معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

مؤلفــات بطاقة تعــريف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال   مواقـــع  خزانات الموقـع صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

سعيد بنگراد

التأويل

والحاجات الإنسانية

 

 

" لو جاءني الإله يحمل في يده اليمنى الحقيقة كلها، ويضع في يده اليسرى البحث الدائم عنها، وطلب مني أن أختار بينهما، لسجدت له خاشعا وقلت له : مولاي أعطني البحث عنها، أما الحقيقة فأنت وحدك جدير بها" ليسينغ*

نحن في حاجة إلى التأويل، فالتأويل هو أصل القراءات ومبررها الأول والأخير. لذلك لا يجب النظر إليه باعتباره ترفا فكريا أو ضلالا أو خروجا عن سبيل مستقيم. إنه محاولة لاستعادة مناطق مجهولة داخل ذواتنا أفرزتها الممارسة الإنسانية لكنها ظلت مستعصية على التحديد المستند إلى الفهم النفعي للحياة. فهذه المناطق لا يمكن الإحاطة بها من خلال " حدود مألوفة "، تلك التي نستعين بها من أجل تنظيم تجربة المعيش اليومي، فمداها أوسع من ذلك، وحجمها أعمق من يرد إلى تدبير شأن مرئي.

لذلك فإن الأحكام العامة، الإيديولوجية منها والدينية، لا تستطيع وحدها أن تقود إلى فهم " حقيقي" للذات الإنسانية، لأنها تنطلق من حقيقة نظرية عامة مسبقة استنادا إليها تتعاطى مع كل الحقائق السلوكية. وكل ما لا يستقيم داخلها مرفوض أو يثير حوله الريبة والشبهات. وعلى هذا الأساس، فإن التأويل، باعتباره محاولة لفهم الحياة من خلال حدود تحلل ولا تكتفي بالتعيين، لا يمكن أن يكون سوى محاولة لزعزعة القناعات الموروثة التي تقود إلى الراحة النفسية والكسل الذهني.

فالتأويل ( كما تدل على ذلك التسمية الخاصة بالحد الثالث في للعلامة ) هو حجر الزاوية في كل التعريفات الخاصة بالعلامة. بل إن الحضور الفعلي للعلامة في الكون ليس سوى محاولة لتنظيم التجربة الإنسانية من خلال حدود مفهومية تتحدد قيمتها الحقيقية في قدرتها على إثارة سلسلة من الإحالات قد لا تتوقف عند نقطة بعينها. ولهذه الفكرة علاقة بنشاطين:- ما يعود إلى الإدراك وآلياته، فالتحول من الذات إلى ما يوجد خارجها يقتضي بناء حقل إدراكي يقود إلى استيعاب معطيات الكون في أفق مفهمته، والمفهمة هي تجاوز للمعطى الموضوعي وخروج عن طوعه. فالتعرف على ما يوجد خارج الذات المدركة يعتبر سيرورة افتراضية ( abductif) ( بلغة بورس ) قائمة على معرفة سابقة، ولذلك يُتعامل معها باعتبارها سيرورة غير منتجة لأفق معرفي جديد. فهذه السيرورة تربط بين الموضوع المدرك في اللحظة المخصوصة بمجمل النماذج العامة السابقة. فعندما نشاهد حصانا يتحرك من بعيد، فإننا نحفز الذاكرة على استحضار كل الخطاطات التي يمكن أن يدرج ضمنها هذا الحصان ( إن كان الأمر يتعلق فعلا بحصان لا بحمار). وهذا معناه أننا ونحن نقترب منه شيئا فشيئا، نستبعد كل الخطاطات التي لا يستقيم الحصان داخلها (1).

ولهذا فإننا نتعرف على ما يوجد خارجنا ونمنحه اسما وصفة استنادا إلى معرفة سابقة، وهذه المعرفة هي التي تمنح الشيء موقعا مجردا داخل الذاكرة الجماعية منها والفردية. وبعبارة أخرى، فإن ميكانيزمات هذا الربط مستبطنة داخل الشخص الذي يقوم بالتعرف على ما يوجد خارجه. فعلى الرغم من أن العالم يقترح على الذات المدركة موضوعا أو واقعة مخصوصة، فإن ما يتسرب إلى الذهن هو فكرة مجردة عن هذا الموضوع.

- ولها علاقة ببناء العلامة ذاتها. فالعلامة تبنى ككيان ثلاثي قادر، من خلال آلياته الداخلية، على استيعاب معطيات التجربة الإنسانية عبر سيرورات متعددة ( منها القياس ومنها الاستنباط ومنها الافتراض كما أشرنا إلى ذلك أعلاه). وهذه السيرورات ليست سوى سياقات مضمرة داخل فعل التمثيل ذاته. ففكرة العماد ( fondement) التي يشير إليها بورس في تعريف العلامة، تقتضي من التمثيل أن يكون جزئيا. وهذا الطابع الجزئي هو الذي يجعل العلامة كيانا مفتوحا على ممكنات لا حد لها.

ذلك أن العماد هو زاوية نظر، أو طريقة تتم من خلالها عملية التمثيل" أو هو، بصيغة أخرى، صفة للموضوع باعتباره منتقى بهذه الطريقة لا بتلك " كما يقول بورس. فلا وجود بالمطلق لفعل تمثيلي قادر على احتواء كل ما يمكن أن تحيل عليه كلمة " شجرة " مثلا من دلالات. وهو ما يعني أن الواقع أوسع وأغنى من أن تحتويه علامة محكومة، بطبيعتها، بالسياقات الضمنية أو الصريحة. فالمدرك العيني يحتاج، لكي ينتقل إلى عالم الوجود المفهومي ( عالم الوجود اللساني المجرد بالأساس )، إلى عمليات تمثيلية متعددة. وذاك هو الأساس الذي يبرر القول بتعددية التأويل وتنوعه.

استنادا إلى هذين النشاطين ستتحدد الوظيفة الرئيسة للعلامة. فمن باب تحصيل الحاصل القول إن العلامة هي الأداة الوحيدة التي تمكننا من نقل التجربة الإنسانية من دائرة اللحظي والعرضي والمباشر إلى دائرة التوسط المفهومي. حينها، وحينها فقط، سيتحول الكون من حالة اللاعضوي والسديمي إلى الحالة التي يتم الكشف عنها من خلال الوحدات المميزة التي قد تبيح لنا الحديث عن الجوهر المتضمن في الوحدات المخصوصة.

وبناء عليه، فإن العلامة، من حيث الوجود والاشتغال، ليست كيانا يقف عند حدود تعيين أشياء أو حالات في العالم الخارجي، بل هي في المقام الأول، نمط في تنظيم التجربة الإنسانية. فما يندرج ضمن العلامة باعتبارها صيغة تنظيمية مرئية لمعطيات تجربة إنسانية لا تدرك إلا من خلال احتلالها لموقع ما داخل اللسان، وما يدخل ضمن دائرة المقولات الإدراكية ( وهي المقولات الفينومينولوجية التي يعتبرها بورس أداة لتنظيم التجربة الإنسانية) باعتبارها تشكل الروابط الأولية الأساس التي تجمع بين مكونات التجربة الإنسانية من خلال أبعادها الثلاث : الإمكان والوجود الفعلي والقانون، لتحولها إلى كيان يُعقل من خلال القانون والضرورة والفكر، يعود إلى نفس المبدأ : التخلص من المعطيات الحسية باعتبارها كيانات جوفاء لا يمكن أن تنتج معرفة، لكي تُصب داخل قوالب الوجود المفهومي.

وعلى هذا الأساس، إذا كان التوسط ( الأشكال الرمزية على حد تعبير كاسيرير)، هو المبدأ المركزي في إدراك العلاقة بين الذات وما يوجد خارجها، فإن المؤول ( العنصر الثالث داخل العلامة، ما يشبه المدلول في تصور سوسير ) هو المصفاة التي يتم عبرها تسريب الصور المفهومية المتنوعة التي تتجلى من خلالها موجودات الكون "الواقعية منها والمتخيلة، أوالقابلة للتخيل أو غير القابلة للتخيل على الإطلاق" كما كان يحلو لبورس أن يقول.

من هنا يمكن القول إن إواليات الإدراك ( انفصال الذات عن محيطها واستيعابه كحقائق مجردة) هي ذاتها إواليات اشتغال الحالات التي تقودنا إلى إنتاج المعاني وتداولها باعتبارها صيغا رمزية تحضر من خلالها الحقائق الموضوعية على شكل كيانات مفهومية. فالإدراك في أصله البدئي معرفة قائمة على سلسلة من الافتراضات التي تستند إلى معرفة سابقة من أجل إنتاج معرفة أخرى، دون أن يعني ذلك أن هذه المعرفة الجديدة هي بالضرورة معرفة صحيحة. وهو نفس المبدأ الذي يقوم عليه التدليل، فالتدليل سيرورة تقود إلى تنظيم هذه العوالم الخارجية من أجل استيعابها داخل أنساق بعينها ستكون هي المدخل إلى إنتاج الدلالات وتداولها. وهذه الأنساق لا تحتكم إلى أية مرجعية أخرى غير قوانينها الداخلية.

ويستند هذا الأمر إلى قاعدة ذهبية في تاريخ المعنى وإنتاجه. فالمعنى، وفق هذه القاعدة، هو حصيلة فعل تمييزي ( أن تسمي معناه أن تفصل هذا الأمر عن ذاك ). فمن أجل إنتاج معنى علينا أن نميز داخل المتصل بين وحدات مضمونية وفق سلم قيمي بعينه، فالماء الذي يتحدد من حيث التكون العضوي في الصيغ h20، سيتخذ أشكالا متعددة منها البرد والثلج والسحاب والبخار، كما يمكن أن يكون ساخنا أو فاترا أو شديد البرودة، بل قد يتلون بلون الكأس البلوري الذي يحتويه. وبعبارة أخرى، إننا نقوم بإحداث شروخ في المتصل غير الدال. والمتصل ( continuum)، كما هو شائع عند الفلاسفة والسميائيين على حد سواء، مادة عمياء بكماء لا تدل، ولا يمكن أن تحيل على أي شيء آخر سوى ذاتها.

وعلى هذا الأساس، فإن التعريف الذي يقدمه بورس للعلامة لا يشكل سوى الوجه المرئي لتصور فلسفي يرى في التجربة الإنسانية كلها كيانا منظما من خلال مقولات محدودة العدد والمضمون، وهي أدواتنا الرئيسة في إدراك الكون والذات وإنتاج المعرفة وتداولها. فلا حدود تفصل في واقع الأمر في تشكل الظواهر بين تجليها من خلال المرئي أو انتمائها إلى المستتر، بين وجودها كإمكان وبين تحققها في نسخة مخصوصة. فكل ما يؤثث هذ الكون ويمنحه شكلا يجب التعامل معه باعتباره وحدة تامة استنادا إلى مبدإ الامتداد الذي يحكم الكون كله. ومع ذلك فإن التنظيم المفهومي للتجربة الإنسانية يقتضي منا الفصل بين المستويات والمظاهر والمجالات، ويحتم علينا أيضا التمييز بين الأشكال التي يحضر من خلالها الوجود في الذهن.

إلا أن هذا الأمر لا يشكل، في نهاية المطاف، سوى اللحظة الأولى التي تقودنا إلى تلمس البدايات المؤسسة للدلالة. فالتعرف على العالم الخارجي لا يشكل سوى الحد الأدنى الدلالي الضروري للخروج من الذات وتمييزها عما يحيط بها. إن الأمر شبيه بـ" الإحساس" ( le sentir)، فالإحساس، كما نظرت إليه سميائيات الأهواء وحددت فواصله ودقائقه، يقع في مستوى سابق على ظهور الدلالة، أي سابق على أي تمفصل سميائي، ولا يشكل، تبعا لذلك، سوى الحد الأدنى لوجودالكينونة، فهل " تشكل صرخة الخارج من بطن أمه تعبيرا عن التحرر من قيود الرحم، أم هي اختناق السمكة خارج الماء "؟ (2).

وهي حالة يمكن إسقاطها على اللغة ذاتها. ففي عالم تكتفي فيه اللغة بتقديم وصف موضوعي ومحايد للعالم والحالات الإنسانية لن نكون في حاجة إلى دراسة المعنى أوالتساؤل عن كنهه وسيرورة تشكله، فالأشياء والحالات ستكون حينها متساوية من حيث التأثير ومن حيث التجلي ومن حيث الحجم الدلالي.

والحال أن الأمر لا يمكن أن يكون كذلك. إن دراسة المعنى أمر ممكن لأن الكلمات لا تعين مرجعا فحسب، بل تسقط دلالات تتجاوز الوصف المحايد للوقائع. فهناك مناطق داخل الكينونة الإنسانية تصنف ضمن النفعي والمباشر، وهناك مناطق أخرى خاصة بالمتعة واللذة تتجاوز النفعي وتزدريه. وهذه المناطق هي وحدها التي تجعل الكون الإنساني كونا دالا من خلال حدود الرمز لا من خلال التعيين اللحظي. فكل ما هو مدرج في تفاصيلها يدخل ضمن دائرة التحليل السميائي. فالسلوك السميائي بحصر المعنى حاجة إضافية لا تعبير جاف عن لحظة تعيين بدئية. إنه لا يقف عند حدود التعرف الحسي ( ما تنتجه الحواس وما يأتي من خلالها)، بل ينتج ممارسات لا تدرك إلا من خلال نص الثقافة. فالعالم الغفل الوحيد البعد والاتجاه غير الخاضع لأية مفصلة، لا يمكن أن ينتج علامات، ولن يكون مهدا لأية سيرورة دلالية.

وذاك هو الأساس الذي استند إليه بورس في صياغة تعريفه للعلامة. فالعلامة، تضع للتداول ثلاثة عناصر : أول ( ماثول) يحيل على ثان ( موضوع) عبر ثالث ( مؤول) هو نفسه سيتحول إلى نقطة تنبثق عنها سلسلة من الإحالات الدلالية الجديدة. بل قد يكون الأمر أعمق من ذلك، فقد لا تنتهي سلسلة الإحالات هذه، نظريا على الأقل، عند نقطة بعينها، فهي لن تكتفي بإنتاج مدلول تتعرف عليه الذات المؤولة، بل تتحول إلى ذريعة للإحالة على كل المدلولات الممكنة. فكل إحالة تستدعي إحالة إضافية، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية. وهذا أمر طبيعي فالفكر بطبيعته ناقص، لأنه " يحتوي على الضمني والمفترض" على حد تعبير بورس.

إن العلامة، وفق هذا التصور، لا تنتج دلالة أحادية مكتفية بذاتها يمكن أن تجنب الذات عناء رحلة العذاب عن معنى كلي. إنها على العكس من ذلك بداية العذاب وأصله الأول، فهي من خلال سلسلة التمثيلات المتتالية تولد سيرورة تدليلية بالغة الغنى والتنوع. فكل الإحالات ممكنة انطلاقا من فعل التمثيل الأول، أي الفعل الذي يضع الماثول ضمن حركة تدليلية تستند إلى المؤول باعتباره العنصر الحاسم في وجود الدلالة وتداولها، لأنه عنصر التوسط والقانون الذي تدرك وفقه الأشياء استقبالا. فإذا كنا نتوقف عادة عند نقطة بعينها، فهذا التوقف لا يشكل حدا نهائيا، بل يستجيب فقط لضرورات نفعية، ولن يكون أبدا إحساسا بأن الرحلة قد وصلت نهايتها.

استنادا إلى هذه الملاحظات، فإن فكرة التأويل اللامتناهي التي ترد باستمرار في سميائيات بورس، وهي فكرة بالغة الأهمية في فهم الطريقة التي يتصور بها بورس إنتاج الدلالة، مستمدة من نظرية المقولات ذاتها. فالثالثانية ( tierceité) هي مقولة القانون الذي يحد من غلواء المحسوس ويرد التجربة في تنافرها وتعددها إلى ضرب من الوحدة. إنها تشير من جهة إلى القانون الذي تتم وفقه استعادة العناصر المنتمية إلى التحقق الملموس، وهي أيضا الأساس الذي نستند إليه من أجل فتح التجربة الإنسانية على ممكنات دلالية لا حصر لها ولا عد من جهة ثانية. فعندما تتخلص التجربة من إكراهات المحسوس وتتخذ صيغة مفهومية، فإنها تغتني بالإحالات الرمزية التي لا تتقيد بفكرة الإحالة الضرورية على مرجع بعينه، لتكتفي بخلق أنساقها المرجعية الخاصة بها، ومن هنا جاءت فكرة الإحالات اللامتناهية.

" إن اللامتناهي هو الذي لا يملك حدودا " ( 3) ، ولأنه كذلك فإنه يستعصي على كل تحديد مسبق، فأينما وليت وجهك تراءى لك العالم كونا ممتدا بلا نهاية ولا حدود. واستنادا إلى هذه الفكرة لا يمكن لسلسلة الإحالات المتولدة عن عملية التمثيل التي تقوم بها العلامة في حالتها البدئية أن تتوقف عند حد بعينه. فلا يمكن قطعا تصور إحالة تكتفي بإنتاج ما يعيننا على تعيين شيء مفرد في العالم الخارجي بعيدا عن إيحاءات السلوك الإنساني المتنوعة. فالعالم الذي تحيل عليه العلامة يُستوعب داخل سيرورة تدليلية تحيل على أكوان تأويلية بالغة التنوع. فعندما تتخلص العلامة من لحظة التعيين الأولى، تنسج لنفسها شبكة من الانزياحات الدلالية التي لا يمكن التحكم في انتشارها.وهذا بالتحديد ما يفتح باب التساؤلات حول القيمة الحقيقية التي يمكن أن نعطيها لهذا التوالد الدلالي اللامتناهي : هل هو توالد لا متناه لا يحتكم سوى لقوانينه الداخلية، وبالتالي فهو متحرر من كل القيود التي تفرضها عادة قصدية الباث ( المؤلف) ؟ أم أنه في حركيته ونموه المطردين لا يمكن أن ينفلت من الغايات الضمنية التي يفترضها بناء نص محدود في الزمان وفي المكان؟

إن الترابط الجدلي بين أداة التمثيل وبين ما يوجد خارجها هو المفتاح الرئيس لفهم نمط إنتاج الدلالة وفهم آليات الحركة التأويلية الناتجة عن تصور سيرورة تدليلية يعتبرها بورس، في أكثر من موضع في كتاباته، غيرَ قابلة للانكفاء على نفسها، وغير محصورة في رقم دلالي بعينه. فالأول يحيل على الثاني عبر الثالث، وهذا الثالث يحيل من جديد على ثان عبر ثالث جديد إلى ما لانهاية. فـ " نحن لا نستطيع أبدا معرفة الشيء في ذاته، إننا نعرف فقط العلامة التي هي دليل عليه، والعلامة على هذا الأساس كيان فضفاض في علاقتها بمؤولها، وهذا المؤول هو ما يحددها "(4). وهذا أمر طبيعي، ف " موضوع العلامة لا يمكن أن يكون إلا علامة أخرى. والسبب في ذلك أن العلامة لا يمكن أن تكون موضوعا لنفسها، إنها علامة لموضوعها من خلال بعض مظاهره" (5).

واستنادا إلى هذا، فإن التأويل لا يكترث لما يقدمه النص بشكل مباشر، إنه يستمد غاياته وسيروراته من السياقات المفترضة فقط من خلال هذا التحقق المخصوص، وبما أن السياقات يمكن أن تمتد في كل الاتجاهات، فإن التأويل سيكون لا متناهيا، ويمكنه أن يحيل على كل القيم الدلالية الممكنة.

وهكذا، فبمجرد أن نخرج من دائرة المعطيات الحسية، ونلج عالم التجريد، أي عالم المفهمة، تتخلص حركية الإحالات من إكراهات المعطيات الغفل وتصبح حرة في تشييد عوالم دلالية لا متناهية تكون قادرة على استيعاب كل الأوجه الممكنة للحالات التي تصفها اللغة أو تشير إليها الوقائع الأخرى من خلال هذا التسنين أو ذاك.

وعوض أن يكون هذا الترابط مرادفا لحركة تعيينية ممتدة في أشياء تُعتبر نقطة نهائية لفعل العلامة : "هذه الكلمة تدل على هذه الواقعة هنا والآن فحسب"، فإنها تحول، وتتحول عبرها " الأشياء " إلى علامات تقوم، وفق نفس شروط الإحالة الأولى، بخلق سلسلة من الإحالات داخل الدائرة الخاصة التي تحتوي العنصر مصدر التدليل. وهكذا، فكل عنصر من عناصر العلامة قابل لأن يتحول إلى علامة، أي إلى عنصر استقطاب دلالي تنبثق عنه مسارات متنوعة في الإحالة والتدليل، " فالعالم الذي تحيل عليه العلامات عالم يتشكل ويتحلل داخل نسيج السميوز" على حد تعبير إليزيو فيرون (6).وبعبارة أخرى فإن الأشياء تفقد هويتها الأصلية ( المادية) عندما تندرج ضمن العالم الإنساني. فرمزية الأشياء وإحالاتها

الإيحائية مستمدة من موقعها داخل الدائرة الإنسانية، فقد تعلم الإنسان كيف يودع جزءا من نفسه داخل الأشياء ويحولها إلى مستودع لدلالات وقيم رمزية تتمتع بقدر كبير من الرهبة والتقديس.وهكذا من المؤكد أن يقود التخلص من مقتضيات حالة التعيين الأولى، التي يطلق عليها بورس "المؤول المباشر"، إلى انزلاقات دلالية لا حد لها. فبإمكان السميوز( سيرورة إنتاج الدلالات) أن تتطور في كل الاتجاهات فاتحة بذلك الباب واسعا أمام أشكال تأويلية بالغة التنوع. فالانفلات من ربقة التعيين معناه الانفلات من الحاجات النفعية التي تحد من حركية التأويل. فعلى سبيل المثال : ما دلالة الشجرة الواردة في النص القرآني " لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين " خارج حدود أنها تدل على نبات ضخم له جذور ممتدة في عمق الأرض وأغصان صاعدة إلى السماء ؟ فإذا تركنا جانبا الحكمة الإلهية التي لا يمكن أن ندركها من خلال الثقافة الأرضية، فإن الشجرة يمكن أن تكون منطلقا لتحديد عدد هائل من الدلالات التي نستحضر من خلالها سياقات ثقافية بالغة التباين.

وفي هذه الحالة يُفترض أن تكون حركية التأويل غير محددة بغاية بعينها. فـ" المؤول الحيوي" كما يسميه بورس يطلق العنان للدلالة لتتطور وفق حاجات جديدة غير خاضعة لمنطق حاجاتنا الأولية. فالعلامة بمجرد ما تتخلص من محفل التلفظ تسلم نفسها لمتاهتها الأصلية، كما يقول دريدا، فما يطلق العنان للدلالة هو ذاته ما يجعل إيقافها أمرا مستحيلا ( 7). استنادا إلى هذه الحركية التأويلية ستكون كل السياقات ممكنة، فلا أحد يستطيع في هذه الحالة أن يحدد حجم السياقات وعددها وامتدادها، فلانهائية الكون هي أيضا مبرر للقول إن كل سياق ينتج حقيقته حتى ولو تناقضت هذه الحقائق فيما بينها. فالأساس في التأويل ليس الحصول على دلالة بل التلذذ بسيرورة إنتاجها.

وإذا كان الاعتراض على هذا التصور ممكنا من خلال استحضار كل القواعد التي يستند إليها الإنسان في التمييز بين الأشياء والحكم عليها، أي امتلاكه القدرة على إنتاج معرفة يمكن التأكد من صحتها أو زيفها، فإن رفضه باعتباره يمثل حالة مرضية في التعاطي مع النصوص والوقائع، أمر يخفي موقفا ذا طبيعة أخرى. فالمرفوض هنا ليس فكرة " اللامتناهي" بل الحاجة إلى التأويل ذاته. فالتأويل في الأصل والغاية والاشتغال هو تمرد على قصدية الباث وخروج عن سلطته. وذاك أمر لا يمكن أن يقبل به محفل تعود على النظر إلى نفسه على أنه وحده المالك لسلطة التدليل وتحديد حجم المعاني واتجاهاتها.( 8) وسنعود إلى هذا الأمر في الفقرات الموالية.

إن الاعتراض على هذا التصور التأويلي، هو في الوقت ذاته تمسك بالتأويل وتأكيد لضرورته باعتباره الشرط الأساس لكل قراءة مبدعة. فالتأويل في جميع السياقات إنتاج لمعرفة جديدة مصدرها الحصيلة المترتبة عن حالات التشخيص الفني. فأي انزياح عن التحديدات المفهومية العامة ذات الطابع التصنيفي المنفصل عن أي سياق ( الخير والشر والصدق والأمانة والكذب ....) سيقودنا إلى التحول إلى الحدود التصويرية التي لا تحتاج إلى إكراهات المنطق وآلياته، بل تستدعي عوالم " المحتمل". والمحتمل، كما هو معروف لا يستند إلى تحديدات عقلية، بل يتسلل إلى الوجدان عبر الطاقة الانفعالية التي تثيرها وضعية ما.من هنا فإن اعتراضنا لا يمس جوهر التأويل ولا ضرورته ولا نتائجه، بل يرتبط ب" الدرجة "، أي الحد الذي يمكن أن تصل إليه الحركة التأويلية. وفي هذه الحالة فإن هذا الموقف سينقلنا من الحالات الموصوفة ب" اللامتناهي" إلى ملكوت " التعددية". وبين هذين المفهومين هوة معرفية لا يمكن أبدا تخطيها بسهولة.

فاستنادا إلى مقولة التعدد التأويلي، ستتخذ الأمور منحى آخر، فإذا كنا لا نقبل بالقول إن حركية التمثيل يجب أن تقف عند حدود تعيين موضوعي ومحايد لعالم الأشياء، فإننا لن نقبل أيضا بوجود فعل تمثيلي قد يؤدي إلى إسقاط المبادئ التي يستند إليها المنطق الإنساني في إصدار أحكامه. فالقول بلانهائية السياقات قد يقود إلى اللبس والغموض واللامعنى. ف" التأويل ليس وليد بنية الذهن البشري، ولكنه وليد الواقع الذي تشيده السميوز" (9).

فلكي لا تنقطع الصلة بين المعرفة التي تشير إليها العلامة في حالتها البدئية، وبين ما نحصل عليه في ختام الرحلة المفترضة من خلال فعل التأويل ذاته، لا بد من إيجاد قوة مضادة تحد من جبروت التأويل وتوقف حركيته عند نقطة بعينها. فإقامة علاقة بين الماثول والموضوع الذي يحيل عليه يشترط إيقاف الإحالات لتبين الوجهة التي يمكن أن يقود إليها مسار تأويلي ما. ذلك أن الانتقال من إحالة إلى أخرى يجب أن يكسب العلامة تحديدات دلالية أكثر اتساعا، لا أن يقود إلى قطع كل صلة بما تقدمه العلامة في بداية التمثيل.

وهذا ما يشكل المبادئ الأولية التي استند إليها بورس في تسييج الفعل التأويلي وحمايته من أي انزلاق من خلال إسقاط ما يسميه " الحاجات النفعية". وارتكازا على هذه المبادئ سيقودنا في رحلة ثانية معاكسة تثَبِّت الدلالة في شكل قد تطمئن إليه الذات وتستريح من عناء اللهاث وراء معنى لا يستقر على حال.

وبناء عليه، فإن التأويل قد يكون في مطلق الحالات لانهائيا ولا يخضع لأي ضابط، إلا أن الممارسة الدلالية المخصوصة تثبت أن السيموز منتهية، لأنها محكومة بسلسلة من الغايات التي تجعل من انسيابها الدائم أمرا مستحيلا. فالخطاب له إكراهاته وله قواعده التي تتحكم في نمو الدلالات وتناسلها، وتحدد لها الوجهة التي عليها أن تسلكها من أجل خلق كون منسجم. ويعبر إيكو عن فكرة "النهائية" هذه من خلال مجموعة من المفاهيم التحليلية من قبيل " الموسوعة " و"القاموس" و" الانتقاء السياقي " و"السيناريوهات البينصية" و" الطوبيك" و"التناظر" و" القاموس الأساس" الخ... (10) .

وعلى هذا الأساس، لم يكن بورس، وهو التداولي الصارم، ليقبل بفكرة انتشار الدلالات في كل اتجاه دون ضابط ولا رقيب. فنحن نؤول دائما استنادا إلى ضغط الحاجات العملية. ولهذا فإن الرغبة في فتح الدلالة على اللامتناهي تصطدم بغائية السلوك الإنساني التي تقتضي التوقف في لحظة ما لالتقاط الأنفاس والنظر إلى الخلف، أي ما يسميه بالفعل التداولي الذي ينتجه السياق وتقبل به الذات المؤولة، وهو ما تشير إليه الصيغة الثالثة للمؤول الذي يشتغل باعتباره أداة ضبط وتنظيم الدلالات.

فالشكل النهائي للتأويل ( المؤول النهائي) يقوم بإيقاف حركية التأويل ويوجهها نحو خلق حالة دلالية نهائية " بعد تطور كاف للفكر" كما يقول بورس. فـ" السميوز في هروبها اللامتناهي من علامة إلى علامة، ومن توسط إلى توسط، تتوقف لحظة انصهارها في العادة، لحظتها تبدأ الحياة ويبدأ الفعل"( 11). وتلك لحظة من اللحظات التي تنصهر فيها القيم الدلالية ضمن ممارسة فعلية تقود إلى خلق " عادة سلوكية ". وهذه اللحظة لا تفسرها سوى فكرة الامتداد : تداخل كل العناصر المؤثثة للكون. فمن هذا الفعل تنبثق علامات جديدة تقود إلى موته ليبعث من جديد من خلال قاعدة سلوكية، وهكذا دواليك إلى ما لانهاية، فـ" العلامة، في تصور بورس، تولد وتنمو وتموت في الأشياء"(12) .

فهل معنى هذا أن الفعل التأويلي النهائي سينتهي إلى وضع حد لكل سيرورة تأويلية ؟ أم معناه أنه سيقودنا إلى الإمساك بمدلول نهائي تنتهي عنده كل الدلالات ؟ إن الأمر كذلك، ولكن في حالة واحدة، وهي تلك التي ننظر فيها إلى مفهوم "النهائية " من زاوية كرونولوجية، حينها لن تسقط وظيفة المؤول النهائي فحسب ( وهي وظيفة تنظيمية)، بل سيوضع البناء النظري البورسي أيضا موضع تساؤل. وهذا أمر غير وارد في جميع القراءات، فالقول بإنتاج دلالة نهائية منفلتة كلية من إرادة الذات المؤولة أمر مناف لطبيعة المعنى ولن يؤدي إلا إلى قتل حركية التأويل ذاتها.

ولهذا لا بد من النظر إلى الأمور من زاوية أخرى تستبعد، كضرورة أولى، البعد الزمني عن " النهائية"، كما هي مثبتتة في تراتبية التأويل في تصور بورس، وتتشبث في الوقت ذاته بضرورة التأويل ودوره في تغطية الحاجات الإنسانية غير المرئية من خلال الأبعاد النفعية. حينها ستكون النهائية مرتبطة بـفكرة "المسار التدليلي" ، فكل مسار هو في حقيقة الأمر سياق مبني بغاية الاستجابة لحاجات دلالية بعينها. فما يدل داخل هذا السياق لا يدل، بالضرورة، في سياق آخر، أو قد يدل على شيء آخر بطريقة مغايرة. وليس غريبا أن يرى التقليد الفكري العربي القديم في التأويل " نقلا لظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ"، (13) فالانتقال من أصل أول إلى فروع مضمرة ليس ترفا، بل هو حاجة حقيقية مودعة في الذات الإنسانية ذاتها، فلا يمكن تصور الوجود الإنساني من خلال بعد واحد.

فما يقدمه المؤول النهائي في نهاية السيرورة ليس دلالة نهائية، بل نقطة نهائية داخل مسار تم انتقاؤه وفق فرضيات مسبقة خاصة بنمط وجود المعنى وطرق انتشاره في ثنايا الواقعة. وهو ما يطلق عليه إيكو مثلا " الانتقاء السياقي". فالاقتراب من النص يتم استنادا إلى سؤال سابق يساعدنا على إعادة بناء قصدية النص من خلال إسقاط علاقات افتراضية ليست معطاة مع التجلي الخطي للنص.

فإذا كانت الشجرة دالة في هذا السياق على الرابط بين السماء والأرض ( الجذور الممتدة في التربة والأوراق التي تعانق السماء)، فإنها لن تكون كذلك في سياق يرى في المرأة شجرة حاملة لخيرات مثيرة لشهوة لا تنقطع، أو دليلا على ترابط أسري ممتد في عمق التاريخ، ( شجرة النسب ).

وتلك هي الغاية النهائية من كل فعل تأويلي. فعوض أن تقودنا فرضية "الإحالات المتتالية" إلى الارتباط بنظرة تفكيكية تدعو إلى تبني رؤية تأويلية متحررة من قيود الختام، حيث يمكن أن يحيل أي شيء على أي شيء استنادا إلى لانهائية الفكر ذاته، فإننا نتبنى وجهة أخرى ترفض الإحالات التي تتم وفق خطية متتالية في الزمان، لتتبنى التطور اللولبي الذي يستعيد باستمرار نقطة البدء باعتبارها الضامن الوحيد على خلق تواصل يتم وفق السياقات الخاصة لا وفق الانتشار السرطاني للدلالة على حد تعبير إيكو (14). فأن تكون الشجرة دالة على الخصوبة الطبيعية أو دالة على عوالم الخيرات الجسدية أو على الإغراء الأنثوي، أو دالة على النسب، فإنها تحتفظ في جميع هذه الحالات على نواة دلالية دائمة هي التي تبيح بعض السياقات وتغذيها، وترفض أخرى أو لا تحيل عليها إلا من باب العبث. " فالتواصل بين الكائنات البشرية ممكن لأن الكلمات تحيل على معنى واحد" ( 15)، وبدون هذا المعنى لا يمكن أن يكون هناك تواصل على الإطلاق. فإذا كانت الكلمات تحيل على كل المعاني دون استثناء، فإنها لن تحيل في واقع الأمر على أي شيء.

وعلى هذا الأساس، لا يمكن تصور معنى خارج فرضية مسبقة تقود إلى انتقاء سياقي يتم من خلال تأليف جديد بين عناصر الواقعة ذاتها. وهذه الفرضية هي وحدها التي تبني السياق وتدمره في الآن نفسه، إلا أنها مرتبطة في كل الحالات بنقطة البدء باعتبارها البؤرة التي تغذي مجمل الدلالات التي يتم الوصول إليها. فلا وجود لأي سياق ثابت، ولا وجود لأية دلالة مثبتة بشكل نهائي داخل صيغة كلية تحتوي على كل السياقات الممكنة، فما هو ثابت حقا هو نقطة البدء المفتوحة دائما على إمكانات قابلة للتجدد باستمرار. وهو تجدد تأتي به تحولات الثقافة والتاريخ. فكما أن الاستعارات تموت وتبلى، فإن التاريخ سيدرج السيرورات التأويلية ضمن الإرث التأويلي المشترك.وهذا الترابط هو المبدأ الذي يسند المقولات الإدراكية ذاتها. فالأول مرتبط بالثاني بفضل وجود ثالث يبرر هذه العلاقة ويمنحها صحتها. إن الأول داخل السلسلة حر ولامتناه لأنه بداية ومنطلق وأصل، ومهمته هي فتح السلسة لا غير، أما الثاني فيغلق هذه السلسلة، إلا أنه من خلال وظيفته تلك يقوم بإسقاط ثالث هو المبدأ المنظم لعناصر السلسة كلها، إنه يحد من اعتباطة التحقق ويضخ في المحسوس دماء جديدة تمنحه حياة من طبيعة مفهومية. وبعبارة أخرى، إنه يأتي بالقاعدة ( القانون ) التي ستتم وفقها كل التطورات اللاحقة.

لذا فما هو أساس في السيرورة ليس طبيعة الدلالة ولا مادتها، بل القانون الذي سيحكمها استقبالا، وهو قانون يولد مع السياق ويموت معه. ويمكن أن نمثل لذلك من خلال الروابط التالية : لنفرض أن الرقم "5" هو الأول داخل سلسلة ما، فماذا سيكون الثاني ؟ أي شيء، فالأول حر، ولهذا فإن الثاني قد يكون "10 " وقد يكون "6 " أو" 8 " أو ما شئتم، ولكن بمجرد ما تتم عملية الانتقاء، فإن القاعدة التي سيتم وفقها إنجاز السيرورة في كليتها ستفرض إكراهاتها الخاصة، (16) حينها ستتحقق السلسلة وفق قوانين بعينها لا يمكن أن تحيد عنها. وفي حالتنا إذا اخترنا كثان رقم 10، فإن القانون الذي سيتم بموجبه الانتقال من الأول إلى الثاني سيلتزم بإضافة 5 في كل عملية انتقال : 5 ---- 10 ---- 15 ---- 20. ولهذا فإن الأول في تصور بورس مجرد إمكان، أما الثاني فيشير إلى الوجود، الفعلي( التحقق)، في حين يشكل الثالث قانونا أو فكرا.

لهذا يمكن القول ببساطة إن المعنى لا وجود له، هناك فقط مسارات، وكل مسار يُبنى انطلاقا من اختيار يقوم به القارئ ولن يكون هذا الاختيار بالضرورة صحيحا. فالسميوز، شأنها في ذلك شأن الفكر عند بورس، فعل ناقص بالضرورة، إنها تحتوي، في لحظات الإحالة، على الضمني والمحتمل والكامن. ولهذا لا يمكن أن تكون تعيينا لمعنى مثبت في الواقعة بشكل نهائي. إنها، على العكس من ذلك، خزان من الدلالات لا ينتهي، فلا جدوى إذن من البحث عن المعنى خارج السيرورات. استنادا إلى هذا التصور، فإن القراءة الجديدة للنصوص لا تفترض وجود معنى كلي يجب البحث عنه، فهذه حكاية لا أعتقد أن هناك من يؤمن بها حاليا، بل تنطلق من فرضية وجود مسارات أو سيرورات مرتبطة بالإمكانات التي تتألف وفقها وحدات المعنى في نسق بعينه. فالعلامة، كما أشرنا إلى ذلك سابقا، هي أداتنا في تنظيم التجربة الإنسانية وتحديد طرق مفصلتها وتآلف عناصرها. لذلك فهي لا تحتوي على معنى ثابت وقار، بل تجمع بين وحدات تعبيرية تحيل على مضمون هو نتاج ثقافة بعينها في استقلال عن أية إحالة مرجعية مباشرة. فالتطابق مع شيء ما في العالم الخارجي أو عدمه لا علاقة له بالمضمون الذي تقدمه العلامة. فـ"الغول" موجود بنفس القوة التي توجد بها البقرة أو الحصان أو أي حيوان آخر أثبتت التجربة الإنسانية أنه موجود. لذلك يمكن أن نصوغ عوالم تخييلية تلعب فيها الإحالات على الغول دورا رئيسا باعتباره دالا على سلوكات همجية أو وحشية، أو أية قيمة تجرد الإنسان من إنسانيته. فليس غريبا أن ترى بعض القراءات في أساطير أو حكايات بأكملها إحالات رمزية على حالات نفسية، أو تصويرا رمزيا لحقائق موضوعية لم يبق منها سوى بعدها المجرد والعام، والأسطورة وحدها لها القدرة على استعادة هذا الأصل المفقود. (17)والخلاصة أن العلامة، وفق هذا التصور، لا تكتفي بالإحالة على ما هو موجود في العالم الخارجي بل تبني عوالم دلالية مصدرها المخيال والتوهم والإسقاطات والاستيهامات. وهذا هو الشرط الأساس، بل قد يكون هو الشرط الوحيد، الذي يجعل العلامة أداة للانفلات من " الأنا " و"الهنا" و"الآن ".إن إكراهات اللحظة والحيز والضمير تنتفي عندما يتم التفكير في العلامة باعتبارها أداة لتنظيم الفعل والحالات الانفعالية بعيدا عن إكراهات الإحالات المرجعية. حينها سيتخذ المضمون اتجاهات متعددة.

وذاك هو مفعول الثقافة ودورها في ضبط حدود المعطى الموسوعي العام الذي تحتكم إليه مجموعة بشرية ما، " فالثقافة تجزىء المضمون وتثبت في وحدات ثقافية تلك الأجزاء الواسعة من المضمون الذي تطلق عليه الإيديولوجيا، بالإضافة إلى الوحدات الأولية من قبيل الألوان وعلاقات القرابة، وأسماء الحيوانات وأجزاء الجسد والظواهر الطبيعية والقيم والأفكار. إن المواقع الإيديولوجية يتم توليدها من خلال تقابلات منضوية في سلسلات مركبية طويلة مبنينة وفق محاور بعينها. إن الطبيعة " الإيديويولوجية" للإيديولوجيا تعود إلى هذه المناورة المخصوصة التي توهمنا أن الحقول الدلالية الجزئية تتميز بالثبات، ولا تضعها تبعا لذلك في إطار العلاقات العامة التي ينسجها النسق الدلالي الشامل ". ( 18)

فالاستقلالية عن مرجع ما تشير في هذا الباب إلى قدرة هذا المضمون على تنظيم وحداته وفق مبدأ المسارات التدليلية، لا وفق ما تحيل عليه المادة الدلالية في حالتها الغفل. فلا وجود لمضامين مكتفية بذاتها، ولا يمكن تصور مضامين تكون خلاصة لإحالة كلية ونهائية. فالثقافة هي قواعد في تنظيم الوحدات المضمونية وطريقة في توزيعها. فما يتم الحصول عليه من خلال هذه السيرورة التدليلية أو تلك ليس مادة مضمونية مثبتة بشكل نهائي في صيغة تعبيرية ما، بل هو تحقق خاص ضمن تحققات أخرى ممكنة لهذه المادة.

استنادا إلى هذا المبدأ، فإن المجموعات البشرية لا تتميز بانفرادها بمضامين تتفوق من خلالها على غيرها، إوإنما تكمن فين في طريقة توزيعها للمضامين الكونية وتنظيمها. وهذا أمر بالغ الأهمية، فالعنصرية والشوفينية والكراهية وكل أمراض هذا العصر القبيح حقا هي وليدة الاعتقاد بوجود حقيقة يمتلكها هذا الطرف أو ذاك، وينظم على أساسها علاقاته بالآخرين.إن الأمر لا يتعلق في واقع الأمر بنهائية تأويلية، وإنما بتعددية دلالية منبثقة عن تنوع المناطق الإنسانية التي يغطيها التمثيل. ولهذا فهي ليست مبدأ خاصا بالأكوان الدلالية المخصوصة، وإنما تعد مبدأً يحكم قيم الحقيقة ذاتها. فبما أن كل مسار يخلق سياقه الخاص، أي حقيقته الخاصة، فإننا لا نستطيع تصور إحالة تكون قادرة على التعبير عن الحقيقة من خلال تمثيل واحد، ف" العماد صفة للموضوع باعتباره منتقى بطريقة خاصة " ( بورس ).

لذا فليست الحقيقة هي ما تحيل عليه السياقات المتولدة عن التمثيل الأول، كما لا يمكن أن تكون مرتبطة بهذا السياق دون ذاك، إن الحقيقة هي الرحلة التحليلية التي تقودنا أثناء البحث إلى اكتشاف حقائق أخرى لم تكن متوقعة، فالتحليل لا يبحث عن حقيقة يعرفها، بل تستهويه رحلة البحث عن حقائق لا ترى.

وهذا ما يرعب الأصوليين من كل الآفاق. فالاحتكام إلى آليات التأويل باعتباره ضرورة حياتية سيؤدي إلى العصف بسلسلة من السلط التي تستمد وجودها من أحادية التعيين والمعنى الواحد. فحقائق النص أسرار لا يصل إليها إلا من يملك مفاتيح الحقيقة، والحقيقة ليست كما دلاليا، ولا توجد في النصوص، إنها مودعة في نفس المؤول على شكل صفات لعل أهمها الإيمان بالحقيقة الأصلية التي يمكن عبرها أن نصل إلى كل الحقائق الأخرى. والحال أن الحياة لا تفسر بالأحكام القبلية، بل تختفي في صور بالغة الغنى والتنوع. لذلك فإن التأويل مرتبط بحاجات يفرزها الواقع اليومي للناس، وهو واقع يعج بكل ما يمكن أن يحيل عليه الوجود الإنساني. فحاجات الإنسان لا تحددها النظريات المسبقة، وإنما يولدها التوغل في الزمان واكتشاف مناطق كانت إلى الأمس القريب مجهولة.

الهوامش

* قول أورده تودوروف في مقدمة كتابه : P

 

1- انظر في هذا المجال : Umberto Eco : Le signe, éd Labor , 1988, p 176

 

2- A. J . Greimas, G . Fontanille : Sémiotique des passions, éd Seuil, 1991 , p 22

3- أومبيرتو إيكو : التأويل بين السميائيات والتفكيكية، المركز الثقافي العربي، 2000، ص 28

 

4- Theresa Calvet de Magalhaes : Signe ou Symbole , Introduction à la théorie Sémiotique de C S Peirce, éd Louvain -la-Neuve, 1981 , p 162

 

5- نفسه ص 162

 

6- Eliseo Veron : La Semiosis et son monde , in Langages n 58 , p 71

 

7-  J.  Derrida : De la grammatologie , éd Minuit, 1967, p 72

 

8- صرح عبد العزيز حمودة في قناة " إقرأ " أن التأويل التفكيكي للنصوص قد يودي إلى تدمير النص القرآني، ولذلك وجب رفضه، انظر كتابه الأخير، الخروج من التيه، سلسلة عالم المعرفة

 

9- Umberto Eco : Les limites de l'interprétation, éd Grasset , 1990, p 382

 

10- Umberto Eco : Lector in Fabula éd Grasset, 1985

 

11- Umberto Eco : Le signe, éd Labor , 1988, p .205

 

12- G . Deledalle : Avertissement aux lecteurs de Peirce ,in Langages n 58 , p 26

 

13- لسان العرب، مادة أول.

 

14- أومبيرتو إيكو : التأويل بين السميائيات والتفكيكية ، مرجع مذكور ، ص 123

 

15- Paul Ricoeur ; De l'interprétation , éd seuil,  1965, p 33

 

16- David Savan  La sémiotique de C S Peirce, Langages n 58 , p. 11

 

17- انظر على سبيل المثال ما يقدمه فراس السواح في كتاباته ومنها كتابه " لغز عشتار"   دار علاء الدين، وإريش فروم في كتابه : " الحكايات والأساطير والأحلام، ترجمة صلاح حاتم ، دار الحوار للنشر وتوزيع

 

 

 

 

 

 
 
 
معجم السيميائيـات متابعـات نقديــة ترجمــــات

دراســــات

مؤلفــات بطاقة تعــريف الصفحة الرئيسيـة
للاتصـــال   مواقـــع  خزانات الموقـع صحف ومجـلات رسائل وأطروحـات وحدة تحليل الخطاب مجلـة عــلامات

موقع سعيد بنگراد - تاريخ الإنشاء: نونبر 2003