معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

مؤلفــات بطاقة تعــريف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال   مواقـــع  خزانات الموقـع صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

 

سعيد بنگـراد

السرد والايديولوجيا وعالم الممكنات

 

1- السنن : محاولة تحديد

إن أي محاولة للقيام بتحديد نمط وجود الايديولوجيا ونمط اشتغالها داخل النصوص السردية، يمر عبر تحديد مفهوم السنن (code). ذلك أن عملية التسنين في حد ذاتها تتم من خلال ما يفرزه السلوك اليومي من أشكال للوجود تتجاوز، في نمط وجودها، النسخ المتحققة. وهذه الأشكال لا تدرك إلا من خلال موقعها ضمن السلوك المتحقق من جهة وضمن الوجود المجرد كإمكانات للتحقق من جهة ثانية.

وعلى هذا الأساس، فإن كل مقاربة للجهاز الايديولوجي أوالجهازالسردي، يقتضي تحديد الأشكال الأولية التي تمكن من قراءة العنصرالمتحقق. فإذا كان التعرف على الكون السردي يتم من خلال وجود أشكال كونية ( معترف بها أوتواضع الناس عليها - گريماص-) تفسرالكون المتحقق، فإن الايديولوجيا، بصفتها جهازا مجسدا أو بصفتها جهازا نظريا عاما، تمتلك وجودا قبليا على شكل حالة انتظار عند المتلقي. من هنا ستكون البداية هي تحديد مفهوم السنن وتحديد موقعه ونمط اشتغاله ضمن جهاز الايديولوجيا وضمن جهازالفعل السردي.

 يتحدد السنن في مقاربة أولى وعامة بصفته تكثيفا للممارسة الإنسانية بكل أبعادها ومستوياتها، سواء تعلق الأمر بالسلوك العملي وطقوسه المتنوعة، أم تعلق بالممارسة الذهنية، أي المجال الخاص بالحكم على الأشياء والأفعال. ذلك أن الفعل المتكرر في الزمان وفي الفضاء يجنح، كنتيجة منطقية لهذا التكرار، إلى تقمص مظهر العمومية والتجريد لينفصل، تبعا لذلك، عن المحافل الانسانية التي أنتجته ويتحول إلى سلطة تتحرك خارج الزمن- أوتوهمنا بذلك- وهوبهذا يشكل قوة لا يحد من جبروتها أي سلطان.

انطلاقا من هذا التحديد، فإن السنن ليس شيئا آخر سوى نموذج سلوكي مجرد يحتوي في داخله على سلسلة لا متناهية من الأشكال، وتمثل هذه الأشكال مجموعة كبيرة من إمكانات التحقق. وبعبارة أخرى، إنه الخزان الذي يغني السلوك الفردي الخاص والملموس ويمنحه مصداقيته من خلال قياس درجة تطابقه مع النموذج الأصل.

إن السنن بهذا المفهوم قريب جدا من مفهوم العادة بمعناها العريض والواسع، مادامت العادة هي المواضعة والعرف والتعود على القيام بفعل معين ضمن دائرة ثقافية معينة.

إن هذا التعريف يحتاج إلى تدقيق أكبر. فإذا كانت الممارسة الإنسانية بأبعادها المتعددة غيرقابلة للاختزال في شكل وجودي واحد، فإن هذا سيدفعنا إلى البحث عن الاشكال المتعددة للتسنين. ذلك أن هذه الممارسة تقوم بتحديد سلسلة من "المناطق"، وهذه المناطق تملك '' استقلالية'' في الوجود، وفي الاشتغال وفي نمط التمظهر. وهكذا، لا يمكن الحديث عن سنن واحد، بل يجب الحديث عن أسنن متعددة تغطي النشاط الإنساني في مجمله.

ومن هذه الزاوية يقدم بارث مثالا رائعا حول تعددية المعنى في علاقته بالسنن الذي يتحكم في ولادة هذا المعنى ونموه. فاذا كان العنصر الواحد يمكن أن يكتسب معاني متعددة انطلاقا من انضوائه تحت لواء هذا السجل الثقافي أوذاك، فإن هذه الحقيقة هي التي تسمح لنا بالحديث عن وجود مناطق متعددة تغطيها سلسلة من الأسنن القابلة لتوليد عدد هائل من الأفعال والمظاهرالسلوكية أو ردود الأفعال (خلق حالة انتظار عند المتلقي). وتعد هذه السلوكات وهذه الافعال نسخا محكومة بوجود الاصل المولد ( فحتى في حالة الحديث عن انزياح ما عن النموذج، فإن هذا الانزياح لا يتم إلا في علاقته بالنموذج الذي يقاس عليه هذا الانزياح (.

انطلاقا من هذه الملاحظة، فإن بارث ينظر إلى الممارسة الانسانية- ضمن التجربة الفنية، وربما ضمن كل التجارب- من زاوية تصنف كل ما يصدرعن الانسان ضمن أسنن تفسر وتبررهذا الذي يصدرعنه. وقد قدم لنا لائحة تضم العديد من الاسنن التي حاول من خلالها "فهم " وقراءة نص سردي ( الأمر يتعلق بقصة قصيرة لبلزاك Sarrazine ) (1).إن المسألة تعود في البداية إلى ما يسميه بارث بالسنن الهرمنطيقي ( code hermeunetique) ويعرفه بأنه > مجموع الوحدات التي تقوم، وفق أساليب متنوعة، بصياغة سؤال والإجابة عنه، وهو أيضا مجموع الوحدات التي تقوم إما بتهييء السؤال وإما بتأجيل الجواب< (2) .ثم يتـحدث بعـد ذلك عن المـعنم (3)( أصغر وحدة دالة حسب علم الدلالة البنيوي) ويتعامل مع هذا العنصرالدلالي باعتباره سننا أيضا. ويتحدد هذا العنصر عند بارث من خلال ما تحيل عليه الوحدة النصية (lexie وحدات نصية قابلة للقراءة من خلال وجود وحدة معنوية) المراد دراستها.(4)  ثم يتناول الرمز ويحدده كمهد لسلوكات ممكنة، لينتهي إلى تحديد حقل يطلق عليه السنن الفعلي (proareatique) وهو سنن يعين - حسب بارث- مجموع الافعال الصادرة عن شخصية ما .(5) (التسمية مأخوذة من أرسطو الذي يربط  praxis بـ proairésis ).

إن مجموع هذه الأسنن وكذا الصياغات التي تعطى لها هي التي قادت بارث إلى تعريف السنن بالعبارات التالية > إن السنن هو وعد بإحالة، إنه بنيات من سراب. إننا لا نعرف عنه إلا نقطة انطلاقه ونقطة عودته. إن الوحدات الناتجة عن السنن ( تلك التي نقوم باحصائها ) تشكل في حد ذاتها مخارج للنصوص، إنها سمة ونقطة للانزياح المحتمل عن السجل ( إن الخطف يحيل على كل عمليات الخطف السابقة). إنها شظايا لهذا الشيء الذي سبق وأن قُرأ، و رُؤي وعيش .إن السنن هو الاثار التي تدل على شيء سابق ((6

وإذا كان السنن بهذا المعنى هو المعرفة السابقة التي تحدد:

-نمط سلوكنا وكل ردود الافعال الممكنة،

-نمط إدراكنا للاشياء،

- قياس درجة التطابق أوالانزياح عن النموذج "الاصل "،

فإنه يتجاوزحدود المكتوب، أي كا ما يعود إلى عملية تفكيك  رموزالنص الذي يتوسل باللغة الطبيعية، لبناء معادل فني لتجربة "واقعية "، إنه يحكم أيضا طريقة إدراكنا للأشياءالخارجية سواء تعلق الأمر بالأشياء كما هي معطاة في الطبيعة ، أي كما نعاينها من خلال الادراك المحسوس، أوتعلق الأمر بالنماذج الفنية التي تعيد إنتاج هذه الاشياء وفق أسنن أخرى غيرالأسنن الطبيعية (الصور، التماثيل، وكل العلامات البصرية الاخرى (.

إن نظام الاشياء ليس معطى بطريقة مباشرة وعادية. إنه بناء تقوم به الذات الفردية والذات الجماعية على حد سواء. إنها تمر عبرالـ "نحن" المدركة والمؤسسة للمعنى. إن هذه الـ"نحن" تتحول إلى كيان مدرك، أي تتحول إلى محفل أعلى للمعنى: إنها تتحكم في إدراكنا للعالم، كما تنتقي وتنظم مجموع الابستيمات التي "تتوارى" خلف الموضوعات الخاصة-قصائد، لوحات، حكايات- نتيجة تداخل الدوال.<(7)، إنها، بعبارة أخرى، ما يتحكم في الذوق وقياسالأحجام والمسافات ودلالة الألوان ومجموع الأبعاد الرمزية التي نمنحها للأشياء.

وبعبارة أخرى، فإن الأشياء التي تُرى وتُدرك بالعين، أي كل ما يشتغل كعلامات أيقونية، لا ينظرإليها في حرفيتها بل من خلال انضوائها داخل هذا النسق أوذاك. وبناء عليه، فإن العلامات الايقونية تشتغل، رغم كونها محكومة - ظاهريا على الأقل - بمبدأ التشابه، وفق سنن أيقوني يحدد درجة هذا التشابه ويحد من سلطته، ومن ثم يحدد نمط إنتاج وإعادة إنتاج عناصر التجربة الواقعية. فإدراك الواقع عبرالعلامة الايقونية لا يتم انطلاقا مما تشتمل عليه هذه العلامة من عناصرقادرة على إحالتنا على تجربة واقعية، بل يتم عبر معرفة سابقة؛ إنها معرفة تمكننا من مقابلة بنيتين: بنية إدراكية متولدة عما توفره العلامة الايقونية كتمثيل ذهني عام، وبنية واقعية هي منطلق التمثيل وأصله. فكيف تتم عملية المقابلة هاته؟ وبعبارة أخرى كيف يمكن استخراج بنية واقعية من ثنايا تجربة تنتمي إلى العالم المخيالي ؟

يختصرإيكو هذه الاشكالية في عنصر واحد هو "سنن التعرف"(code de reconnaissance). فلا يمكن الحديث عن إدراك، ضمن عالم العلامات الايقونية، إلا انطلاقا من وجود معرفة سابقة تمكننا من تأويل هذا العنصرأوذاك وفق انتمائه لهذه الدائرة الثقافية أوتلك. فحسب إيكو >هناك سنن أيقوني يقيم علاقة دلالية بين علامة طباعية وبين مدلول إدراكي مسنن بشكل سابق: هناك علاقة بين الوحدة المميزة داخل السنن الطباعي وبين الوحدة المميزة داخل سنن معنمي(code sémique) تابع لعملية تسنين سابقة لتجربة مدركة <(8)

إن التداخل بين البنيتين يتم انطلاقا من عملية تسنينية قائمة على خلق بنية مكونة من عناصر تنتمي إلى تجربتين مختلفتين: تجربة واقعية وقد اختصرت في عناصرها المميزة، وتجربة فنية تعيد بناء هذه العناصر وفق قوانينها الخاصة. وبعبارة أخرى، هناك معادلة بين ما هو مميز داخل التجربة الواقعية وبين ما هو مميزداخل التجربة المخيالية، وذلك وفق وجود سنن للتعرف.

وليس بإمكان التجربة الفنية أن تحيد عن هذه القوانين. فهي محكومة أيضا بمبدإ التسنين من حيث عملية الابداع ومن حيث عملية التلقي. فمن الناحية الأولى (لحظة الابداع )، فإن إعادة إنتاج التجربة الواقعية، عبرالعلامات الايقونية، يتم وفق سلسلة من الأسنن التي تحدد لكل عنصر منزوع من التجربة الواقعية موقعه ضمن البنية التي تشتغل كتجربة فنية. وهذه الأسنن هي ما يتحكم، من الناحية الثانية، في عملية التلقي ذاتها. ذلك أن محاولة فك رموز ما يشكل مضمون البناء الفني ككل يحتاج إلى استحضار المعرفة التي تمت وفقها عملية التسنين.> إن ما يجعلنا ننظر إلى حل تقني ما كتمثيل لتجربة واقعية هو وجود نسق انتظار في داخلنا. وهذا النسق هوالذي يسمح لنا بالولوج إلى عالم العلامات الخاص بالفنان<.(9)

في ضوء هذه الملاحظات، يمكن القول إن التسنين الذي يحكم عالم العلامات الأيقونية هو نفس التسنين الذي يحكم التجربة الانسانية ككل: فكل محاولة لإدراك وتحديد كُنه ومضمون علامة أيقونية ما يقتضي إلماما بمعرفة سابقة  مفتوحة على عوالم متعددة، وهذه المعرفة هي التي تمكن الذات المتلقية من فك رموز هذه العلامة وربطها بالتجربة الواقعية التي تشيرإليها.

ونفس الشيء يصدق على العلامات الأمارية ( signe indiciel ) والعلامات الرمزية. فمبدأ التجاور الذي يحكم في الحالة العلاقة بين الدال والمدلول قائم هو الآخر على وجود معرفة سابقة تسمح للذات المؤولة برد أمارة ما إلى الشيء الذي تحيل عليه ( إن آثار أقدام حيوان ما تؤول كذلك إذا كنا نعرف بشكل سابق هذا الحيوان (.

وفي حالة العلامة الرمزية، فإن العلاقة بين الدال الرمزي والمدلول الرمزي تعود في أغلب الحالات إلى المواضعة ( في مصر يرمز اللون الاسود إلى الحداد في حين أن ما يرمز إلي الحداد في المغرب، وربما في بعض المناطق فقط، هو اللون الابيض (.

إن التجربة الانسانية، بهذا المعني تتميز بالكلية. فإذا كانت هذه التجربة تقدم نفسها على شكل شاشة تتزاحم داخلها الانساق وكل نسق يحيل على معرفة خاصة (خاصة بالشخص الشارح وخاصة بالفترة التاريخية التي أنتجتها، وخاصة بالمجموعة البشرية التي تتحدد عبرها ) فإنها أيضا تدرك ككلية ( ما يخلق الانسجام بين مكونات الفعل والسلوك والقيم والاخلاق (.

من هنا يمكن الحديث عن نسق دلالي شامل ( إيكو ) يحتوي على مجموعة كبيرة من الأسنن، منها ما ينتمي إلى التجربة الفنية بكل مكوناتها، ومنها ما ينتمي إلى الحياة الواقعية في حرفيتها ومباشريتها.

إن هذا التنوع هوالذي دفع كلودشابرول ( chabrol Claude ) إلى رصد ثلاثة تعاريف للسنن وكل تعريف من هذه التعاريف يغطي نشاطا إنسانيا معينا:

1- التعريف الأول: إن مفهوم السنن يستعمل كمرادف لـ " حقل"، ويتعلق الأمر في هذه الحالة بتجميع '' للعلامات '' وفق مبادئ جوهرية وليس شكلية، مثال ذلك كل مايدل على السكن، التغذية، الاقتصاد، القرابة (الأسنن الثقافية كما يستعملها بارث (.

2- التعريف الثاني :إن السنن، في هذه الحالة يشير إلى نسق من التقابلات الشكلية للحدود ( les termes ) أوالقواعد الشكلية بدون مضمون لكسيمي محدد. وهذه الأسْنن تمكن من الكشف عن الجمل أوالنصوص ( عندما تتم عملية استبدال المتغيرات بالثوابت ). ويدخل ضمن هذا التحديد الأسنن الفعلية، الأسنن البلاغية أوالميتالغوية كما يتصورها بارث. وكما يدخل ضمنه أيضا تصور گريماص للدلالة الأصولية والنحو الأصولي ( كتابه  ( du sens

3- التعريف الثالث: يتحدد السنن هنا كتأليف لصور أوسمات دلالية (معانم ) تمكن من إعطاء وصف بنيوي للبعد الدلالي(السردي) داخل النص. ويتم هذا الوصف بعد إنجازالاستثمار اللكسيمي. ((10

ويمكن إضافة تعريف رابع: ويتعلق الأمر بمفهوم المؤول كما صاغه وبلوره بورس. فإذا كان المؤول مرتبطا بفكرة القانون والضرورة، وبفكرة التوسط الالزامي بين عنصرين، (11)، فإنه يعد من ناحية ثانية ضمانة على وجود كل حواربيإنساني. ذلك أن كل حوار يقتضي أساسا مشتركا بين المتحاورين ( أوعلى الأقل معروفا عند الأطراف المتحاورة ). فإذا كان كل مؤول يشتغل كقاعدة عامة يتم عبرها إنتاج الدلالة وتداولها، فإنه من هذه الزاوية يشتغل كسنن يكثف داخله الأشكال العامة للسلوك الإنساني( السلوك اللساني، السلوك الإجتماعي ...) القابلة للتحقق في ممارسات خاصة ومحددة داخل الزمان وداخل الفضاء. ولقد حاول روبير مارتي ( R Marty) أن يكشف عن وجود علاقة بين السنن الثقافي ككل وبين مقولة المؤول معلنا عن وجود تقارب كبير بين المقولتين، إلا أن الاختلاف بينهما يكمن في أن المؤول يشكل ما يمكن أن نطلق عليه "الكوني المحسوس" ( un universel concret) في حين يتحدد السنن الثقافي كـ "كوني مجرد "( un universel abstrait) أي كيانا مفصولا عن لحظة تحققه.(12)

إن هذه التعاريف مجتمعة تؤكد حقيقة واحدة مفادها أن النشاط الإنساني ينتج سلسلة من القواعد والضرورات التي تسمح له بالتواصل وخلق حوار بيإنساني. وهذا الإنتاج يتم وفق وجود مناطق متعددة تعكس غنى النشاط الإنساني، وتنوع هذه المناطق هو الذي يفسر تنوع الأسنن وغناها.

بناءعلى هذا، يمكن الحديث عن وجود نسق دلالي شامل يولد(13) ( ضمن حالة إنسانية محددة ) نموذجا سلوكيا عاما، ووجود هذا النموذج ممكن فقط من خلال وجود أسنن متعددة تخبر عنه وتغنيه. وبإمكاننا، انطلاقا من كل سنن، الحصول على أسنن فرعية تشرح نمط اشتغال كل سنن على حدة، لنصل في النهاية إلى تحديد لحظة التجلي. إن التجلي في حد ذاته يشتغل كخرق للمتواصل ( أي انبثاقا من الكتلة الفاقدة لأي شكل من أشكال البنْينة) داخل هذا السنن، وذلك من خلال صبه في فعل معين قابل للمراقبة. وهذا الفعل نفسه هوالذي يحدد ما يخبر عن أشكال التجلي، أي عنصري الزمان والمكان. ويمكن تحديد سلسلة الارتباطات هاته في الشكل التالي :

حالة حضارية ما

) النسق الدلالي الشامل(

 

) ايكو(

 

نموذج سلوكي

يخبر عن الحالة الحضارية (

 

 

                     سنن 1                 سنن 2                 سنن 3

                

 

                 سنن فرعي    س فرعي    س فرعي   س فرعي   س فرعي

                           

لحظة التجلي

)                           السلوك الفردي المتحقق(

ومع ذلك، يجب ألا ننظر إلى هذه الترسيمة على أنها تحديد كلي وإحاطة شاملة بكامل مكونات التجربة الانسانية.إن الامر يتعلق بترسيمة تقريبية، تحاول الإمساك بالثابت والعام والمميز من خلال العرضي والزائل والمتغير. إن التأثيرالمتبادل بين هذين المستويين هوالذي يغني ويطورالترسيمة ببعديها التجريدي والمحسوس.

 

2- محددات السنن

إن التعريفات السابقة، بمضامينها وأشكالها المتنوعة، هي أداتنا في تحديد نمطين من التسنين يمسان الايديولوجيا (المضمون الخاضع للصياغات المتعددة ) والنشاط  السردي ( أي أدوات  عرض المادة المضمونية ). يعود الأول إلى التسنين الإيديولوجي كما يبدو من خلال إنتاج النص، أي كمكون من مكونات النص( النص السردي أساسا). ولايعود الأمرهنا إلى الكشف عن محتوى إيديولوجي معطى بشكل صريح أوضمني داخل نص ما، بل إن الامر يخص تحديد نمط وجود هذه الإيديولوجيا لاكجهاز مفهومي عام ومجرد، بل باعتبارها سلسلة من السلوكات البسيطة التي تتميز "ببديهيتها"، لأنها تعد جزءا من إرغامات النشاط اليومي. وهذا ما يجعلها، في غالب الاحيان، تنفلت من الدرس والمراقبة. ومن هذا المنظور، فإن هدفنا سيكون هوالوصول إلى تحديد نمط تمفصل الجهازالمفهومي في الجزئيات السلوكية التي يصفها النص. وبعبارة أخرى، فإن دراستنا ستتوجه نحو تحديد كيفية إنتاج سلوك معين لايديولوجيا ما، وكيف أن الصياغة الوصفية البسيطة تحمل في داخلها مظهرا ايديولوجيا. وبعبارة أخرى، محاولة النظر إلى السند "الشكلي" باعتباره منتج الايديولوجيا وحاملها.

إن هذه الجزئيات تعود في الأصل إلى وجود كون دلالي مفهومي يتميز في مرحلة أولى بوجود سلسلة من العلاقات التي تخبر عن الابستيمي البشري ( épistémé) (14) ( كل مجتمع ينتج وينظم مضامينه بطريقته الخاصة )، ويتميز في مرحلة ثانية بوجود عمليات، أي وجود فعل تشخيصي يتخذ من المادة المضمونية قاعدة له نحو إرساء أسس ننطلق منها نحوإعطاء صيغة تصويرية للحدود المفهومية:

 

            الحدود المفهومية                                 التشخيص

 

               الخير (م) الشر                 مجموع التسنينات القابلة لتجسيد هذه الحدود

               الصدق (م) الكذب                      

               الامانة (م) الخيانة

إن هذا الطابع لا يعيد إنتاج هذه المضامين، كما قد يتبادرإلى الذهن لأول وهلة، بل يقوم بإغنائها وتعديلها ومنحها أشكالا جديدة للوجود. فإذا كانت هذه الجزئيات وليدة المضمون المجرد، فإنها تقوم بدورها، وبطريقتها الخاصة، بإغناء هذه المادة. إن نمط الانتقال من المادة المضمونية إلى الجزئيات ( أشكال التجلي) هو ما يحدد فعلا ما نطلق عليه الايديولوجيا.

إن هذه الملاحظات ذاتها هي التي ستقودنا إلى النظر في النص بصفته جهازا يخون نفسه بنفسه. ذلك أن عملية من هذا النوع تقتضي تحديد الهوة الفاصلة بين '' الأنا '' الكبرى (السارد بصفته كونا يفيض عنه النص) وبين مجموع '' الأنات '' المتحركة داخل هذا النص.

ويتعلق التسنين الثاني بالتسنين السردي. والمراد بالتسنين السردي، استنادا إلى التعريف الثاني الذي يقدمه كلود شابرول، هو مجموع القواعد العامة التي تحدد الأساس الفعلي لإنتاج نص سردي ما. وينظرإلى هذه العملية من زاويتين :

1- الزاوية الاولى تعود الى المستوى الملفوظي ( niveau énoncif )، (أي كل ما يعود إلى القصة باعتبارها مجموعة من الاحداث المترابطة فيما بينها ) حيث إن بناء نص ما، معبرا عن كون دلالي ما، يستند إلى القواعد التي يفترضها فعل القص كنشاط إنساني عام أنتج، عبرتاريخه الطويل، أشكالا كونية تشتغل كتحديد لكُنه النص وجوهره، كما تشتغل كإرغامات تحدد له اتجاهاته ومصائره بشكل مسبق (التمييز مثلا بين الحكايات الشعبية والرواية المعاصرة (.

وفي هذا المجال يمكن الحديث عن مجموعة من الترسيمات التي حاولت تحديد الأساس الكوني العام الذي تتولد عنه كل القصص. ويمكن الحديث في هذا المجال عن ترسيمة پروپ وعن ترسيمة گريماص وكذا عن ترسيمة ماندلير (Mandler) (15) وترسيمة ستين وگلين ( Stein, Glenn ) ( 16)       

ورغم أن هذه الترسيمات تبلورت انطلاقا من جهات نظر متعددة ومن أسس معرفية مختلفة ( بعضها يعود إلى علم النفس كترسيمة ماندلير وترسيمة ستين وگلين مثلا أي بنيت انطلاقا من تصور يحاول رصد وضبط الميكانيزمات الخاصة بالبناء وبالتذكر) فإنها تمدنا بمعرفة هامة حول تشكل النص القصصي انطلاقا من عمليات مشتركة بين القاص والمستمع للقصة. لقد حاولت " هذه الترسيمات بلورة نموذج مجرد يعود إلى القصة كمنتوج ويشتمل على المقولات والقواعد الخاصة بتنظيمها الداخلي"(17). وفي جميع الحالات فإننا نؤكد وجود "قوالب جاهزة وعامة" تحدد للفعل القصصي مضمونه بشكل سابق.

2- أما الزاوية الثانية فتعود إلى المستوي التلفظي (  niveau énonciatif) حيث إن بناء نص سردي ما لايقوم على أساس وجود مادة قصصية جاهزة يكفى تقديمها إلى القارئ في طابعها الغفل لكي نتحدث عن أثر فني. إن الأمر على خلاف ذلك . فبناء نص سردي ما يقوم على أساس وجود أداة توسطية تجعل من المادة القصصية لاتدل من خلال مضمونها بل من خلال التشكيل الذي تخضع له، وعندها فقط يمكن الحديث عن شكل فني. فالتحول من القصة إلى النص السردي يقتضي استحضار سلسلة من العمليات التي تقوم بتكسير"الطابع المتصل" للمادة القصصية وتقدمها وفق صياغة خاصة هي ما يشكل، في نهاية الأمر، الأثرالجمالي. فقد يحدث أن لاتمتلك القصة على مستوى محتواها الحدثي أي تأثير، إلا أن طريقة بنائها وطريقة توزيع أحداثها وزمانها وفضائها وبناء شخصياتها يجعل منها نصا مولدا لسلسة من الأثار الجمالية.

استنادا إلى هذا، فإن " أنا " الفعل السردي ( أداة التنصيص الأولى التي يفيض عنها الكون القيمي) كتعبير مطلق عن الذاتية ( أويبدو كذلك على الأقل)، تعتبرفي جوهرها، ورغم مظهرها هذا، أداة مسننة بشكل سابق. فالسلسلة الدالة هي أساس تشكل "الانا". ذلك أن اللغة سابقة عنا ومحددة لكياننا ( Lacan)، (18) وبناء عليه، '' فـ "الانا ''، رغم مظهرها الذاتي، تتحرك وسط سلسلة من الإرغامات التي تقلص من حجم هذه الذاتية وتدرجها ضمن سياق يتحكم في تشكلها ويتحكم في نمط إنتاجها لدلالة ما ( بورس كان يتحدث عن '' الأنا '' باعتبارها النوع الذي تبلوره الثقافة لكل "الأنات '' الممكنة)(19) '' فالذاتية هي صوت، ولكنها في نفس الوقت أداة لنقل كل ما هو جماعي. '' (20)

من هنا، فإن إنتاج أثر دلالي ما ( إيديولوجي ) لا يعود إلى المدلول ككيان مكتف بذاته، بل يعود إلى الصياغة التي تعطى له. وبعبارة أخرى فإن الملفوظ لايستنفد كامل إمكاناته الدلالية إلا من خلال الآثارالتي تتركها الذات المتلفظة لحظة إنتاجها لهذا الملفوظ، فالتمثيل (إعطاء معادل لغوي لما هو غيرلغوي) ليس فعلا محايدا وبريئا. إن كل تمثيل هو تأويل، ولا يمكن تمثيل نفس الحدث مرتين بنفس الطريقة، إن كل صياغة لحدث ما إنما هي صياغة فريدة لا يعاد إنتاجها بل تدرك باعتبارها نسخة تندرج ضمن نموذج يجعلها قابلة للإدراك. إن الصفحات الآتية سنخصصها لتحديد وتوضيح هذه الملاحظات .

 

3 - النص السردي وعالم الممكنات

يقترح توماس پافيل  Thomas Pavel، في معرض حديثه عن كون التخييل ( univers de la fiction ) (21) كما يُصاغ فنيا ويُصب داخل قوالب تحدد كأنساق فنية تحتوي على تجارب إنسانية متنوعة، الانطلاق من تصورأولي للنشاط التأويلي باعتباره فعلا يرافق فعل الابداع وفعل التلقي. ويسوق تصورا لكريبل ( kriple) الذي ينظر إلى > البنية التأويلية باعتبارها بناء منطقيا يــكمن في وجود مجموع "ك" ووجود عنصر محدد ( ج ) ينتمي إلى المجـموع "ك" وكذا وجود علاقة "ع".<( 22) .

وعلى هذا الأساس، فإن تداول المعنى وممارسة التأويل يمر عبرالاقطاب الثلاثة المحددة لكل تجربة إنسانية سواء تعلق الامر ببعدها الفعلي، أي كل الافعال التي تحكمها قوانين التجربة المحسوسة. أوتعلق ببعدها المخيالي أي بالافعال المنفلتة من قوانين التجربة الواقعية. وهكذا فإن > المجموع "ك" يمكن تحديده كمجموع العوالم الممكنة، في حين يتحدد العنصر"ج" كعالم واقــــعي، وتتــحدد العــلاقة "ع" كــرابط بين مجـمـــوع العـــوالم الممـكنة المحــددة في "ك".< (23).

من هنا سنكون أمام تحديد مزدوج :

- فمن جهة لا يتم الامساك بالعالم الممكن (أي تحديد موقع ما لعالم ممكن داخل تصورنا العام للكون) إلا انطلاقا من العالم الواقعي.

- ومن جهة ثانية، نستطيع، انطلاقا من نفس العالم ( العالم الواقعي) تصور وجود عوالم ممكنة بالغة التنوع والتعدد. وكل عالم داخل هذه العوالم قابل لأن يولد مجموعات فرعية يتم الامساك بها من خلال المجموع المكون للعالم الممكن .> فالنسق "ك"، حسب هذا التصور، سينقسم إلى نسقين فرعيين: النسق الفرعي ك'المحدد للعوالم القابلة للامساك انطلاقا من " ج" والنسق الفرعي ك" المحدد لعوالم غير قابلة للامساك انطلاقا من"ج" < ( 24) .

هناك إذاً عملية تأويل تتم انطلاقا من وجود عالم واقعي نستطيع انطلاقا منه تحديد سلسلة من العوالم الممكنة الوجود انطلاقا من العالم الأول. و>بالإضافة إلى هذا، فإن التأويل يرفق بنموذج يمنح لكل قضية بسيطة (proposition nucleaire) قيمة حقيقية داخل كل عالم ينتمي إلى هذا النسق <.(25)

فهل يمكن الحديث عن وجود تطابق بين العناصرالتي تؤثث عالم تجربتنا الواقعية وبين العناصر التي يعج بها عالم الممكنات ؟ وبعبارة أخرى هل سيقودنا هذا التداخل بين العالمين إلى القول بمبدأ التطابق، أم إن الأمر يتعلق بعملية قائمة على التشابه ؟. إن الحالة الأولى ستقودنا حتما إلى إلغاء عالم لحساب آخر. فلا داعي للحديث عن عالمين إذا كان العالم الأول هو نسخة من العالم الثاني ويعيد إنتاج عناصره. >فإذا كان من الضروري أن تقوم العوالم الممكنة باستيعاب كل ما يوفره العالم الواقعي، فإن العالم الذي يحتوي كائنات جديدة لا يمكن أن يتحدد كعالم ممكن تجاه العالم الواقعي < (26). في حين سيقودنا القول بالتشابه إلى تحديد صورة مطاطية قابلة للاتساع وقابلة للتجدد لأنها مرتبطة بغنى التجارب الانسانية وتنوعها، بديناميكيتها وتطورها. إنها صورة بالغة الشمولية والاتساع إلى الحد الذي يجعل من " الأنا" المنتجة للخطاب تتخلص من مقتضيات التجربة المباشرة كما يحددها الإدراك الواقعي لكي تبني عوالم مصنوعة من الرغبات والأوهام والحنين إلى شيء لم يوجد بعد أولن يوجد أبدا. إن كل تجربة هي نسخة جديدة تضاف إلى النسخ القديمة وتغنيها.

إن العالم الممكن يشكل، من هذه الزاوية، بناءً يشيد انطلاقا من نقطة إرساء نسميها التجربة الواقعية (العالم الواقعي )، وانطلاقا من هذه التجربة > سيكون لكل عالم ممكن كتابه الخـــــــاص<(27). وإذا كان تراكب العالمين قضية كل لحظة وكل دقيقة في حياة كل فرد ( من يستطيع الادعاء أنه يعيش التجربة الحياتية "كواقع حقيقي كل يوم " )،  فإن هذا التراكب يعد، في مجال الادب، والفن بصفة عامة، أهم ما يميز النشاط القائم على بناء عوالم نقول عنها أنها "خيالية ".

ومع ذلك ، فإن العناصر المؤسسة لعالم الممكنات تقوم، لحظة تحققها داخل كون خاص، بتوجيهنا نحو ما يميز عالم التجربة الواقعية. فالحكايات الموغلة في العجائبية لا تستطيع التخلص من الروابط التي تجعل من هذا الكون المخيالي يدرك انطلاقا من القوانين المفسرة للأفعال الواقعية وليس من الأفعال في حد ذاتها أو من مضامينها. > فعندما أروي قصة p C rouge  ، يقول إيكو، فإنني سأقوم بتأثيث عالمي السردي بعدد محدود من الكائنات ( الصبية، الأم، الجدة ، الذئب، الصياد، كوخان، غابة، بندقية وسلة ) المالكة لعدد محدود من الخصائص. إن بعض هذه الخصائص التي تعود إلى بعض الأشخاص تتم وفق قواعد العالم الذي أنتمي اليه ( تتكون الغابة مثلا في الحكاية من أشجارأيضا)، أما البعض الآخر فلا قيمة له إلا داخل هذا العالم ( أي الحكاية )، مثال ذلك ما يحدث في هذه الحكاية من أن الذئاب تتميز بكونها تمتلك خاصية الكلام، وأن الفتاة والجدة يعودان إلى الحياة بعد أن التهمتهما الذئاب.< (28). وحتي هذه العناصر (كلام الذئاب وعودة الجدة إلى الحياة بعد موتها ) التي لا قيمة لها حسب إيكو، قد تصبح كذلك إذا هي أُولت من جهة نظر رغبة الانسان في تجاوز محدوديته في الفضاء وفي الزمان : لا يمكنه أن يكون هنا وفي مكان آخر في نفس الوقت. وكذلك الامر مع الزمان، فالانسان لا يستطيع أن يعيش فترتين في نفس الوقت.

ورغم ذلك، فإن هذه الخصائص مرتبطة ارتباطا وثيقا بالعالم الواقعي. ذلك  أن إدراكها يتحدد انطلاقا من قوانين هذا العالم الذي يقوم الكون الثاني بخرقها أوإعطاء معادل معاكس لها ( نستطيع أن نتصور كونا مخياليا يحلق فيه الانسان في السماء بأجنحة كالطيور). وفي جميع الحالات، فإن الأمر يتعلق بإعارة متبادلة لمجموعة من الخصائص بين كونين متباينين: الكون الانساني والكون الطبيعي. فإذا كانت الطبيعة تجد لها امتدادا داخل الانسان، فإن الانسان يجد له امتدادا داخل الطبيعة. وهكذا فإن :

-الطائر يتكلم

-الانسان يطير

تفهمان في آن واحد كأنسنة للطبيعة وكطبعنة ( naturalisation) للانسان. فالعناصر التي تخرق القوانين وتتجاوزها هي نفسها التي تؤكد وحدة الكون ومعقوليته: توحد الانسان مع الطبيعة.

من هنا، فإن إمكانية التخلص من مقتضيات العالم الواقعي، وتقديم الـ "أنا" ككيان متحرر من كل الارغامات مسألة لا يمكن تحقيقها أو حتى تصورها. فالخصائص التي تحكم كياننا هي نفسها التي يجب أن تحكم خصائص العالم الممكن. فأن تكون المرأة - مثلا -مريخية أوسماوية أو بحرية أوتنتمي إلى أي فضاء آخر، فإنها ستشبه امرأة "الواقع" من هذه الزاوية أو تلك ( يظهر العفريت في رسوم الاطفال هلى شكل كائن إنساني ولكن بقرنين(.

وبناء عليه، فإن القيم المثبتة على شكل أنساق دلالية، الماثلة أمامنا كأجهزة مراقبة للفعل الانساني الواقعي تُنقل-بهذا القدر أو ذاك، وبهذا الشكل أوذاك - إلى العالم الممكن. وسيكون عالم الدلالة داخل العالم الممكن تسنينا ثانيا لقيم مسننة بشكل سابق داخل "الاجهزة الواقعية".

وإذا سلمنا بأن العالم الواقعي نفسه هو عالم مبني على شكل وحدات ثقافية، وأن ما نطلق عليه "الواقع" هو في نهاية الأمر بناء يتم انطلاقا من وجود شبكة من المصافي التي تتوسط إدراك الفرد للعالم الخارجي، فإن أي بناء للعالم الممكن لن يكون سوى بناء ايديولوجي. إن العالم المسقط كعالم "خرافي" أو"اسطوري " أو"حكائي"، هو صياغة ثقافية للوقائع الفعلية التي تتم داخل ما يطلق عليه إمبرتو إيكو "الموسوعة ". والموسوعة هي جهاز ثقافي يطل منه كل قارئ (كائن ) على عالمه الداخلي وعلى عالمه الخارجي وعلى العوالم التي يبنيها لكي يهرع إليها كلما حاصرته التجربة الواقعية بحدتها وجبروتها وقضائها الذي لا راد له.

 

4- السردي و الإيديولوجي وعالم الممكنات

 

إلى هذا الحد، يمكن القول إن أي بناء للعالم الممكن، في صياغاته المتنوعة، هو تعبير عن موقف إيديولوجي. >فالعالم الممكن يعتبر جزءا من نسق مفهومي لدى شخص معين، ومرتبط بمجموع ترسيماته المفهومية. ووفق هنتيكا (Hintika ) فإن العوالم الممكنة تنقسم الى قسمين: العوالم التي تتطابق مع منطقنا والعوالم التي تختلف معه. وبهذا المعنى، فإن موقفنا من عالم ممكن ما هو "واقعة"ايديولوجية. وما نقصده بـ"الايديولوجي" في هذه الحالة هو "شيء محكوم بموسوعتنا " <.( 29) وإذا كانت الايديولوجيا هي دائما معرفة سابقة، أي معرفة محددة لسلوكنا ومحددة لنوعية ردود أفعالنا، فإن > هذه المعرفة السابقة مبنية بشكل سابق ومُودَعة داخل حقول دلالية، وداخل أنساق لوحدات ثقافية، وتبعا لذلك ، فإنها مثبتة داخل أنساق للقيم<.( 30)

وبما أن النص السردي- وربما كل النصوص الأخرى- يبنى ( على الأقل في التصورات التي ننطلق منها ) انطلاقا من وجود نظام للقيم، فإن إدراكه محكوم بهذا التداخل بين العالمين. فالعالم الذي يصفه النص ينبني ويشيد انطلاقا من وجود تمثيل موسوعي( إيكو) يستوعب داخله كل العناصرالتي تنتجها الحياة، ويشتغل كمعادل ثقافي لعالم التجربة المدركة في أبعادها الحدثية (événementielle). وبعبارة أخرى، فإن الكون النصي لايمكن أن يدرك وأن تفك رموزه إلا من خلال وجود تشابه بين التجربة المؤسسة فنيا ( بنية مخيالية محددة من خلال قوانين الفن) وبين التجربة الفعلية ( بنية واقعية تتحكم فيها قوانين عالم التجربة المحسوسة أي التجربة العادية). إن هذا التشابه هو مايسمح بإمكانية الحديث عن شيء اسمه التواصل بين المبدع والمتلقي، كيفما كانت نوعية هذا التواصل.

وبناء عليه، سنكون أمام معادلة تربط بين عالم الممكنات وبين العالم الواقعي. فإذا كان العالم الواقعي يتحدد كسلسلة من الموجودات التي يمكن التأكد من وجودها، وما يوازي تلك الموجودات من القوانين الضابطة لكل الافعال الانسانية (كل ما ينتمي إلى عالم تجربتنا )، فإن عالم الممكنات، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، لايمكن أن يتحدد إلا باعتباره بناءً ثقافيا. (31) وكل بناء ثقافي هواختصار للتجربة الواقعية وتحويلها إلى نموذج يصفي الأفعال وينزع عنها خصوصيتها وتلوينها الخاص ليحولها إلى حالة عامة. والحالات العامة هي السبيل للتعرف على الحالات الخاصة وفهم مضامينها.

فإذا كانت كل تجربة فردية هي تجربة فريدة ولا يمكن إعادة إنتاجها، فإن التواصل ممكن بفضل وجود نموذج '' يهذب'' و'' يعمم '' هذه التجربة.(32) إن هذا التحديد يشير إلى مستويين مختلفين في تنظيم التجربة الإنسانية:

1 - مستوى بنية النص كشكل مكتف بذاته ومالك لقواعده وقوانينه التي لا يمكن، بأي حال من الأحوال، اختزالها في عملية محاكاة بسيطة للواقع.

2 - مستوى البنية'' الواقعية'' أي مجموع الأشياء التي تطمح إلى اكتساب تمثيل لساني ( احتلال موقع داخل الكون اللساني ).

فإذا كان العنصرالواقعي يتحدد من خلال قدرته على الانتظام داخل كون لساني، فهذا معناه أننا لا نستطيع أن ندرك ما يحتوي عليه الواقع الا من خلال ما يجود  به اللسان ويسمح به. ذلك أن''الواقعي هو كل ماهو قابل للتعيين(...) إن الامر يتعلق في هذه الحالة بترويض لساني للطبيعة'' (33).

إننا إذا أمام ألسَنة للاشياء، والألسنة ( Verbalisation) ليست شيئا آخر سوى الامساك بكُنه الأشياء وإدراجها ضمن صيغة معممة (أوقابلة للتعميم ) ضامنة لامكانية استحضار الشيء الغائب وضامنة للتواصل البيإنساني. إن انتقال  العنصر"الواقعي" من المستوى الثاني إلى المستوى الاول يتحدد من خلال فعل القراءة الذي يقوم بإعادة تحديد لقيمته. ففي مرحلة أولي يقوم هذا الفعل بنزع الطابع النفعي (dépragmatisation)( انظر في هذا المجال ايزر l'acte de lecture) (34) عن هذا العنصر وذلك من خلال اجتثاثه من بنيته الأصلية وتحويله إلى بنية استقبال عامة؛ ولحظة اندراجه ضمن البنية الجديدة ( بنية النص التخييلي )، فإن هذ الفعل يقوم بمنحه قيمة جديدة ضمن عناصر البنية المستقبلة، أي تشكيل جديد لكُنه هذ العنصر.

وعلى هذا الاساس، فإن التواصل بين العالمين يتحدد من خلال النمذجة التي تسمح لنا بالانتقال من العالم الأول (العالم الواقعي) إلى العالم الثاني (عالم الممكنات) وفق قواعد تخلق سلسلة من السياقات المحددة مكانيا وزمانيا. وسيكون قبول هذا العنصر ورفض ذاك داخل هذا الكون أوذاك، عملية تتم انطلاقا من قدرة العالم الثاني على استيعاب ما يقدمه العالم الأول. فما هو ممكن يقاس بقدرته على الانتظام داخل العالم الواقعي لا كفعل حقيقي قابل للمعاينة، بل كفعل يدخل ضمن مسارممكن للأحداث، أوحالة ممكنة للأشياء، > فتحيين وحدة معجمية (لكسيم) مثل'' رَجُل '' من خلال خاصية '' كائن إنساني'' أو'' يملك رجلين'' معناه النظر إلى عالم القصة كعالم واقعي( أي عالم تحكمه قوانين عالم تجربتنا وموسوعتنا، إلا في حالة وجود إشارة من المؤلف تؤكد عكس ذلك ). وفي المقابل، فإن توقع ما يمكن أن يحدث في القصة معناه تحديد فرضيات حول ما هو ممكن <.(35) وفي كلتا الحالتين، فإن ''الواقعي'' و'' الممكن'' يتواصلان فيما بينهما انطلاقا من النمذجة التي تشتغل كبناء ثقافي يحكم العالمين معا.

وعلى هذا الأساس، فإن "العالم'' بشقيه "الواقعي"و"الممكن" يمثل أمامنا، إما على شكل إطار محدد لسلسلة من الوضعيات الإنسانية، أي كسلسلة من الافعال والمواصفات. وبعبارة أخرى، إنه عالم يتحرك داخل الفضاء وداخل الزمان حيث '' يعمل الإنسان '' و'' ينام '' و'' يتجول في الشوارع '' و'' يتسلق الجبال''. وإما على شكل رزمة من القيم ذات الطابع المفهومي المجرد كالخير والشر، والصدق والكذب، الحرية والعبودية الخ ...وإما على شكل سلسلة من الأدوارالاجتماعية كالعامل، والفلاح والطالب والأستاذ والمدير والشرطي ...

 

5- السردية بين الاكسيولوجيا والإيديولوجيا

 

ومع ذلك، فإن الأمساك بهذه الأبعاد الثلاثة لايتم بشكل منفصل، أي أن هذا العالم يمثل أمامنا إما كرزمة من الأفعال وإما كرزمة من القيم وإما كخانة تحتوى على سلسلة من الأدوارالاجتماعية. إن الأمرعلى عكس ذلك. فالتجربة الإنسانية تجربة كلية يستحيل التمييزداخلها ( أوعلى الأقل يصعب القيام بذلك ) بين الممكن والواقعي، بين المجرد والمشخص، بين ما ينتمي إلى الواقع وبين ما ينتمي إلى المتخيل. إن ما هو مفيد في هذا التمييز هوالوصول إلى تحديد مستويين في وجود القيم

-مستوى استبدالي أي الوجود العام والمجرد.

-مستوى توزيعي أي الوجود المشخص التصويري.

وكل مستوي من المستويين يشيرإلى نمط خاص من التنظيم الذي تخضع له هذه القيم وكذا نمط تجلياتها المتنوعة.

وفي هذا المجال يميزگريماص بين مفهومين عامين: الإيديولوجيا من جهة و  الأكسيولوجيا (Axiologie) (36) من جهة ثانية .وكل مقولة تشيرإلى نمط معين لتنظيم القيم. ورغم انتماء المقولتين معا إلى كون واحد أي إلى النسق الدلالي الشامل كتعبير عن شمولية ماتنتجه الحياة ( الحالة الحضارية المشارإليها سابقا )، فإن كل مقولة ( أوالعالم الذي تحيل عليه ) تشتغل كشكل من أشكال التعامل (الامساك ) مع التجربة الإنسانية.

وبالفعل فإن القيم، في حالة الأكسيولوجيا ( ما يتطابق مع الوجود المجرد والعام ) '' تكون منظمة في أنساق وتمثل أمامنا بصفتها صنافة ( Taxinomie) مثمنة. إن القيم التي تعود إلى الاكسيولوجيا هي قيم محتملة وتعد نتاجا للتمفصل السميائي للكون الدلالي الجماعي. وبهذا فإن وجودها يتحدد داخل البنيات السميائية العميقة. إنها تشير إلى نمط الوجود الاستبدالي (paradigmatique) للقيم. ويمكن القول إن كل مقولة ممثلة في المربع السميائي ( حياة م موت مثلا ) قابلة لأن تأخذ طابعا اكسيولوجيا بفضل استثمار الحدود الايجابية والسلبية المحددة للحالة الوجدانية المتمحورة حول : مقبول (م) مرفوض''. (37)

إن الكون الدلالي بمجموع مكوناته ( ما يصطلح عليه بالحالة الحضارية المحددة في مجموعة من السلوكات وردود الأفعال) بحكم عموميته، يقفز على خصوصية الفعل المتحقق لكي يمثل كجهاز عام يستوعب المسافات الفاصلة بين المضامين ويقلص من اختلافاتها. فلننظر في الثنائية التالية :

                        عرس (م) مأتم

إن هذه الثنائية تحدد عالمين متقابلين أوحالتين من طبيعة متناقضة، إلا أنها تدرج حديها ضمن نفس المقولة : "الطقس"، والطقس بما هو حالة "ظهور جمـــاعي " أو > ممـــارسة منتظمة من طبيعة مقدسة أو رمــــزية < (  Petit robert , article Rit ou Rite)  يملك نفس المضمون : اللقاء الجماعي. إن الاختلافات بين الطقوس لا تدرك إلا من خلال بعض الوحدات التمييزية : البكاء في المأتم والغناء في العرس، الحياة في العرس والموت في المأتم.

إن العودة من الوحدات المكونة إلى الأصل المولد هي اختصار للطريق وتحييد للمضامين الخاصة بالانسان وجوهره. إن أي "ظهور" (أي ما يشكل النقطة التي تقودنا إلى التأويل ) لا يشكل سوى لحظة وجودية ضمن " متصل" يشير إلى وحدانية الكائن البشرى.

فإذا كان النسق الدلالي الشامل غير قابل للوصف الكلي، (38) فإن الكون الإكسيولوجي سيكون هوالصيغة الأولية لتمفصل هذا الكون في ثنائيات تطرح كإمكانية للوصف الجزئي. فإذا أخذنا محورا دلاليا ما ( مقولة معنمية تامة ) "الوجود الارضي "مثلا، فإن هذا المحورقابل للوصف من زاويتين:

- الزاوية الأولى تعود إلى المظهرالمجرد والعام، أي إلى الوجود الذي لا يتقيد بأي سياق كما هو الحال في الصياغة ( أوالصياغات ) التي نقدمها كتمثيل كلي لهذا المحور( الوجود الارضي(.

- الزاوية الثانية مرتبطة بسياقات متعددة، أي القيام بتحطيم القمقم التجريدي والقذف بهذا المحورإلى عالم الحياة الانسانية حيث الوضعيات متنوعة ومتعددة ومتجددة باستمرار. وهكذا نكون أمام :

1- خلود (م) فناء : تحديد لتصور ديني يقسم الحياة إلى مرحلتين في حياة كائن ما ( وجود أرضي ووجود سماوي(.

2 - خلود (م) فناء : النظر إلى الحياة من زاوية الفعل العظيم الذي يخلد صاحبه. يختفي فاعل الفعل كوجود فعلي ويظل مضمون الفعل شاهدا على فاعل لا يغادر (الحياة) الخ.

إن هذاالتصور قائم على اقتطاع أجزاء من النسق الدلالي لكي يلقى بها إلى التداول باعتبارها عناصر قابلة للانضواء داخل سياقات محددة ( تكسيرالخطية وتحديد شكل معين للقيم (.

إن الاكسيولوجيا باعتبارها تنظيما أوليا للعناصر التي تعطي للحياة بعدها الإنساني الدال تعتبر النقطة التي توحد الكائنات البشرية من خلال الإمساك بالكون  عبر حدود تنظيمية تلتقط الوجود الإنساني في مفاصله الكبرى. في حين يرتبط الفعل الخاص بالسياقات المميزة للتجربة الفردية، وهذه السياقات الخاصة هي مايشكل عند گريماص الوضع المحسوس والملموس للقيم، وهذا الوضع يدرك من خلال فعل ما، وهذا ما يشكل الايديولوجيا:

               

           الأكسيولوجيا      (م)         الإيديولوجيا

           قيم مجردة         (م)         أفعال محسوسة

           خارج أي سياق     (م)         محددة داخل سياق

 

 وبناء عليه فإن > الايديولوجيا تتميز بالوضع المحين للقيم. وهي بهذا الطابع، تمثل أمامنا كتنظيم توزيعي للقيم، وقابلة، نتيجة لذلك، للاستثمار في نماذج تشتغل كإمكانيات للإجراء السميائي. إن شكل الوجود هذا هو الذي يجعل من هذه القيم تشتغل، في تقابلها مع الاكسيولوجيا، بصفتها ايديولوجيا ( بالمعنى الضيق، أي السيميائي للكلمة ). إن تحقق هذه القيم يدمر الإيديولوجيا، باعتبارها كذلك. وبعبارة أخرى، فإن الايديولوجيا هي بحث دائم عن القيم، ويمكن اعتبارالبنية العاملية التي تخبر عن ذلك عنصرا دائم الوجود في كل خطاب إيديولوجي.'' (39). إن توزيع القيم على مستويين مختلفين ( وجود مجرد ووجود ملموس ) هوالذي سيشتغل، لاحقا، كمعيارلتحديد كُنه وأنماط وجود السردية (narrativité)، كما سيشتغل بصفته معيارا لتحديد لحظات تجليها وأشكال ومستويات بَنْيَنَتِها. فماذا تكون السردية إن لم تكن وصفا لخطية الحياة عبر الكشف عن لحظات التوتر والانزياحات داخلها.

إن هذا التمييز بين الاكسيولوجيا بصفتها وجودا قبليا للقيم (الأشكال التنظيمية المحتملة الموجودة خارج أي سياق للقيم ) وبين الايديولوجيا بصفتها وجودا بعديا لنفس القيم (الأشكال التنظيمية المتحققة داخل سياق محدد للقيم ) يتطابق مع التمييز الذي يقيمه ألتوسير بين الايديولوجيا كتصورعام، أي كمجموعة من المبادئ العامة ذات الطبيعة المجردة، وبين مفهوم الايديولوجيا المجسدة (ideologie materialisée)، أي إيداع تلك المبادئ والمفاهيم في أفعال وسلوكات محددة ضمن وضعيات إنسانية عينية. إن الطرف الثاني داخل المعادلة ( أي الايديولوجيا المجسدة ) هو ما يشكل حقا، في تصورألتوسير، ما نصطلح عليه بالايديولوجيا. ويعود هذا التمييز بين الوجودين إلى '' أن الأفكار أوالتمثيلات الخ التي تشكل، فيما يبدو، الإيديولوجيا لاتمتلك وجودا مثاليا أو فكريا أو روحيا، بل تمتلك وجودا ماديا. إن الايديولوجيا لاتظهر إلا مجسدة في جهاز وفي ممارسته أو ممارساته. إن هذا الوجود وجود مادي''.(40)

إن كل الممارسات المنتشرة في المجتمع: حفلات الزفاف، مراسيم التأبين، تلقي التهاني، وأيضا طريقة الجلوس والأكل واستقبال الضيوف واستعمال أشياء الحياة الخ، تندرج ضمن مايطلق عليه لويس التوسير:الايديولوجيا المجسدة. وهي طريقة أخرى للقول إن القيم المجردة لا يمكن أن يستقيم وجودها إلا من خلال تحقق خاص، فالممارسة هي التي تمنحها وجها مشخصا.

إن السبيل الحقيقي إلى معرفة الايديولوجيا وتعيينها يمرعبرهذا الوجه. فما يخبر عن الايديولوجيا ليس المفاهيم الكبيرة وليس المبادئ العامة، وليس النظريات الشاملة؛ إن الايديولوجيا تكشف عن وجهها من خلال تجسد هذه المفاهيم وهذه النظريات وهذه المبادئ في تربة الممارسة الانسانية.

وهذا لايعني أننا أمام انتقال بسيط وأحادي الاتجاه يؤدي إلى تصور ممارسة واحدة ووحيدة تشتغل ككوة نطل منها على أصلها المولد. إن الأمر على خلاف ذلك > فهذه الممارسات ليست سوى تحققات ممكنة للاديولوجيا المجسدة. فالايديولوجيا تتسلل إلى كل مستويات الحياة الاجتماعية وإلى كل الاجهزة المشكلة لكيان مجتمع ما وهي التي تصوغ الأفعال وردود الأفعال. وهكذا، فإن كل مجتمع ينتج مجموعة من النماذج السلوكية التي يجسد عبرها تطور قيمه الخاصة  ... ] وتشكل هذه النماذج أدوارا اجتماعية يتحدد من خلالها كل فرد. إن هذه النماذج ( ... ) تخلق حالات انتظارسلوكية ( ... ). إن تفكيك وإنتاج هذه الأدوار يضمنه تركيب علامي (une syntaxe de signes ) يسمح بنقلها إلى مستوى اللاوعي الذي يبرمج مجموع حياتنا الإجتماعية.'' (41)

وبناء عليه، فإن تقصي حياة "الجزئيات"و"البديهيات"و"المتعارف عليه"و"الأفكار الجاهزة" سيفضي بنا إلى تشكيل وإعادة تشكيل "الأنا" المؤَدلَجة والمؤدلِجة ( من الايديولوجيا )عبر سيرورة العناصر المنتجة لهذه العناصر. > فكل "إيديولوجيا مجسدة " تنتج علامات ذات طابع اجتماعي( signes socialisés) تقوم بإعادة إنتاج هذه الأيديولوجيا.

وبالفعل، فإن وجود هذه الايديولوجيا مرهون بالاعتراف بها من طرف وعي متلق/باث، قبل أن يعاد إنتاجها من خلال ممارسة تقوم بها ذات باثة/متلقية. إنها لا توجد إلا من خلال الطريقة التي تشتغل من خلالها وعبر أشكال اشتغالها(42). إن هذه الجزئيات تشكل لاوعي النص. لاوعي النص كما يتجلى من خلال خطاب السارد (الذات الكلية لعالم النص)، وكما يتجلى من خلال خطاب الشخصيات: الخطاب السلوكي، الخطاب اللغوي، الخطاب الخاص بالكينونة، وكذا من خلال مجموع الاشياء التي تشكل السند الرئيسي الذي يبعث الحياة في عالم من طبيعة تخييلية. فالنص الذي يروي أحداثا يقوم بذلك انطلاقا من جهة نظر معينة. والنص الذي يصف أحداثا يقوم بذلك انطلاقا من معرفة سابقة تضع الموصوف ضمن خانة تحتوي على معايير الوصف. والنص الذي يرصد أفعالا يقوم بذلك من خلال تحديد خانة تفسرالفعل وتؤوله.

انطلاقا من هذه الملاحظات سنتناول في الفصل الثاني من هذا الكتاب أشكال التلاقي بين السرد والايديولوجيا؛ أي موضوع إنتاج القيم وإعادة إنتاجها، وتعريف القيم وإعادة تعريفها، وكل ذلك عبر عرض الحياة على شكل حكايات وقصص لا تنتهي. وسنركز في بحثنا على الربط بين عنصرين : عنصر الايديولوجيا وعنصر السرد . كيف يؤثر الأول في الثاني و كيف ينتج الثاني آثارا تعود إلى الأول. وسنقوم  بربط عملية التسنين الإيديولوجي ( عالم القيم الذي سيستوعبه الكون المراد تأسيسه، باعتباره المادة التي يشتغل بها التنظيم السردي على جميع مستوياته) بعملية التسنين السردي ( عالم الأدوات التي تبني وتصوغ وتؤول ) باعتباره المصفاة التي يُعاد عبرها إنتاج وإعادة انتاج و تداول المضامين الايديولوجية.

الهوامش

1) أنظرBarthes (Roland) :S/Z éd. Seuil ,Paris ,1970

2) نفسه ص 24

3)نفسه ص 25

4) إن "lexie" في تصور بارث هي نتاج تقطيع نصي قائم على وجود وحدة معنوية قابلة للعزل. وهكذا فهي "وحدة للقراءة "،وباعتبارها كذلك ،فإنها حصيلة تقطيع اعتباطي لا تحكمه أية قواعد سابقة انظرS/Z وكذلك :Sémiotique narrative et textuelle p 30

5) نفسه ص 25

6) نفسه ص 27-28

7) انظر گريماص Du Sens  pp 7-8

8)Eco ( Umberto) : La structure absente, éd. Mercure de France ,1970  p. 181

9) نفسه ص 182

10) Chabrol ( Claude): Etudes sur le fonctionnement des codes spécifiques in C. R.D pé dagogiques pp .7-8

11) انظر - Peirce (C.S ) : Ecrits  sur le signe, éd. Seuil , Paris 1978 .   

12) Marty (Robert) : Théorie des interprétants, in Langages 58, p. 37       13) - Eco (Umberto ) Le Signe , Ed . Labor Bruxelles 1988 , p . 130.     14) حسب گريماص يمكن إعطاد تعريفين لمقولة الابستيمي ( Epistémé) . فمن جهة يتحدد الإبستيمي :> كتنظيم هرمي -يندرج ضمن البنيات السميائية العميقة- لمجموعة من الانساق السميائية القابلة للتحكم، بواسطة تأليف وقواعد تقليصية للاتوافق  استحالة وجود علاقة سميائية بين عنصرين]، في مجموع التجليات ( المتحققة والممكنة التي تدخل ضمن دائرة هذه الأنساق داخل ثقافة معينة.(...) وفي هذا الاتجاه حاول كل من گريماص وراستيي ( F Rastier )إقامة تنظيم للانساق السميائبة للعلاقات الجنسية والسوسيوماترمونيالية والاقتصادية داخل الكون الثقافي التقليدي الفرنسي.

ومن جهة ثانية يمكن تحديد الابستيمي كـ ميتاسميائيات للثقافة، أي الموقف الذي تتبناه مجموعة سوسيوثقافية تجاه علاماتها الخاصة < أنظر Dictionnaire Article Epistémé .  

15) > حسب ماندلير وأتباعه فإن البنية الضمنية للمحكي تتنظم حول " الحلقة" Episode. وتتحدد "الحلقة" كعنصر يحتوي على: "بداية" و"تطور"و "نهاية". وكل عنصر قابل لأن يولد:

-رد فعل مركب ( يحتوي-احتماليا- على رد فعل بسيط، المفاجأة مثلا، هدف (الرغبة في الهروب مثلا )

- سبيل نحو الهدف ويتضمن : محاولة ونتيجة.

إن هذه الوحدات المجردة تتحين على شكل أحداث أوحالات .أنظر :

 Fayol (Michel) :Le récit et sa construction, une approche de psychologie cognitive, éd Delachaux-Niestlé p 46  

16) إن ترسيمة ستين وگلين انبنت على المنجزات السابقة التي قدمها ماندلير واتباعه. وتتأسس هذه الترسيمة، هي الأخرى، على "الحلقة "Episode التي تشتمل عندهما على:

-منبه ( Déclencheur) - حدث داخلي أو خارجي لدى البطل يؤدي إلي:

-استجابة داخلية تميز حالة الشخصية الرئيسية ( حالة عاطفية، هدف، معرفة ..) -خطة تقود إلى:

-محاولة فعل

-نتيجة أو نتائج

-رد أو ردود أفعال

أنظر Fayol  نفس الرجع ص 47

17)  نفسه ص 45

18) Eco : le signe ,p .152

19) نفسه ص 153

20) Krysinski ( Vladimir) : Carrefours de signes,essais sur le roman moderne ,éd Mouton 1981 p 32

21)Pavel (Thomas): Univers de la fiction ,éd. Seuil,1988

22) نفسه ص 60

23) نفسه ص60

24) نفسه ص 61

25) نفسه ص 61

26) نفسه ص 63

27)ِEco : Lector in Fabula ,éd. Grasset 1985 p.168

28) نفسه ص 169

29) نفسه ص 174

30) Eco :La structure absente ,p .144

31) Eco :Lector, p, 170

32) انظر الفصل الخاص بتعريف اللغة في :   Sapir ,Edward : Le langage, introduction à l'étude de la parole , éd Payot , Paris 1970

33) Kibédi-Varga ( Aron ): Discours,Récit et image, ed. Mardaga p 7

34) انظر Iser (w) : L'acte de lecture

35) Eco :Lector, p .160-161

36)يعرف گريماص الأكسيولوجيا بقوله :'' نعني بالاكسيولوجيا عامة نظرية أو وصف أنساق القيم (سواء كانت أخلاقية أومنطقية أوجمالية ') "انظرDictionnaire Article Axiologie

37)نفسه

38) انظر  130 Eco : le signe, p

39) Greimas,Courtès :Dictionnaire Article Idéologie

40)Gros (Edmond) :Prédication carcérale et structures de textes in Littérature 36 p 61

41) نفسه ص 62

42) نفسه ص 62

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

                  

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

                                        

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

           

 

 

 

 

 

 

 
 
 

صفحة المؤلفات

النص السردي : نحو سميائيات للإيديولوجيا

المحتــوى

 مقدمة

الفصل الأول : السردية والإيديولوجيا

 الفصل الثاني : التسنين السردي والوقع الإديولوجي

 الفصل الثالث : الجسد والسرد

 الفصل الرابع : الأطروحة وطقوس الاستئناس

 
معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

مؤلفــات بطاقة تعــريف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال   مواقـــع  خزانات الموقـع صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

موقع سعيد بنگراد - تاريخ الإنشاء: نونبر 2003