معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

مؤلفــات بطاقة تعــريف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال   مواقـــع  خزانات الموقـع صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

سعيد بنگراد

 

التأويل

التعيين والتعدد ولانهائية الدلالات

 

 إلى أصدقائي في قابس -  تونس

 

إن الصياغة الرمزية للوجود، أي الإمساك بالمرجع الخارجي بوساطة اللغة وضمن إوالياتها في التقطيع والتمثيل والمفصلة، معناها رسمُ حدود عوالم منفلتة من إسار القصديات الأصلية وخاضعة لما يأتي به التمثيل الرمزي. فالتمثيل في كل حالات التعبير الإنساني يقود بالضرورة إلى التخلص من الطابع المادي للوقائع والاستعاضة عنه بنسخة رمزية هي ما نعرفه في واقع الأمر عن " الموجود الفعلي "، وهو ما يتسلل إلى الذهن باعتباره الصورة الوحيدة القابلة للاستبطان والاستهلاك والتداول.

 وهذا ما يمكن التأكد منه من خلال التمييز بين الإدراك والتمثل، وهما نشاطان مختلفان في التعرف على العالم الخارجي. فحالة الإدراك المباشر ذاتُها تقتضي، بشكل ضمني، سيرورة افتراضية (1) قائمة على وجود خطاطات سابقة يمكن من خلالها " التعرف " على الشيء باعتباره نسخة مستمدة من نموذج عام، أي تصنيفه ضمن أقسام عامة ومجردة موجودة بشكل سابق في الذهن. ذلك أن التصنيف في هذه الحالة، كما في جميع الحالات، هو سيرورة تجريدية في المقام الأول. فالتجلي ذاته، لا يقود إلى الكشف عن جوهر الشيء، بل يولد سلسلة من العلامات المكتفية بذاتها، كما كان بورس يتصور ذلك.

فمع أن أشياء العالم وحالاته تبدو أكثر حضورا في الوجود من الحالات التي يغطيها الرمز، فإن عوالم الترميز أرحب وأوسع مدى من عوالم " المعطى المحسوس ". فهذه العوالم لا تكتفي، داخل هذا التمثيل، بصياغة صور مجردة تعد مقابلا رمزيا لحالات فعلية، بل تبني عوالم هي من صلب المخيال الإنساني وقدرته على خلق عوالم متحررة من القصديات " الموضوعية ". فالتوسط الذي تقوم به حالات الاستعمال الاستعاري للأشياء والكائنات يقود إلى الفصل بين الدال – أداة التمثيل الأولى – وبين مدلول يبدو قريبا جدا من الذهن، فهو الغاية النهائية من أي تمثيل، إلا أنه يتراجع باستمرار إلى مواقع خلفية تمتنع عن الإشباع المطلق الذي قد توحي به عمليات التمثيل المتتالية.

وبعبارة أخرى، فإن التمثيل لا يقوم سوى بمد هوة بين الرغبة في التسمية المباشرة وبين حالة " تأجيل " ( بتعبير دريدا) تحجب هذه الرغبة وتغطي عليها. وهذا التأجيل هو وحده المسؤول عن الإحالات الدلالية التي تعد تعبيرا عن السياقات المتنوعة والمضمرة، أو هي التعبير الأسمى عن قدرة اللغة على الاستقلال بذاتها لخلق مرجعيات دلالية ذاتية تعد الوجه الأمثل لعوالم ثقافية هي مزيج عجيب من " الحقائق الموضوعية " و " الحالات الاستيهامية" التي لا تحكمها ضفاف ولا نهاية. يتعلق الأمر بسر آخر من أسرار اللغة، " فالكلمات أطول عمرا من الأشياء والمؤسسات والمعارف التي تحيل عليها وتتسلل عبرها إلى التجارب القديمة لتواصل مدها بما يضمن وجودها رغما عنا " (2).

وتلك هي منطلقات التدليل الأولى التي يمكن الاستناد إليها من أجل القيام بتنويع المعاني والذهاب بها في كل الاتجاهات : حالة أولى للتعيين المباشر، وحالات تدليل لا متناهي إن لم تجلب مدلولا نهائيا، فإنها ستجلب لذة استعراض كل المدلولات الممكنة. وهي طريقة أخرى للقول إننا نخلق، من خلال هذا التمثيل وداخله، سياقات جديدة يحتل داخلها الشيء أو الواقعة موقعا لا رابط بينه وبين موقعه داخل سياقه الأصلي.

وهذا فيما يبدو هو مبرر التأويل وأساسه، بل هو ما يجعل التأويل حاجة من الحاجات الإنسانية الأساسية. فالنفعي عام ومشترك ومكرور، أما المتعة فمتعددة في المظاهر والوجود. للنفعي سلطة على المباشر والمرئي والظاهر، وللمتعة إغراء الخفي والمستتر والملتبس والغامض.

إنه التقابل أيضا بين التأويل وبين الاستعمال (3). فالتأويل كشف عن طاقة دلالية داخلية مهدها عناصر النسق التعبيري ذاته، أما الاستعمال الحر فهو إثارة للمخيلة، أو هو قراءة مرتبطة باستراتيجية أخرى – إيديولوجية، سياسية، دينية – لا علاقة لها بالقصديات التي يمكن أن تشتمل عليها الوقائع. يرتبط الاستعمال بمصلحة خارجية، تدخل ضمنها كل القراءات التي تحيل على " قاعدة للفعل " كما هو الشأن مع النصوص الدينية، أو ما تقتضيه النصوص القائمة على أطروحة قبلية. أما التأويل، فعلى العكس من ذلك، حاجة داخلية منبعثة من الوقائع ذاتها، وكل مدلول يتم انتقاؤه ليس سوى شحنة انفعالية يمكن استبدالها بشحنة أخرى ستأتي بها سيرورات تأويلية لاحقة.   

وهذه الحاجة الداخلية هي مصدر الإحالات المتتالية التي تتحدث عنها السميائيات التأويلية، في تصور بورس على الأقل. فاستنادا إلى عملية التمثيل الأولى ( ماثول يحيل على موضوع عبر مؤول) يمكن توليد عدد لا متناه من الدلالات. فبمجرد ما تدخل الواقعة عالم اللسان ( الوجود الرمزي)، فإن معناها الأول لن يكون سوى حلقة بدئية داخل سلسلة دلالية قد لا تتوقف عند حد بعينه. وهذا له ما يبرره في الوجود الإنساني ذاته. فبإمكاننا أن نجد روابط بين كل مناطق هذا الوجود استنادا إلى التسلسل العلائقي القائم على الربط المتتالي بين كل العناصر التي تسكنها الانفعالات الإنسانية، وهي الفكرة التي يدرجها بورس ضمن مبدأ " الامتداد " ( كل ما في الوجود يشكل وحدة كلية، ويشير في الوقت ذاته إلى هشاشة الفكر ونقصانه). ولهذا السبب، فإن هذا الربط لا يكترث – مبدئيا أو نظريا - لطبيعة المعرفة التي قد تتوقف عندها الإحالات. فهذه الإحالات لا تراكم مدلولات، ولكنها تسعى إلى توسيع المسافة الرابطة بين أداة التمثيل وموضوعه.

ومع ذلك، فإن هذه المسلمات ( أو نعتقد أنها كذلك إلى حين ) لم تقد إلى النتائج نفسها. فالاعتراف الصريح بالطبيعة المفتوحة لحالات التمثيل الدلالي لا ينطلق بالضرورة، كما سنرى ذلك في الفقرات الموالية، من نفس الأسس ولا يروم نفس الغايات. فقد يكون النص في جميع التصورات التأويلية " حالة مفترضة " لا تتحقق إلا ضمن فعل تأويلي يمتلك القدرة على تجسيد كل مدلولاتها أو بعضها ضمن سياقات تتناسل فيما بينها. وهذه فرضية لها ما يسندها على مستوى الأشكال المتنوعة التي يتم من خلاها تلقي النصوص و" فهمها".

 إلا أن هذه الطبيعة الافتراضية قد تقود إلى تدمير شامل لكل القصديات عدا قصدية المؤول، وهو ما يعني بعبارة أخرى تدميرا للنص ذاته. فلا شيء هناك سوى تسلسل لا متناه من العلامات التي تحيل على بعضها البعض ضمن نسق أو أنساق تفسر نفسها بنفسها دونما اعتبار لما يوجد خارجها. فنحن نفكر بالعلامات وداخلها، ولا يشكل الموضوع الخارجي سوى مثير عرضي ( سلسلة من الانطباعات الحسية ) يغذي العلامة ويمدها بعناصر التمثيل، ولكنه لا يمكن أن يحل محلها ولن يعيش إلا داخلها. وهناك ما يبرر هذا الترابط اللامتناهي بين العلامات، فالمعرفة في نهاية الأمر ، هي بناء رمزي يقوم به الذهن وليست امتلاكا فعليا لواقع ممتد إلى ما لانهاية (4). لذلك، فإن ما " يقلق الإنسان هو التصورات التي يملكها عن الأشياء لا الأشياء ذاتها " ( 5). فلا رجاء إذن في توقف ممكن للإحالات، ولا أمل في رؤية العلامة تتشبع ذاتيا وتستقر ضمن " حضور" نهائي، ولا وجود لقصدية توجه العلامات نحو غاية دلالية بعينها، "فما يطلق العنان للدلالة هو نفسه ما يجعل توقفها أمرا مستحيلا. فالشيء ذاته علامة " (6). والعالم الخارجي لا يحضر في الذهن إلا من خلال مضمونه اللساني.

وعلى هذا الأساس، " لن يكون من واجب القراء ولا في مقدورهم التقيد بمقتضيات هذه القصدية الغائبة، لحظة انفصال النص عن قصدية الذات التي أنتجته. والخلاصة، وفق هذا التصور، أن اللغة تندرج ضمن لعبة متنوعة للدوال، كما أن النص لا يحتوي على أي مدلول متفرد ومطلق، ولا وجود لأي مدلول متعال، ولا يرتبط الدال بشكل مباشر بمدلول يعمل النص على تأجيله وإرجائه باستمرار" (7).

وفي جميع الحالات، فإن ما قامت الآلة التأويلية ضده ضمن هذا التصور – والمقصود هنا التفكيكية كما صاغ حدودها النظرية والتطبيقية المفكر الفرنسي جاك دريدا – هو فكرة المركز، أو ما نطلق عليه، من زاوية أخرى، الكم الدلالي المفترض الذي تقود إليه كل العناصر المتحققة من خلال رحلة تقليصية تعود بالعالم المفصل إلى حالة تجريدية قصوى تمثل المضمون الدلالي الكلي للنص. فالنص لا مركز له، وهو، إن وجد، " لا يشكل بؤرة ثابتة، بل يعد وظيفة، أي ما يشبه اللاموقع الذي تستبدل داخله العلامات المواقع فيما بينها " ( 8). وهو ما يعني بعبارة أخرى، أن لا جدوى من البحث عن حقيقة أو أصل أو بداية، أو استعادة ما ضاع من خلال التمثيل، مادام كل شيء يتم داخل العلامات. فالنص عبارة عن مجموعة من الدوال التائهة المتملصة باستمرار من مدلولاتها ضمن لعبة تأجيل أبدية. واستنادا إلى هذه اللعبة الدائمة" يشكل غياب المدلول النهائي لعبا لا محدودا، أي تدميرا للوجود اللاهوتي لميتافيزيقا الحضور " (9).

أو يتعلق الأمر بما يسميه إيكو، عن حق أو باطل، التوالد السرطاني للدلالة ( 10)، حيث تحيل العلامات على بعضها البعض دون غاية أو هدف. فلا رابط بين نقطة البداية ونقطة النهاية، إن كانت هناك أصلا نهاية. وإذا حدث وتوقفت العلامة عند نقطة ما، فسيكون كل ما عرفناه عن نقطة البداية قد تلاشى واندثر ضمن دوامة لا متناهية من الإحالات. فلا غاية لهذه الرحلة اللولبية للعلامات والأشياء سوى اللذة ذاتها (11)، ف" غياب المدلول النهائي يفتح المجال واسعا أمام اللعبة اللانهائية للدلالة " (12). ولا جدوى من الحديث عن سياق موجه للدلالات، فالسياقات ذاتها غير محدودة وقابلة للبنية الدائمة، " فهناك دائما إمكانات سياقية جديدة يمكن إضافتها إلى ما سبق، بحيث إن الشيء الوحيد الذي لا نستطيع القيام به هو رسم حدود ما "( 13).

وعلى الرغم مما تبدو عليه الأشياء في الظاهر، فلا علاقة بين المفاهيم التي روجت لها جماليات التلقي ك" البياض" أو " النقص " أو "اللاتحديد " وبين مفهوم " التأجيل " أو " الإرجاء " اللذين تتحدث عنهما التفكيكية. فالمفاهيم الأولى مرتبطة بالثنائية التي أشرنا إليها في بداية المقال، ويتعلق الأمر بالاختلاف الموجود بين إدراك الشيء بشكل مباشر وبين عملية تمثله. فالنشاط الإدراكي يتم ضمن إكراهات حضور فعلي لشيء يقلص من إمكانات الاستيعاب الحر لكل مكوناته بسبب ارتباطه بنسخة فعلية لا تستطيع العين فكاكا منها. أما الثاني فمتحرر من كل الإكراهات سوى إكراهات الذاكرة والمخيال وقدرتهما على ربط الشيء بعوالم مفتوحة على كل الاحتمالات، بل إن الشيء ذاته قد يصبح، في هذه الحالة، وعاء لانفعالات وقيم إنسانية شتى. ومثال الجبل الذي يقدمه إيزر  Iser مشهور في هذا لمجال، وهو مثال مستعار من دراسة لجلبير رايل حول عمل المخيلة ( الفرق بين رؤية جبل هيلفين وبين تمثله ) (14). لذلك، فإن القارئ، في تصورات جمالية التلقي يقوم بدور نقيض لما يقوم به القارئ التفكيكي، إنه يعيد إلى النص ما تم إهماله في حالات التحقق من خلال تنشيط ذاكرة النص والدفع به إلى تسليم كل مفاتيحه.

في حين ينشئ " الفراغ " الذي يتحدث عنه دريدا – إن جازت تسميته كذلك – عن شيء آخر. فالأمر لا يتعلق في واقع الأمر بفراغ، نحن أمام هوة سحيقة لا تني تتسع بين الدال والمدلول. وهي هوة لا يمكن أبدا ملئها لأنها تعبر عن " قصور أصلي" في اللغة وفي عمليات التمثيل التي تقوم بها. فبما أن كل شيء يتم داخل اللغة وفي انفصال عن المراجع الممكنة، فإن الوصول إلى مدلول نهائي سيظل حلما لا يتحقق إلا في النصوص التي خرجت من الزمنية الإنسانية ووضعت نفسها خارج إكراهاته. فلعبة الدوال الأبدية ستظل كذلك لاستحالة الوصول إلى حقيقة في يوم ما. إن الأمر شبيه بالطقوس الهرمسية الاستئناسية ( نسبة إلى هرمس الإله الذي يشير إلى مبدأ التناقض الدائم)، " فكل شيء في هذه الطقوس يخفي سرا. لذلك، فإن السر الهرمسي لا يمكن أن يكون سوى سر فارغ، والذي يزعم أنه قادر على الكشف عن هذا السر لم يأخذ بعد حظه الكافي من الاستئناس، ولم يتجاوز حدود المعرفة السطحية للسر الكوني" (15). يجب البحث إذن عن المدلول النهائي في مكان آخر غير ما تقوله الإحالات المتتالية. وهذا المكان هو بالضبط ما لا يمكن تحديد كنهه.

وقد يشكل هذا الإرجاء المطلق للمدلول النهائي المقصي من لعبة الإحالات نقطة البدء والنهاية في تصور آخر. وهو التصور الذي يفترض وجود بؤرة دلالية كلية تلتقي عندها كل المعاني الصغرى ( التناظرات الفرعية بلغة الدلالة البنيوية). وهذه البؤرة هي التي تشكل الدلالة النهائية للواقعة. وينحصر عمل القارئ في هذه الحالة في " البحث " عن هذا الكم الدلالي المفترض من خلال إعادة بناء القصدية الأولى التي تشكل مصدر هذا " الكم " وشكل تحققه. ذلك ما توحي به الأعمال المنتمية إلى السميائيات السردية في مراحلها الأولى، وكذا جزء كبير من الدراسات البنيوية التي كانت تحلم بالوصول إلى الإمساك بالسنن الأخير، ذاك الذي تنتهي عنده كل الأسنن، أي الوصول إلى " التعرف " على معنى كلي هو النهاية والمقصد من سلسلة التبسيطات التي يقوم بها المحلل في رحلته من الوجوه الملموسة إلى بؤرة التجريد الأولى. لذلك، لا مجال للحديث عن غاية تأويلية، ما دامت القراءة تتعامل مع الممكنات التي يوفرها النص باعتبارها مضمونا مودعا بشكل قصدي داخله وسابق على وجود القارئ. فهذا القارئ لا يقوم سوى بتتبع ما يمكن أن تقوله الوحدات في ترابطاتها الممكنة داخل النص، فالانسجام هو وليد تناظر كلي يعد ضمانة على قراءة وحيدة للنص (16).

وهذا الكم الدلالي هو ما كانت تبحث عنه الهرموسية (17) في صيغتها الأولى على الأقل ( شلايرمخير ودلتاي ). فالغاية من التأويل في التصور الهرموسي، كما حدده شلايرماخير، هو الوصول إلى الدلالة الأصلية للعمل الفني، وذلك من خلال إعادة بناء الشروط المقامية التي أنتج ضمنها النص. إن التلقي المؤجل، وهي ميزة التواصل الأدبي عامة، يولد إحساسا بأن هناك شيئا ما ضاع أو استلب أو اختفي ويجب البحث عنه واستعادته، ولن يكون السبيل إلى ذلك سوى المعرفة التاريخية بمفهومها الواسع، أي بأحداثها ووقائعها ورموزها واستعاراتها وطبيعة العلاقات الإنسانية السائدة في مرحلة من المراحل. فالتعرف على هذه المكونات هو الوسيلة الوحيدة لاستعادة المعنى " الحقيقي " للعمل الفني. ولقد بلورت الهرموسية مفهومين مركزيين للقيام بذلك هما " إعادة البناء " و" الإدماج " (18). فإعادة البناء تقتضي " فهم " العمل الفني وتحديد عوالمه الدلالية ضمن ثقافة الأصل لا ضمن ما تقوله الذاكرة المباشرة للمؤول. وبعبارة أخرى، إن الفهم يشرط استحضار كل ما له علاقة بلحظة الإبداع الأولى.

وهو ما يعني التقمص الكلي لذات الآخر المبدع، فعملية " الفهم، عند كائن محدود، هي ولوج حياة أخرى"، أو هي " رابط يجمع بين حياة نفسية بحياة نفسية أخرى " (19)، كما عبر عن ذلك ديلتاي. فالفهم مرتبط بفكرة مركزية هي الربط الوثيق بين الذات التي تؤول وبين موضوع تأويلها. وبعبارة أخرى، يتعلق الأمر ببلورة وعي تاريخي قادر على استعادة " الحدث الماضي" كما تم فعلا. ففي كل عملية فهم، وهي المسار الطبيعي نحو إطلاق العنان لسيرورات التأويل التي ستقود إلى التعرف على المعرفة الحقيقية، يجب استحضار قوانين النص وقوانين السياق وقوانين الموسوعة ( مجمل المعارف البعيدة والقريبة التي يمكن أن يحيل عليها النص بشكل مباشر أو غير مباشر).

وهذا هو السبيل، في تصور شلايرماخير،  للإحاطة بالدلالة الأصلية للعمل. أي " الكشف " عما " أراد المبدع التعبير عنه، " ذلك أن العمل الفني الذي وصلنا هو عمل منزوع من تربته الأصلية " (20). " ففي اللحظة التي وُضعت فيها الأعمال الفنية للتداول كان الأصلي والطبيعي قد ضاعا، ذلك أن هذه الأعمال تستمد جزءا من فهمها من أصلها الأول... لذلك، فإن العمل الفني المنزوع من سياقه الأول يفقد دلالته إذا لم يحتفظ التاريخ بهذا السياق "( 21). وعليه، ومهما تعددت محاولات التأويل المتتالية، فإنها لن تستطيع أبدا فصل العمل الفني عن تربته وعن جذوره الأولى، ذلك أن " العمل الفني متجذر في تربته وفي محيطه وسيفقد دلالاته إذا ما انتزع من هذه التربة ليوضع للتداول، إنه شبيه بشيء تم إنقاذه من لهب النار ولكنه سيحمل آثار هذا الحريق إلى الأبد " (22).

وهي الفكرة التي سيستند إليها إرفين بانوفسكي من أجل بلورة  تنظيم ثلاثي للعالم الفني من خلاله تتجسد كل التحققات الممكنة للدلالة. فالعمل الفني مرتبط بلحظة محددة في التاريخ، ولا يمكن فهمه وتحديد دلالته الحقيقية دون التعرف على هذه اللحظة. ويشترط الوصول إليها وتحديد خصائصها القدرة على الإمساك بمستويات معينة للتجلي. فالعمل الفني ( الفنون التشكيلية بالأساس كما كان الشأن مع شلايرماخير) يخفي، أو يدفعه الزمن إلى ذلك والأمر سيان، دلالاته في طبقات يجب تحديد سمكها وامتداداتها. وهكذا يميز بانوفسكي بين ثلاثة مستويات للدلالة ( طبقات للمعنى )، تتحقق وفق تتابع مسترسل يقود من الأبسط إلى البسيط إلى المركب، أي من التجلي المباشر، إلى الاستعمالات الاستعارية، وصولا إلى " وضع اليد " على مركب مضموني هو مزيج من الخصائص والانفعالات الخاصة بشعب أو أمة.  

هناك أولا ما يسميه بالدلالة البدئية، وهي المعطيات الأولية المشكلة للنص الفني " ويتم التعرف عليها من خلال أشكال خالصة ( أي بعض التشكلات من الخطوط والألوان، أو بعض الكتل المصنوعة من البرونز أو الأحجار المصوغة بطريقة خاصة ) تعد تمثيلات لموضوعات طبيعية ( كالكائنات البشرية والحيوانات والأشجار والأدوات الخ ) والتعرف على علاقاتها المتبادلة باعتبارها حدثا، والكشف عن بعض الخصائص التعبيرية من قبيل إحالة موقف أو إيماءة على حالة حداد، أو إحالة داخل منزلي على الحميمية والهدوء. إن عالم الأشكال الخالصة الذي نتعرف عليه في حالة امتلائه بالدلالات البدئية أو الطبيعية يمكن أن نطلق عليه عالم الموتيفات الفنية" (23). وبصفة عامة، يتعلق الأمر، بما تقوله العلامة استنادا إلى التجربة المشتركة التي تلتقط ما هو موجود بشكل موضوعي أمام العين، أو ما يتسرب إلى الذهن من خلال فعل القراءة الأولى.

هناك ثانيا ما يسميه الدلالة الثانوية، وهي دلالة تقتضي تجاوز المعطى المباشر، وتنشيط ذاكرة هذه الوحدات التي يسميها بانوفسكي الموتيفات من أجل البحث عن دلالات أخرى. ويعبر بانوفسكي عنها من خلال بعض التحديدات التي ترد المشخص ( التصويري) إلى ثيمة مجردة " حيث يمثل كائن مذكر  يحمل في يده سكينا القديس بيرتوليمي، أو تحيل أنثى تحمل في يدها خوخة  pêche على الحقيقة.....إننا بذلك نقوم بربط هذه الموتيفات الفنية وهذه التأليفات ( التركيب )  بثيمات أو مفاهيم. وبهذا تصبح الموتيفات الحاملة لدلالة ثانوية أو عرفية صورا. إن التأليف بين الصور يتطابق مع ما (....) نطلق عليه حكايات ومجازات " (24). والأمر يتعلق بما يحيل، في تصورات أخرى، على الثنائية الشهيرة الإيحاء والتقرير، أي المعنى الأول في ارتباطه بالمعاني الثانية التي تتخلص من البعد المباشر لكي تفتح التمثيل على عوالم مستقاة من الاستعمالات الاستعارية للكائنات والأشياء.

أما المستوى الثالث، فيشير إلى دلالة من نوع خاص، يطلق عليها بانوفسكي الدلالة الجوهرية أو الدلالة الخاصة. وهي دلالة لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال استحضار معرفة أولية تعد تعبيرا عن طبيعة أصلية لشعب أو أمة. لذلك " فإن الإمساك بها يتم من خلال التعرف على المبادئ الخفية التي تعود إلى ما يشكل أساس ذهنية أمة ما أو مرحلة أو طبقة أو معتقد ديني أو فلسفي. ويتم تجسيد هذه الدلالة بشكل لاواعي من خلال شخصية الفنان الذي يودعها في عمل فني فريد. (....) وعلى سبيل المثال، فقد استبدل في القرنين 14 و15 النوع التقليدي لميلاد السيد المسيح الذي كان يمثل له من خلال السيدة مريم ممددة في السرير أو على فراش، بصورة أخرى تمثل للسيدة مريم وهي تنحني على الطفل فيما يشبه العبادة " (25).

 والأمر لا يتعلق في هذه الحالة لا بقصدية النص ولا بقصدية المؤلف ( فهذه الدلالة تتسلل إلى العمل الفني في غفلة من المؤلف) ولا بقصدية القارئ، فالقارئ لا يقوم سوى بالتعرف عليها، بل هي التجسيد الأمثل لكم دلالي موجود فيما يشبه المعطى الخاص الذي لا يدرك سره إلا الذي ينتمي إلى تلك الثقافة. " فإذا أخذنا بعين الاعتبار كل هذه الأشكال والموتيفات المستترة، فإننا نؤول هذه العناصر باعتبارها قيما رمزية  بتعبير أرنست كاسيرير " ( 26).

استنادا إلى كل ذلك، فإن التأويل يقتضي الانطلاق من معطى مباشر قابل للوصف اعتمادا على العناصر المرئية للعلامة، للانتقال إلى معنى ثان ( دلالة ثانوية ) يستدعي تعبئة معرفة تشترط إعادة تنظيم العمل استنادا إلى علاقات جديدة مبنية وفق ما يستدعيه الاستعمال الاستعاري للكائنات والأشياء،  وذلك من أجل الوصول إلى تحديد المضمون الأصلي للعمل الفني. وبعبارة أخرى، تشكل الدلالة الجوهرية مبتغى وغاية كل تأويل. إنها في واقع الأمر المضمون النهائي الذي يجب أن يهتدي إليه المؤول وتتوقف عنده كل الإحالات. 

وبهذا المعنى، وجب النظر إلى النشاط التأويلي باعتباره ضرورة فلسفية تفرضها تشعيبات الوجود الإنساني وغموض نهاياته وضياع أصوله الأولى ذاتها. فالبحث عن " جذور الحياة " وعمقها وامتداداتها في أصول غابت عنا ولم نعد نعرف عنها أي شيء إلا ما تقوله نصوص مغرقة في رمزيتها رغم وجهها الحدثي المشخص يقتضي النظر إلى العمل الفني باعتباره حالات ترميزية في حاجة إلى التفكيك لكي تسلم مضمونها الحقيقي. إنه بهذا يعد جوابا عن أسئلة وجودية هي التي قادت إلى إعادة قراءة الموروث الإنساني وتأويله وفق إكراهات الزمن باعتباره كما متمفصلا في وحدات ثقافية تلغي المتصل وتعوضه بحالات افتراضية، تعد صيغة من الصيغ التي يتم من خلالها استعادة معنى قديم غيبته مسافات التاريخ وتوارى عن الأنظار في مجموعة من الأشكال الرمزية. فالمعرفة الحقيقية لا تكمن فيما قيل بشكل مباشر،  بل فيما لم يقل، أو فيما تغطيه الرموز، إنها هي معرفة سرية لا يمكن الوصول إليها إلا إذا تمت إزالة الستائر التي تحجبها عنا.

وتلك أيضا خاصية من خاصيات تأويل النصوص الدينية، فالتأويل في هذه الحالة " موجه"، لأنه مقيد بغايات يجب الوصول إليها من خلال " ترك ظاهر اللفظ إلى ما يحتاج إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ" ( لسان العرب). ومن ثمة فإنه، عوض أن يقود إلى تفجير طاقات النص وتحويلها إلى ركام من العلامات المتنافرة، كما كانت تدعو إلى ذلك التفكيكية، يقود في حالة الهرموسية الدينية، على العكس من ذلك، إلى " الكشف" عن معنى مستتر لا تراه العين المجردة، ولكنه موجود في ثنايا هذه النصوص، تماما كما تُخبَئ الأسرار في الأساطير والخرافات والحكايات المجازية. إن هذه الدلالة شبيهة بالغائية الإلهية التي هي مصدر النصوص الدينية ومنتهاها. ولقد تحدث بول ريكور عن الهرموسية، في هذا المجال، باعتبارها استعادة بعدية للمعنى المودع في النصوص  " استنادا إلى ما يود النص قوله " (27).

وقد تدفع هذه الطبيعة الافتراضية إلى الاستغناء عن قصدية المؤلف لتحتمي بقصدية القارئ باعتبارها المدخل الأساس إلى تحيين المضمر والمؤجل والمسكوت عنه. إلا أنها لا يمكن أن تتنكر لما تقوله الوقائع استنادا إلى سياقها الأول، أو تتخلص من الإكراهات الأولية لقصدية نابعة من " توجيهات مسبقة " تبرمج، من خلال أدوات التمثيل نفسه ( اللغة وعناصر الصورة أو اللوحة ) صيغة أو صيغا للتلقي. فالتأويل لا يغير من طبيعة الكلمات والأشياء، كما لا يحذف أو يضيف أو يعدل، إنه يكتفي بالتصرف في نظامها وعلاقاتها. وبعبارة أخرى، إنه يقوم ببناء قصديات جديدة ليست معطاة من خلال الوجه المرئي للوقائع. فالنص لا يشير إلى مسبقات دلالية، ولا يحتوي على معاني كلية ونهائية، ولكنه يعد بؤرة لسياقات مضمرة تتحقق ضمن السيرورات التأويلية المتتالية. لذلك لا يمكن الفصل بين المعنى وبين السبل المؤدية إليه، أو الفصل بين السيرورة والتكون، وبين الشكل والمادة. فما ينظم ويرتب ويكشف عن العلاقات هو ما يعني وينتج الدلالات أيضا.

تلكم هي الأسس أو المبادئ التي انطلقت منها السميائيات ( في صيغتها البورسية على الأقل) من أجل بلورة تصور ثالث للتأويل يستمتع بلذة الإحالات ولكنه لا " يفكك إلى مالا نهاية "، ويستشعر الحاجة إلى التوقف في لحظة ما عند مدلول منتقى وفق فرضيات سابقة للقراءة، ولكنه يشكك في وجود مدلول نهائي يعد عمق العمل الفني ودلالته النهائية. فالعلامة في حالات التأويل المتتالية لا تفقد صلتها بالمعرفة المشكلة للقصدية الأولى. ولكنها لا تدعي الوصول إلى أصل جديد هو " سدرة المنتهى " والنهاية التي ما بعدها نهاية.

وهذا أمر بالغ الأهمية، فالسميائيات التأويلية تشير إلى ديناميكية ( بورس يسمي المؤول الثاني مؤولا ديناميكيا) مستمدة من الترابطات الممكنة بين العناصر الثقافية المشكلة للموسوعة، بما في ذلك العناصر الثقافية المنتمية إلى سياقات غريبة ( غريبة عن السقف الثقافي الذي أنتج ضمنه العمل الفني ). هناك اعتراف صريح بوجود إرث إنساني مشترك مودع في رموز تكاد تكون كونية، إلا أنها تختلف من حيث التحققات وأشكال التجلي، وهناك في المقابل اعتراف بأن أشكال التحقق تقلص من حجم الموسوعة وتُخصِصُها. فالمؤول لا يؤول ما بنفسه، ولكنه يؤول ما تبيحه الموسوعة أو ترفضه. لذلك، فإن العلامة قد تحيل على مجموعة كبيرة من الدلالات، ولكنها لا تحيل على كل الدلالات إلا من باب العبث (28).

ولقد تهكم إيكو من موقف جوفري هارتمان، أحد أقطاب التتفكيكية في أمريكا، الذي لم يؤول كلمة gay الواردة في قصيدة من قصائد ووردزوورث ( 1770 – 1850 ):

A poet could not but be gay ( لا يسع الشاعر إلا أن يكون مرحا )

بالإحالة على معناها الذي يحيل على الشذوذ الجنسي. ويذكره بأنه لم يفعل ذلك لأن هذا لمعنى لم يكن موجودا في تلك المرحلة التاريخية. والحاصل أن النص لا يقبل محيطا ثقافيا غريبا عنه إلا من باب التجني وتحميل النص ما لا يطيق من الدلالات الغربية عنه( 29).

وعلى هذا الأساس، فهي تدمر المدلول النهائي لأنها تفترض تطورا لولبيا يسير دائما في اتجاه متصاعد، ولكنها أيضا " تستند إلى مبدأ أساس يُنظر بموجبه إلى العلامة باعتبارها شيئا تفيد معرفته معرفة شيء آخر " ( 30). " فالموضوع هو المعرفة المفترضة التي تمكننا من الإتيان بمعلومات جديدة تخص هذا الموضوع "(31). وبعبارة أخرى، تقوم السيرورات التأويلية بمراكمة مدلولات جديدة تُضاف إلى المدلول الأول. وعلى هذا الأساس، فإن التأويل ليس توالدا سرطانيا، بتعبير إيكو، يسير في جميع الاتجاهات، بل هو تطور محكوم بمعطى يبيح الكثير من المعاني، ولكنه لا يقبل كل المعاني. " فإذا كان مدلول أية جملة، حسب التصور التداولي، ليس شيئا آخر سوى الإمكانات العملية التي يستدعيها التحقق، (...) فإن السيرورة التأويلية يجب أن تتوقف – مؤقتا على  الأقل- خارج إطار حركة السميوزيس " (32). وهذا أمر تؤكده طبيعة الوقائع ذاتها. فالواقعة الفنية بناء وليست معطى حرا. لذلك، فإن كل بناء هو تقليص لدائرة الترابطات الدلالية وحصرها ضمن ما يمكن أن يخلق انسجام الواقعة واشتغالها باعتبارها كيانا مستقلا.

فلا علاقة إذن لهذا التوقف ب" المدلول المتعالي" الذي تنظر إليه التفكيكية بريبة وحذر وتعتبره سرابا قد يغذي الأوهام اليقينية ولكنه لا  يجيب عن حاجات التأويل الفعلية. إنه في حالة السميائيات استنفاد لممكنات سيرورة دلالية تستدعي، للاستمرار، إسقاط فرضية جديدة للقراءة مرتبطة بغايات تأويلية أخرى. ولسنا بعيدين، ضمن هذا التصور، عن فكرة المركز. لكن الأمر  لا يتعلق هنا ببؤرة تنتهي عندها كل الإحالات، فالمركز الذي يمكن أن تشير إليه فكرة " التراكم المدلولي " ليس مركزا للوصول، بل هو مركز للبداية، أو مركز لانطلاق الدلالات. أو هو لحظة أولى داخل رحلة السيرورات التأويلية اللاحقة. فعوض أن نتحدث عن تأويل كلي، علينا أن ننظر إلى التأويل باعتبارها مسيرات متنوعة تفترض، في كل إحالة، العودة إلى المنطلق ضمن ما تتطلبه فرضية جديدة للقراءة.

وهو ما يؤكده التوزيع الثلاثي للدلالة الذي يقترحه بورس، فالثلاثية لا ينظر إليها باعتبارها صيغة لتوزيع كتلة دلالية سابقة في الوجود على ظهور القارئ، بل هي سيرورة متجددة تجدد فرضيات القراءة ذاتها. فالمؤول، وهو الحد الثالث في العلامة، يشتغل في مرحلة أولى باعتباره سلسلة من المعطيات الدلالية الأولية التي لا تشترط التعرف عليها سوى عناصر التجربة المشتركة، فهو " معطى بشكل صريح من خلال العلامة " (33). لذلك، فهو لا ينتج معرفة ولا يقودنا إلى التعرف على شيء آخر غير ما يمكن أن يقدمه تعريف مباشر لواقعة ما. ولهذا يشير بورس إلى مستوى دلالي ثان يجسده مؤول ثان، يدرج العلامة ضمن عجلة تدليلية لامتناهية. فعندما تتخلص الحركة التأويلية من التوجيهات المباشرة التي يقدمها المستوى الدلالي الأول، فإنها تنفتح على كل ما يمكن أن تحيل عليه العلامة، فالعلامة تضع، في هذه الحالة، قدرها بين يدي مؤول يبيح لنفسه كل شيء.

وهذا أمر تقبل به التفكيكية وتستحبه. ولم يتردد دريدا في اعتبار بورس أول التفكيكيين ( 34). فديناميكية التأويل تمد شبكتها في كل الاتجاهات، ولا تتردد في الإحالة على كل المعارف التي يمكن تشير إليها العلامة. إلا أن التشابه يقف عند هذا الحد.  فالحركية التأويلية في تصور بورس ليست ممتدة إلى ما لا نهاية، ولا يمكن أن تستمر طويلا. " فالغاية النفعية التي  يتم التأويل وفقها " سرعان ما تضع حدا لحالة " الفوضى " من خلال إدراج مستوى دلالي ثالث ينظم الإحالات وفق السيرورات التأويلية. فالمؤول الثالث يشكل قوة ردع تمليها الحاجات الإنسانية التي تفترضها كل واقعة إبلاغية. فلا يمكن الإمساك بالوجود الإنساني، رغم الاعتراف بحالة الامتداد، إلا مجزئا، أي مصنفا ضمن أقسام وحالات. ولهذا السبب، فإن المؤول الثاني لا يشكل مستوى، بل هو حالة انفتاح تتجسد في سيرورات هي نقيض فكرة الفعل التأويلي الشامل. وتبعا لذلك، لا يشكل الموقف التأويلي الثالث حالة توقف بالمفهوم الزمني للكلمة، فهو نهائي ضمن سيرورة لها إكراهاتها الخاصة. فما يغلق، في هذه السيرورة قد يصبح نقطة للبدء في سيرورة أخرى.

والخلاصة أن التأويل في التصورات الثلاثة التي عرضنا لبعض عناصرها لا يشكل فائضا في المعنى، ولا يشير إلى دلالة عرضية يمكن الاستغناء عنها، بل هو أصل مخبئ في المرئي والظاهر، أو هو مضامين بلورتها الممارسة الواعية في غفلة منا، أو هو محاولة للبحث عن أصل ضاع، قد يكون عقلنا قد نسيه، إلا أن الممارسة الفنية قادرة على استعادته من خلال صور مبهمة وغامضة يجب تفكيكها لمعرفة بعض أسرارها. وفي جميع الحالات، فإن ضوابط التأويل وحدوده ومعاييره لا يمكن البحث عنها خارج التصورات التي نملكها عن المعرفة والحقيقة والأحادية والتعدد. لذلك " من الصعب جدا التأكد من صحة تأويل ما، ولكن من السهل جدا التعرف على التأويل الرديء " (35).

=========

هوامش

1- ما يسميه بورس abduction ونترجمه تقريبيا بالافتراض، وهو حالة من حالات البرهنة التي تضاف إلى القياس والاستنباط، وهي عملية لا تنتج معرفة لأنها أساسا لا تقوم إلا بقياس حالة حاضرة بمعرفة سابقة.

2-Pierre Guiraud : Sémiologie de la sexualité, éd Payot , 1978, p. 183.

3- Umberto Eco : Lector in fabula , éd Grasset, 1985, p.76

4-  E Cassirer

5- انظر  E Cassirer : Essai sur l’homme, éd Minuit,p.44

6-  Jacques Derrida : De la grammatologie, éd Minuit, 1967, p.72

7- أمبيرتو إيكو : التأويل بين السميائيات التفكيكية، ترجمة سعيد بنگراد، المركز الثقافي العربي، 2000، ص 124-125

8- Jacques Derrida : L’écriture et la différence, éd Seuil, 1967, p.411

9- , p. 73 Jacques Derrida : De la grammatologie

10- أمبيرتو إيكو : التأويل بين السميائيات التفكيكية، ص 123

11- نفسه ص 125

12- Jacques Derrida : L’écriture et la différence, p.411

13- Jonathan Culler : Défense de la surinterprétation, in Interprétation et surinterprétation , ouv. collectif, éd P U F , 1996, p112

14- W. Iser : L’acte de lecture, éd  mardaga éditeur, 1976, p.247

15- أمبيرتو إيكو نفسه ص 34

16-   A J Greimas : Sémantique structurale, éd Larousse, 1966, p 69 et suiv

17- نقترح كلمة " الهرموسية " ترجمة للمفهوم الفرنسي " herméneutique  ".

18- مقابلان ل :  reconstruction et intégration انظر : Hans-Georg Gadamer : Vérité et méthode, éd Seuil, 1976 -1996 , p.185

19- le conflit des interprétations , p9

20- Hans-Georg Gadamer : Vérité et méthode, éd Seuil, 1976 -1996 , p.185

21- نفسه ص 185

22- نفسه ص 185

23- Erwin Panofsky : L’œuvre d’art et sa signification , éd Gallimard,1969, pp12-13

24- نفسه ص 13

25- نفسه ص 13-14

26- نفسه ص 14

27-  Paul Ricœur : Le conflit des interprétations, éd Seuil, 1969, p7

28- أمبيرتو إيكو : التأويل بين السميائيات التفكيكية، ص 47

29- أمبيرتو إيكو : التأويل بين السميائيات التفكيكية،

30 – les limites p371 Eco :

31- C S Peirce : Ecrits sur le signe ? éd Seuil,1978 p123

32–  Eco : Les limites, p381

33- C S Peirce : Ecrits sur le signe  p128

34 -  Jacques Derrida : De la grammatologie,p72

35- Eco : Les limites , p384

 

التأويل

التعيين والتعدد ولانهائية الدلالات

سعيد بنگراد

 

إن الصياغة الرمزية للوجود، أي الإمساك بالمرجع الخارجي بوساطة اللغة وضمن إوالياتها في التقطيع والتمثيل والمفصلة، معناها رسمُ حدود عوالم منفلتة من إسار القصديات الأصلية وخاضعة لما يأتي به التمثيل الرمزي. فالتمثيل في كل حالات التعبير الإنساني يقود بالضرورة إلى التخلص من الطابع المادي للوقائع والاستعاضة عنه بنسخة رمزية هي ما نعرفه في واقع الأمر عن " الموجود الفعلي "، وهو ما يتسلل إلى الذهن باعتباره الصورة الوحيدة القابلة للاستبطان والاستهلاك والتداول.

 وهذا ما يمكن التأكد منه من خلال التمييز بين الإدراك والتمثل، وهما نشاطان مختلفان في التعرف على العالم الخارجي. فحالة الإدراك المباشر ذاتُها تقتضي، بشكل ضمني، سيرورة افتراضية (1) قائمة على وجود خطاطات سابقة يمكن من خلالها " التعرف " على الشيء باعتباره نسخة مستمدة من نموذج عام، أي تصنيفه ضمن أقسام عامة ومجردة موجودة بشكل سابق في الذهن. ذلك أن التصنيف في هذه الحالة، كما في جميع الحالات، هو سيرورة تجريدية في المقام الأول. فالتجلي ذاته، لا يقود إلى الكشف عن جوهر الشيء، بل يولد سلسلة من العلامات المكتفية بذاتها، كما كان بورس يتصور ذلك.

فمع أن أشياء العالم وحالاته تبدو أكثر حضورا في الوجود من الحالات التي يغطيها الرمز، فإن عوالم الترميز أرحب وأوسع مدى من عوالم " المعطى المحسوس ". فهذه العوالم لا تكتفي، داخل هذا التمثيل، بصياغة صور مجردة تعد مقابلا رمزيا لحالات فعلية، بل تبني عوالم هي من صلب المخيال الإنساني وقدرته على خلق عوالم متحررة من القصديات " الموضوعية ". فالتوسط الذي تقوم به حالات الاستعمال الاستعاري للأشياء والكائنات يقود إلى الفصل بين الدال – أداة التمثيل الأولى – وبين مدلول يبدو قريبا جدا من الذهن، فهو الغاية النهائية من أي تمثيل، إلا أنه يتراجع باستمرار إلى مواقع خلفية تمتنع عن الإشباع المطلق الذي قد توحي به عمليات التمثيل المتتالية.

وبعبارة أخرى، فإن التمثيل لا يقوم سوى بمد هوة بين الرغبة في التسمية المباشرة وبين حالة " تأجيل " ( بتعبير دريدا) تحجب هذه الرغبة وتغطي عليها. وهذا التأجيل هو وحده المسؤول عن الإحالات الدلالية التي تعد تعبيرا عن السياقات المتنوعة والمضمرة، أو هي التعبير الأسمى عن قدرة اللغة على الاستقلال بذاتها لخلق مرجعيات دلالية ذاتية تعد الوجه الأمثل لعوالم ثقافية هي مزيج عجيب من " الحقائق الموضوعية " و " الحالات الاستيهامية" التي لا تحكمها ضفاف ولا نهاية. يتعلق الأمر بسر آخر من أسرار اللغة، " فالكلمات أطول عمرا من الأشياء والمؤسسات والمعارف التي تحيل عليها وتتسلل عبرها إلى التجارب القديمة لتواصل مدها بما يضمن وجودها رغما عنا " (2).

وتلك هي منطلقات التدليل الأولى التي يمكن الاستناد إليها من أجل القيام بتنويع المعاني والذهاب بها في كل الاتجاهات : حالة أولى للتعيين المباشر، وحالات تدليل لا متناهي إن لم تجلب مدلولا نهائيا، فإنها ستجلب لذة استعراض كل المدلولات الممكنة. وهي طريقة أخرى للقول إننا نخلق، من خلال هذا التمثيل وداخله، سياقات جديدة يحتل داخلها الشيء أو الواقعة موقعا لا رابط بينه وبين موقعه داخل سياقه الأصلي.

وهذا فيما يبدو هو مبرر التأويل وأساسه، بل هو ما يجعل التأويل حاجة من الحاجات الإنسانية الأساسية. فالنفعي عام ومشترك ومكرور، أما المتعة فمتعددة في المظاهر والوجود. للنفعي سلطة على المباشر والمرئي والظاهر، وللمتعة إغراء الخفي والمستتر والملتبس والغامض.

إنه التقابل أيضا بين التأويل وبين الاستعمال (3). فالتأويل كشف عن طاقة دلالية داخلية مهدها عناصر النسق التعبيري ذاته، أما الاستعمال الحر فهو إثارة للمخيلة، أو هو قراءة مرتبطة باستراتيجية أخرى – إيديولوجية، سياسية، دينية – لا علاقة لها بالقصديات التي يمكن أن تشتمل عليها الوقائع. يرتبط الاستعمال بمصلحة خارجية، تدخل ضمنها كل القراءات التي تحيل على " قاعدة للفعل " كما هو الشأن مع النصوص الدينية، أو ما تقتضيه النصوص القائمة على أطروحة قبلية. أما التأويل، فعلى العكس من ذلك، حاجة داخلية منبعثة من الوقائع ذاتها، وكل مدلول يتم انتقاؤه ليس سوى شحنة انفعالية يمكن استبدالها بشحنة أخرى ستأتي بها سيرورات تأويلية لاحقة.   

وهذه الحاجة الداخلية هي مصدر الإحالات المتتالية التي تتحدث عنها السميائيات التأويلية، في تصور بورس على الأقل. فاستنادا إلى عملية التمثيل الأولى ( ماثول يحيل على موضوع عبر مؤول) يمكن توليد عدد لا متناه من الدلالات. فبمجرد ما تدخل الواقعة عالم اللسان ( الوجود الرمزي)، فإن معناها الأول لن يكون سوى حلقة بدئية داخل سلسلة دلالية قد لا تتوقف عند حد بعينه. وهذا له ما يبرره في الوجود الإنساني ذاته. فبإمكاننا أن نجد روابط بين كل مناطق هذا الوجود استنادا إلى التسلسل العلائقي القائم على الربط المتتالي بين كل العناصر التي تسكنها الانفعالات الإنسانية، وهي الفكرة التي يدرجها بورس ضمن مبدأ " الامتداد " ( كل ما في الوجود يشكل وحدة كلية، ويشير في الوقت ذاته إلى هشاشة الفكر ونقصانه). ولهذا السبب، فإن هذا الربط لا يكترث – مبدئيا أو نظريا - لطبيعة المعرفة التي قد تتوقف عندها الإحالات. فهذه الإحالات لا تراكم مدلولات، ولكنها تسعى إلى توسيع المسافة الرابطة بين أداة التمثيل وموضوعه.

ومع ذلك، فإن هذه المسلمات ( أو نعتقد أنها كذلك إلى حين ) لم تقد إلى النتائج نفسها. فالاعتراف الصريح بالطبيعة المفتوحة لحالات التمثيل الدلالي لا ينطلق بالضرورة، كما سنرى ذلك في الفقرات الموالية، من نفس الأسس ولا يروم نفس الغايات. فقد يكون النص في جميع التصورات التأويلية " حالة مفترضة " لا تتحقق إلا ضمن فعل تأويلي يمتلك القدرة على تجسيد كل مدلولاتها أو بعضها ضمن سياقات تتناسل فيما بينها. وهذه فرضية لها ما يسندها على مستوى الأشكال المتنوعة التي يتم من خلاها تلقي النصوص و" فهمها".

 إلا أن هذه الطبيعة الافتراضية قد تقود إلى تدمير شامل لكل القصديات عدا قصدية المؤول، وهو ما يعني بعبارة أخرى تدميرا للنص ذاته. فلا شيء هناك سوى تسلسل لا متناه من العلامات التي تحيل على بعضها البعض ضمن نسق أو أنساق تفسر نفسها بنفسها دونما اعتبار لما يوجد خارجها. فنحن نفكر بالعلامات وداخلها، ولا يشكل الموضوع الخارجي سوى مثير عرضي ( سلسلة من الانطباعات الحسية ) يغذي العلامة ويمدها بعناصر التمثيل، ولكنه لا يمكن أن يحل محلها ولن يعيش إلا داخلها. وهناك ما يبرر هذا الترابط اللامتناهي بين العلامات، فالمعرفة في نهاية الأمر ، هي بناء رمزي يقوم به الذهن وليست امتلاكا فعليا لواقع ممتد إلى ما لانهاية (4). لذلك، فإن ما " يقلق الإنسان هو التصورات التي يملكها عن الأشياء لا الأشياء ذاتها " ( 5). فلا رجاء إذن في توقف ممكن للإحالات، ولا أمل في رؤية العلامة تتشبع ذاتيا وتستقر ضمن " حضور" نهائي، ولا وجود لقصدية توجه العلامات نحو غاية دلالية بعينها، "فما يطلق العنان للدلالة هو نفسه ما يجعل توقفها أمرا مستحيلا. فالشيء ذاته علامة " (6). والعالم الخارجي لا يحضر في الذهن إلا من خلال مضمونه اللساني.

وعلى هذا الأساس، " لن يكون من واجب القراء ولا في مقدورهم التقيد بمقتضيات هذه القصدية الغائبة، لحظة انفصال النص عن قصدية الذات التي أنتجته. والخلاصة، وفق هذا التصور، أن اللغة تندرج ضمن لعبة متنوعة للدوال، كما أن النص لا يحتوي على أي مدلول متفرد ومطلق، ولا وجود لأي مدلول متعال، ولا يرتبط الدال بشكل مباشر بمدلول يعمل النص على تأجيله وإرجائه باستمرار" (7).

وفي جميع الحالات، فإن ما قامت الآلة التأويلية ضده ضمن هذا التصور – والمقصود هنا التفكيكية كما صاغ حدودها النظرية والتطبيقية المفكر الفرنسي جاك دريدا – هو فكرة المركز، أو ما نطلق عليه، من زاوية أخرى، الكم الدلالي المفترض الذي تقود إليه كل العناصر المتحققة من خلال رحلة تقليصية تعود بالعالم المفصل إلى حالة تجريدية قصوى تمثل المضمون الدلالي الكلي للنص. فالنص لا مركز له، وهو، إن وجد، " لا يشكل بؤرة ثابتة، بل يعد وظيفة، أي ما يشبه اللاموقع الذي تستبدل داخله العلامات المواقع فيما بينها " ( 8). وهو ما يعني بعبارة أخرى، أن لا جدوى من البحث عن حقيقة أو أصل أو بداية، أو استعادة ما ضاع من خلال التمثيل، مادام كل شيء يتم داخل العلامات. فالنص عبارة عن مجموعة من الدوال التائهة المتملصة باستمرار من مدلولاتها ضمن لعبة تأجيل أبدية. واستنادا إلى هذه اللعبة الدائمة" يشكل غياب المدلول النهائي لعبا لا محدودا، أي تدميرا للوجود اللاهوتي لميتافيزيقا الحضور " (9).

أو يتعلق الأمر بما يسميه إيكو، عن حق أو باطل، التوالد السرطاني للدلالة ( 10)، حيث تحيل العلامات على بعضها البعض دون غاية أو هدف. فلا رابط بين نقطة البداية ونقطة النهاية، إن كانت هناك أصلا نهاية. وإذا حدث وتوقفت العلامة عند نقطة ما، فسيكون كل ما عرفناه عن نقطة البداية قد تلاشى واندثر ضمن دوامة لا متناهية من الإحالات. فلا غاية لهذه الرحلة اللولبية للعلامات والأشياء سوى اللذة ذاتها (11)، ف" غياب المدلول النهائي يفتح المجال واسعا أمام اللعبة اللانهائية للدلالة " (12). ولا جدوى من الحديث عن سياق موجه للدلالات، فالسياقات ذاتها غير محدودة وقابلة للبنية الدائمة، " فهناك دائما إمكانات سياقية جديدة يمكن إضافتها إلى ما سبق، بحيث إن الشيء الوحيد الذي لا نستطيع القيام به هو رسم حدود ما "( 13).

وعلى الرغم مما تبدو عليه الأشياء في الظاهر، فلا علاقة بين المفاهيم التي روجت لها جماليات التلقي ك" البياض" أو " النقص " أو "اللاتحديد " وبين مفهوم " التأجيل " أو " الإرجاء " اللذين تتحدث عنهما التفكيكية. فالمفاهيم الأولى مرتبطة بالثنائية التي أشرنا إليها في بداية المقال، ويتعلق الأمر بالاختلاف الموجود بين إدراك الشيء بشكل مباشر وبين عملية تمثله. فالنشاط الإدراكي يتم ضمن إكراهات حضور فعلي لشيء يقلص من إمكانات الاستيعاب الحر لكل مكوناته بسبب ارتباطه بنسخة فعلية لا تستطيع العين فكاكا منها. أما الثاني فمتحرر من كل الإكراهات سوى إكراهات الذاكرة والمخيال وقدرتهما على ربط الشيء بعوالم مفتوحة على كل الاحتمالات، بل إن الشيء ذاته قد يصبح، في هذه الحالة، وعاء لانفعالات وقيم إنسانية شتى. ومثال الجبل الذي يقدمه إيزر  Iser مشهور في هذا لمجال، وهو مثال مستعار من دراسة لجلبير رايل حول عمل المخيلة ( الفرق بين رؤية جبل هيلفين وبين تمثله ) (14). لذلك، فإن القارئ، في تصورات جمالية التلقي يقوم بدور نقيض لما يقوم به القارئ التفكيكي، إنه يعيد إلى النص ما تم إهماله في حالات التحقق من خلال تنشيط ذاكرة النص والدفع به إلى تسليم كل مفاتيحه.

في حين ينشئ " الفراغ " الذي يتحدث عنه دريدا – إن جازت تسميته كذلك – عن شيء آخر. فالأمر لا يتعلق في واقع الأمر بفراغ، نحن أمام هوة سحيقة لا تني تتسع بين الدال والمدلول. وهي هوة لا يمكن أبدا ملئها لأنها تعبر عن " قصور أصلي" في اللغة وفي عمليات التمثيل التي تقوم بها. فبما أن كل شيء يتم داخل اللغة وفي انفصال عن المراجع الممكنة، فإن الوصول إلى مدلول نهائي سيظل حلما لا يتحقق إلا في النصوص التي خرجت من الزمنية الإنسانية ووضعت نفسها خارج إكراهاته. فلعبة الدوال الأبدية ستظل كذلك لاستحالة الوصول إلى حقيقة في يوم ما. إن الأمر شبيه بالطقوس الهرمسية الاستئناسية ( نسبة إلى هرمس الإله الذي يشير إلى مبدأ التناقض الدائم)، " فكل شيء في هذه الطقوس يخفي سرا. لذلك، فإن السر الهرمسي لا يمكن أن يكون سوى سر فارغ، والذي يزعم أنه قادر على الكشف عن هذا السر لم يأخذ بعد حظه الكافي من الاستئناس، ولم يتجاوز حدود المعرفة السطحية للسر الكوني" (15). يجب البحث إذن عن المدلول النهائي في مكان آخر غير ما تقوله الإحالات المتتالية. وهذا المكان هو بالضبط ما لا يمكن تحديد كنهه.

وقد يشكل هذا الإرجاء المطلق للمدلول النهائي المقصي من لعبة الإحالات نقطة البدء والنهاية في تصور آخر. وهو التصور الذي يفترض وجود بؤرة دلالية كلية تلتقي عندها كل المعاني الصغرى ( التناظرات الفرعية بلغة الدلالة البنيوية). وهذه البؤرة هي التي تشكل الدلالة النهائية للواقعة. وينحصر عمل القارئ في هذه الحالة في " البحث " عن هذا الكم الدلالي المفترض من خلال إعادة بناء القصدية الأولى التي تشكل مصدر هذا " الكم " وشكل تحققه. ذلك ما توحي به الأعمال المنتمية إلى السميائيات السردية في مراحلها الأولى، وكذا جزء كبير من الدراسات البنيوية التي كانت تحلم بالوصول إلى الإمساك بالسنن الأخير، ذاك الذي تنتهي عنده كل الأسنن، أي الوصول إلى " التعرف " على معنى كلي هو النهاية والمقصد من سلسلة التبسيطات التي يقوم بها المحلل في رحلته من الوجوه الملموسة إلى بؤرة التجريد الأولى. لذلك، لا مجال للحديث عن غاية تأويلية، ما دامت القراءة تتعامل مع الممكنات التي يوفرها النص باعتبارها مضمونا مودعا بشكل قصدي داخله وسابق على وجود القارئ. فهذا القارئ لا يقوم سوى بتتبع ما يمكن أن تقوله الوحدات في ترابطاتها الممكنة داخل النص، فالانسجام هو وليد تناظر كلي يعد ضمانة على قراءة وحيدة للنص (16).

وهذا الكم الدلالي هو ما كانت تبحث عنه الهرموسية (17) في صيغتها الأولى على الأقل ( شلايرمخير ودلتاي ). فالغاية من التأويل في التصور الهرموسي، كما حدده شلايرماخير، هو الوصول إلى الدلالة الأصلية للعمل الفني، وذلك من خلال إعادة بناء الشروط المقامية التي أنتج ضمنها النص. إن التلقي المؤجل، وهي ميزة التواصل الأدبي عامة، يولد إحساسا بأن هناك شيئا ما ضاع أو استلب أو اختفي ويجب البحث عنه واستعادته، ولن يكون السبيل إلى ذلك سوى المعرفة التاريخية بمفهومها الواسع، أي بأحداثها ووقائعها ورموزها واستعاراتها وطبيعة العلاقات الإنسانية السائدة في مرحلة من المراحل. فالتعرف على هذه المكونات هو الوسيلة الوحيدة لاستعادة المعنى " الحقيقي " للعمل الفني. ولقد بلورت الهرموسية مفهومين مركزيين للقيام بذلك هما " إعادة البناء " و" الإدماج " (18). فإعادة البناء تقتضي " فهم " العمل الفني وتحديد عوالمه الدلالية ضمن ثقافة الأصل لا ضمن ما تقوله الذاكرة المباشرة للمؤول. وبعبارة أخرى، إن الفهم يشرط استحضار كل ما له علاقة بلحظة الإبداع الأولى.

وهو ما يعني التقمص الكلي لذات الآخر المبدع، فعملية " الفهم، عند كائن محدود، هي ولوج حياة أخرى"، أو هي " رابط يجمع بين حياة نفسية بحياة نفسية أخرى " (19)، كما عبر عن ذلك ديلتاي. فالفهم مرتبط بفكرة مركزية هي الربط الوثيق بين الذات التي تؤول وبين موضوع تأويلها. وبعبارة أخرى، يتعلق الأمر ببلورة وعي تاريخي قادر على استعادة " الحدث الماضي" كما تم فعلا. ففي كل عملية فهم، وهي المسار الطبيعي نحو إطلاق العنان لسيرورات التأويل التي ستقود إلى التعرف على المعرفة الحقيقية، يجب استحضار قوانين النص وقوانين السياق وقوانين الموسوعة ( مجمل المعارف البعيدة والقريبة التي يمكن أن يحيل عليها النص بشكل مباشر أو غير مباشر).

وهذا هو السبيل، في تصور شلايرماخير،  للإحاطة بالدلالة الأصلية للعمل. أي " الكشف " عما " أراد المبدع التعبير عنه، " ذلك أن العمل الفني الذي وصلنا هو عمل منزوع من تربته الأصلية " (20). " ففي اللحظة التي وُضعت فيها الأعمال الفنية للتداول كان الأصلي والطبيعي قد ضاعا، ذلك أن هذه الأعمال تستمد جزءا من فهمها من أصلها الأول... لذلك، فإن العمل الفني المنزوع من سياقه الأول يفقد دلالته إذا لم يحتفظ التاريخ بهذا السياق "( 21). وعليه، ومهما تعددت محاولات التأويل المتتالية، فإنها لن تستطيع أبدا فصل العمل الفني عن تربته وعن جذوره الأولى، ذلك أن " العمل الفني متجذر في تربته وفي محيطه وسيفقد دلالاته إذا ما انتزع من هذه التربة ليوضع للتداول، إنه شبيه بشيء تم إنقاذه من لهب النار ولكنه سيحمل آثار هذا الحريق إلى الأبد " (22).

وهي الفكرة التي سيستند إليها إرفين بانوفسكي من أجل بلورة  تنظيم ثلاثي للعالم الفني من خلاله تتجسد كل التحققات الممكنة للدلالة. فالعمل الفني مرتبط بلحظة محددة في التاريخ، ولا يمكن فهمه وتحديد دلالته الحقيقية دون التعرف على هذه اللحظة. ويشترط الوصول إليها وتحديد خصائصها القدرة على الإمساك بمستويات معينة للتجلي. فالعمل الفني ( الفنون التشكيلية بالأساس كما كان الشأن مع شلايرماخير) يخفي، أو يدفعه الزمن إلى ذلك والأمر سيان، دلالاته في طبقات يجب تحديد سمكها وامتداداتها. وهكذا يميز بانوفسكي بين ثلاثة مستويات للدلالة ( طبقات للمعنى )، تتحقق وفق تتابع مسترسل يقود من الأبسط إلى البسيط إلى المركب، أي من التجلي المباشر، إلى الاستعمالات الاستعارية، وصولا إلى " وضع اليد " على مركب مضموني هو مزيج من الخصائص والانفعالات الخاصة بشعب أو أمة.  

هناك أولا ما يسميه بالدلالة البدئية، وهي المعطيات الأولية المشكلة للنص الفني " ويتم التعرف عليها من خلال أشكال خالصة ( أي بعض التشكلات من الخطوط والألوان، أو بعض الكتل المصنوعة من البرونز أو الأحجار المصوغة بطريقة خاصة ) تعد تمثيلات لموضوعات طبيعية ( كالكائنات البشرية والحيوانات والأشجار والأدوات الخ ) والتعرف على علاقاتها المتبادلة باعتبارها حدثا، والكشف عن بعض الخصائص التعبيرية من قبيل إحالة موقف أو إيماءة على حالة حداد، أو إحالة داخل منزلي على الحميمية والهدوء. إن عالم الأشكال الخالصة الذي نتعرف عليه في حالة امتلائه بالدلالات البدئية أو الطبيعية يمكن أن نطلق عليه عالم الموتيفات الفنية" (23). وبصفة عامة، يتعلق الأمر، بما تقوله العلامة استنادا إلى التجربة المشتركة التي تلتقط ما هو موجود بشكل موضوعي أمام العين، أو ما يتسرب إلى الذهن من خلال فعل القراءة الأولى.

هناك ثانيا ما يسميه الدلالة الثانوية، وهي دلالة تقتضي تجاوز المعطى المباشر، وتنشيط ذاكرة هذه الوحدات التي يسميها بانوفسكي الموتيفات من أجل البحث عن دلالات أخرى. ويعبر بانوفسكي عنها من خلال بعض التحديدات التي ترد المشخص ( التصويري) إلى ثيمة مجردة " حيث يمثل كائن مذكر  يحمل في يده سكينا القديس بيرتوليمي، أو تحيل أنثى تحمل في يدها خوخة  pêche على الحقيقة.....إننا بذلك نقوم بربط هذه الموتيفات الفنية وهذه التأليفات ( التركيب )  بثيمات أو مفاهيم. وبهذا تصبح الموتيفات الحاملة لدلالة ثانوية أو عرفية صورا. إن التأليف بين الصور يتطابق مع ما (....) نطلق عليه حكايات ومجازات " (24). والأمر يتعلق بما يحيل، في تصورات أخرى، على الثنائية الشهيرة الإيحاء والتقرير، أي المعنى الأول في ارتباطه بالمعاني الثانية التي تتخلص من البعد المباشر لكي تفتح التمثيل على عوالم مستقاة من الاستعمالات الاستعارية للكائنات والأشياء.

أما المستوى الثالث، فيشير إلى دلالة من نوع خاص، يطلق عليها بانوفسكي الدلالة الجوهرية أو الدلالة الخاصة. وهي دلالة لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال استحضار معرفة أولية تعد تعبيرا عن طبيعة أصلية لشعب أو أمة. لذلك " فإن الإمساك بها يتم من خلال التعرف على المبادئ الخفية التي تعود إلى ما يشكل أساس ذهنية أمة ما أو مرحلة أو طبقة أو معتقد ديني أو فلسفي. ويتم تجسيد هذه الدلالة بشكل لاواعي من خلال شخصية الفنان الذي يودعها في عمل فني فريد. (....) وعلى سبيل المثال، فقد استبدل في القرنين 14 و15 النوع التقليدي لميلاد السيد المسيح الذي كان يمثل له من خلال السيدة مريم ممددة في السرير أو على فراش، بصورة أخرى تمثل للسيدة مريم وهي تنحني على الطفل فيما يشبه العبادة " (25).

 والأمر لا يتعلق في هذه الحالة لا بقصدية النص ولا بقصدية المؤلف ( فهذه الدلالة تتسلل إلى العمل الفني في غفلة من المؤلف) ولا بقصدية القارئ، فالقارئ لا يقوم سوى بالتعرف عليها، بل هي التجسيد الأمثل لكم دلالي موجود فيما يشبه المعطى الخاص الذي لا يدرك سره إلا الذي ينتمي إلى تلك الثقافة. " فإذا أخذنا بعين الاعتبار كل هذه الأشكال والموتيفات المستترة، فإننا نؤول هذه العناصر باعتبارها قيما رمزية  بتعبير أرنست كاسيرير " ( 26).

استنادا إلى كل ذلك، فإن التأويل يقتضي الانطلاق من معطى مباشر قابل للوصف اعتمادا على العناصر المرئية للعلامة، للانتقال إلى معنى ثان ( دلالة ثانوية ) يستدعي تعبئة معرفة تشترط إعادة تنظيم العمل استنادا إلى علاقات جديدة مبنية وفق ما يستدعيه الاستعمال الاستعاري للكائنات والأشياء،  وذلك من أجل الوصول إلى تحديد المضمون الأصلي للعمل الفني. وبعبارة أخرى، تشكل الدلالة الجوهرية مبتغى وغاية كل تأويل. إنها في واقع الأمر المضمون النهائي الذي يجب أن يهتدي إليه المؤول وتتوقف عنده كل الإحالات. 

وبهذا المعنى، وجب النظر إلى النشاط التأويلي باعتباره ضرورة فلسفية تفرضها تشعيبات الوجود الإنساني وغموض نهاياته وضياع أصوله الأولى ذاتها. فالبحث عن " جذور الحياة " وعمقها وامتداداتها في أصول غابت عنا ولم نعد نعرف عنها أي شيء إلا ما تقوله نصوص مغرقة في رمزيتها رغم وجهها الحدثي المشخص يقتضي النظر إلى العمل الفني باعتباره حالات ترميزية في حاجة إلى التفكيك لكي تسلم مضمونها الحقيقي. إنه بهذا يعد جوابا عن أسئلة وجودية هي التي قادت إلى إعادة قراءة الموروث الإنساني وتأويله وفق إكراهات الزمن باعتباره كما متمفصلا في وحدات ثقافية تلغي المتصل وتعوضه بحالات افتراضية، تعد صيغة من الصيغ التي يتم من خلالها استعادة معنى قديم غيبته مسافات التاريخ وتوارى عن الأنظار في مجموعة من الأشكال الرمزية. فالمعرفة الحقيقية لا تكمن فيما قيل بشكل مباشر،  بل فيما لم يقل، أو فيما تغطيه الرموز، إنها هي معرفة سرية لا يمكن الوصول إليها إلا إذا تمت إزالة الستائر التي تحجبها عنا.

وتلك أيضا خاصية من خاصيات تأويل النصوص الدينية، فالتأويل في هذه الحالة " موجه"، لأنه مقيد بغايات يجب الوصول إليها من خلال " ترك ظاهر اللفظ إلى ما يحتاج إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ" ( لسان العرب). ومن ثمة فإنه، عوض أن يقود إلى تفجير طاقات النص وتحويلها إلى ركام من العلامات المتنافرة، كما كانت تدعو إلى ذلك التفكيكية، يقود في حالة الهرموسية الدينية، على العكس من ذلك، إلى " الكشف" عن معنى مستتر لا تراه العين المجردة، ولكنه موجود في ثنايا هذه النصوص، تماما كما تُخبَئ الأسرار في الأساطير والخرافات والحكايات المجازية. إن هذه الدلالة شبيهة بالغائية الإلهية التي هي مصدر النصوص الدينية ومنتهاها. ولقد تحدث بول ريكور عن الهرموسية، في هذا المجال، باعتبارها استعادة بعدية للمعنى المودع في النصوص  " استنادا إلى ما يود النص قوله " (27).

وقد تدفع هذه الطبيعة الافتراضية إلى الاستغناء عن قصدية المؤلف لتحتمي بقصدية القارئ باعتبارها المدخل الأساس إلى تحيين المضمر والمؤجل والمسكوت عنه. إلا أنها لا يمكن أن تتنكر لما تقوله الوقائع استنادا إلى سياقها الأول، أو تتخلص من الإكراهات الأولية لقصدية نابعة من " توجيهات مسبقة " تبرمج، من خلال أدوات التمثيل نفسه ( اللغة وعناصر الصورة أو اللوحة ) صيغة أو صيغا للتلقي. فالتأويل لا يغير من طبيعة الكلمات والأشياء، كما لا يحذف أو يضيف أو يعدل، إنه يكتفي بالتصرف في نظامها وعلاقاتها. وبعبارة أخرى، إنه يقوم ببناء قصديات جديدة ليست معطاة من خلال الوجه المرئي للوقائع. فالنص لا يشير إلى مسبقات دلالية، ولا يحتوي على معاني كلية ونهائية، ولكنه يعد بؤرة لسياقات مضمرة تتحقق ضمن السيرورات التأويلية المتتالية. لذلك لا يمكن الفصل بين المعنى وبين السبل المؤدية إليه، أو الفصل بين السيرورة والتكون، وبين الشكل والمادة. فما ينظم ويرتب ويكشف عن العلاقات هو ما يعني وينتج الدلالات أيضا.

تلكم هي الأسس أو المبادئ التي انطلقت منها السميائيات ( في صيغتها البورسية على الأقل) من أجل بلورة تصور ثالث للتأويل يستمتع بلذة الإحالات ولكنه لا " يفكك إلى مالا نهاية "، ويستشعر الحاجة إلى التوقف في لحظة ما عند مدلول منتقى وفق فرضيات سابقة للقراءة، ولكنه يشكك في وجود مدلول نهائي يعد عمق العمل الفني ودلالته النهائية. فالعلامة في حالات التأويل المتتالية لا تفقد صلتها بالمعرفة المشكلة للقصدية الأولى. ولكنها لا تدعي الوصول إلى أصل جديد هو " سدرة المنتهى " والنهاية التي ما بعدها نهاية.

وهذا أمر بالغ الأهمية، فالسميائيات التأويلية تشير إلى ديناميكية ( بورس يسمي المؤول الثاني مؤولا ديناميكيا) مستمدة من الترابطات الممكنة بين العناصر الثقافية المشكلة للموسوعة، بما في ذلك العناصر الثقافية المنتمية إلى سياقات غريبة ( غريبة عن السقف الثقافي الذي أنتج ضمنه العمل الفني ). هناك اعتراف صريح بوجود إرث إنساني مشترك مودع في رموز تكاد تكون كونية، إلا أنها تختلف من حيث التحققات وأشكال التجلي، وهناك في المقابل اعتراف بأن أشكال التحقق تقلص من حجم الموسوعة وتُخصِصُها. فالمؤول لا يؤول ما بنفسه، ولكنه يؤول ما تبيحه الموسوعة أو ترفضه. لذلك، فإن العلامة قد تحيل على مجموعة كبيرة من الدلالات، ولكنها لا تحيل على كل الدلالات إلا من باب العبث (28).

ولقد تهكم إيكو من موقف جوفري هارتمان، أحد أقطاب التتفكيكية في أمريكا، الذي لم يؤول كلمة gay الواردة في قصيدة من قصائد ووردزوورث ( 1770 – 1850 ):

A poet could not but be gay ( لا يسع الشاعر إلا أن يكون مرحا )

بالإحالة على معناها الذي يحيل على الشذوذ الجنسي. ويذكره بأنه لم يفعل ذلك لأن هذا لمعنى لم يكن موجودا في تلك المرحلة التاريخية. والحاصل أن النص لا يقبل محيطا ثقافيا غريبا عنه إلا من باب التجني وتحميل النص ما لا يطيق من الدلالات الغربية عنه( 29).

وعلى هذا الأساس، فهي تدمر المدلول النهائي لأنها تفترض تطورا لولبيا يسير دائما في اتجاه متصاعد، ولكنها أيضا " تستند إلى مبدأ أساس يُنظر بموجبه إلى العلامة باعتبارها شيئا تفيد معرفته معرفة شيء آخر " ( 30). " فالموضوع هو المعرفة المفترضة التي تمكننا من الإتيان بمعلومات جديدة تخص هذا الموضوع "(31). وبعبارة أخرى، تقوم السيرورات التأويلية بمراكمة مدلولات جديدة تُضاف إلى المدلول الأول. وعلى هذا الأساس، فإن التأويل ليس توالدا سرطانيا، بتعبير إيكو، يسير في جميع الاتجاهات، بل هو تطور محكوم بمعطى يبيح الكثير من المعاني، ولكنه لا يقبل كل المعاني. " فإذا كان مدلول أية جملة، حسب التصور التداولي، ليس شيئا آخر سوى الإمكانات العملية التي يستدعيها التحقق، (...) فإن السيرورة التأويلية يجب أن تتوقف – مؤقتا على  الأقل- خارج إطار حركة السميوزيس " (32). وهذا أمر تؤكده طبيعة الوقائع ذاتها. فالواقعة الفنية بناء وليست معطى حرا. لذلك، فإن كل بناء هو تقليص لدائرة الترابطات الدلالية وحصرها ضمن ما يمكن أن يخلق انسجام الواقعة واشتغالها باعتبارها كيانا مستقلا.

فلا علاقة إذن لهذا التوقف ب" المدلول المتعالي" الذي تنظر إليه التفكيكية بريبة وحذر وتعتبره سرابا قد يغذي الأوهام اليقينية ولكنه لا  يجيب عن حاجات التأويل الفعلية. إنه في حالة السميائيات استنفاد لممكنات سيرورة دلالية تستدعي، للاستمرار، إسقاط فرضية جديدة للقراءة مرتبطة بغايات تأويلية أخرى. ولسنا بعيدين، ضمن هذا التصور، عن فكرة المركز. لكن الأمر  لا يتعلق هنا ببؤرة تنتهي عندها كل الإحالات، فالمركز الذي يمكن أن تشير إليه فكرة " التراكم المدلولي " ليس مركزا للوصول، بل هو مركز للبداية، أو مركز لانطلاق الدلالات. أو هو لحظة أولى داخل رحلة السيرورات التأويلية اللاحقة. فعوض أن نتحدث عن تأويل كلي، علينا أن ننظر إلى التأويل باعتبارها مسيرات متنوعة تفترض، في كل إحالة، العودة إلى المنطلق ضمن ما تتطلبه فرضية جديدة للقراءة.

وهو ما يؤكده التوزيع الثلاثي للدلالة الذي يقترحه بورس، فالثلاثية لا ينظر إليها باعتبارها صيغة لتوزيع كتلة دلالية سابقة في الوجود على ظهور القارئ، بل هي سيرورة متجددة تجدد فرضيات القراءة ذاتها. فالمؤول، وهو الحد الثالث في العلامة، يشتغل في مرحلة أولى باعتباره سلسلة من المعطيات الدلالية الأولية التي لا تشترط التعرف عليها سوى عناصر التجربة المشتركة، فهو " معطى بشكل صريح من خلال العلامة " (33). لذلك، فهو لا ينتج معرفة ولا يقودنا إلى التعرف على شيء آخر غير ما يمكن أن يقدمه تعريف مباشر لواقعة ما. ولهذا يشير بورس إلى مستوى دلالي ثان يجسده مؤول ثان، يدرج العلامة ضمن عجلة تدليلية لامتناهية. فعندما تتخلص الحركة التأويلية من التوجيهات المباشرة التي يقدمها المستوى الدلالي الأول، فإنها تنفتح على كل ما يمكن أن تحيل عليه العلامة، فالعلامة تضع، في هذه الحالة، قدرها بين يدي مؤول يبيح لنفسه كل شيء.

وهذا أمر تقبل به التفكيكية وتستحبه. ولم يتردد دريدا في اعتبار بورس أول التفكيكيين ( 34). فديناميكية التأويل تمد شبكتها في كل الاتجاهات، ولا تتردد في الإحالة على كل المعارف التي يمكن تشير إليها العلامة. إلا أن التشابه يقف عند هذا الحد.  فالحركية التأويلية في تصور بورس ليست ممتدة إلى ما لا نهاية، ولا يمكن أن تستمر طويلا. " فالغاية النفعية التي  يتم التأويل وفقها " سرعان ما تضع حدا لحالة " الفوضى " من خلال إدراج مستوى دلالي ثالث ينظم الإحالات وفق السيرورات التأويلية. فالمؤول الثالث يشكل قوة ردع تمليها الحاجات الإنسانية التي تفترضها كل واقعة إبلاغية. فلا يمكن الإمساك بالوجود الإنساني، رغم الاعتراف بحالة الامتداد، إلا مجزئا، أي مصنفا ضمن أقسام وحالات. ولهذا السبب، فإن المؤول الثاني لا يشكل مستوى، بل هو حالة انفتاح تتجسد في سيرورات هي نقيض فكرة الفعل التأويلي الشامل. وتبعا لذلك، لا يشكل الموقف التأويلي الثالث حالة توقف بالمفهوم الزمني للكلمة، فهو نهائي ضمن سيرورة لها إكراهاتها الخاصة. فما يغلق، في هذه السيرورة قد يصبح نقطة للبدء في سيرورة أخرى.

والخلاصة أن التأويل في التصورات الثلاثة التي عرضنا لبعض عناصرها لا يشكل فائضا في المعنى، ولا يشير إلى دلالة عرضية يمكن الاستغناء عنها، بل هو أصل مخبئ في المرئي والظاهر، أو هو مضامين بلورتها الممارسة الواعية في غفلة منا، أو هو محاولة للبحث عن أصل ضاع، قد يكون عقلنا قد نسيه، إلا أن الممارسة الفنية قادرة على استعادته من خلال صور مبهمة وغامضة يجب تفكيكها لمعرفة بعض أسرارها. وفي جميع الحالات، فإن ضوابط التأويل وحدوده ومعاييره لا يمكن البحث عنها خارج التصورات التي نملكها عن المعرفة والحقيقة والأحادية والتعدد. لذلك " من الصعب جدا التأكد من صحة تأويل ما، ولكن من السهل جدا التعرف على التأويل الرديء " (35).

=========

هوامش

1- ما يسميه بورس abduction ونترجمه تقريبيا بالافتراض، وهو حالة من حالات البرهنة التي تضاف إلى القياس والاستنباط، وهي عملية لا تنتج معرفة لأنها أساسا لا تقوم إلا بقياس حالة حاضرة بمعرفة سابقة.

2-Pierre Guiraud : Sémiologie de la sexualité, éd Payot , 1978, p. 183.

3- Umberto Eco : Lector in fabula , éd Grasset, 1985, p.76

4-  E Cassirer

5- انظر  E Cassirer : Essai sur l’homme, éd Minuit,p.44

6-  Jacques Derrida : De la grammatologie, éd Minuit, 1967, p.72

7- أمبيرتو إيكو : التأويل بين السميائيات التفكيكية، ترجمة سعيد بنگراد، المركز الثقافي العربي، 2000، ص 124-125

8- Jacques Derrida : L’écriture et la différence, éd Seuil, 1967, p.411

9- , p. 73 Jacques Derrida : De la grammatologie

10- أمبيرتو إيكو : التأويل بين السميائيات التفكيكية، ص 123

11- نفسه ص 125

12- Jacques Derrida : L’écriture et la différence, p.411

13- Jonathan Culler : Défense de la surinterprétation, in Interprétation et surinterprétation , ouv. collectif, éd P U F , 1996, p112

14- W. Iser : L’acte de lecture, éd  mardaga éditeur, 1976, p.247

15- أمبيرتو إيكو نفسه ص 34

16-   A J Greimas : Sémantique structurale, éd Larousse, 1966, p 69 et suiv

17- نقترح كلمة " الهرموسية " ترجمة للمفهوم الفرنسي " herméneutique  ".

18- مقابلان ل :  reconstruction et intégration انظر : Hans-Georg Gadamer : Vérité et méthode, éd Seuil, 1976 -1996 , p.185

19- le conflit des interprétations , p9

20- Hans-Georg Gadamer : Vérité et méthode, éd Seuil, 1976 -1996 , p.185

21- نفسه ص 185

22- نفسه ص 185

23- Erwin Panofsky : L’œuvre d’art et sa signification , éd Gallimard,1969, pp12-13

24- نفسه ص 13

25- نفسه ص 13-14

26- نفسه ص 14

27-  Paul Ricœur : Le conflit des interprétations, éd Seuil, 1969, p7

28- أمبيرتو إيكو : التأويل بين السميائيات التفكيكية، ص 47

29- أمبيرتو إيكو : التأويل بين السميائيات التفكيكية،

30 – les limites p371 Eco :

31- C S Peirce : Ecrits sur le signe ? éd Seuil,1978 p123

32–  Eco : Les limites, p381

33- C S Peirce : Ecrits sur le signe  p128

34 -  Jacques Derrida : De la grammatologie,p72

35- Eco : Les limites , p384

 

 

 

 

 

 

 

 
 
 
معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

مؤلفــات بطاقة تعــريف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال   مواقـــع  خزانات الموقـع صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

موقع سعيد بنگراد - تاريخ الإنشاء: نونبر 2003