". ولا تختلف الكلمة في ذلك عن الحدث المشخص. فكما
أن الكلمة هي سلسلة من السياقات الممكنة، فإن الحدث قد يكون مجرد "وسيط " نحو مضمون
لم يسمح المتاح المعرفي أو الثقافي بالتعبير عنه من خلال المفاهيم المجردة ( ما
يمكن أن يقدمه التأويل في " فهم " مضمون الأسطورة مثلا ).
ووفق هذه الأبعاد الجديدة لا يمكن اختصار العملية التأويلية في كليتها في مهمة
وحيدة هي التعرف على قصدية النص والكشف عن مضمونه الحقيقي. فلقد سبق أن أشرنا إلى
أن اللغة تتجاوز من حيث جانب الاحتمال داخلها قصدية المؤلف، والجمع، ضمن وحدة
دلالية لا ينفصم عراها، بين كل الوحدات اللسانية وإلغاء ما تبقى من السياقات أمر
قريب من الاستحالة، إن لم يكن هو الاستحالة ذاتها. فما هو مقتطع من موسوعة ثقافية
شاملة لا يمكن أن يشكل كيانا حقيقيا إلا في حفاظه على روابطه مع منبته الأصلي. وهو
ما يعني، بعبارة أخرى، أن هناك قصدية أخرى لا تخلق المعنى ولا تبتدعه، ولكنها تعمل
على تحيين كل احتمالات النص الدلالية.
II
إن تصور قصدية تُبنى في اتصال أو انفصال مع معطيات النص يجب أن تقودنا إلى إعادة
النظر في سلسلة من التصورات التي اعتقدت في إمكانية البحث عن دلالة أصلية مثواها
النص والنص وحده، كما هو مثبت بتفصيل في التصور الذي عرضنا له في الصفحات السابقة.
وهذه القصدية ليست معطى من الخارج، إنها جزء من الاستراتيجية التأويلية التي تبني
سيروراتها استنادا إلى وعي يتلقى ويسهم في بلورة العوالم الدلالية التي يمكن أن
يثيرها النص ضمنا أو صراحة، لا استنادا إلى وعي يبث خارج كل الإكراهات.
إن الأمر يتعلق بفرضية تأويلية قلصت من جبروت النص، وحولته أحيانا إلى مجرد توجيهات
أولية لا تتحقق بكامل قوتها إلا من خلال الوعي الذي يتلقى ويحين وينوع المسارات،
وحولته أحيانا أخرى إلى مجرد ذريعة عرضية تستعمل في انفصال عن قصدية المنتِج
والمنتَج على حد سواء. لقد استعاضت عنه بوعي لا يروم الوصول إلى غاية بعينها، وإنما
يمارس لعبة تسير به في كل الاتجاهات دون ضابط أو أفق.
نحن أمام تصورين مختلفين لتقدير معاني النص وامتداداتها الممكنة. فقصدية القارئ قد
تتسع لتدمر في طريقها كل شيء بما في ذلك قصدية النص، حينها لا يقوم النشاط التأويلي
سوى بإدراج النص من جديد ضمن " فوضى " الموسوعة الثقافية الشاملة حيث كل شيء يحيل
على شبيهه أو نقيضه، كما هو حال بعض التيارات التي لم تر فائدة من البحث عن معنى لا
يمكن أن تبوح به لغة مخاتلة بطبيعتها. وقد تضيق هذه القصدية لكي تُبنى احتمالات
القراءة ضمن معطيات النص لا خارجها، أي ضمن السيرورات التي يمكن توليدها من خلال
فرضيات متتالية للقراءة .
وسنحتفظ في هذا المقام بما يمكن أن تقدمه لنا الحالة الثانية، أي بناء استراتيجية
تأويلية وفق " غايات نفعية " بتعبير بورس، لا تلتفت إلا إلى السياقات التي يمكن أن
يقبل بها النص ويجيزها. وهو التصور الذي أشرنا إلى بعض عناصره في الصفحات السابقة،
حيث الدلالة سيرورة يُعد التعرف عليها جزءا من نمط بنائها.
وكما سبق أن رأينا ذلك في بداية مقالنا هذا، فإن هذا المفهوم يغطي منطقة معرفية
واسعة ممتدة في اتجاهين : ما يقود إلى نظرية المقولات الفينومينولوجية التي يجعلها
بورس أساس إدراك الإنسان لنفسه وللآخرين ولمحيطه في كليته، وما يعود إلى تنظيم
التجربة المعيشة من خلال الفعل الرمزي المدرج ضمن التمثيل اللفظي وغير اللفظي
للواقع. وهذا التمثيل هو وحده السبيل إلى تحويل المتعدد والمتنافر إلى ضرب من
الوحدة، وهو ما يعني ضرورة تنظيم التجربة الإنسانية خارج إكراهات المحددات الأساسية
: الأنا والهنا والآن.
والعلامة هي الأداة المثلى للقيام بذلك. إنها تشتغل وفق آلية تمثيلية تشتمل على
أداة تقوم بالتمثيل لموضوع " خارجي" وفق ما يقتضيه الرابط الإلزامي الذي يمكننا
استقبالا من التعرف على كل الموضوعات المشابهة، بغض النظر عن اختلافاتها من حيث
خصائصها العرضية. وهذا الرابط هو ما نسميه عادة الفكر أو القانون أو الضرورة حسب
مصطلحية بورس. فالشجرة هي كذلك في أذهان كل الناطقين بالعربية في حدود أنها يمكن أن
تصدق على كل الأشجار دونما اعتبار للون الأوراق أو امتدادات الأغصان أو نوعية
الفاكهة.
إلا أن هذه الثلاثية ليست منغلقة على نفسها، إنها سيرورة تتطور بشكل لولبي بحيث إن
الأول يحيل على الثاني عبر ثالث سيصبح هو نفسه أولا يحيل على ثان عبر ثالث جديد
وهكذا إلى ما لا نهاية (15). فليست هناك حدود يمكن أن تتوقف عندها الإحالات، ولا
نهايات ممكنة لفكر مفتوح يوضح بعضه بعضا. وهذا أمر ممكن استنادا إلى إمكانية إيجاد
روابط بين كل ظواهر الكون أولا، واستنادا إلى طبيعة الفكر ذاته ثانيا. فالفكر في
تصور بورس ناقص، إنه يشتمل على الضمني والمحتمل. وهو بطبيعته تلك يحتوي على حلقات
تقود من سيرورة إلى أخرى وفق المقتضيات الداخلية للأنساق ووفق علاقاتها الممكنة :
علاقات التشابه أو التقابل، وعلاقات التضمن والتراتب أيضا.
فما يأتي عبر الإحالة الأولى ليس سوى لحظة بسيطة ضمن سلسلة من الترابطات الدلالية
التي قد تقودنا إلى استحضار كل ما يَعْلق بالموضوع الممثل بدءا بالمدخل القاموسي
مرورا بالتداعيات الدلالية وانتهاء بالإحالات الإيحائية المتنوعة. إن الأمر شبيه
بحديث مسترسل بلا موضوع ولا غاية. وهذا ما يجعل العمليات التمثيلية، في تصور بورس،
مفتوحة إلى ما لا نهاية، فليس هناك في معرفتنا ولا فيما يحيط بنا ما يمنع من أن
نقوم بربط متتال بين كل الأفكار الممكنة، يكفي في ذلك إيجاد روابط تبيحها الموسوعة،
أو يمكن أن تكون مقبولة، من زاوية نظر ما، داخلها. وذاك منطق التمثيل ذاته، فهو
يكتفي بوضع شيء محل شيء آخر، أو الاستعاضة عن عالم مادي بوجه رمزي يخبر عنه. لذلك
" فمعنى التمثيل لا يمكن أن
يكون سوى التمثيل ذاته. وهذا أمر صحيح، إذ التمثيل لا يمثل سوى نفسه باعتباره يُدرك
خارج أي سياق. ولا يُجَرَد هذا السياق من معناه، وإنما يتم استبداله بمعنى أكثر
شفافية. لذلك، فالأمر يتعلق باندحار لا متناهي للعلامة
" (16). فما يتم تمثيله ليس سوى حدث عرضي يمكن أن يولد سلسلة أخرى من التمثيلات
القابلة للتجسد في موضوعات متنوعة. "فالعلامة في تصور بورس شيء تفيد معرفته معرفة
شيء آخر" (17). وبناء عليه، فالإحالات ليست لعبة مفتوحة يلغي لاحقها سابقها، إنها
تقوم، على العكس من ذلك، بإنتاج معرفة مضافة هي مبرر التمثيل وغايته. إن بؤرة هذه
المعرفة ليست العلامة، فالعلامة إمكان فحسب، إنها التجسيد الفعلي لمعرفة تأتيها من
متلقيها. وذاك ما يشير إليه حد الموضوع،"
فإذا كان هناك شيء يحدد معلومات دون أن تكون لهذه المعلومات أدنى علاقة بما يعرفه
الشخص الذي يستقبلها لحظة بثها ( وستكون معلومة غريبة حقا)، فإن الأداة الحاملة
لهذه المعلومات لا تسمى في هذا الكتاب علامة " (18).
". وتدل هذه المعرفة المضافة ( بالمعنى البورسي للكلمة ) على أن الانتقال من مؤول
إلى أخر يكسب العلامة تحديدات أكثر اتساعا سواء كان ذلك على مستوى التقرير أو على
مستوى الإيحاء. إن التأويل، باعتبار موقعه داخل نسيج السميوزيس اللامتناهية، يقترب
أكثر فأكثر من المؤول النهائي المنطقي. فالسيرورة التأويلية تنتهي، في مرحلة ما،
إلى إنتاج معرفة خاصة بمضمون الماثول أرقى من تلك التي شكلت نقطة انطلاق هذه
السيرورة " (19). وهو ما يعني، بعبارة أخرى، أن العلامة تعين وتسمي في الوقت ذاته،
إنها تصنف الموضوع الممثل ضمن القسم الذي يحتويه أولا، وتمنحه موقعا داخل التجربة
الإنسانية ثانيا، أي تمنحه دلالات إضافية.
ولهذا السبب، فإن التوالد اللامتناهي أمر ممكن فقط ضمن الحالات التي تمثلها موسوعة
مفصولة عن أي سياق، تماما كما هو حال الكلمة المعزولة. فكلمة " بحر" يمكن أن تدرج
ضمن عدد لا متناه من السياقات، ويمكن ربطها بكل الوحدات الممكنة. لكنها بمجرد ما
تخصص من خلال سياق معلوم، فإنها تنكمش على نفسها وتفقد قدرتها على الانتشار الحر،
وتتقلص ممكنات التأليف داخلها. لذلك فالسلاسل الدلالية يمكن أن تنكفئ على نفسها من
خلال التسييج الذي يفرضه بناء خطاب محدد ببداية ونهاية.
والمحدودية هي فصل البناء عن الامتداد الموسوعي. فالخطاب لحظة مميزة، أما الموسوعة
فامتداد لا حد له، إنها بذلك " غير قابلة للوصف الشمولي. واستحالة ذلك لا تعود إلى
ضخامتها فحسب، بل أيضا لأن الوحدات المشكلة لها يُعاد بناؤها باستمرار ضمن الدورة
اللامتناهية للسميوز، إما تحت ضغط الأشياء الموضوعة للإدراك، وإما نتيجة تناقضها مع
بعضها البعض، وذاك ديدن كل ثقافة" (20). فالثقافة ليست مضمونا يخصص، بل شكل يكشف عن
أنماط التحقق .
والحاصل أن التجزيء المولد للخطابات المخصوصة، أي ما نسميه العوالم الفنية، يتم
استنادا إلى فرضيات مسبقة هي ما يمكننا من بناء نص يتمتع بوجود حقيقي ويشتمل على
حالات افتراضية هي الرابط الفعلي بين ما نسميه واقعا وبين ما ينتمي إلى عوالم
التخييل. وهذا ما يشكل لحظة حاسمة تقود من المتصل إلى ما يحضر في الوجود العيني
باعتباره ممكنات دلالية مستقطعة من امتداد لا حد له. فعجلة الدلالة لا تتوقف،
والسميوز كيان مفتوح على كل الاحتمالات، وإحالات الأشياء والكائنات على بعضها البعض
أمر وارد، إلا أن " تشييد الحدود" و"رسم التخوم و" الفصل بين العناصر وتصنيفها" وفق
رؤى جديدة يقود إلى تحجيم هذه القوة وضبط إيقاعها وفق غايات هي أساس بناء النص ،
وأساس استراتيجيته في بلورة عوالم دلالية شبيهة أو متناقضة مع عوالم أخرى.
إن " الوحدات المخدرة" بتعبير إيكو، أي تلك التي يتم إهمالها ضمن هذا الاختيار
التأويلي أو ذاك، تشكل في واقع الأمر الرابط غير المرئي بين النص والموسوعة التي
تسند مضامينه. ولأنها من تلك الطبيعة، فإنها تشتمل على احتمالات يمكن، مع أبسط
تنشيط لذاكرة النص، أن تولد سيرورات تأويلية مرتبطة بقصدية محتملة." ومن هذا
المنظور، فإن دائرة السميوز تُغلق في كل لحظة، ولكنها لا تُغلق أبدا. فنسق الأنساق
السميائية الذي يبدو، من زاوية نظر مثالية، كونا ثقافيا مفصولا عن الواقع، يقود في
واقع الأمر إلى التأثير في العالم وتغييره. ومع ذلك، فإن كل فعل تغييري يتحول بدوره
إلى علامة ويولد سيرورة سميوزية جديدة " (21) .
والحاصل أننا لسنا أمام قراءة كلية، لأننا لا نفترض وجود مركز ثابت للنص، ولا نفترض
وجود قصدية مولدة قادرة على بناء عالم مطلق الانسجام وقادرة على التحكم في كل
تطوراته الممكنة. إن النص يتمرد على خالقه، وبعض الانسجام يوجد في ذات القارئ،
والقراءة لا تبحث عن معنى، بل تسقط سيرورات تأويلية هي نتاج فرضية للقراءة، ما يطلق
عليه إيكو الطوبيك. وهذا الطوبيك لا يشكل معطى موضوعيا يجب التعرف عليه، إنه يشير
إلى إمكانية خرق النسق الأصلي واستبداله ببناءات تعيد النظر في العلاقات التي تتسرب
إلى ذهن القارئ مع القراءة الأولى. وهو ما يبرره مفهوم البنية ذاته" فالبنية لا
وجود لها في ذاتها، إنها نتاج عمليات يتحكم فيها الملاحظ ويوجهها " (22).
فما بين التوليد والتأويل، وهو الاستراتيجية التي يتم من خلالها بناء نص مخصوص (23)
تندرج سلسلة من البرامج من طبيعة احتمالية. وباعتبارها كذلك، فإنها تندرج ضمن "
اللامحدد " و" الغامض " داخل النص " ببياضاته وفراغاته" (24) التي تحتاج إلى ذات
خارجية تحين وتولد السياقات. إنها، بتعبير آخر، تدفع النص إلى تسليم ممكناته
الدلالية لا من خلال " قراءة شاملة" تعتمد التناظر كاستراتيجية لاستعادة " مضمونه
الأصلي "، بل من خلال التسليم بمراكز ممكنة البناء انطلاقا من سؤال المحلل لا من
نوايا المؤلف.
وهكذا عوض التناظر الذي يلم شتات النص، هناك فرضية القراءة التي تقوم، على العكس من
ذلك، بتفجير النص في مسارات ترتبط في كل تحقق من تحققاتها بقصدية محتملة لها ما
يبررها في معطيات النص ذاته. حينها لن يتعلق الأمر بالتعرف على تناظر يقود إلى
استجلاء ما التبس على الأذهان واستعصى على الفهم، بل
يتعلق بإعادة تنظيم معطيات النص وفق قصديات جديدة تبنى من خلال الفرضيات لا من
خلال وعي النص أو وعي منتجه. وهكذا، فإن ما يتحكم في هذه السيرورة أو تلك هو الوعي
الذي يستقبل النص ويصوغ سؤالا يقوم وفقه بإعادة تنظيم وحدات النص استنادا إلى
إكراهات هذا السؤال لا إكراهات " معنى أصلي " مزعوم. حينها سننزاح عن النموذج الذي
تقدمه فرضيات التناظر التقليصية، وسننزاح أيضا عن النموذج الذي ينكر منذ البداية
وجود نقطة أصلية يمكن أن تلتف حولها كل المسارات التصويرية التي يشتمل عليها النص
فعليا أو بشكل احتمالي فقط.
إن دور القارئ في هذه الحالة لا يقتصر على البحث عن الخطاطة في النص كما هو حال
التصور السابق. إن الخطاطة هنا هي أداة قياس حجم المعنى، ولا تشكل جزءا من مكوناته
المباشرة وغير المباشرة. إن دوره يكمن في تحيين " معرفة " هي أداتنا من أجل الكشف
عن الدلالات التي لا يمكن أن تنبعث من وعي النص إلا إذا تفاعلت مع وعي التلقي.
وليس غريبا أن تتحول مجموعة من الخطاطات التحليلية إلى وصفات " سحرية " تسوي بين
النصوص وبين المحللين. إنها كذلك لأنها ترسم سبيلا واحدا هو وحده الذي يقود إلى
المعنى الأصلي للنص. إن السميوز، على العكس من ذلك سلسلة من التقديرات المتباينة
تلعب فيها ثقافة المحلل الدور الرئيس، فالوصول إلى معنى ما لا تحدده الخطاطة
التحليلية، بل تقود إليه طبيعة السؤال لذي يطرحه القارئ على النص.
وضمن هذه الفرضيات التأويلية يجب إدراج كل " المعرفة النصية" أي كل المكونات التي
تشكل هوية النص وهوية النوع الذي ينتمي إليه. فتلك المكونات تسهم، في جزء كبير
منها، في بلورة معانيه وتحديد أنماط تجسدها وتجليها. فإذا كانت الاستراتيجية
التأويلية فرضية عامة للقراءة، فإن المكونات تشكل معطيات موضوعية موجودة في استقلال
عن القارئ. إلا أنها لا تشير، خارج هذه الاستراتيجية، إلا إلى وجودها ذاك، إنها
صامتة، والوصف الدلالي وحده ينطقها ويمنحها موقعا داخل عمليات توليد المعنى.
---------
الهوامش
* الهرموسية تعريب لكلمة
herméneutique
*- مفرده معنم، ترجمة لكلمة
sème
الفرنسية وتعني أصغر وحدة دالة، فكلمة رجل تشتمل على المعانم التالية على الأقل :
إنسان + حي + مذكر.
1- انظر مقالنا : ممكنات النص ومحدودية النموذج
النظري، فكر ونقد ، العدد 58 أبريل 2004، من ص 23 إلى ص 37
2-
A J Greimas : Sémantique structurale , éd Larousse, 1966 , p96
3-
François Rastier : Sémantique interprétative, éd P U F , 1987, p 12
4- نفسه ص 12
5- انظر
A. J. Greimas, J . Courtés : Sémiotique , dictionnaire raisonné, article :
lecture
6-
A J Greimas : Du sens , éd Seuil, 1970 , p188
7-
Umberto Eco : Le signe ? éd Labor, Bruxelles 1984,
p96
8-
A J Greimas : Du sens , éd Seuil, 1970 , p187
9-
A J Greimas : Du sens II, éd Seuil , 1983 , p. 157 et suiv
10-
A
J Greimas : Sémantique structurale, p.72
11- نفسه
ص 88
12- نفسه ص 92
13-
A J Greimas : Sémantique structurale, p93
14-
Claude
Lévi-Strauss :Anthropologie structurale deux, éd Plon, 1973, p139 -173
15-
C.
S Peirce : Ecrits sur le signe, éd Seuil p.126,
16- إحالة على بورس وردت في : أمبيرتو إيكو : التأويل
بين السميائيات والتفكيكية، ترجمة سعيد ص 119
17- نفسه ص120
18-
C. S
Peirce : Ecrits sur le signe , éd Seuil, p.124
19-57
Umberto Eco : Lector in fabula , éd Grasset, 1985,
p
20-
Umberto Eco : Le signe ? éd Labor, Bruxelles 1984,
p.130
21- أمبيرتو إيكو : التأويل بين السميائيات
والتفكيكية، ترجمة سعيد بنكراد ص 120
22-
Eco : Le signe, p.95
23-
Umberto Eco : Lector in fabula, p. 68
24-
يراجع في هذا المجال المفاهيم التي جاءت بها جماليات التلقي خاصة
W.
Iser : L’acte de lecture, éd Mardaga, 1985
|