معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقـة تعريـف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع  خزانات الموقـع  صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

سعيد بنگــراد

 

 

 

ست نزهات في غابة السرد

 

 

المركز الثقافي العربي 2005

 

 

دعي أمبيرتو إيكو سنة 1993إلى الولايات المتحدة الأمريكية لكي يلقي، في إطار برنامج " قراءات نورتون الست" - وهو برنامج تنظمه جامعة هارفارد في مدينة ييل ( yale) بتعاون مع دار النشر الأمريكية الشهيرة "نورتون"- سلسلة من المحاضرات حول ممكنات التدليل في النص السردي - النص الروائي بالتحديد. وكانت ثمرة هذه الزيارة المحاضرات الست التي يضمها هذا الكتاب المنشور في طبعته الأنجليزية تحت عنوان "six Walks in the Fictional Woods" ( ست جولات في الغابة التخييلية ) سنة 1994، وترجم إلى الفرنسية تحت عنوان" six promenades dans le bois du roman et d'ailleurs " ( ست نزهات في غابة الرواية، وفضاءات أخرى)، وصدر عن دار النشر غراسي سنة 1996. ونقدم هنا، ضمن منشورات المركز الثقافي العربي، ترجمته العربية تحت عنوان : " ست جولات في غابة السرد" .

وكما يدل على ذلك عنوان الكتاب، فإن إيكو يقدم لنا تصورا أصيلا للرواية وقضاياها استنادا إلى مفهوم الغابة بإيحاءاتها المتنوعة. فالغابة فضاء مفتوح ومغلق، ساحر ومخيف، منفر وغاو، بسيط وشديد الكثافة، قد تتسلل إليه أشعة الشمس، وقد تحجبها عنه الأشجار الكثيفة. وبطبيعة الحال، فإن الأمر يتعلق باستعارة تحيل على العوالم التخييلية التي تبنيها الرواية وفق استراتيجيات متنوعة يمكن اختزال بؤرتها المركزية في العلاقة بين محفلي الإنتاج والتلقي، المؤلف والقارئ.

وتجد هذه الاستعارة أساسها في علاقتنا بمجمل العوالم التي تشكل وجداننا وطريقتنا في التعاطي مع ما يوجد خارجنا، >  فالطريقة التي نتصور بها العالم الواقعي لا تختلف عن تلك التي نتصور من خلالها العوالم الممكنة التي يقدمها لنا كتاب في التخييل <، لذا علينا أن نتعلم كيف نلج الغابة ونتجول داخلها، وكيف نخرج منها ونهرب من مسالكها الضيقة، كيف يتشكل الزمن في " غابات لوازي" ( إشارة إلي رواية " سيلفي" لنيرفال ) وينتشر في كل الاتجاهات ليحجب الرؤية ويضلل المتجول ويؤدي به إلى الفشل في تحديد ساعات الليل والنهار، وعلينا أيضا أن نعرف كيف يسقط النص عوالم ممكنة، وأخرى ليست كذلك ولكنها تُفهم وتدرك ( أن يتكلم الذئب في قصة فهذا أمر مقبول، ولن يكون كذلك في كتاب علمي) ، وكيف تكون طبيعة الروابط بين عالم نعرفه ونحس داخله بالضيق والقسوة، وبين عوالم تخييلية متحركة ومتغيرة تمنحنا اللذة والراحة النفسية، وكيف يستطيع السرد تحويل عوالم تخييلية إلى حقائق لا يشكك فيها أحد كما هوالحال مع " بروتوكولات حكماء صهيون" التي نظر إليها الناس ( ومازالوا، وهو ما يؤكده مسلسل" فارس بلا جواد" ) باعتبارها مؤامرات وسيناريوهات لقلب نظام العالم.

فكما أن التجول في الغابة له طعم اللذة المبهمة والمغامرة والخروج عن العادي والمألوف، فإن التجول في العوالم السردية له نكهته الخاصة أيضا. إنه التخلص من إكراهات الواقعي وقوانينه الصارمة التي لا تستطيع التخلص منها ذات ترغب في تشكيل الحياة وفق أهواء لا ترى من خلال السلوك المألوف. فهذه العوالم لها طابع خاص، فهي لا تقول الحقيقة ولكنها لا تكذب، فهي تصف حدود الحياة التي نحياها ولكنها تنزاح عن المعيش الواقعي. إنها كذلك لأنها تقدم لنا عالما خاليا من تعقيدات الوقائع اليومية التي تحتاج منا إلى مجهود كبير لكي نفهمها وندرك القوانين التي تتحكم فيها.

وهناك ما هو أعمق من ذلك، فإذا كان التجول في الغابة لعبة نتعلم من خلالها كيف نتبين طريقنا وسط فضاء بلا خريطة، فإن الأمر كذلك في العوالم السردية، فقراءة نص سردي ما > معناه ممارسة لعبة نتعلم من خلالها كيف نعطي معنى للأحداث الهائلة التي وقعت أو تقع أو ستقع في العالم الواقعي. إننا، ونحن نقرأ روايات، نهرب من القلق الذي ينتابنا ونحن نحاول قول شيء حقيقي عن العالم الواقعي، وتلك هي الوظيفة الاستشفائية للسردية، وهي السبب الذي يدفع الناس، منذ قديم الزمان إلى رواية قصص، وهي نفس وظيفة الأساطير : إن السردية تعطي شكلا للفوضى التي تميز التجربة<.

وهذا ما يفسر لماذا نهرب إلى الروايات والأفلام والحكايات المصورة مع أننا نعرف أنها ليست هي الحياة الفعلية ولا هي وقائع اليومي في غناه وتعقيداته وتناقضاته التي لا تنتهي، ولماذا نصدق ما تقوله الروايات ونتماهى مع كائنات لا وجود لها إلا في العالم التخييلي الذي يصوغ حدوده كائن محدود الإدراك ولا يملك قدرة الله وجبروته.

إننا نفعل ذلك لأننا نريد أن نمسك بنسخة بسيطة من العالم الواقعي. ولأننا لا نستطيع تحقيق هذا الحلم الجميل، فإننا نهرع إلى العوالم التي يقدمها لنا التخييل السردي حيث الحياة مصفاة ومقطرة وخالية من آليات الضبط والتوجيه القدري الذي لا فكاك منه. ولقد حاول " جورج بيريك" ، كما يذكر ذلك إيكو في هذا الكتاب ( الفصل الثالث)، أن يرصد كل ما يجري في ساحة من ساحات باريس الكثيرة. كان يجلس خلف واجهة مقهى أو يجلس على دكة ويسجل كل ما يراه، وبعد فترة قصيرة توقف، خارت قواه، فقد أنهكته المتابعة ورصد كل ما يجري، وتوقف عن التسجيل. لم يكن بمقدوره أن يبني عالما متكاملا، لأن الوقائع التي التقطها كانت تفتقر إلى الانسجام والوحدة، لقد كانت الحياة الواقعية أوسع وأعمق من أن تستوعبها عينا ووجدان فرد واحد.

تلكم هي الصورة المثلى التي يستعيرها إيكو من الغابة ليتأمل النص السردي وقضايا بنائه وتلقيه وتأويله. فهذه المحاضرات تتحدث عن طبيعة المحفل الذي ينتج النص السردي، وعن الذات التي تتلقاه وتستهلكه، كما تتحدث عن قواعده وتقنياته، عن صدقه وعن كذبه وأسراره. فالنص السردي غابة، وله ما للغابة من المزايا والخصائص والأسرار، فهو يسحرنا ويقززنا، يرهبنا ويستهوينا، يقدم لنا العالم أحيانا رقيقا جميلا مخمليا واضح المعالم والمسالك والدروب فنفرح داخله ونسعد، وأحيانا أخرى يقدمه لنا معقدا ومركبا بلا كوى ولا نجوم تهدي، فنضل داخله ونشقى.

وكذلك الشأن مع الرواية. فالرواية قد تسلم مفاتيح دروبها بسهولة ( النص المنقرئ بلغة بارث)، وتلك هي حالة الغابة البسيطة التي يشقها سبيل واحد يجمع أطرافها ويهدي الزائرين إلى المنفذ "الصحيح". وقد تتمنع وتستعصي على الضبط، وتنصب لقارئها الأفخاخ والمتاريس والكمائن، وتلك هي حالة الغابة اللِفة، وحالة الأدغال التي يتيه داخلها الزائر ويضل سبيله وقد لا يخرج منها أبدا.

وذلك ما يحدد طبيعة القراءة ودورها في تحيين المضمر والكامن والمبهم والغامض والمسكوت عنه. فالقارئ ليس مدعوا إلى قراءة الرواية وتحديد معناها أو معانيها فحسب، إنه مطالب أيضا وأساسا بالكشف عن استراتيجيات الذات التي تقف وراء هذا البناء التخييلي الذي يعج بالحقائق والأوهام، وتحديد موقعه داخلها، فهذه الاستراتيجيات ذاتها لا تبنى خارج الذات التي تستهلك النص وتستوعب دلالاته.

وتلكم هي حالة كل تلقي، فالنص السردي ( كل النصوص في واقع الأمر ) يستند من أجل بناء سياقاته الخاصة، إلى عمليات انتقاء لإمكانات يوفرها المخزون الدلالي الذي يفرزه السلوك الانساني، ولا وجود لنص خارج هذا المخزون أو ضده أو في انفصال عنه. إلا أن هذا الانتقاء ليس أحاديا وبسيطا، فهو يشير من جهة إلى الكون الدلالي الذي تم اقتطاعه من النسق الدلالي الشامل ليقدم كبرنامج للفعل والتخطيب وفعل التلقي ( ما يسميه إيكو " الموسوعة"). ويشير من جهة ثانية إلى العالم المخصوص الذي تبنيه الرواية في انفصال عن العوالم الواقعية، فلا يمكن للعالم التخييلي أن يستقل بذاته إلا إذا بنى عوالمه استنادا إلى قوانينه لا إلى قوانين الواقع.

وبناء عليه، فإن النص يُبنى كعالم مغلق ومكتف بذاته من حيث التحديد الدلالي المسبق الذي يسقطه المؤلف، وهذا ما يقود إيكو ( وغيره) إلى الحديث عن مؤلف نموذجي يعد استراتيجية سردية عنها يفيض النص وإليها يستند القارئ النموذجي من أجل ولوج الغابة. ولكنه يبنى أيضا كعالم مفتوح على محيطه لارتباطه الوثيق بقارئ لا يذعن دائما لأهواء المؤلف النموذجي، فهذا القارئ لا يأتي إلى النص خالي الذهن يبحث عن معنى مودع في النص في استقلال عن محافل التلقي. فالمعنى يُبنى انطلاقا من تجميع للوحدات الدلالية والكشف عن سياقاتها الجديدة وتفاعلاتها مع الذات القارئة.

وتلك هي المنطلقات الأولية التي يستند إليها إيكو في حديثه السحري عن الرواية ومكوناتها وعن القارئ وأنواعه، والمؤلف واستراتيجياته التي لا تنتهي. فكما هي الغابة كثيفة وتعج بالمسالك والدروب والأماكن المظلمة والموحشة، كذلك تكون الرواية، قد نحث الخطى داخلها رغبة في الخروج السريع منها، فنصف ما نصادف بسرعة كأننا نجري في اتجاه أقرب كوة ننسل منها إلى خارج الغابة، وقد نتمهل ونتأمل المسالك والأشجار وأوكار الطيور والآثار التي تتركها الأفاعي والحيوانات الضارية بحثا عن " ليلى والذئب" و" الغولة" وعن " عائشة الرماد" وغيرهن من الكائنات التي استوطنت وجداننا وصاغت أحلام طفولتنا، وكأننا نرغب في البقاء داخل هذه الغابة إلى الأبد. وقد تفتح الغابة أذرعها لأحلامنا ونتماهى مع أجوائها ومسالكها ونرى فيها بديلا عن حياة روتينية ومعادة ومكرورة.

ومع ذلك فإن هذه الإشارات المتعددة إلى مفاهيم نظرية من كل المشارب لا تجعل هذا الكتاب كتابا في نظرية الرواية. فلهذا الكتاب طابع خاص. فهو يتحدث عن أسرارالرواية وقضاياها لكنه لا يقدم لنا نظرية في قراءة الرواية، يتحدث عن القارئ والمؤلف والتلقي ولكنه لا يشير علينا بنظرية في التلقي، ويتحدث عن الأكوان الدلالية إلا أنه لا يتحدث عن التأويل وآلياته وسبله وأنماطه. إنه يكتفي بالتأمل، يتأمل البناء الروائي في كليته، ويتأمل الزمن في ذاته والقراءة من حيث موقعها في التلذذ بسحر عوالم التخييل، بل يصل به الأمر إلى تخصيص فصل كامل للحديث عن زقاق يشير إليه ألكسندر دوما في روايته " الفرسان الثلاثة" ولا وجود له في باريس الحقيقية، إنه يفعل ذلك لكي يخبرنا فقط  أن وجود هذا الزقاق شبيه بوجود الغواصة البريطانية التي خلقتها الصحافة الأرجنتينية خلقا، وعندما نشير إلى شيء موصوف له موقع في خطاطة من خطاطات إدراكنا فإنه يتحول إلى كيان موجود فعلا، والخلاصة > أننا ميالون إلى إعطاء شكل للحياة من خلال الخطاطات السردية (...)  ففي كل إثبات يشتمل على أسماء أعلام أو على أوصاف، نفترض أن المتلقي سيعتقد اعتقادا راسخا بوجود هذه الكائنات التي ستصدر عنها أشياء. فإذا قال لي شخص إن مجيئه إلى الموعد تعذر لأن امرأته أصيبت بوعكة صحية مفاجئة، فإن رد فعلي المباشر سيكون هو الاعتقاد في وجود هذه الزوجة(...) إن الأمر يتعلق بميل طبيعي عند كل الكائنات البشرية السوية< .

وعلى هذا الأساس، فإن السرد يساعدنا على إدراج تجربتنا الفردية المحدودة في الزمان وفي المكان ضمن ذاكرة أوسع وأشمل هي ذاكرة الإنسانية جمعاء من خلال تلك القدرة التي نتوفر عليها والتي تساعدنا على استيعاب عوالم تنتمي إلى ثقافات أخرى لا نعرف عنها في غالب الأحيان أي شيء. > إن هذا التداخل بين الذاكرتين الفردية والجماعية يطيل من عمرنا، حتى وإن كان ذلك يتم بشكل عكسي، إنه يلوح لنا بوعد الخلود. إن التمتع بهذه الذاكرة الجماعية ( من خلال الحكايات القديمة أو من خلال الكتب ) يضعنا تقريبا في الوضع الذي عاشه بورخيص في ماقبل النقطة السحرية ل"أليف" (Aleph) : يمكن، ونحن نحيى، أن نشعر، بطريقة ما، بنفس شعور نابليون وهو يتعرض للريح المفاجئة التي تهب من المحيط الأطلسي في جزيرة القديسة هلين، ونستمتع مع هنري الخامس بنصره في أزنكور، ونتعذب مع سيزار من خيانة بروتيس<.

 

ولهذا السبب فإن هذا الكتاب لا يتوجه إلى القراء المتخصصين فحسب، بل يتوجه إلى كل القراء العاديين الذين تسحرهم العوالم السردية بإمكاناتها التخييلية المتعددة دون أن يعوا مصدر السحر وتأثيره. فالكتاب ليس مثقلا بالمفاهيم والإحالات النظرية، ولكنه يعج بالخلاصات التي تشبه خلاصات " الحكماء " و"المجربين" الذين خبروا الحياة وأدركوا أسرارها وصاغوها على شكل أحكام توجيهية قد لا تفسر لنا النص المخصوص ولكنها تعلمنا كيف نلج العوالم السردية، وكيف نتحاشى الكمائن والمتاريس، وكيف نتعلم التجوال داخل الغابات التي لا تصفر أوراقها ولا تذبل الأعشاب التي تغطي جذوع أشجارها. إنه يقدم لنا قراءة عاشق، والعاشق هو الذي يعرف كيف تسحره متاهات النص السردي، لأنه لا يبحث عن اللذة في المعنى بل يجدها في المتاهات التي يفتحها هذا المعنى.

 

 
 
معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

 مؤلفــات بطاقـة تعريـف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال  مواقـــع  خزانات الموقـع  صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

موقع سعيد بنگراد - تاريخ الإنشاء: نونبر 2003